اجتماعالتنويريسلايدر

أزمة خلق لا أزمة فكر

تأسست قواعد المدنية الغربية على أنقاض الكنيسة، والتصورات التي قدمتها للدين. وللأسف فإن الفكر الغربي الحداثي سحب مفهوم الدين الكنسي على كل دين، ومضى يهرع في كل اتجاه يبعده عن التجربة الدينية ويؤسس لكل تجربة إنسانية في الحياة، ومهما كانت نتائجها فقط أن تكون بعيدة عن الدين وتوجيهاته. فكانت العلمانية والقومية والديمقراطية والمواطنة وغيرها من التسميات التي تقوم في جوهرها على تحقيق مصالح الإنسان، ذد ما كان يعيشه في أزمنة العبودية والقهر وغياب المساواة والعدل والحرية.

لكن ماذا إذا كان هذا الذي رامت التجربة الغربية الوصول إليه وقطعت أشواطاً في تأسيسه مماثلاً لما جاء به الدين في الأصل، فلم يكن الإسلام يوماً ما سوى ثورة على الظلم والعبودية للناس والفرقة والنزاع وتأسيساً لمبادئ الرحمة والمساواة والعدل والإحسان. إنها المبادئ العظيمة التي نجدها هناك باسم العقل وهنا باسم الوحي، ولا غنى عن هذين المصدرين في تأسيس تجربة إنسانية راشدة.

بيد أن الواقع المعاصر يكاد يطمس كل هذه الأنوار الساطعة، ويدخلنا في متاهات ضيقة، فقط لضيق أفق وحركة وطموح الإنسان الناطق بها. فالجدل الدائر اليوم عن الحلول الدينية والحلول المدنية خصوصاً في دول ما بعد ثورات الربيع العربي يخنق أنفاس المواطنين ويدفعهم إلى عدم الثقة بأية فكرة مهما كانت رائعة وجميلة، لأن الإنسان الذي يتحدث عنها ولأن النخبة التي تنطق باسمها أبعد ما تكون عن تمثلها في الواقع، سواء منهم من يتكلم باسم الدين أو باسم المذاهب العلمانية والليبرالية والديمقراطية، أو من يجمع خلطتها في تكوين واحد، وهو ما تبدأ في الخطابات الحديثة لبعض التيارات الإسلامية ولبعض التيارات المدنية، فهل تكون المرجعية الإسلامية خطراً على الدولة المدنية، وهل تكون المبادئ الدولة المدنية الحديثة خطراً على الدين الإسلامي؟ إن ذلك لا يكون حتماً إذا كان الإنسان/ المواطن هو محور الاهتمام أولاً وأخيراً. لأن مركزية الإنسان ستشد كل الأفكار والمذاهب والبرامج الحزبية إلى تحقيق مطالب الإنسان، سواء ما يتعلق بحاجاته الأساسية في المطالب الاجتماعية أو ما يتعلق بأفق أنسنته وكرامته وحريته وتقديره باعتباره مخلوقاً كرمه الله الذي خلقه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً) سورة الإسراء- الآية 70.

إن اختزال المبادئ الدينية أو المدنية في إطارٍ حزبي ضيق، أو نزوعات مصلحية ظرفية، متعلقة بممارسة السلطة غالباً هو الخلل الحقيقي في مجتمعاتنا العربية، فما شهدنا إلى يومنا هذا تطبيقاً في واقع حياتنا يحقق مصالح الناس لا باسم المرجعية الإسلامية ولا باسم المرجعية المدنية، رغم وجود اجتهادات محدودة هنا وهناك.

وعليه فقد لا تكون أزمتنا في العالم العربي أزمة فكر أو تنظير بقدر ما هي أزمة اخلاق، وربما بالذات أخلاق من يعتبرون أنفسهم “النخبة المثقفة” فضلاً عن النخب السياسية. فالمثقفون الذين يفترض فيهم قيادة قاطرة الإصلاح ابتلى معظمهم بالارتهان لجهات داخلية أو خارجية، باسم الحقوق المدنية ونشر قيم الديمقراطية، فهل بمثل هؤلاء تصنع الأوطان وتبنى مؤسسات الدولة سواء من منطلقات دينية أو دنيوية. لكن الشعوب اليوم في مفترق الطرق ولا يجب انتظار أن يصلح مرتزقة المثقفين من أحوالهم لتصلح أحوال المجتمع، إنما يجب أن يدرك الشعب دوره في حماية مصالحه ومراقبتها، وألا يختزل دوره السياسي في التصويت أو عدمه مرة كل خمس سنوات. فليتكلم الشعب عن نفسه، وليصنع من الآليات والوسائل ما يضمن مصالحه الاجتماعية والإنسانية، والتي سيجدها في النهاية غير متناقضة مع مقتضيات الدين ولا مقتضيات العقل.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة