يبدو أنّ كل يوم تشرق فيه الشمس على هذا العالم، إلا ويزداد توتّراً واضطراباً وحروباً وقتلاً وسفكاً للدماء، وكأنّ البشر يؤكّدون تهمة الملائكة عندما قالوا للحقّ سبحانه وتعالى بعد أن أخبرهم أنّه جاعل في الأرض خليفة (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
لقد أصبحت مشاهد الذبح والقتل مألوفة في وسائل إعلامنا المرئيَّة والمكتوبة، وكأنَّ الأمر أصبح قدراً لا مفرّ منه، وما يزيد الطين بلّة أنّ أكثر البقع المشتعلة في العالم مسلمة أو يدّعي ساكنوها أنّهم مسلمون.
وظهرت في السنوات الأخيرة مجموعات متطرّفة تتبنّى التيّار المتشدَّد والتفسير المغلق للدين الإسلامي، فاستباحت البلاد والعباد، وأعطت لنفسها الحقّ في أن تقتل من تشاء وتعفو عمن تشاء وكأنّها الحاكمة بأمر الله، فشاهدنا أعمالاً روّعت الآمنين في أكثر من مكان في الكرة الأرضيَّة، وها هي نسخة أكثر تطرّفاً تطلّ برأسها اليوم تدمّر كل شيء أتت عليه بأمر قادتها ومسيّريها ومموّليها. وقد شاهد الجميع المشاهد المروّعة التي بثّتها هذه الطغمة الإرهابيَّة، عبر وسائل الإعلام العالميَّة لإعدامات بأشكال وأنواع، أدخلت الخوف إلى قلوب العباد، وخاصَّة بعد احتلالها لأجزاء من العراق وسوريا، فالله وحده يعرف إلى أين سينتهي هذا السيناريو المتطرّف والمدّر، ومن من الناس المسالمين الذين سيدفعون فاتورة تطرّف هؤلاء الجهلاء في مكانٍ آخر من هذه الأرض التي أصبح البؤس والقتل والذبح هي شعاراتها التي تتكرّر عشرات بل مئات المرّات في اليوم، وقد صدق الحقّ سبحانه وتعالى عندما قال: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
فالإنسان فعلاً يتحمّل مسؤوليَّة جمّة فيما وصلت إليه الأمور في وقتنا الراهن، لأنّه تخلى عن القيم التي جاء الإسلام وغيره من الديانات لترسيخها، وذهبت قيم التسامح والمحبّة والتآلف والتراحم أدراج الرياح، وانتهت إلى تفسيرات جديدة، مخالفة تماماً لما هو أصلها، فأصبحنا نجد من يدافع عن القتل باسم الدين ويجيز إزهاق الأرواح وهو يستدلّ بالقرآن والسنة والإجماع، فيحقّ لنا أن نتساءل: هل أتى هذا الدين السمح المتسامح من أجل أن يحرِّر الناس من براثين الجهل والأميَّة والقتل ونفي الآخر، أم أنه فقط جاء لكي يعلّمنا كيف نقتل ونذبح الآخرين الذي يخالفوننا الملَّة والدين؟ قطعاً لم يأتِ النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلا لكي يكرّس قيم التسامح والمحبَّة وقبول الآخر مهمّاً كان هذا الآخر، ومهما بلغت درجة اختلافنا معه، لأنّه في الأخير يبقى نظيراً لنا في الخلق أو أخاً لنا في الإسلام، كما قال الإمام علي كرّم الله وجهه.
عاشت الأمّة الإسلاميَّة لحظات تاريخيَّة مهمّة، سادت فيها قيم السلام والمحبَّة والتسامح وقبول الآخر، ممّا جعل الإبداع العلمي والابتكار يصل إلى أعلى درجاته، فقد عرف المسلمون في فترة الازدهار، أنّهم كانوا منفتحين على غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ولم تكن لديهم أدنى حساسيَّة مع توجّهات الآخرين ودياناتهم، فكان التفاعل جيّداً معهم، وكان النجاح في بناء علاقات طيّبة معهم، بل أكثر من ذلك فقد بلغت المعاملات التجاريَّة والماليَّة ذروتها، وحرص كل جانب أن لا يفقد ثقة الجانب الآخر، فسادت تلك الروح الجميلة المتعاونة والفاضلة التي كانت صورة رائعة ما زال المسلمون يتباهون بها إلى حدّ الآن.
