التَّرْبِيَةُ الجِنْسِيَّةُ فِي الزَّمَنِ الرَّقْمِيِّ
رهانات الأسرة والمجتمع

أدخلَ التَّحوُّلُ الرَّقْمِيُّ العميقُ الذي تشهدهُ المجتمعاتُ المعاصِرَةُ مسألةَ التَّربيةِ الجِنْسِيَّةِ في أفقٍ جديدٍ، لم تَعُدْ فيه الأُسْرَةُ والمدرسةُ الفاعلينَ الوحيدينَ في تشكيلِ الوعيِ الجِنْسِيِّ، بل أضحتِ المنصّاتُ الرَّقْمِيَّةُ، ووسائلُ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، وخوارزميّاتُ العرضِ، أطرافًا مركزيَّةً في إعادةِ إنتاجِ المعرفةِ والتمثّلاتِ والميولِ الجِنْسِيَّةِ. وفي هذا السِّياقِ، لم يَعُدِ السُّؤالُ المطروحُ هو ما إذا كانَ الشَّبابُ يتعرّضونَ لمضامينَ جِنْسِيَّةٍ، بل كيفَ يتعرّضونَ لها، وبأيِّ شروطٍ معرفيَّةٍ ونفسيَّةٍ وقيميَّةٍ.
تتميّزُ التَّربيةُ الجِنْسِيَّةُ في الزَّمَنِ الرَّقْمِيِّ بوصفها تربية من نمط جديد بكونِها تتمُّ في فضاءٍ مفتوحٍ، سريعٍ، ومتشظٍّ، إذ تختلطُ المعرفةُ العلميَّةُ بالإشاعةِ، وتتفاعل التَّجربةُ الشَّخصيَّةُ بالتمثيلِ الاستعراضيِّ، ويتداخل الحميميُّ بالعموميِّ. وعليه، يجدُ الشَّبابُ أنفسَهم أمامَ تدفّقٍ مستمرٍّ من الصُّورِ والخطاباتِ التي تقدّمُ الجسدَ والرَّغبةَ في صِيَغٍ مبسَّطةٍ، ومجتزأةٍ، وغالبًا مسلَّعةً، دونَ سياقٍ تربويٍّ يوفّرُ أدواتِ الفهمِ والنَّقدِ. وهنا تكمنُ المفارقةُ الأَساسيَّةُ: وفرةُ المعلوماتِ تقترنُ بندرةِ المعنى.
إنَّ التَّربيةَ الجِنْسِيَّةَ الرَّقْمِيَّةَ، في صورتِها غيرِ المؤطَّرةِ، تُنتجُ وعيًا جِنْسِيًّا قائمًا على المقارنةِ الدَّائمةِ، والبحثِ عن القبولِ الرَّقْمِيِّ، والانخراطِ في معاييرَ جماليَّةٍ وسلوكيَّةٍ تفرضُها المنصّاتُ أكثرَ ممّا تفرضُها الثَّقافةُ أو القيمُ الأَخلاقيَّةُ. ويتحوّلُ الجسدُ، في هذا الإطارِ، إلى مشروعِ عرضٍ دائمٍ، وتغدو الرَّغبةُ مرتبطةً بعددِ المشاهداتِ والإعجاباتِ، لا بالعلاقةِ الإنسانيَّةِ أو النُّضجِ العاطفيِّ. وبذلك، لا يُلغى الضَّبطُ الاجتماعيُّ، بل يُعادُ إنتاجُه في شكلٍ أكثرَ خفاءً، تمارسُه الخوارزميّاتُ بدلَ المؤسّساتِ التَّقليديَّةِ.
وفي مقابلِ هذا الواقعِ، تبرزُ الحاجةُ إلى إعادةِ تعريفِ التَّربيةِ الجِنْسِيَّةِ بوصفِها تربيةً رقميَّةً نقديَّةً، لا تكتفي بتقديمِ معلوماتٍ بيولوجيَّةٍ أو تحذيراتٍ أَخلاقيَّةٍ، بل تسعى إلى تمكينِ الشَّبابِ من فهمِ آليّاتِ التَّأثيرِ الرَّقْمِيِّ، والتمييزِ بينَ المعرفةِ العلميَّةِ والتمثيلِ الإعلاميِّ، وبينَ الحُرِّيَّةِ والتَّسليعِ. فالتَّربيةُ الجِنْسِيَّةُ في الزَّمَنِ الرَّقْمِيِّ لا تنفصلُ عن التَّربيةِ الإعلاميَّةِ، لأنَّ الجهلَ بقواعدِ عملِ المنصّاتِ يُحوِّلُ المتلقّيَ إلى موضوعٍ للتَّأثيرِ بدلَ أن يكونَ ذاتًا فاعلةً.
