مِن أبلغِ المَقولات التي تؤسِّس للحرية كحقٍّ طبيعي، مَقولةُ عمر بن الخطَّاب: “متى استَعْبدتُم الناس وقد ولَدَتهم أُمَّهاتهم أحرارًا؟!”. ومع أن دلالة الحرِّيّة أوسعُ مِن أن تكُون مجرَّد نقيض للعُبوديّة، فإنّ الجميل في قول عمر أنه لم يقل “وقد خلَقَهم الله أحرارًا”. وبذلك، فهو يتحدَّث بالحُرّية كحقٍّ إنساني طبيعي جامع بين البشر، ولا يتحدَّث بالحُرّية كعقيدة دينية تخصُّ فئةً من الناس دون غيرهم.
تختلف علاقة الحُرّية بالدِّين بحسب مفهومنا لكلٍّ منهما. فعندما يكُون الدين تَزْكية وعِرفانًا وتأمُّلًا وارتحالًا، في تجربة روحيّة تسعى إلى البحث عن الذات بأعمق معانيها، فإنه يقترب من الحرية، في حين يبتعد الدِّين عن الحرية عندما يكون أمرًا ونهيًا، أو سمعًا وطاعة، ويؤدِّي ذلك به في النهاية إلى نوع من الجبريَّة المرغوبة، أو “العبوديَّة المختارة”.
إنّ تسخيف الدعوة إلى الحُرِّية على اعتبارها دعوةً إلى الإلحاد وتَسويغًا للانحرافات الأخلاقية، يعبِّر عن موقف مأزوم، لم يَستوعب قيمة الحرية وأثرها في وجودنا الإنساني. وهنا، نشير إلى مشكلة الدلالة العُرفيَّة لعبارة “أنا حُرّ”، والتي تُستعمل في مجتمعاتنا في سياقات سلبيّة، بعيدةٍ عن ملامسة المضامين الجماليَّة والفلسفيّة لها، التي ألهَمَت المبدِعِين والعظماء على مرِّ التاريخ.
تَقُود الحرية الإنسانَ إلى معرفة ذاته، والشعور بقيمة وجوده. فإنْ كان “ديكارت” قد أثبت وجود الإنسان من خلال الشك والتفكير، فإن الحرية كانت هي المهماز الذي دفع الفكر نحو الشك، والبحث عن المعاني الغائبة وراء الأسئلة الكبرى للوجود. والحرية تعطي الإرادةَ معناها، كما تعطي وجودَ الإنسان علّته. فبِدُون الحرية يتقوَّض مفهوم “الابتلاء”، الذي يبرِّر وجود الإنسان ويتوقَّف عليه مصيره: {الذي خلق الموتَ والحياةَ ليبلُوَكُم أيُّكُم أَحسنُ عملًا وهو العزيزُ الغفُورُ} [المُلك: 2]. فلا معنى لوجود الإنسان دون أنْ يُبتلى، ويتحمل مسؤولية حُرِّيّة اختياراته.
تَقُوم الحرية على توسيع الاختيارات المُمْكنة أمام الانسان، والتي من شأنها أن توجِّه الإرادة إلى الفعل، بعيدًا عن القمع والإكراه. وكلَّما ازداد شعورنا بالاستقلال، وبِقُدرتِنا على رفض الخضوع للسلطة المستبدَّة، وعلى التحرُّر من أعباء الثقافة السائدة؛ ازداد تأثير الحرية في أفعالنا.
لا معنى للدفاع عن الحريات الدينية وحرية الاعتقاد، دون الدفاع عن الحريات المدنية وحرية الرأي والتعبير. فالدفاع عن الحرية الدينية، هو جزء من الدفاع عن الحرية كقيمة إنسانية في جميع المجالات. صحيح أن وجود قوانين حتميَّة في الاجتماع الإنساني، وكذلك في الطبيعة الكونيّة، يُشعر الإنسان بالخضوع، ويجعل مساحة الحرية تتراجع، لكن هذه القوانين ما كانت لِتُعرف لولا تلك العقول المتحرِّرة، التي تمرَّدَت على أنماط المعرفة الموروثة.
إن السؤال “هل الإنسان مُسيَّر أم مُخيَّر؟” لم يَعُد ذا قيمة عمليّة، بعد أن تَجاوز العِلمُ ومنجزاتُه المعاصرة، كثيرًا ممّا كان يُعدُّ مستحيلًا عند الأجداد. فقد وضَع الإنسان يده على شجرة المعرفة، وأصبح قادرًا على تسلُّق أعلى أغصانها وتذوُّق ألذِّ ثمارها. أمَّا الضَّياع في دوَّامة السؤال “هل يحقُّ لي أن أفعل ما أريد؟”، فجعلَنا نَغفُل عن سؤال آخر أكثر أهميّة وعمقًا، وهو: “كيف يمكنني أن أفعل ما أريد؟”. فكثير ممَّا يحقُّ لنا فِعلُه لَسْنا قادرين على فِعله، وكثير ممَّا يمكننا فِعلُه تَحظُره سُلطات الإكراه المختلفة، التي تُحيط بمجتمعاتنا البشرية.
عندما يكون في إمكاننا أن نفكِّر بحرية كما نريد، عندها يمكننا أن نفكر في الضوابط التي نضعها لأقوالنا وأفعالنا. حياة الإنسان رحلة انعتاق مريرة، من أَسْر الجبريَّة الاجتماعية والثقافية، إلى شواطئ الحرية البعيدة. ولعلَّ أعظم دليل على ضلال أتباع عقيدة ما وابتعادهم عن الحق، هو ممارستهم الإكراه في إخضاع غيرهم لمعتقداتهم. فإذا كان الخالق قد ترك للإنسان مساحة للإيمان أو للكفر به، فهل يحقُّ لإنسان مخلوق، أن يُجْبر نظيرَه في الخَلْق، على الانسياق وراء عقيدة بعينها؟
إن الشعور بالقهر والجبريّة، هو في الأساس نِتاج للاستبداد السياسي، وفقدان العدالة الاجتماعية. فعندما يَعجز الإنسان عن تغيير مجتمعه، يتسلَّل إليه الشعور بالعجز، والرضا بالمكتوب وبما يظنُّه قدَرًا.
_________
*المصدر: تعددية