التنويريسلايدرفكر وفلسفة

الذين جعلوا القرآن عضين

لا شكّ أنَّ الإجرام الذي يمارس اليوم باسم الإسلام في مناطق عديدة من العالم، أوقعَ الكثيرين في صدمة وحيرة بسبب بشاعة الجرائم المقترفة، من حرق الأحياء حيناً، وجزّهم بالسكاكين أحياناً أخرى، ناهيك عن التسويق الإعلامي الذي يتعمّده مرتكبو هذه الجرائم أنفسهم، ليتحوّل تالياً إلى صكّ اتّهام مباشر للإسلام، مهما فنَّد المفنّدون وأظهروا من حجج لتبرئته من كل هذا الإجرام.

ولعلّ هذا ما دفع بالعديد من المهتمّين، إلى البحث عن بدائل جاهزة لتسويق صورة الإسلام الحقيقيَّة، بما يساهم في محو تلك الصورة السيّئة من جهة، ويروِّج لبديل يحاصر ويحدّ من نموّ التطرّف الحالي من جهةٍ أخرى.

وعلى هذا الأساس تمَّ الاحتفاء بالتصوّف والصوفيَّة، وإحياء الطرق والزوايا القائمة على هذا الموروث الأصيل في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، بما يكتنزه من تراثٍ غني بمفاهيم المحبَّة والسلام والخير، والقائم على تصالح الإنسان مع ذاته ومع غيره.

في اعتقادي أنّ هذا التوجّه مهما بدا مقنعاً على مستوى التصوّر النظري، إلا أنّه بالطريقة التي يطرح بها لا يملك أن يكون حلاً لمشكلة الغلو والتطرّف القائمة حاليّاً في أوطاننا. وذلك لأسباب منها: فكرة استدعاء نموذج جاهز في التراث مقابل نموذج آخر له حظه من الموروث أيضاً، فمشاكل الواقع التي أفرزت الإرهاب والتطرّف أعقد بكثير من أن تحلّ باستبدال نموذج بآخر.

إذ رغم ما يحمله التراث الصوفي من منزع إنساني أقرب إلى روح الإسلام ممّا هو قائم اليوم عبر تيّارات تكفيريَّة متشدّدة، إلا أنّ التراث الإسلامي والإنساني عموماً ليس سوى تجارب بشريَّة للاسترشاد والاستئناس في معالجة المشكلات المعاصرة وليس الوصفة الكامل لأمراض عصرنا مهما كانت صالحة لزمانها وعصرها.

كان ينبغي الالتفات إلى السياق التاريخي الذي ظهر فيه التصوّف، والتساؤل عن أسباب ظهوره وعوامل انتشاره، حيث يرى الكثيرون أنّ الانحراف والفساد اللذين اعتريا الحياة الإسلاميَّة إبان العصر العبّاسي الأوّل كانا سبباً في ظهور من عرفوا بالمتصوّفة بمظهر مناقض لهذا الواقع يقوم على تطهير الباطن والاستعلاء بالروح التي هي حقيقة الإنسان.

وبغض النظر عن موقف الجابري وتحليله الذي يرتبط بسياقٍ خاص، فإن كل اتّجاه من هذه الاتّجاهات الثلاثة، كان يجد تأصيله في نصوص القرآن والسنّة، ويستعمل الآيات والأحاديث في مقارعة خصومه من باقي الاتّجاهات.. وإذا رجعنا إلى القرآن الذي هو مصدر تأسيس الرؤية الكونيَّة للإنسان المسلم، نجده يخاطب في الإنسان عقله وروحه وجسده، وهي الأسس الثلاثة التي تقوم عليها شخصيَّة الإنسان، إذ يعالجها القرآن في تكامل ووحدة كاملة، لكن الأهواء صرفت الناس بعد ذلك إلى الإيمان بجزء وتأويل ما عداه، وإعادة تفسير الإسلام على أساسه، وتلك معضلة تعضية القرآن التي وقع فيها بعض أهل الكتاب الذين أرادوا التعامل مع القرآن بقبول بعضه وترك بعضه الآخر، فنزل فيهم قوله تعالى: (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)/ سورة الحجر.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة