لا نبالغ إذا قلنا إنّ اهتمام الفكر العربي الحديث بالدولة مع اعتبار أفقها الإسلامي ـ سلبا أو إيجابا ـ غلب على الاهتمام بالدولة مع اعتبار أفقها النظري، أي إن الاشتغال بأدلوجة الدولة يطغى على نظرية الدولة بوصفها حدثا تاريخيّا موضوعيّا يقبل المقاربة العلميَّة، هذا ما يجعلنا ندرك عدم الالتفات لمقاربة عبد الله العروي في السياق العربي الحديث، فهو وإن اعتبر بالأفق الإسلامي للدولة، إلا أن الأولويَّة كانت لنظرية الدولة، ومحاولة إدراكهـا كما هي وضعياً، من أجل ذلك تكمن قيمة مقاربته في تفسير مفهوم الدولة الإسلاميّة في نطاق هذا التصور الذي يعتبره واقعيا وتاريخياً كما في كتبه عامة وكتاب “مفهوم الدولة” خصوصا، إن تفسيره ـ وإن لم يكن هو غاية الكتاب ـ يتحدَّد في البرهنة على مقولة نصوغها في العبارة التالية: «استحالة الدولة الإسلامية في غياب النبي»!
إن أصحاب أدلوجة الدولة الإسلاميَّة لا ينطلقون من وعي شاذ عن المسار التاريخي والطبيعي للفكر الإنساني، بل يكرّرون ويعيدون إنتاج وعي سابق لكن بصيغة أخرى ومقولات أخرى، ومقاربة أطروحتهم لا يجب أن تتمّ من منطلق الخصومة، وإلا سقطنا في أدلوجة معاكسة، ونتج عنها تصور لا يعدو أن يكون نقيضا ذاتيا، فنكون داخل ما يرفضه العروي في تحليله، وإنما علينا تفهّمهم في محدودية نظرتهم بوضعهم ضمن إطار عام ينتمون إليه، أو بمعنى آخر إدراكهم عبر المسافة التي تفصل بين رغبتهم والواقع، فكل ما قدمه صاحب “مفهوم الدولة” ينتهي في محاولة التدبير الوضعي لهذه المساحة التي تباين الذات عن الموضوع، الأمنية عن الواقع، الحلم عن اليقظة، أو بمعنى أصح الوجدان الفردي عن الدولة.
لا شكّ، أن أهم سؤال يمكن طرحه قبل مقاربة معنى الدولة الإسلاميَّة، هو ما معنى الدولة؟ إن وقفة العروي مع السؤال تشي بأن إشكالا معقّدا نابع من أن الذين عرّفوا الدولة كانوا مشغولين بهدفهـا، وليس بماهيّتها، والتعقيد يكمن في تجاذب السؤال بين الواقع والمثال، هل المعنى يتحصّل لنا مما يجب أن تكون عليه الدولة؟ أم أن المعنى يكمن في استخراجه من الدولة كما هي في التاريخ والواقع؟ إنَّ الأستاذ لم يصرِّح بالتعقيد، لكنه حاول أن يفكَّه بتعديد المقاربات، فهو وإن أكّد على نعت التعريف العـام بالتجريديَّة، غير أنه بقي مستبطَنا عنده.
إنَّ العروي بالرغم من واقعية مقاربته ركّز على منظورات أخرى للدولة، منظورات تتعدَّد بتنوّع الأسئلة، إن نظرة الفيلسوف ليست هي نظرة القانوني، ونظرة عالم الاجتماع ليست هي نظرة المؤرخ، لكلٍّ سؤاله الذي ينتمي لجانب من مفهوم الدولة (الماهية-الهدف-الوظيفة)، ولكلٍّ أيضا أدواته في التحليل والمقاربة، فالمتكلِّم عن هدف الدولة يطغى عليه التنظير والتفلسف، أما المشغول بأطوارها فينزع إلى الوصف وتتبُّع الأشكال، والأمر كذلك مع الذي يروم تفسير وظيفة الدولة فعمله هو تحليل آليّات اشتغالها بالنظر إلى محيطها الاجتماعي، وكل واحد من هؤلاء يرى معنى الدولة من زاويته.