كما تقتضي هذه التَّربيةُ الجديدةُ إعادةَ الاعتبارِ للبُعدِ العاطفيِّ والإنسانيِّ للجِنْسانيَّةِ، في مواجهةِ نزعاتِ الاختزالِ التِّقنيِّ والاستعراضيِّ. فالجنسانِيَّةُ ليست أداءً رقميًّا، ولا صورةً مثاليَّةً، بل تجربةً مركَّبةً تتطلّبُ النُّضجَ، والمسؤوليَّةَ، والقدرةَ على بناءِ علاقةٍ متوازنةٍ معَ الذَّاتِ والآخرِ. ومن هنا، يصبحُ الصَّمتُ الأُسَريُّ أو الخطابُ التَّخويفيُّ أقلَّ جدوى من الحوارِ الواعيِ القائمِ على الثِّقةِ والمعرفةِ.
إنَّ التَّحدِّيَ الحقيقيَّ للتَّربيةِ الجِنْسِيَّةِ في الزَّمَنِ الرَّقْمِيِّ لا يكمنُ في فرضِ الرَّقابةِ أو استعادةِ نماذجِ الضَّبطِ القديمةِ، بل في بناءِ وعيٍ قادرٍ على النَّقدِ والاختيارِ، وذاتٍ قادرةٍ على مقاومةِ الابتذالِ الرَّمزيِّ دونَ الوقوعِ في الكبتِ. فالتَّربيةُ الجِنْسِيَّةُ الواعيةُ اليومَ هي، في جوهرِها، تربيةٌ على الحُرِّيَّةِ المسؤولةِ، وعلى استخدامِ العقلِ في مواجهةِ سطوةِ الصُّورةِ، وعلى استعادةِ إنسانيَّةِ الجسدِ في زمنِ تحوّلهِ إلى بياناتٍ وتمثّلاتٍ.
وبذلك، يمكنُ القولُ إنَّ التَّربيةَ الجِنْسِيَّةَ في الزَّمَنِ الرَّقْمِيِّ تمثّلُ أحدَ مفاتيحِ فهمِ التَّحوّلاتِ الرَّاهنةِ في بنيةِ الوعيِ والهُويَّةِ والعلاقةِ بالآخرِ، كما تشكّلُ شرطًا أَساسيًّا لبناءِ توازنٍ جديدٍ بينَ المعرفةِ، والرَّغبةِ، والحُرِّيَّةِ، في عالمٍ تحكمُه الوسائطُ والخوارزميّاتُ.
الأسرة والتربية الجنسية :
تُمثِّلُ مظاهرُ الحياةِ الجِنْسِيَّةِ عندَ الشَّبابِ الهاجسَ الذي يَقُضُّ مضاجعَ الأُسْرَةِ ويُعكِّرُ صفوَها. فمظاهرُ الحياةِ الجِنْسِيَّةِ تتعارضُ على نحوٍ واسعٍ معَ المبادئِ التقليديَّةِ للحياةِ الثَّقافيَّةِ الاجتماعيَّةِ، ومن هذا المُنطَلَقِ تأخذُ هذه المسألةُ مكانَ الصَّدارةِ بينَ قضايا الحياةِ المعاصِرَةِ. ففي الوقتِ الذي يسهرُ فيه الآباءُ على حمايةِ المبادئِ الأَخلاقيَّةِ وترسيخِها، يسعى الأبناءُ إلى تحقيقِ إشباعاتٍ عقلانيَّةٍ لحاجاتِهم واندفاعاتِهم الجِنْسِيَّةِ ().