ولأن الوضع الحالي يصدق فيه قول القائل إن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ فقد عدد كبير من المسلمين تمثّل تلك القيم الرائعة، التي صبغت سلوك أجدادهم في عصورٍ مضت، فلم نعد نرى في المسلمين غير تلك الصورة المقزّزة التي تدلُّ على العنف والنفي والقتل وسفك الدماء، صورة زكّتها للأسف أفعال أشخاص لا يفهمون شيئاً من دينهم، وإذا فهموا ففهمهم أعوج غير مستقيم، صورة استغلّها البعض في إعلام الغرب ووسائل تواصله المتنوّعة والكثيرة، وبالغ في رسم صورة واحدة عن المسلمين، فأي غباء وأية صورة مدمّرة للإسلام وأتباعه تلك التي يرسمها له كل يوم أولئك الجهلة من المسلمين.
من المؤكّد أن لا أحد في كل هؤلاء الذين يقاتلون بعضهم البعض سيفوز في الأخير، فلم يقع طيلة تاريخ البشريَّة أنّ حرباً اندلعت وفاز فيها أحد الأطراف دون أن يقدّم أية خسارة في مواجهة الطرف الآخر، فالخسارة تكون كبيرة ومن جميع الأطراف والجوانب، وحتى مفهوم الانتصار الذي يدّعيه طرف على طرف فيه ما فيه، فالحرب تأتي على الأخضر واليابس، وما يزيد من فداحة هذا الأمر، أنّ الجميع مدرك أنّ الحروب والقتل والدماء لا نتيجة جيّدة لها، ومع هذا العلم المسبق، لم لا يجلس هؤلاء الناس ويتحاورون ويبحثون عن كلمةٍ سواء التي تحدّث عنها القرآن، الكلمة السواء التي يلتقي في ظلّها الجميع دون تمييز أو نيل من حقوق أو إقصاء، فالكلمة السواء يتساوى فيها الجميع ولا فضل لأحد على أحد بدينه أو جنسه أو انتمائه أو غيرها من العناوين الزائفة التي تنتفي تحت مظلّة الإنسان ومظلّة النفس الواحدة بتعبير البرنامج التدريبي “مهارات النجاح في عالمٍ متغيّر”.
لقد حان الوقت لكي يعود الإنسان إلى رشده، ويعمل على التخلّص من كل تلك التصرّفات والسلوكات التي تؤكِّد أنه سبب أزمة هذا العالم، ويعمل على تأسيس منظور جديد للإنسان خليفة الله على هذه الأرض، خليفة يحترم وجود غيره من إنسان وحيوان ونبات وجماد، إنسان ارتباطه الأكبر بالمطلق في هذا الوجود، ارتباط بخالق هذا الوجود الذي اختاره ليكون خليفة وله ويمثله في هذه الأرض خير تمثيل، ومن دون ذلك سيقع لكل جيل جديد ما وقع لابن آدم عندما قتل أخاه وندم على الفعل ندماً شديداً ولم يعرف حتى أن يواري سوأة أخيه حتى بعث الله غراباً يريه كيف يفعل ذلك.
إنها اللحظة التاريخيَّة التي يجب أن نتوجّه فيها إلى الله، وندقّ ناقوس الخطر ويقبل بعضنا بعضاً حتى نحدّ من الحروب والقتل وسفك الدماء، ونعود كما أقوام أخرى نراها أمام أعيننا كل يوم، على قانون السلم واللاعنف والمحبّة وقبول الآخر، لأنّه دون ذلك ستبقى دائرة العنف والقتل والدمار تدور بلا توقّف وسنبقى صانعين لأجيال معطوبة تائهة، فنؤجّل تحقيق استخلافيَّة الله في أرضه إلى أن تقوم الساعة، حينها سندرك أننا خنّا الثقة والأمانة التي تعهّدنا بحملها أمام خالق الوجود ربنا عز وجل.