بيد أن أهمّ ما في مقاربة العروي هي النسبيَّة التاريخيَّة في النظر إلى الدولة، فهو يتكلَّم عن الدولة من زاوية تصوّريَّة فيعرض آراء الفلاسفة، لكن لا يغفل اعتبار ما ينعكس تاريخيا على رؤيتهم، سواء في دولة الفرد المنتج عند فلاسفة الأنوار، أو في دولة نابليون عند هيجل، أو في الدولة التاريخيَّة عند انجلز، أو دولة الملاك عند ماركس، أو دولة البيروقراطيَّة عند ماكس فيبر، أو دولة الصناعة عند سوسيولوجيي القرن التاسع عشر، أو دولة الأجهزة كما في سوسيولوجيا القرن العشرين، فكل تصور محكوم بمحيطه التاريخي وإن رام تجريد المفهوم واستنباط النموذج.
يبتدئ العروي مقاربته الواقعيَّة لمفهوم الدولة من عرض مقالتين عامّتين على ضوء ما قدَّمه إرنست كاسيرر، وليو شتراوس، وكارل بوبر، وجاك ماريتان..، وهما مقالتان يقول «إنَّ لهما تأثير واسع في مجرى التاريخ البشري»، وإن ظهرا بصورة متعارضة فهما ليسا كذلك، الأولى تنظر إلى الدولة بوصفهـا خادمة للوجدان الفردي، الجوهري في هذا التصوُّر هو أن الدولة ليست أولوية أو غاية، بل وسيلة لتحقيق هدف مسبق من خارجهـا يتمثَّل في الأخلاقي والشرعي، لقد تعدَّدت في التاريخ أشكال هذه المقالة، من الرواقيّين إلى أنصار القانون الطبيعي، ومن أوغسطين إلى فقهاء الإسلام. والثانية لا ترى الدولة إلا في خضوعهـا لقوانين العقل/الطبيعة، من أجل خدمة غاية الإنسان التي هي الرفاهية والسعـادة وهذه مقولة عبَّر عنها كليا أو جزئيا السوفسطائيّون والطبيعيّون الرومانيّون، وفلاسفة الإسلام كإخوان الصفا، وفلاسفة القرن الثامن عشر الأوروبي، وليبراليو القرن التاسع عشر.
يتجاوز العروي المقالتين بتقديم تصوّره عن جدليات الدولة الحديثة كما تحقَّقت في التاريخ الأوروبي، جاعلا منها إطارا مرجعيّا ونموذجا واقعيّا للمقايسة، ومتجنّبا مفهوم الدولة في المطلق، لذلك انطلق من هيغل الذي فضّل أن يستند على مونتسكيو وميكيافيلي في مقاربة الدولة على أن يأخذ بأخلاقيَّة الدولة، فهو الذي نظر إلى اجتماعيّات الدولة في إطار النظريَّة، ويكمن ذلك في النظرة الواقعيَّة التي تقوم على التصالح مع التناقض والازدواجيَّة، فكل أشكال التعارض تنتهي في صراع الوجدان الفردي والدولة، فلا توجد دولة تخدم المصلحة الفرديّة وإلا لما كان للتضحية بالفرد معنى، مع أن الدولة تقوم عليهـا، فـ«التفكير بالفرد هو تفكير بكائن لا وجود له، تفكير يصلح لمواضع شتّى سوى موضوع الدولة»، من هنا يركِّز العروي نظرية الدولة في هيغل بوصفها موضوعا يشغل مكانة الأولويَّة في جدل الذات والموضوع، وبوصفها أيضا «مبنيَّة على التمثُّل بالواقع»، ولا يكتفي بتحكيمها فحسب، بل باختبارهـا بالنظرية النقدية لها، خصوصا مع النقد الماركسي لهـا (ماركس، انجلز، لينين)، واختبارها كذلك بوضعانية فيبر، ومن خلال التركيب انتهى إلى أن «الدولة الحديثة بيروقراطيَّة مفصولة عن المجتمع ومبنية على منطق العقل الموضوعي»، وهو تعريف واقعي وموضوعي بالنسبة للعروي، لأنه معنى يستبعد الماورائيَّة أي وضع هدف الدولة خارجها، والفردانيَّة أي وضع الفرد هدفا للدولة، وما يسمّيه بـ(الاجتماعويَّة) أي تغليب قانون المجتمع المدني على قانون الدولة.