كانَ مفهومُ الجِنْسِ قديمًا يقتصرُ على وظائفِه التَّناسليَّةِ، ومعَ ولادةِ نظريَّةِ التَّحليلِ النَّفسيِّ (Psychoanalysis) شهدَ هذا المفهومُ تطوُّرًا يحملُ في ثناياه تصوُّراتٍ جديدةً تُؤكِّدُ على أهميَّةِ الجوانبِ العاطفيَّةِ والانفعاليَّةِ للحياةِ الجِنْسِيَّةِ. وقد أثارت هذه التصوُّراتُ الجديدةُ، ذاتُ الطَّابعِ الفُرويديِّ، جدلًا كبيرًا مشحونًا أحيانًا بطابعِ التَّهكُّمِ والسُّخريةِ، ولا سيَّما من قبلِ هؤلاءِ الذين يرونَ في عمليَّةِ الرَّبطِ بينَ جوانبِ الحياةِ النَّفسيَّةِ وبينَ جوانبِها الجِنْسِيَّةِ صورةَ عبوديَّةٍ ينحدرُ فيها المثالُ الأعلى إلى حقيقةٍ ماديَّةٍ مُبتذلةٍ. وكانَ من الصَّعبِ جدًّا قبولُ فكرةِ سيغموند فرويد (Freud) الخاصَّةِ بمفهومِ التَّسامِي (Sublimation) الذي يُؤكِّدُ نهضةَ الاندفاعاتِ الجِنْسِيَّةِ وارتقاءَها، وعلى خلافِ ذلك نُظِرَ إلى هذه الفكرةِ بوصفِها مجرَّدَ خرافةٍ لا أساسَ لها. وجاءت هذه الاندفاعاتُ السَّاخرةُ لتُجسِّدَ ردودَ فعلِ السَّاخطينَ والمعارضينَ لنظريَّةِ فرويد، ولا سيَّما فيما يتعلَّقُ بجوانبِها الجِنْسِيَّةِ، وعلى الأخصِّ هذا المنحى الذي يُشيرُ إلى نزعاتٍ جِنسانِيَّةٍ مُبكِّرةٍ في حياةِ الأطفالِ ().
وفي هذا الصَّددِ يمكنُ القولُ إنَّ هذه الثَّورةَ المشحونةَ بطابعِ الإثارة الذهنية تُعبِّرُ عن تداخُلِ مفهومينِ مختلفينِ، وهما: الجِنْسُ والتَّناسُلُ. فالتَّناسُلُ مفهومٌ يُشيرُ جوهريًّا إلى وظيفةٍ فيزيولوجيَّةٍ قِوامُها التَّوالُدُ والإنجابُ، ومن ثَمَّ فإنَّ ظهورَ هذه الوظيفةِ غيرُ ممكنٍ في مرحلةٍ مُبكِّرةٍ، حيثُ يبدأُ عملُ هذه الوظيفةِ حُكمًا بعدَ مرحلةِ البلوغِ، وينتهي دورُها بعدَ مرحلةِ اليأسِ عندَ المرأةِ، أو ضُعفِ الذُّكورةِ عندَ الرَّجلِ. وعلى خلافِ ذلك فإنَّ رؤيةَ فرويد لمفهومِ الجِنْسِيَّةِ تتجاوزُ حدودَ الوظيفةِ البيولوجيَّةِ الخاصَّةِ بالتَّناسُلِ والإنجابِ في مستوى الأُطُرِ الزَّمانيَّةِ والمكانيَّةِ؛ فعلى المستوى الزَّمنيِّ تبدأُ هذه المرحلةُ منذُ لحظةِ الميلادِ ولا تنتهي إلَّا معَ نهايةِ الحياةِ عندَ الرَّاشدِ، وفي المستوى المكانيِّ فإنَّها تمتدُّ لتشملَ كلَّ أنواعِ المظاهرِ السُّلوكيَّةِ، حتّى تلك التي تأخذُ مظاهرَ دينيَّةً().
ويبدو أنَّ الغموضَ والتَّداخُلَ بينَ المفهومينِ كانَ كبيرًا جدًّا، إلى حدٍّ أدّى فيه إلى انشقاقِ تلميذَينِ من تلامذةِ فرويد، هما: ألفرد آدلر (Alfred Adler) وكارل غوستاف يونغ (Carl Gustav Jung)، اللذَينِ رفضا هذا المدَّ الشاملَ لمفهومِ الجِنْسِ الفُرويديِّ الذي لامسَ صميمَ المشاعرِ الرُّوحيَّةِ والدِّينيَّةِ في نهايةِ القرنِ التَّاسعَ عشرَ وبدايةِ القرنِ العشرينَ. لقد انطلقَ آدلر (Adler) في عمليَّةِ خروجهِ من دائرةِ فرويد من فكرةِ عُقدةِ النَّقص (Complexe d’infériorité) بوصفِها النُّقطةَ المركزيَّةَ لعلمِ نفسِ الطِّفلِ، ومنطلقَ نشاطِ الكائنِ الإنسانيِّ الذي ينطلقُ، بموجبِ الإحساسِ بالنَّقصِ، إلى تحقيقِ الطُّموحِ والنَّجاحِ. لكنَّ يونغ (Jung) ركَّزَ على أهميَّةِ الصِّراعِ بينَ المبادئِ الأَخلاقيَّةِ والدِّينيَّةِ وبينَ الاندفاعاتِ الغريزيَّةِ بوصفِه المبدأَ الحيويَّ للسُّلوكِ عندَ الفردِ.
