علي باييه: المسلمون العقلانيون يمكن أن يقدموا مساهمات قيّمة للمجتمع البشري

image_pdf

يؤكد البروفيسور علي باييه أن على المسلمين المعاصرين تقديم نموذج منطقي من الديمقراطية المتضمن حكم القانون، المساءلة، الشفافية، تكافؤ الفرص والحقوق. حرية التعبير والتجمع. وهي فرصة مهمة لتقويض سيطرة المتشددين في المنطقة وتقويض أسطورتهم الغامضة، كما تعطي انطباعاً جيداً عن الإسلام. معززاً هذا الرأي بأهمية التأسيس لعملية تعليم شاملة لإيجاد بيئة يكون فيها العنف ليس الخيار الوحيد لتصفية النزاعات، بل الحوار العقلاني. مشدداً في الوقت ذاته على العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واللا عدالة وعدم المساواة في الدفع نحو العنف ضد الآخر. التقته “التنويري” وكان معه هذا الحوار:

ما هي الجذور الحقيقية للعنف في الديناميكية المجتمعية في المنطقتين العربية والإسلامية؟

أعتقد أنه من المفيد النظر إلى ظاهرة العنف من الزاوية الاجتماعية- السياسية، والتحري أولا عن جذور العنف في السياق الأوسع. علماء السياسة والاجتماع اقترحوا عددا من النظريات يؤكد على أهمية العوامل السايكولوجية كالخوف أو كراهية الآخر، أو رؤية الآخر كتهديد. علماء آخرون ركزوا على العوامل الثقافية بشكلٍ واسع معتبرين، على سبيل المثال، دور الأيديولوجيات في انتشار العنف. وهناك نظريات أخرى تؤطر المشكلة ضمن سياق نظرية الاختيار العقلاني، في محاولة لشرح ظاهرة العنف في دائرة الاجتماع-سياسي عبر مفاهيم اللهاث خلف المصالح الذاتية الضيقة؛ أي بمعنى آخر، انتشار نزعة الهيمنة على الآخرين واستغلالهم لتحقيق جملة أهداف.

النظريات الأخرى تسلط الضوء على عوامل الاجتماع-سياسي والاقتصاد، مثلا، اللاعدالة الاجتماعية أو اللاتوازن الاقتصادي، كأسباب جذرية لمشكلة العنف في المنطقة.

أما أنا فأعتقد أن كل الشروحات الواردة أعلاه قد تسلط الضوء على طاهرة العنف. اقتراحي المدعم من قبل المقاربة المعروفة بالعقلانية النقدية هو: أولئك الأفراد والمجاميع الذين يقومون بأعمال العنف ضد الأفراد والمجاميع الأخرى ضمن صراع الاجتماع- سياسي، وباسم تلك المسببات يعتبرون أن أعمالهم ووجهات نظرهم “مبررة”.

التبريريون يعتبرون وجهات نظرهم، أيديولوجيتهم، حوارهم، أعمالهم، مبررة، وفي ذات الوقت يعتبرون كل المنافسين من وجهات النظر الأخرى أعداء، معتقدين أن ذلك التبرير “على حق” وعلى الجانب “الأصح من التاريخ” وينتمي إلى “الجماعة الصحيحة” أو “جماعة الحق” … وغير ذلك. وهكذا موقف فكري يضع الآخر بشكل آلي في موقف “وضيع” أو “أدنى”.

الشخص الذي يعتبر عمله مبرراً للحكم على الآخر باعتباره “غير مبرر” أو في “الجانب الخطأ من التاريخ” وينتسب إلى “جماعة الشر”.

في مثل هذه الحالة فإن الاختلاف قد تبلور أساسا بين “المبرر” من الأفراد والمجاميع ومخالفيهم من غير المبررين، فالأول يعتقد بأنه يحق له تصفية الحسابات لأن “غير المبررين” اخلاقياً وفكرياً وروحياً وعاطفياً “متدنون” لذا يعتبرون أقل إنسانية. وهذا ما يقود بالتالي إلى نزع إنسانية الآخر.

وعندما تتم عملية “التبرير” يمكن توقع أسوأ أنواع العنف وعلى الآخر ومن دون عقاب. وأهمية التحليل الوارد أعلاه أن الفرد الذي يخشى الآخر يتطلب تغليف عمله بالتبريرية قبل البدء بالعنف.

