أطاح الربيع العربي برؤوس أنظمة تقليديَّة عتيدة ومستقرَّة. وسرعان ما تحوّلت الآمال المرتبطة بهذا التغيير لدى الشعوب إلى آلام محزنة ومؤسفة. في الوقت الذي انتظر الناس فيه انبلاج صبح جديد على بلادهم، يقيهم الفساد والظلم والتبعيَّة والتخلّف. إذ سجّلت الوقائع المتلاحقة عودة- أو بالأحرى- بقاء الأنظمة التقليديَّة التي ثارت الشعوب ضدّ تسلطها وقهرها. صمدت هذه الأنظمة إذن وعادت بوجوه جديدة لكنها مألوفة.
محاولتنا سوف تقف ولو في إلمامة سريعة على جوهر المشكل في تعثّر وفشل تحقيق التغيير المأمول من خلال رصد الفروق الكائنة بين عمل القوى التقليديَّة للأنظمة الحاكمة، وعمل القوى الثوريَّة الشبابيَّة والمدنيَّة والحزبيَّة، وهو أمر يقتضي منا العودة إلى ما قبل الثورات في هذه البلدان.
إن فساد الأنظمة وسوء الأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة في بلدان الثورات مسألة لا يختلف عليها اثنان، بل ربما تعتبر من اليقينيات حتى لدى أنظمة الاستبداد ذاتها، وهي أنظمة عملت لعقود وبوعي تام على صناعة وعي جمعي قائم في أساسه على تغييب الوعي ذاته، صناعة ممنهجة تكرّست من خلال تفريغ منظومة التربية والتعليم من مضمونها ورسالتها، وصولاً إلى هدر الطاقات العلميَّة واضطرار أصحابها إلى الهجرة خارج الحدود، مع إفساد القضاء والتحكّم في الآليّة الانتخابيَّة.
وفي الوقت الذي تعمل فيه أنظمة البلاد المتقدّمة على رفع منسوب المعرفة والوعي لدى شعوبها حفاظها على تنافسيّة شديدة في ظل العولمةـ وتعتبر هذه الأنظمة تغييب الوعي مهمّتها الأساس، ومؤشرات ذلك واضحة في تزايد نسبة الأميَّة العلميَّة والثقافيَّة، فضلاً عن الأبجديَّة، ليسهل استخدام أنصاف المثقّفين وأشباه العلماء في تدجين ما تبقّى من وعي لدى الشعب، إلى جانب ماكينة التضليل الإعلامي التي تصنع من السذّج أبطالاً وقادة وهميّين وتحتفي بـ”نماذج” الانحطاط الأخلاقي والثقافي. فكيف كان يمكن لمثل هذا العمل الدقيق لأنظمة الحكم التقليديَّة أن يفرز حراكاً واعياً للشعوب يستطيع أن يصنع التغيير المجتمعي بشكلٍ واعٍ ومدروس.
فقد بيّنت التجربة العمليَّة أن أكبر عدو لهذه القوى الثوريَّة الشبابيَّة كان هو غياب الوعي الذي لا بد منه لكل فعل تغييري. صحيح أن الوعي حاضر لدى أفراد وفئات محدودة جداً، لكن نسبة هذا الوعي الموجود لدى هذه النخب اليسيرة لم تكن لتتغلب على حصيلة ما راكمته الأنظمة من تغييب عام للوعي لدى الفئام من الناس، وهو ما ساهم في استعادة مكانتها سريعاً ولو بعد تأرجح، وإذن فهي نتيجة منطقيَّة وطبيعيَّة وإن كانت غير مرجوة.
غير أن في كل مشكلة يكمن الحل، وبعد كل غروب لحظة إشراق أكيدة. وما يمكن استفادته من الأحداث المريرة والمؤلمة، هو كيف تستعيد الشعوب وعيها، وكيف تعمل القوى المدنيَّة على قضيَّة بناء الوعي، باعتبارها المعركة الأساسيَّة لشعوبنا ضدّ التخلّف؟ فقد كان واضحاً ان استبدال الحكام وحتى الأنظمة القائمة بأخرى جديدة من شأنه الإبقاء على الوضع ذاته إن لم يزده سوءاً، لأن العقليَّة هي ذاتها مع اختلاف في التوجّه أو الرؤى والأفكار، فالوعي هو الحلقة الأساس في التغيير الإيجابي، والتدافع بين الراغبين في بنائه والقائمين على تغييبه هو المعركة الحقيقيَّة للشعوب المقهورة.
ولعل “اقرأ” هي السورة الأولى التي نزلت على النبي المصلح، فكانت تلك اللحظة بالفعل هي لحظة انطلاق بناء الوعي الذي صنع أفضل حضارة في التاريخ الإنساني. وعي يتأسّس على القراءة المرتبطة بالعلم والمعرفة كفعل حضاري، لأن العلم والمعرفة كفعل حضاري، لأن العلم والمعرفة المؤسسين للوعي هما سبيل الوصل لأي تغيير مجتمعي حضاري وإنساني، وهو ما تحقّق فعلاً، وما يمكن أن يتحقّق غداً. إنها معركة بناء الوعي.