الحَيَاةِ الجِنْسِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ عِندَ الناشئة :
يُطلَقُ على المرحلةِ التي تَمتدُّ بينَ الولادةِ والثالثةِ من العُمُرِ مرحلةُ الجِنسانِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ، التي تكونُ مُشبَعةً بالأحاسيسِ الجِنْسِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ، وهي المرحلةُ التي ينمو فيها الطِّفلُ تحتَ تأثيرِ الرَّضاعةِ من ثديِ الأُمِّ، حيثُ تُمثِّلُ الأُمُّ للطِّفلِ، في هذه المرحلةِ، مصدرَ الحليبِ ومصدرَ الوجودِ وينبوعَ اللَّذَّةِ والسَّعادةِ.
وفي أثناءِ مرحلةِ الفِطامِ يأخذُ الغذاءُ مكانَ الأُمِّ في تلبيةِ حاجةِ الطِّفلِ، وتأخذُ عادةُ مَصِّ الإصبعِ نوعًا من التَّعويضِ الرَّمزيِّ للاشباعاتِ التي كانت تُقدِّمُها له الرَّضاعةُ من صدرِ الأُمِّ، فالإصبعُ هنا تُمثِّلُ مزايا ثديِ الأُمِّ.
ويُطلِقُ فرويد (Freud) على المرحلةِ الثانيةِ المرحلةَ الشَّرجيَّةَ، وهي العمليةُ التي يشعرُ فيها الطِّفلُ بالمتعةِ أثناءَ عمليةِ إخراجِ الفضلاتِ. أمَّا المرحلةُ الثالثةُ فيُطلِقُ عليها المرحلةَ القَضِيبِيَّةَ، فالطِّفلُ عندما يكتشفُ عضوَهُ التناسليَّ لا يُعزِي إليه أيةَ دلالةٍ جِنْسِيَّةٍ أو تناسليَّةٍ، بل تُمثِّلُ له صورةَ لعبةٍ يلهو بها أحيانًا ويشعرُ بنوعٍ من الثِّقةِ واللَّذَّةِ ().
في الثالثةِ من العُمُرِ تبدأُ عندَ الطِّفلِ مرحلةُ اكتشافِ المُغايرِ له من الجنسِ الآخر، وتبدأُ معَ هذه المرحلةِ مشاعرُ اللَّذَّةِ النابعةُ عن التَّواصُلِ معَ الجنسِ المُغايرِ أو الآخر، ويرافقُ ذلك الإحساسُ باللَّذَّةِ النابعةُ من مصادرَ خارجيَّةٍ. ويمكنُ أن نُميِّزَ في مجرى هذه المرحلةِ مرحلتينِ فرعيَّتينِ هما: المرحلةُ ما قبلَ التناسليَّةِ، وتكونُ فيها عمليةُ استقطابِ الأحاسيسِ الجِنْسِيَّةِ غيرَ متمايِّزةٍ بشكلٍ واضحٍ، فالطِّفلُ يختارُ أحدَ أبويهِ ويُفضِّلُهُ دونَ أن يكونَ الأبُ المُفضَّلُ من الجنسِ المُغايرِ له بالضرورة. وعلى أثرِ هذه المرحلةِ ترتسمُ تفضيلاتُ الطِّفلِ الخاصَّةُ باللَّذَّةِ الجِنْسِيَّةِ الصادرةِ عن الجنسِ الآخر، والتي تتمثَّلُ في مُركَّبِ أوديب (Oedipe Complexe)، فالطِّفلُ الذكرُ يُفضِّلُ أُمَّهُ، بينما تُفضِّلُ الطِّفلةُ الأنثى أباها، وينظرُ الطِّفلُ في هذه المرحلةِ إلى الأبِ من الجنسِ نفسه نظرةً عدائيَّةً، ويشعرُ تجاهَهُ بالمنافسةِ والخوفِ والإعجابِ. وعلى أثرِ هذه المرحلةِ تأتي مرحلةُ تأنيبِ الضمير، وهنا، وعلى أثرِ التَّعارضِ بينَ الرَّغباتِ والواجباتِ الأَخلاقيَّةِ، يبدأُ الأنا الأعلى بالتشكُّلِ تحتَ ضغطِ الإكراهاتِ المُوجَّهةِ ضدَّ الهو (Le Ça)، وبالتالي فإنَّ الأنا (Moi) هو الذي يقومُ بعمليةِ التوفيقِ بينَ الأنا والأنا الأعلى.