ويبدو أن موقف التبريرية يكمن في جذور كل أنواع العنف الذي يستهدف المنطقة، إن كان عنفا مطبقا من قبل أنظمة ديكتاتورية ضد مواطنين عزل، أو طائفة دينية ضد أخرى، أو من قبل منظمات أيديولوجية ضد الدولة. ولعل الشعور بالتبريرية يسير جنبا إلى جنب القناعة التوكيدية في الذات.. أي أن الفرد متأكد من وجهات نظره وبالتالي منطقية أفعاله. هذه التوكيدية تسلح الفرد بالإصرار على الفردانية بأفق أحادي، وبهذا تصبح الوحشية عملاً مبرراً في ممارسة العنف ضد الآخر.

الملاحظة أعلاه يمكن أن تكون مطبقة في قضية الدراسات من قبل العلماء التقليديين. على أية حال يبدو أن هناك العديد من الكتاب في العالم العربي ممن تدربوا في التعليم العصري حاولوا تطبيق المعرفة العصرية لقضية العنف في مجال الاجتماع- سياسي.
بالطبع في بعض دراسات من هذا النوع يحاول الباحثون تعقب الماضي لفهم العنف الحالي في سلسلة الأحداث التي شهدها تاريخ الشرق الأوسط. هذه الدراسات ستكون مفيدة إذا تحاشت المنهجية التقليدية واستخدمت طرقاً عملية معتمدة.

قراءة وتوثيق الدراسات العربية المنشورة في السنوات العشر الماضية. لنقاش الجذور الحقيقية للعنف. تجد التفسيرات والأدوات نابعة من التراث ويصعب حقا وجود أي مقاربة عصرية في معالجة هكذا مشكلة كبيرة. لماذا بنظرك؟

أفغانستان وباكستان والمنطقة العربية وحتى إيران، أمثلة تشير إلى ميل المسلمين إلى العنف، كم هذه المقولة صحيحة ومنصفة؟

من الضروري الحذر في صياغة مثل هذا السؤال. يجب التمييز الواضح بين الدين وبين فهمنا له، إذ يمكننا الوصول إلى فهم الدين وليس إلى الدين ذاته. فالدين هو الحقيقة، فيما تعتمد بعض التفسيرات إلى تغذية الفهم الخاطئ للدين والتي تقود لاحقاً إلى العنف.

البعض يعزي العنف في المنطقة الإسلامية إلى فقدان المقاربة الإنسانية في الفكر الإسلامي والقراءة القروسطية للفقه واللاهوت الإسلامي. كقتل المرتد وغيرها. ثمة حاجة ملحة لتفريغ هذه القراءات من العنف.. هل تتفق مع هذا الأمر؟

من دون أدنى شك فإن إعادة تفكير جادة وتقييم نقدي للمعرفة النقدية عملية طال انتظارها. بالطبع الأفكار الجريئة من قبل بعض الباحثين المسلمين المعاصرين حاولت إنجاز هذا المشروع، لكن ما تم إنجازه لغاية الآن لم يصل إلى حاجة الكتلة الحرجة المطلوبة لاستبدال المعرفة المعطوبة التي ما زالت عالقة ومتخلفة في الدول الإسلامية، وتؤثر على عقول الأجيال الشابة من الباحثين في مقارباتهم العصرية المتسمة بمواقف عقلية ونقدية. هذا النوع من العنف الذي يعزى إلى “الفكر الإسلامي” يكون متناغماً مع شكل الحياة القديمة، ولعل ظهورها في الأزمنة المعاصرة هي بمثابة مفارقة تاريخية.

كثير من الباحثين الإسلاميين الذين تلقوا علومهم عبر الطرق التقليدية لم يتعرفوا بالكامل على المقاربات النقدية المعاصرة، لذا فهم يعيشون ويفكرون في القرون الماضية، ويتنفسون “فكريا” في بيئات تاريخية قديمة، رغم وجودهم “جسديا” في العصر الحديث. هكذا مفارقة تؤدي إلى تطور إدراك غير دقيق وغير عقلاني، وتشخص الأزمات الخاطئة “التي تكون صحيحة في العصور المبكرة، لكنها لا تنتسب إلى الأزمنة المعاصرة” كمشاكل جادة نعيشها راهناً، كما تقدم مقترحات لحلول تبدو في غير محلها في سياقات عاصرة.

