في هجاء التعليم التقليدي
رغم عراقة المؤسّسات التعليميَّة الحديثة في أوروبا وأمريكا، فإنها وجدت نفسها أمام تحدٍّ كبير لديمومتها وانطرحت أمامها أسئلة القيمة المضافة لوجودها الفيزيائي وتكلفة استدامتها مع توفّر بدائل أسهل وأقل كلفة بوصول الإنترنت وتسهيله المذهل للحصول على المعلومة أينما كانت ومن قبل أي كان. ولم يتوقَّف الأمر عند ذلك، بل تعدّاه إلى نوعيَّة التعليم وصلته ببناء الاقتصاد وإنتاج وتراكم الثروة، ثمَّ صلته ببناء العلم والمعرفة والعلماء القادرين على إنتاج الحلول لأزمات الإنسان المعاصر.
ما نأخذه اليوم كمسلّمة في بنية المدن الحديثة من مدارس وجامعات لم يكن كذلك قبل أكثر من 500 عام حين بدأت الدعوة إلى التعليم العام تنتشر في أوروبا، والملفت أن يكون مصلح ديني مثل مارتن لوثر من أوائل الداعين إلى التعليم العام لغرضٍ محدَّد مرتبط بهاجسه الأساس وهو تمكين العامَّة (كل فرد) من الاطّلاع على الإنجيل (النص المقدَّس).
بذلك يرتبط التعليم مباشرة بالتمكين، بمعنى أن لا تمكين دون تعليم، وأن التعليم الذي يؤدّي إلى تمكين هو في أفضل الأحوال تعليم منقوص. تمكين الفرد من نفسه وبيئته ومصيره، كما شاءت له طبيعة خلقه وكما شاءت له إرادة خلقه.
يفصل التعليم التقليدي، خصوصاً في المنطقة العربيَّة، بين ما يمكن تسميته التعلّم التقني الهادف إلى تأهيل الحرفيّين ابتداء من الأطباء وليس انتهاءً بفنيّي الكهرباء، وبين التعليم الحيوي الذي يفترض أن يهدف إلى بناء مواطنين قادرين على حل مشاكلهم ومشاكل بيئاتهم والاستجابة الفعّالة لتحدّيات الحياة على الأرض، وبينما تقبع هذه البلدان في أسفل السلّم من حيث جودة تخريج الحرفيّين عالميّاً، تهمل بشكلٍ مرعب النوع الأهمّ: التعليم الحيوي.
فيرزح الملايين من ناشئتها تحت غيوم سوداء من تعليمٍ تقليدي لا يعجز فقط عن توفير أي إضافة نوعيَّة فعّالة لمرتاديه، بل يساهم فعليّاً فيما يمكن تسميته “تعميم الجهل المركّب”، حيث يتخرَّج آلاف الطلبة كل عام بوهم تمكّنهم من المهارات والقدرات اللازمة لبناء حياة ناجحة لأنفسهم ولأسرهم ولمجتمعاتهم، غير أنهم سرعان ما يغرقون بالإحباط وخيبة الأمل من أنفسهم وحكوماتهم وبيئاتهم.
يقطع التعليم التقليدي، في مجمله، الطريق على المعرفة الفعّالة بتبنيه للمسارات الموحّدة وعدم تقديره للخصوصيَّة الفرديَّة، ناهيك عن إغفاله عامل التطوّر المضطرد في العلوم والمعارف خصوصاً في العقود الأخيرة، وتواصل أجيال عديدة النهل من نفس المناهج الراكدة التي يزداد تأخّرها عاماً بعد عام، وفي الوقت نفسه تتوقَّع أن تزداد تميّزاً عاماً بعد آخر، الأمر الذي يضاعف من إحباطها وشعورها بالضياع وقلّة الحيلة والضعف، فيا لها من جناية بحقّ الأجيال الجديدة وبحقّ المستقبل أن نتوقَّع مخرجات جديدة ومواكبة للعصر من مناهج متقادمة وراكدة.
كذلك يفصل التعليم التقليدي في البلدان المسلمة خصوصاً فصلاً تعسفيّاً بين التمكّن من العلوم الحديثة وبين التمكّن من علوم التراث، وفيما يحصر الأخيرة ببنيّة مؤسّساتيَّة متعجرفة تنظر من برج عاجي إلى تحدّيات الحياة اليوميَّة من فقر وعنف وبطالة، وبذلك يخسر التعليم مهمّته الأولى المتمثّلة بالرفع المستمرّ لجودة الحياة للأفراد والمجتمعات.
ومن أخطر ما يفعله التعليم التقليدي في البلدان المسلمة إهماله واستبعاده ومحاصرته لتعلّم القرآن الكريم من قبل الناس، كل الناس، حاصراً الصلة بهذا النصّ المؤسِّس الحيوي بالحفظ الببغاوي وفي أفضل الأحوال تعلُّم النصوص التالية عليه.
يجب أن يخرج تعلّم القرآن الكريم وتدبّره من دائرة علوم التراث إلى دائرة التعليم الحيوي، الذي ينبغي أن تصمَّم له المناهج وترصد له الموارد إذا أريد للمجتمعات المسلمة أن تلحق بعصر الدماغ والكونيّات المتقدّمة والنانو فيزيك والجينوم البشري.
على التعليم في العراق والشام والمغرب والخليج والنيل أن يناطح الفقر والعنف
والجهل، إنها معركته الأساس، التعليم الذي لا يفعل ذلك لا ينتج إلا المختالين،
والجهل المركّب، والحروب التي لا تنتهي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.