خلافًا للاعتقاد السائد الذي يَشيع بين كثير من أتباع الأديان، والذي يَعتبر اختلاف المعتقدات مَدعاةً للعَداء والبَغْضاء بين الناس، نجد القرآن الكريم يَرفض هذا التصوُّر الخاطئ، في آيةٍ مِن أحكَم الآيات وأجملها، وهي قوله تعالى: {لَا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتلُوكُم في الدِّين ولَم يُخرجوكُمْ من ديارِكُم أن تبرُّوهم وتُقسِطُوا إِلَيهِم إنَّ اللَّه يحبُّ المُقسطينَ} [المُمتحَنة: 8].
يُشعر مَطلعُ الآية، بأن بعض المسلمين كانوا -نتيجةً لتفاقُم أجواء الصراع مع قريش وحلفائها عَقِبَ معركة الأحزاب-، قد فهموا أن الله ينهاهم عن إقامة علاقة حسَنة مع كلِّ من يخالفهم في الاعتقاد، وظنُّوا أن كلّ مَن ليس على دينهم، هو بمنزلة عدوٍّ لهم، ولا تَخضع العلاقةُ به لفضائل الأخلاق!
يَشهد تاريخ الصراعات الدينية، بأنّ كثيرًا من الناس يقَعُون ضحيَّةً لنَزَعات الكراهيَة وأوهام البَغضاء، تجاه مَن يخالفهم في الدين والمعتقد. وهنا، يصبح المُخالف بمنزلة نقيض مُطلَق في كلِّ صغيرة وكبيرة؛ ما يُسوّغ العَداءَ والبغضاء، والتحلُّل من كلِّ خُلق كريم. ويؤكِّد قولُه تعالى {الذِينَ لَم يُقاتلوكُمْ فِي الدِّينِ}، رفْضَ القرآن الواضح لمنطق تحويل الاختلاف الديني، إلى ذريعة للقتال والعَداء. وهذا يعني أن استهداف الإنسان والاعتداء عليه بسبب معتقده، هو نقيض للقيم الأخلاقية الجوهرية التي ينادي بها الإسلام. وما دامت مواقف المؤمنين مؤسَّسة على القيم التي يحبها الله، فإنهم لن يخضعوا لانفعالات المَظلوميَّة الناجمة عن عدوان بعض المخالفين لهم في الاعتقاد، ولن ينجرفوا نحو جعل اختلاف الاعتقاد ذريعة لتوسيع دائرة الظلم وتعميمه.
الجمع بين البِرّ والقِسط في الآية الكريمة، يشير إلى أهمِّيّة الأُسس الأخلاقية، في إقامة العلاقات الصحيحة بين الناس على اختلاف اعتقاداتهم. والأساسُ الأخلاقي الأوّل الذي تؤكِّدهُ الآية هو البِرّ، والبِرّ هو كلمة جامعة لكلِّ معاني الخير والفضيلة، وهو يعني التوسُّع في فعل الخير والإحسان والعطاء تجاه غيرنا من الناس. وفي الحديث النَّبوي “البِرّ حُسن الخُلق” (رواه مُسْلم)، تأكيد أنّ حُسن الخُلق هو أحَبُّ الأشياء إلى الله، وهو أمثل طريقة ليُحبَّ الناسُ بعضَهم بعضًا.
يتَّجه البِرُّ عادة نحو من نُحبّ، ومَن له فضلٌ علينا كالوالِدَين، كما مثّل ذلك عيسى عليه السلام في قوله تعالى: {وبرًّا بوالِدَتي ولم يجعَلنِي جبَّارًا شقيًّا} [مريم: 32]، في حين يتَّجه القِسط نحو من نَعرف ومن لا نَعرف، ومن نُحبّ ومن لا نحبّ مِن عموم الناس. وفي تقديم البِرِّ على القِسط، إشعار بأن البِرَّ هو المنطلَق الأوّل في إقامة علاقة راقية بين عموم الناس، على شاكلة علاقة ذوي القُربى.
إضافةً إلى ما سبَق، “البَرّ” (بفتح الباء)، هو اسمٌ من أسماء الله الحُسْنَى. أمَّا مفهوم البِرّ في القرآن، فيتجاوز النَّزْعة السطحيّة التي تتوقَّف عند ظواهر الطقوس والنصوص، إلى المَضامين الإيمانية والقيم الأخلاقية الإنسانية التي تَجمع بين الناس: {ليسَ البِرَّ أَن تُولُّوا وجوهكُم قبلَ المَشرِقِ وَالمَغربِ ولكِنَّ البِرَّ مَن آمنَ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ والملَائكَةِ والكِتابِ والنَّبيِّينَ وآتى المَالَ على حبِّهِ ذوي القُربَى وَاليتَامَى وَالمَساكِينَ وابنَ السَّبيلِ والسَّائلِينَ وفي الرِّقَاب وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بعَهدِهِم إذَا عاهَدُوا والصَّابرينَ فِي البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ وحينَ البَأسِ أُولئِكَ الَّذينَ صدقُوا وأُولئِكَ هم المتَّقُونَ} [البقرة: 177]. ومِن شروط البِرِّ أيضًا، أن يُنفق الإنسان ممَّا يُحبّ: {لَن تنالُوا البِرَّ حتَّى تُنفِقُوا ممَّا تُحبُّون ومَا تُنفقُوا مِن شَيءٍ فإِنَّ اللَّهَ به عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
الأساس الأخلاقيُّ الثاني، الذي تقوم عليه العلاقة الصحيحة بالمخالفين في الاعتقاد، هو القِسط، ولفظ (القسط) يدلُّ على العدل. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم، في نحو ثلاثة وعشرين موضعًا. وقولُه تعالى في نهاية الآية: {إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ المُقسِطِينَ}، يوضح أن منطلَق الأخلاق عند المؤمن، لا يقوم على نَزْعة نفعيّة أو معاملةٍ بالمِثل، وإنما هو خُلق يَنبع من الإيمان بالله، الذي يمثِّل مَصدر الخير والبِرِّ والإحسان. وهذا يعني أن كلَّ ممارسة أو قانون يتَّجه نحو المخالف الديني، ولا ينسجم مع قيمَتَي البِرّ والقِسط، هو في حاجة إلى مراجعة نقدِيَّة، تُعيد الأمر إلى نِصابه وصَوابه.
___________
*المصدر: تعدديّة