البعض يعتقد أن الاختلافات العقائدية في المذاهب الإسلامية ليست شبب العنف والنزاعات، وإنما المعالجة في التأهيل.. ما رأيك؟

كما أوضحتُ في الأجوبة السابقة بأن العوامل الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية واللاعدالة الاقتصادية تلعب دوراً مهماً في دفع الأفراد والمجاميع نحو القيام بأعمال عنف ضد الآخر، لكن كما بينت أن المجموع والفرد يلجأون إلى الشعور بـ”التبريرية” في ممارسة العنف ضد الآخر.

هذا فقط يحدث عند الأفراد والمجاميع- بشعور أو بدونه- بالانتساب بطبيعة الحال إلى المقاربات التبريرية. للأسف أن هكذا مقاربات أصبحت الموضة الفكرية المهيمنة في معظم الأكاديميات والجامعات. ويعتبر هذا الأمر انحرافاً محزناً في وقتنا المعاصر. من هنا القول إنه من الضروري أن يكون الفرد أداة قوية لمحاربة العنف بكل أشكاله وصوره وتجسيداته، باعتباره داعماً للنظرة التي ذكرتها- العقلانية النقدية المطورة من قبل كارل بوبار- وعدد من حواريه أمثال ديفيد ميلر، وليم بارتلي الثالث، وهنا سأحاول أن أقدم الاعتقادات الرئيسة لهذا المفهوم العقلاني.
Critical Rationalism ليست فقط مدرسة فلسفية ولكنها أكثر من ذلك كونها طريقة حياة متجانسة مع الفكر المتنور للإسلام، وتبشر بالتواضع المعرفي والفكري، لأنها فلسفة حوار قائمة على الآتي:

– البحث هو المعرفة والحقيقة للتحرر منه خلال “المعرفة والحرية والروحانية”.

– الموقف النقدي المشخص بأن أي تعبير خاص بالحقيقة معرض للخطأ، وهو محدد، غير نهائي، ويبحث بعيدا عن الدوغمائية في رؤيته للمواقف والأفكار والمؤسسات والتقاليد، لأجل تقديمها إلى مختبر النقد والتقويم. العقلانيون هم أولئك الذين على استعداد لتحدي ونقد كل شيء بما في ذلك التراث.

– الاستعداد للتعلم من الآخرين، يتوجب علينا معرفة أولئك الذين نتواصل معهم كمصدر كامل للنقاش والمعلومات، كخطوة أولى لاتخاذ الموقف التالي: “ربما أكون على خطأ وأنت على صواب ومن خلال هذه الجهود نقترب من الحقيقة”.

هل ما يسمى بالإسلام السياسي قادر على اختراع نموذج يتناغم فيه مفهوم الإسلام مع الديمقراطية.. كيف، وفي أي نوع من الأطر؟

أعتقد منذ البداية يتوجّب تحديد التعاريف في العلوم الإنسانية والاجتماعية عموما، وفي حقل السياسة والعلوم السياسية خصوصا، لأجل التوضيح وتحاشي سوء الفهم غير المرغوب به. المتخصصون في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، يؤكدون خطأ بأن التعاريف تلعب دوراً مركزياً فيها- ويستشهدون بسقراط وأفلاطون وطرقهم لطرح الأسئلة حول معنى، أو جوهر- على سبيل المثال، العدالة والحرية. وجهة نظر هؤلاء تكمن بإيجاد المعنى أو الجوهر لأهم المفاهيم التي يتعاملون معها في مجالاتهم المتخصصة، لكن مثل هذه المقاربة مضللة بالكامل لأنها لم تنقل مشاكل حقيقية لأناس حقيقيين مع طموحات حقيقية، إلى مشاكل حول علم الدلالات وألفاظها واللغة، أو توجيه الأسئلة حول البحث في جوهر كيانات غير موجودة في حقل التجديد الاجتماعي.

التعاريف في الشكل النهائي والدقيق (دلالة أو ضرورة) لأجوبة حول أسئلة مثلا: ما هي الديمقراطية، ما هي الحكومة الرشيدة، ما هي الثورة؟ وما شابه من أسئلة لا يمكن الحصول على أجوبتها.

السبب بسيط، لأن أيا من المفاهيم المذكورة في العلوم الاجتماعية والسياسية ليس لها جوهر أو معنى ثابت. المعنى في العلوم الاجتماعية والسياسية يخدم فقط كنقطة ابتداء لعمليات هدفها تطوير نماذج شرح معتبرة لظاهرة ما تحت الاختبار.

