ذهبت جل التفاسير القديمة والحديثة منها على حد سواء، إلى أن أميَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أميَّة حرف وأبجديَّة، وأنه عليه السلام كان لا يعرف القراءة والكتابة، وأنه لا يخط ولا يكتب ولا يقرأ لكن المستقرئ لآيات القرآن الكريم سيجد تحدياً كبيراً لهذا التوجه، فالله جل في علاه يقول في كتابه العزيز: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين)/ “سورة الجمعة 2”.
فلا يستقيم أن يكون هذا الرسول أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، وفي نفس الوقت يتلو الآيات على الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفي نفس الوقت يتلو الآيات على الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة، والحكيم لا يكونه إلا ذلك الشخص العارف بدروب العلم والمعرفة والشامل في تفكيره المطلع على علوم لا حصر ولا نهاية لها، فالحالة هنا متنافية، ولا يمكن قبول التفسيرين الاثنين مع بعضهما خاصة وأن نص الآية واضح ومبين للمهام التي يقوم بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، بل إن الآيات الأخرى التي ورد فيها ذكر الأمي أو الأميين أو الأمية في القرآن تسير في اتجاه تأكيد أن النبي محمد عليه السلام ليس أمي الكتابة والقراءة، وإنما المقصود هنا بالأمي هو أنه الشخص الذي لا يتبع لأي ديانة من الديانات السماوية الموجودة قبل بعثة الرسول الأعظم عليه السلام، أي هم غير المسيحيين واليهود، وهو ما تذهب غليه هذه الآيات الكريمة الأخرى الواردة في هذا الباب، حيث يقول الله تعالى: ” الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ”/ (الأعراف:157)، ففي هذه الآية لا يمكن أن يدعو كتاب سماوي أتباعه للإيمان برجلٍ أمي لا يعرف الكتابة والقراءة فيما هم الفوا أن يحاجوه بالدليل والبرهان، ومقارعة الحجة بالحجة، وفي آية أخرى يقول الله جل وعلا:” وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ”/(آل عمران 20) والقول هنا لديه من الحمولة العلمية والحجة في هذه الآية الكثير، فلا يمكن أن تكون هذه الآية موجهة بأي حال من الأحوال لأناس لا يعرفون الكتابة والقراءة لكي يفهموها ويتدبروا دواخلها وأسرارها، مما يجعلنا نسير في اتجاه تصور أن الأميين في القرآن ليسوا من لا يعرفون القراءة والكتابة، ولكن هم الموحدون الذين لم يتبعوا للديانتين السماويتين السابقتين، وأن الرسول محمد عليه السلام، كان يعرف القراءة والكتابة ويعلم الناس قبل البعثة وبعدها، القراءة والكتابة وعلوماً أخرى زكت لديهم صورة الإنسان المتكامل المؤهل لكي يكون رسول الله وخاتم النبيين.
أما في وقتنا الراهن، فلا تزال ترزح أمة محمد في “أميات” لا حصر لها، فالأمية الأبجدية تضرب أرقاماً قياسية في عدد من الدول العربية، ولا توجد دولة واحدة من المحيط إلى الخليج لا توجد فيها نسبة قليلة أو كثيرة من الأمية، بل إنه في بعض البلدان تسجل نسب تدعو إلى الذهول، حيث يتساءل المرء: هل فعلاً لا يزال هناك في هذا العالم من لا يعرف القراءة والكتابة، فيما نشهد الآن تطوراً تكنولوجياً مهولاً يستدعي أن يتآلف ويتكيف الإنسان مع المتغيرات التي تقع بين الفينة والأخرى وفي كل دقيقة وساعة، مشهد متناقض ومركب بكل ما في الكلمة من معنى، ففي الفضاء العربي تجد آخر الصيحات من الهواتف الذكية، وآخر الأجهزة الإلكترونية التي يتطلب استخدامها مستوى من التعليم متقدماً للغاية، فيما في الضفة الأخرى تجد أشخاصاً لا يعرفون القراءة والكتابة، فيا له من مشهد غريب يدعو للصدمة والدهشة.