إنَّ مناقشة ما انتهى إليه الفلاسفة والمؤرّخون والسوسيولوجيّون حول الدولة الحديثة هو ما يسمح لنا بتفهّم أطروحة الدولة الإسلاميَّة، تفهّمها من زاوية الواقع الراهن، بوصفها مطلبا وأدلوجة، وتفهّمها من زاوية التاريخ بالبحث عن حقيقتها وتجسّدهـا في الزمن، مع التأكيد على أن العروي لم يكن مهتمّا بالصراع الإيديولوجي مع فكرة الدولة الإسلاميَّة، فهو لم ينشغل بتفنيد حجج الداعين إليها، لأن أولويته لا تكمن في نقض الخطابيَّة، وإنما في الوصول إلى نظرية ما حصل في الواقع، صحيح أنه قرّر طوبى الدولة الإسلامية، وأن الطوباويّة تقوم على التخيُّل والأماني، وعلى الحلم بدولة يكون الرادع فيها هو وجدان الفرد، واعتبر أن النظرة الطوباوية تستخفّ بدور الدولة في حياة الإنسان، إلا أن أحكامه هذه مبنيَّة على تفهّم الكائن وليس الفكرة.
يطرح العروي هذا السؤال: ماذا نعني بالدولة الإسلاميَّة؟ غير أننا نستشفّ من إجابته الموقف الالتباسي نفسه عندما طرح السؤال عن مفهوم الدولة عموما، إنه يميِّز بين الواقع أي البحث في المادَّة التي يمكن اعتمادها لاستخلاص صورة واقعيَّة تاريخيَّة للدولة الإسلاميَّة وتحليل آليتها وجهازها، وبين ما هو موجود في هذه المادَّة، لكنه ينتمي لما يجب أن يكون حسب مقصد الشريعة الأسمى، إنه يعتبر أن هذا المنحى الإيديولوجي يعبر عن همّ، عن تطلّع تشكيلة اجتماعيَّة ووضع سياسي، لكنه مجرَّد حل يعكس المشكلة القائمة، لذلك فالباحث الاجتماعي يستخرج منه انعكاسات الواقع المعاش، ولا يمكن استخراج صورة الدولة الإسلاميَّة كحقيقة في ذاتهـا.
ما يجب أن تكون عليه الدولة هو ما وجده العروي في الموروث العربي، أمَّا الدولة الإسلاميَّة كما كانت في الواقع فقد واجهته صعوبة تصويرها واقعيّا بسبب المسافة الزمنيَّة بين الواقع والمصادر والوثائق، وبسبب تكّون هذه الدولة نفسها وكيفيَّة نشأتها وتقلّباتها، غير أن الواقع في عينيّته يمتزج بالخيال في مطلقيّته، وهو ما يعكس طوبى الفقيه وواقعيَّة المؤرِّخ-الأديب وفردانيَّة الفيلسوف، وكل عنصر من هذه العناصر تقرّبنا من الصورة، والتي يمكن من خلالها أن تعكس جوانب من الواقع التاريخي، إن طوبى الفقهاء تشكّـلت من فكرتهم عن كسر واقعي أحدثته النبوَّة في المدينة الفاضلة الخياليَّة، فإذا كانت هذه المدينة مستحيلة التحقُّق، فالمعجزة تردّها ممكنة واقعـا من زاوية التصوّر الإسلامي.
يقبض العروي على مفهومين أساسيّين في الدولة الإسلاميَّة هما “الخلافة” و”تطبيق الشريعة”، ويعتبرهما مكونين أساسيين لطوبى المفكِّر السياسي الإسلامي، وفي الوقت نفسه هما من يحدّدان مفارقة الفقيه التي تجمع بين الواقعية والطوباويَّة، «إن واقعيتهم [الفقهاء] تتأصَّل في طوباوية دفينة»، فقد حرص الفقهاء على الحديث عن تطبيق الشرع أكثر من حرصهم على الخلافة (الغزالي، ابن تيمية، ابن القيم، ابن فرحون..)، ثم تطوَّر الأمر إلى ربط الشرع مع مفاهيم أخرى متسامحة ومعتدلة، مفاهيم من قبيل العدل والمصلحة والرحمة والحكمة بدل التذكير بقواعد الشرع في ظاهريتها، إنَّ هذه الخطابيَّة يعتبرها العروي اعترافا بالواقع وهو أن «تطبيق الشرع حرفيّا صعب»، لكن المعضلة لا تكمن هنـا، بل في مفهوم الخلافة، فهي المقوّم الأساس للدولة الإسلاميَّة، فلا أحد يشكّ في أن معالم الشرع كانت قائمة في دولة معاوية، لكنها لم تكن دولة خلافة.