الناس الذين يتلمسون القضايا الحقيقية يتعلمون أكثر حول كفاءة الأفكار التي شيدوها في استطلاع الواقع. مع هذه المقدمة نستطيع التهيئة للسؤال المطروح، ويتوجب الأخذ بنظر الاعتبار أن الاثنين: الإسلام السياسي والديمقراطية أفكار متنازع عليها باسم الإسلاموية، والجواب على السؤال الذي طرحته يستند بشكل كبير إلى النموذج الكامن بالذهن عن الديمقراطية، والإسلاموية. على سبيل المثال إذا كان نموذج الديمقراطية هو الليبرالية الغربية، كما في المملكة المتحدة، فيما الفهم الأحادي للإسلام يتمثل في طالبان أو حزب التحرير والوهابية، فلا وجود للديمقراطية ويؤيد تفسيرات أخرى للإسلاموية والإسلام السياسي، إذن يمكن طرح نماذج ملائمة للديمقراطية والإسلام السياسي ودمجهما لإنتاج نموذج قابل للتطبيق في الحكم لمجتمع أغلبية نفوسه من المسلمين.

اسمح لي في التوسع قليلا، أنا أعتبر أن الديمقراطية شبيه بالتكنولوجيا، فالثانية هي كيانات مشيدة اجتماعيا تخدم هدفين رئيسين بعضها تتجاوب مع حاجاتنا العملية كالسيارات والملابس والمنازل، وتقع في هذا الصنف.  أما سعتها الآلية فتسهل تعقبنا للمعرفة ولا يمكن لها التجاوب بطريقة مباشرة لحاجياتنا العقلية كالكتب والأجهزة التقنية وتقع في الصنف الثاني. بعض التكنولوجيات مثالا لا حصرا كالهواتف الذكية تقع بين الصنفين. التجاوب بين الحاجات العقلية من خلال المعرفة والعلوم التي تعتبر صنفاً متميزاً من التكنولوجيا وجزء من صميمها.

الديمقراطية هي تكنولوجيا مصممة من أجل إدارة الدول والمنظمات الكبيرة، والتكنولوجيات بغض النظر عن مصادرها يمكن تعديلها ضمن سياقات مختلفة بشرط تطبيق تناغم دقيق مع السياق الخاص. تكنولوجيا الديمقراطية يمكن تكييفها في سياقات المجتمعات الإسلامية بشرط معقولية اندماجها مع السكان، فيما يتعلق بالإسلاموية كما اقترحت أعلاه تغطي دائرة كبيرة ومختلفة تطبق على كل المسلمين الذين يتمسكون بمفهوم أن للإسلام أشياء عديدة يقدمها للعالم المعاصر. هذا بالطبع يعني عدة أمور تسير نحو وجهات نظر متعددة، على سبيل المثال الإشارة إلى المتشددين الذين يرون أن فهمهم للإسلام هو النموذج المطبق في هذا العالم وفي العالم الآخر.

ويكمن الإشارة إلى أن المسلمين الأكثر انفتاحاً الذين يعملون على ضوء تفسيراتهم العقلانية، يمكنهم تقديم مساهمات قيمة للمجتمع البشري يمكن من خلال الخير الكامن في الإنسانية أن تكون طريقة مزدهرة لعالم أفضل.

ما دور ثقافة الإسلام السياسي في انهيار الإصلاح السياسي في المنطقة العربية؟

مرة أخرى يجب إيضاح حقيقة أن مصطلح الإسلام السياسي لا يدل على تفسير واحد، ولأجل النقاش تعتبر المؤيدين للإسلام السياسي هم أولئك الذين يتمسكون بمجموعة من الاعتقادات التالية:

– إنشاء دولة إسلامية.

– تطبيق الشريعة.

– الإسلام هو الحل وغيرها.

أي الاعتماد على نص مقدس معصوم باعتباره السلطة النهائية الوحيدة في ترجمة النصوص لكل اهتمامات الحياة ورفض الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإسنان بضمنها (حقوق المرأة والأقليات) والعصرنة والعلمانية وفناء الكفار وتنظيف العالم الفاسد.. أي نظرة مركزية ثيولوجية عالمية (أيديولوجية). إن يمكن الادعاء أن رؤية أقلية باقية وقادرة على قهر قطاعات واسعة من الأغلبية الصامتة لبعض الوقت. لكن على المدى البعيد هكذا مقاربة، بسبب غياب المرونة الجوهرية لا تتمكن من الإصلاح في العالم العربي بشكل بناء. المتمسكون بهذا التفسير من الإسلام السياسي يمكن إطالة وجودهم إذا ظلت الحالة كما هي في المنطقة العربية. ويمكن القول بأن حالة من الجمع بين النخب السياسية الفاسدة مع قوى خارجية مهيمنة تستمر لإخضاع الأغلبية وتبديد الثروات في المنطقة. وكلما طال الظلم واللامساواة بأشكال مختلفة تكون الحظوظ اعلى لترسيخ موقع الإسلاميين المتشددين، وظهور مجاميع في السلطة أمثال طالبان في أفغانستان وداعش في العراق وسوريا، وفرض تعقيدات حياتية أخرى على الناس، وعرض صورة وحشية عن الإسلام.