أمية الحرف أو الأبجدية تلتقي فيها الأمة الإسلامية مع عدد من الدول غير الإسلامية المصنفة من الدول النامية، لكن هناك أميات أخرى تعاني منها هذه الأمة، وهي أميّة الرجعية والنكوص إلى الآبائية، فغالبية المسلمين يعتقدون أن لا حل لمشاكل الأمة المعاصرة، إلا بالعودة إلى السالفين واستجداء الحلول لديهم، لأنهم يعتقدون أنه لا حل لهذا العصر ومشاكله إلا بالوسائل التي حلت بها مشاكل عصر سابق في القرنين الأول والثاني الهجريين، فهذه أمية أسميها أمية الآبائية والرجوع للسلف واستقراء حلول قديمة لمشاكل حديثة، أليست هذه أمية بمعنى من المعاني، حين يكف الإنسان عن التفكير في إيجاد حلول معاصرة لمشاكله ويذهب للأرشيف القديم ليأتي منه ببعض الحلول التي لن تكون إلا ترقيعية لا تسمن ولا تغني من جوع، أليست تلك أمية صارخة عندما يعطل الإنسان عقله وتفكيره ويضعه في درجة التجمد، وينتظر ممن مات قبله بمئات السنين أن يمنحه حلاً لمشكلة مستعصية يعاني منها في زمنٍ مختلف تماماً عن زمن من ينتظر منه الحل، أجل إنها تلك الأمية القاتلة للإبداع والابتكار، التي تمنع العقل النقدي من النمو والتطور، فلا غرابة أن نجد حالنا يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فلا ثقافة ولا فن ولا إبداع ولا فعلا حضارياً يمكن أن نضاهي به أمم الأرض الأخرى، لقد جعلتنا الأمية الآبائية حبيسي ردود الأفعال، ولن ننتقل لمجالات الفعل والبناء حتى نتخلص من هذه الأمية المانعة والمكبلة والفاصلة بيننا وبين كل ما هو إبداع وتطوير وتجديد.
هذه الأمة المسكينة تعاني من أميات أخرى لا حصر لها، فالأمية الصناعية أكبر من أمية الحرف التي تعاني منها الدول الإسلامية، فغالبية هذه الدول لا تصنع شيئا وتستهلك صناعة الآخرين في كل مناحي الحياة تقريباً، فأسواقنا دوماً هي أسواق استهلاكية بامتياز، أما الآخرون فأسواقهم إنتاجية وإبداعية وابتكارية، ودائماً فوق المتوقع، أما الأبحاث العلمية المتعلقة بالعلوم الدقيقة كالطب والفلك والفيزياء، فلا تكاد تجد للجامعات العربية ذكرا فيها، باستثناء بعض الحالات النادرة التي يشكلها أشخاص لا مؤسسات قائمة الذات، فلا غرابة أن نجد في تصنيف 2012، للجامعات العالمية أن أول جامعة عربية تحتل رتبة فاقت رقم 4000، فيما جامعات الآخرين تتنافس على الصفوف الأولى في البحث العلمي الدقيق الذي تستفيد منه الإنسانية لعقود قادمة، هذا إلى جانب أمية أخرى لا تقل أهمية هي الأمية البيئية، فالإنسان العربي والمسلم لا يعرف ما معنى ثقافة احترام البيئة، وما معنى أن نبني فضاءً سعيداً سعيداً جميلاً خالياً من التلوث والأوساخ، فيكفي أن تقوم بجولة في إحدى المدن العربية حتى تكتشف أنها مجال لكل المتناقضات في المجال البيئي، أما معضلة القوانين فتلك قصة أحرى، فالأمية القانونية تضرب أرقاماً مهولة، فلا نجد ثقافة قانونية لدى الناس، غالبية الناس لا يعرفون واجباتهم ولا يدركون معنى حقوقهم، لتبقى القوانين حبيسة كتبها وتبقى الحالة مزرية إلى إشعار آخر.
إنها إذن أميات عديدة تعاني منها هذه الأمة المسكينة، أميات لا يمكن أن نتخلص منها إلا إذا عقدت كل مكونات المجتمعات الإسلامية العزم ان تغير ما بالنفوس، وأن تطبق القانون الأسمى في التغيير وهو البدء أولا بتغيير النفس، والتخلص من تبعات وإرث الماضي الذي يبقى أهم معوق يحول دون انطلاق الأمة إلى فضاءات أرحب واسع، يسمح فيه بممارسة النقد والتفكير الإبداعي وطرح السؤال دون حواجز أو تابوهات أو موانع، حينها فقط ستقل أمياتنا وستنحصر جهالاتنا المتعددة، ونخرج متقدمين ومبدعين غانمين ومجدين، من ظلمات الأميات المختلفة إلى نور الإبداع والابتكار والعطاء والبناء السليم والتطور المتناغم.