لقد اختلف دارسو مفهوم الخلافة في تحديد مقياسهـا كما تصوّره الفقهاء، ونبّه العروي إلى أن هاملتن جيب هو الأقرب إلى الصواب أمام كثرة أخطاء المستشرقين، وقُربه من الصواب يتمثَّل في ربطه الخلافة بواجب الجهاد بمظهره الحربي، وخطؤه تمثَّل في تضييق هذا المفهوم، غير أن العروي استدرك على هذه الشرطيَّة بأنها لو كانت صحيحة لاستحقّ الكثير من الأمويّين هذه التسمية، ورأى أن الذي يفصل في مفهوم الخلافة ليس تطبيق الشرع ولا الجهاد، فكلاهما قد يخدمان سلطة الدولة، فـ«الدولة السلطانيَّة التي تطبِّق الشرع حرفيّا ليست خلافة لأنها تهدف من وراء ذلك التطبيق إلى الراحة والاستقرار»، أي إلى أغراض دنيويَّة، أما في الخلافة فيجب أن يكون الهدف المتوخّى من تطبيق الشرع هو مكارم الأخلاق، وجدان الفرد، الوازع الداخلي، «الخلافة هي تطبيق الشرع لتحقيق مقاصده»، معنى هذا من منظور العروي أن الدولة لا تكون خلافة حتى تتجاوز طبيعتها وأهدافها الذاتيَّة.
يركِّز العروي على وعي الفقهاء بهذه الحقيقة الـمُرّة، أي استحالة دولة الخلافة في غياب المعجزة، من هنا خضوعهم للواقع في تأويلهم لشروط الخلافة، ومن هنا كانت مفارقتهم أيضاً، فإذا كانت الخلافة تستلزم أن يصبح الإنسان غير الإنســان (الكائن الغريزي)، فلا بد من العيش في انتظار المعجزة، داخل دولة تطبِّق الشرع، إن الأمر بخلاف المؤرخ والأديب السلطاني، الذي لا تشغله الطوبى، بل ما يشغله هو تطبيق الشرع من حيث هو حفظ لنفوذ السلطـان، وإذا كانت ثمّة من نصح بمكارم الأخلاق فهو لا يعدو شخص السلطـان وحرّيته الفرديَّة، وليس حرّية كل فرد ووجدانه، فـ«كلما كان الفرد وحيداً، وكلما هاجرت مقاصد الإسلام إلى سماء الطوبى، تقوى واشتدّ حكم السلطـان»، في هذه النقطة بالذات يتصالح الفقيه مع الحكم السلطــاني، ويلتقيان في إقامة معالم الشريعة.
إنَّ الفقيه كما يتلاقى مع الحكم السلطاني في واقعيته، يتقاطع مع الفيلسوف المسلم في طوباويته، فكلاهما يعلم أن الدولة من حيث الطبيعة لا يمكن أن تحقِّق هدفهما المنشود (أخلاقيَّة الفرد)، إنَّ الفقيه يرضى بالواقع في انتظار المعجزة، أما الفيلسوف فإنه يلجأ إلى «مخاطبة العقل وحده، ويعتمد عليه وحده، يعتقد أن الفرد العاقل يستطيع أن ينجو بنفسه، بل يجب عليه أن ينجو بنفسه دون التفـات إلى الغير»، يقدِّم هؤلاء الثلاثة «نماذج متخيّلة عن السياسة والدولة، فيها تطلع إلى عالم بلا دولة، وفيها في نفس الوقت قبول وتثبيت للدولة القائمة، في مفكِّر واحد قد يتعايش الطوباوي الذي يحلم والواقعي الذي ينصح للأمير والحكيم الذي يخطِّط لمدينة بلا سلطـان. الفكر السياسي الإسلامي إذن صورة معكوسة للتجربة السياسيَّة العربيَّة».
إن العروي يصل إلى جوهر التجربة السياسيَّة الإسلاميَّة من تركيز على التخارج بين الدولة والقيمة، بين التاريخ والحريَّة، بين قانون الجماعة وقانون الفرد، من هنا كانت طرافة التأويل الذي قدّمه للشعار المتداول بين أصحاب مقولة الدولة الإسلاميَّة “لا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله”، إنه ليس خطابا إنشائيّا ومعياريّا يتوخّى قيمة ينبغي على المجموعة الإسلاميَّة أن تعيها، كما يبدو في منطوقه، بل المقولة خبر نتج عن حكم واقع بالنسبة للعروي، وهو وصف محايد ودقيق لتشكُّل الدولة الإسلاميَّة، فإذا كان الصلاح المتقدِّم ابتدأ بالمعجزة وخرق العادة، فكذلك الأمر بالنسبة للصلاح المتأخِّـر، يحتاج إلى معجزة وخرق عـادة كي يتحقَّق، وإذا استنتجنا أن العادة لم تعد بإمكانها أن تُخرق فـلا وجود لدولة إسلاميَّة في غياب النبي!