من الجانب الآخر تقديم نموذج منطقي من الديمقراطية مع كل الأشياء التي يعنيها هذا النموذج بضمنها حكم القانون، المساءلة، الشفافية، تكافؤ الفرص والحقوق، حرية التعبير والتجمع.. وهي فرصة مهمة لتقويض سيطرة المتشددين في المنطقة وأسطورتهم الغامضة، كما تعطي انطباعا جيدا عن الإسلام.

هل الأحداث في مصر انعكست سلباً على قدرة الإسلام السياسي في إدارة دولة عصرية؟

أجل، في الحقيقة قضية الإخوان كشفت بطريقة دراماتيكية ضعف النظرة السياسية لأقدم تنظيم إسلامي في العالم العربي، على الرغم من أن الإخوان وهم خارج السلطة قد اكتسبوا خبرة طويلة وقيمة فيما يتعلق بأهمية حقل الرعاية الاجتماعية وعندما تسلموا السلطة فشلوا في الوصل بين جوانب تماس الرعاية الاجتماعية وتجسيدها. في المجتمعات المعاصرة الحكومات تحصد أصوات الناخبين إذا أثبتت أنها تمثل الأكثرية وغير متحيزة في استخدامها للسلطة، كذلك قدرتها على تكافؤ الفرص بشكل أكثر من منافسيهم، بالطبع يجب أن أضيف أن فشل الإخوان ليس بسبب الأخطاء التي ارتكبوها، بل إن القوى الخارجية لعبت دوراً حاسماً في هذا المضمار، على سبيل المثال السعودية التي أوقفت دعمها المادي لمصر، والولايات المتحدة هي الأخرى كانت علاقاتها فاترة مع الحكومة الجديدة المنتخبة ديمقراطيا، فيما لم تتردد في إسناد نظام مبارك طوال عهده.

كيف تقيم التجربة السياسية في تونس؟

أثبت راشد الغنوشي أنه تعلم من الأخطاء السابقة، كما تأثر بمكوثه فترة طويلة في الغرب، إذ أدرك أن أي حزب إسلامي كي يبقى وثيق الصلة مع العالم المعاصر يتوجب عليه تبني أفكار جديدة وتكييف حاله مع المشهد السياسي المتغير. تونس لها تاريخ طويل نسبياً من النظام العلماني والتوجه الغربي، لذا فإن فرض سياسات إسلامية متشددة على هكذا مجتمع ستكون بمثابة انتحار سياسي. الطريق الوحيد للنهوض يتبلور بأن تكون النهضة قادرة على لعب دور لتطوير المجتمع التونسي، كذلك ينبغي أن تصغي لمتطلبات ومواطنيها وأن تعرف باستمرار المزاج الشعبي وتعدل بموجب ذلك سياستها بطرق تلبي طموحات الناس.

العمل البارع هو إيجاد تفسيرات مناسبة في دمج المثل الإسلامية في سياسات تطويرية لانتشال المواطنين في قارب النجاة. إنجاز الإسلاميين في تونس لغاية الآن متواضع، ولإنجاز النجاح يتوجب أن يكونوا قادرين على التفكير بطريقة جريئة وعلى استعداد للمضي بشجاعة إلى مواقع لم يذهب إليها أي حزب إسلامي سياسي آخر.

هل دفعت أحزاب الإسلام السياسي كما في مصر وتونس، الحركات السلفية التي قادت إلى انفجار العنف على طول وعرض المنطقة الإسلامية؟

يلخص السلفيون أحد أسوأ قضايا الترويج للعنف المكشوف في خدمة الأهداف السياسية، وينبغي في هذا الإطار عدم تجاهل حقيقة أن بيئة الاجتماع- سياسية في العالم العربي والشرق الأوسط ممتلئة بمقومات تساعد على إحداث العنف في المجالات السياسية أو الاجتماعية على سبيل المثال الفجوة الاقتصادية الهائلة بين الفقراء والأغنياء، هي وصفة فعالة للعنف.

