الخلوة والجلوس مع النفس في حجرة وحدك، هي دليل على قوة الإرادة، والرغبة في البحث عن آفاق جديدة للذات. فالخلوة أو العزلة في معناها العميق، هي حاجة ضرورية للفرد، تُعِينه على معرفة ذاته والشفاء من أدوائها: “إن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشدِّد عزائمها” ( نيتشه). ثم إن البحث عن السكينة ومراجعة النفس وتهذيب السلوك، كلُّها حوافز تحرك في الإنسان الرغبة في العزلة والابتعاد عن الناس، وتزداد هذه الرغبة مع انتشار النفاق والرياء والجشع، في محيطنا الاجتماعي.
تنقدح الأفكار وتتجلى الحقائق، عندما تختمر تحت رداء الخلوة، بعيدًا عن الأضواء والغوغاء: {قُل إنَّما أعظُكم بواحدةٍ أن تقومُوا لِلَّهِ مَثنَىٰ وفُرَادَىٰ ثمَّ تتفكَّرُوا} [سبأ: 46]. وليس بعيدًا عن ظلال هذه الآية، قول ابن عطاء الله السكندري: “ادفن وُجودك في أرض الخمول. فما نَبت ممّا لم يُدفن لا يتمُّ نتاجه”. وهذا لا يعنى الهروب من تكاليف الحياة والمجتمع؛ وإنما يعني الذهاب بعيدًا عن الأضواء والمظاهر، كما تذهب البذور وجذورها تحت الأرض، فيَنبت زرعها وثمرها خلافًا للبذور، التي تبقى فوق الأرض عقيمة تحرقها أشعّة الشمس.
إلى جانب “العزلة الجسدية”، هناك “عزلة شعورية”، تُجسّد حالة من الاغتراب الذي يعيشه المثقف في محيطه الاجتماعي. وكثيرًا ما يكون الإحساس بالغربة والعزلة أثناء مخالطة الناس والعيش معهم، كما يقول “كيم كولبيرتسون”: “عندما تكُون محاطًا بالأشخاص الخطأ، فهو الأمر الأكثر وحدة في العالم”. فالشعور بعبثية القطيع، الذي تحركه العصا ولا يعرف إلى أين يمضي، يجعل الفرد المثقف يستشعر أسوَأ أشكال الوحدة والاغتراب. وبعيدًا عن أجواء القطيع، تُوقِظ العزلة في الفرد الإحساس بالحرية. فالإنسانالذي يبتهج في العزلة هو من يحبُّ الحرية، أو كما يقول شوبنهاور: “الذي لا يبتهج في العزلة، لن يحبّ الحرية”.
الخلوة هي ركن من البناء الروحي، الذي يرتقي بالإنسان واستعداداته الروحانية، وهي تقترن عادة بتجربة روحية فردية، يرتقي فيها الإنسان إلى ذروة الشوق إلى الله، كما جاء في حديث السبعة الذين يُظلُّهم الله بظلِّه يوم القيامة: “ورجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خاليًا ففاضَتْ عيناهُ” (البخاري).
الخلوة سُنّة الأنبياء عليهم السلام، وكثير من الفلاسفة والصوفية والقدِّيسين. والخلوة تَسبق الوحي والنبوة. ففي الخلوة تلقَّى آدم من ربه كلمات، وفيها جَنّ على إبراهيم اللَّيلُ ورأى ملكوت السموات والأرض، وفيها تلقَّى موسى الألواح من الله، بعد أربعين ليلة قضاها في خلوته بعيدًا عن بني إسرائيل. وفي محراب بيت المقدس، كانت مريم عليها السلام تعيش أجمل أيام خلوتها: {كلَّما دخل عليها زكريَّا المحرابَ وَجَدَ عندها رزقًا قال يا مريمُ أنَّىٰ لكِ هذا قالت هو من عند اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرزُقُ من يشاءُ بغيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]. ويحدِّثنا الإنجيل بخلوة المسيح عليه السلام، عندما كان يذهب إلى الصلاة في الصباح الباكر: “وفي الصُّبح باكرًا جِدًّا قام وخرَج ومضَى إلى مَوضِعٍ خَلاءٍ، وكان يُصَلِّي هناك” (مرقس 1: 35). وكان المسيح يدعو تلاميذه إلى الخلوة بقوله: “تَعالَوا أَنتم إِلى مَكانٍ قَفرٍ تعتزِلونَ فيه، واستَريحوا قَليلًا” (مرقس 6: 31).
في الخلوة، تلقَّى أيضًا المصطفى كلمات الوحي الأولى في غار حِراء، بعد أن “حبِّبَ إِلَيهِ الخلاءُ وكانَ يَخلُو بغارِ حرَاءٍ، فيتحنَّثُ فيهِ وهو التَّعبُّدُ اللَّياليَ ذواتِ العددِ قبلَ أن ينزعَ إلى أهلِهِ ويتزوَّدُ لذلكَ، ثمَّ يرجعُ إلى خديجةَ فيتزوَّدُ لمثلهَا حتَّى جاءهُ الحَقُّ وهُوَ فِي غارِ حِرَاءٍ..” (البخاري)
في نهاية المطاف، ليست العزلة غاية في حدِّ ذاتها؛ وإنما هي محطة يعود فيها الإنسان إلى نفسه، ليتأمل مسيرته بعيدًا عن ضوضاء المجتمع. فهي هنا أشبَهُ بواحات الصحراء التي يقصدها المسافر، لطلب الزاد واستجماع طاقاته، ثم مواصلة العودة والارتحال إلى أهله وبلاده. فالعزلة المطلوبة ليست انعزالًا مطلقًا عن المجتمع، لأنه في نهاية المطاف “لا يَجبُ أَن يَكُونَ الإِنسانُ وَحدَه” (سفر التكوين 2: 18).
___________
* المصدر الأصلي للمقال: موقع “تعدّدية”.