راقص من نيويورك، كاتبة سيناريو من لندن، عالم إحياء متقاعد من لبنان، معاق أمريكي، تلميذة في الثالثة عشرة من العمر من أمريكا، رجل أعمال من الصين، طالبة قانون من ألمانيا وأخرى من البرازيل، طالب علاقات دولية من ميانمار، ضابط في الجيش الأمريكي من أصل فلبيني، طالبة إدارة أعمال من بنغلادش، صحفية من أوكرانيا، مصوِّرة من باريس، معلِّم من أستراليا، باحث في القانون النووي من الهند، مقدِّم برامج تلفزيونية من إثيوبيا، طالب حوزة من قم / إيران، أستاذة علوم سياسية من جنوب افريقيا، اجتمعوا في مكان واحد على الشبكة الإلكترونية يتحاورون بحماس وشغف. بينهم المسيحي والمسلم واليهودي والبوذي واللاديني.
فما هو موضوعهم؟ ما هو السؤال الحارق الذي يربط هذا الجمع غير المتجانس من سكّان الأرض في مطلع الألفية الثالثة ليكرِّسوا له عدَّة ساعات أسبوعيا، مقاومين كل ما تقدِّمه الحياة المعاصرة وعالمها الافتراضي من تشتيت عظيم للانتباه؟
ليس سؤال العلم، ولا سؤال الذكاء الاصطناعي ولا حتى السوشيال ميديا ولا أي من الأسئلة التي ولدت مع بزوغ القرن الواحد والعشرين، بل هو سؤال قديم معمِّر يبدو أنه يولد مع الإنسان عبر القرون.
لقد جاء هؤلاء ومعهم آخرون بضمنهم أنا، إلى المنصَّة الإلكترونية لجامعة هارفارد من أجل فصلٍ دراسي لثمانية أسابيع عن ” المسألة الدينية.. العنف والسلم”.
فما الذي يكسب الدين هذه الجاذبية الخاصَّة المتجدِّدة كما لو كان اكتشافاً جديداً للبشرية؟
*****
يحاول هذا العدد من فصلية التنويري تسليط الضوء على مسألة “تعدُّد القراءات للنصّ الديني” مبرِّراتها، مدارسها، ثمارها، وارتباطها بما تسمِّيه ” التنوير الديني”.
رغم أن الدعوة إلى تعدُّد القراءات للنصِّ الديني ليست أمراً جديداً ولا هي حكر على النصّ الديني في الإسلام، لكنها تبدو، من شرفة الألفية الثالثة، أشبه بالاستسلام الضمني لسطوة الدين وحضوره الفاعل في حياة الإنسان الذي لم ينفكّ (الإنسان) يبتكر الحيلة بعد الأخرى لإخضاعه إلى احتياجاته ونمط عيشه ومخاوفه، وفي أحيان كثيرة، غروره.
تخدم الدعوة إلى “فتح النصّ على تعدُّد القراءات” غايتين متمايزتين؛ تنشأ إحداهما، ويمكن تسميتها بالغاية الجماعية، من سؤال النهضة في المجتمعات المتدينة.
وجذر ذلك أنَّ القراءات الناجزة المغلقة للنصّ تُحكم حصار المقدَّس على الاجتهاد في التفكير والفعل وتحجِّم التجريب الذكي، بما يحمله التجريب من احتمالات الخطأ. بينما يخلق فتح الباب على التعدُّد في القراءات والتعدُّد في دلالات التأويل هامشا يغامر فيه العقل وتزدهر التصورات.
وبما أنَّ لا نهضة دون فتوحات علمية ولا فتوحات علمية دون هذا الهامش الحر، فإنَّ فتح باب “تعدُّد القراءات” يصبح شرطا ضروريا لحصول تلك الفتوحات.
أمَّا الغاية الأخرى، ويمكن تسميتها بالغاية الفردية، فمنشؤها مكابدات الإنسان الوجودية على الأرض وصراعه اليومي مع مجاهيل الوجود وأسراره، وأعظمها على الإطلاق سؤال الموت والخلود.
يولد أحدنا ضعيفا فتبهره قوَّة الوجود وتدكّه متطلباته الغامضة دكّا، يشدُّه توقه إلى الحرّية والكرامة والفهم نحو صراعات جوانية عميقة، يبحث عن عزاء ورفيق يمنحه تفسيرا مُرضيا لعذاباته وتأطيرا نبيلا لرغباته وأطماعه فلا يجد رفيقا غير الدين؛ لكن ليس أي دين بل دينه هو، ذلك الموفّق المبهر الذي يجمع بعبقرية عجيبة كل المتناقضات.
لذلك فإنَّ المتديِّن لا يأبه بتعدُّد القراءات إلا بمقدار ما يتحمَّل من حرِّية في امتلاك تجربته الدينية الخاصَّة به، وبما يكرِّسه التعدُّد من منحها هبة الاعتراف وإكسابها الشرعية. وإن كانت هذه التجربة الدينية مفصّلة تفصيلا على هواجسه ومكابداته وأشواقه وآلامه هو.
غير أن ذلك الباب المفتوح لا يحلّ المشكلة تماما، إذ ما أن يبدو رفيق الإنسان هذا صلباً محدّداً في الوصف، حتى يتحوَّل سيالا متكيِّفا في التمثُّل، فيهرع الإنسان إلى وضع حدود قسرية عليه تحبسه في وظيفته التي يريدها له ويطلبه لها؛ هكذا تتجدَّد الحاجة دوماً إلى كسر الحدود وعبور السقف، ربما في رحلة وصال وتصوّر كادح لا تنتهي، يشي بحدودها السيّالة المقطع الآتي من الآية 11 في سورة الشورى:
” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء”.