بأي مستوى تكون الحركات الإسلامية مسؤولة عن الاستقطاب الحاد في المنطقة العربية. ليكون العنف نتيجة لذلك؟

الكثير من هذه الحركات مذنبة في نشرها وجهات نظر تعزز تقسيم “الأنا والآخر” هكذا موقف يتوجب تجانسه مع الموقف المتنبي من قبل العقلانية النقدية لقطع دابر العنف بكل أنواعه وأشكاله.

في ظل وجود قطاعات واسعة من الشباب الذين يكفرون الدولة الحديثة ويرون فيها من أوهام لا وجود لها. هل سيقود هذا إلى العنف، وهل سيتمكن الإسلام السياسي من ردم الفجوة الموجودة؟

هذه نقطة مهمة بسبب ضعف الإنسان المعاصر والعلوم الاجتماعية، النظريات الحديثة للدولة، خاصة في حقل السياسة، لم تقدم بشكل معقول للمسلمين، وفي ذات الوقت المواطنة الإسلامية لم تعرض للصيغ العصرية من التفكير الناقد. ونتيجة لذلك، وبمقتضى النظرة التقليدية التي تتبنى من قبل الأجيال المسلمة الشابة من دون نقد أو فحص، تكون ذات تأثير هائل على عقول ونفوس المسلمين الشباب. ولمعالجة هذا الأمر يتوجب تقديم طريقة العقلانية النقدية للمسلمين، وتقديم دراسات رصينة وناقدة للإنسانيات المعاصرة وعلوم الاجتماع، ومن خلال عملية التعليم الشاملة نتمكن فقط من إيجاد بيئة يكون العنف فيها ليس الخيار لتصفية النزاعات، بل عن طريق الحوار العقلاني.

كارل بوبار الذي ذكرته آنفاً كتب الملاحظة التالية في كتابه “إسطورة الهيكل” (الخطوة الأهم لعالم أفضل وأكثر سلاماً عندما نستبدل حرب السيوف بحرب الكلمات والنقاش العقلاني). ما نحتاجه في الدول الإسلامية هو شرح النقطة أعلاه للمسلمين، هذا بالطبع لا يعني أن الدول الإسلامية لا يتوجب تسليحها بأفضل أنظمة الدفاع. لكن في الدول العصرية اللجوء إلى العنف يتوجب استخدمه كآخر الحلول، وأن يكون ضمن السياق القانوني والشرعي.

ما هي القيمة المضافة للأحزاب السياسية بمرجعية إسلامية في منطقة تمتاز بالتنوع الثقافي؟

هذا سؤال مهم، في الحقيقة أثبتت تجربة القرن العشرين وتاريخ حركات التحرر بوضوح أنه ليس بإمكان أي حزب سياسي أو حركة من تبني سياسات ضد الإسلام والفوز شعبيا على المدى البعيد. الأغلبية مرتبطة بالإسلام، وكثير من المواطنين قد لا يكونون متدينين ولا يمارسون العبادات الإسلامية، لكن القيم الإسلامية جزء من ثقافتهم، وحتى عندما لا يبدون اعتراضهم على هذه السياسة يشعرون بالاستياء والسخط. في مثل هذه البيئة فإن الأحزاب القادرة على الجمع بين الوعي الروحاني وبين سياسات معقولة تكون متناغمة مع احتياجات المواطنين العصريين، سيكون لها نصيب كبير في الفوز على منافسيها، ولعل حزب العدالة والتنمية في تركيا خير مثال على ذلك.

بطاقة:

. بروفيسور الفلسفة في الكلية الإسلامية في لندن.

. الباحث الأقدم لقسم السياسة والعلاقات الخارجية في جامعة (ويستمنستر) لندن.

. بروفيسور الفلسفة في قسم الدراسات المستقبلية في معهد دراسات البحث الوطني في إيران.

. حرر ونشر العديد من الدراسات والكتب باللغتين الإنكليزية والفارسية.

. من كتبه ودراساته: أرض الضباب للأفكار، العراق والديمقراطية ومستقبل العالم الإسلامي، الصدمات الاجتماعية والثقافية للموجة الرابعة من التطورات العلمية. هابر ماس والمثقفون الإيرانيون.

. سيصدر له لاحقاً مرشد شخصي ذكي للعقلانية النقدية.

جديدنا