وتبدأُ المرحلةُ التناسليَّةُ معَ مرحلةِ البلوغِ، ويكونُ البلوغُ طبيعيًّا عندما يشتملُ على ثلاثةِ عناصرَ أساسيَّةٍ: الميلُ إلى الجنسِ الآخر، والإحساسُ باللَّذَّةِ عن طريقِ الاتصالِ بالجنسِ الآخر، وأن تكونَ الإثارةُ الجِنْسِيَّةُ مُركَّزةً حولَ الأعضاءِ التناسليَّةِ لا غيرِها.
وتمتدُّ مرحلةُ البلوغِ على الأغلبِ بينَ الثانيةَ عشرةَ وبينَ العشرينَ من العُمُرِ، وهي مرحلةٌ تتميَّزُ بالغموضِ، وذلك لأنَّ درجةَ الإثارةِ الجِنْسِيَّةِ تتحدَّدُ بمستوى العلاقاتِ الاجتماعيَّةِ الخاصَّةِ بالحياةِ الجِنْسِيَّةِ. وبالتالي فإنَّ تحقيقَ الإشباعاتِ الجِنْسِيَّةِ مرهونٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بالإمكانياتِ الفيزيولوجيَّةِ والفيزيائيَّةِ المُتاحةِ للمراهقِ.
التَّطَوُّرَاتُ العَاطِفِيَّةُ الجِنْسِيَّةُ غَيْرُ الطَّبِيعِيَّةِ
هذا ويتخلَّلُ الفاصلُ الزمنيُّ بينَ البلوغِ والحياةِ الاجتماعيَّةِ، باستثناءِ بعضِ حالاتِ العلاقاتِ الجِنْسِيَّةِ المُبكِّرةِ، وهي نادرةٌ جدًّا، نوعٌ من التَّعويضِ الفيزيولوجيِّ مثلَ الاستمناءِ أو بعضِ عملياتِ التَّسامي التي تقودُ الطَّاقةَ الجِنْسِيَّةَ إلى مستوى الإبداعاتِ الفنيَّةِ والصوفيَّةِ، وبالتالي فإنَّ الاقترانَ بينَ الجِنسانِيَّةِ والصوفيَّةِ يُجسِّدُ لنا صورةَ هذه المرحلةِ().
ما وصفناهُ سابقًا يُغطِّي مرحلةَ البلوغِ التي تمرُّ بصورةٍ طبيعيَّةٍ، إذ يمكنُ للفردِ، كما يُشيرُ فرويد (Freud)، أن يتعرَّضَ في هذه المرحلةِ إلى بعضِ الصَّدماتِ العاطفيَّةِ التي يمكنُها أن تُسجِّلَ انعكاساتٍ سلبيَّةً كثيرةً، وقد تأتي هذه الخبراتُ والصَّدماتُ كنتيجةٍ لعمليَّةِ تفكُّكٍ أُسَريٍّ مثلَ الطَّلاقِ ووفاةِ أحدِ الزَّوجينِ، أو تعدُّدِ الزَّوجاتِ، أو زواجِ أحدِ الوالدينِ لأكثرَ من مرَّةٍ، أو ولادةِ أخٍ منافسٍ. ومثلُ هذه الصَّدماتِ لا تؤدِّي إلى كبحِ عمليَّاتِ النُّضجِ العاطفيِّ فحسب، بل قد تؤدِّي أحيانًا إلى عمليَّةِ نكوصٍ تراجعيَّةٍ نحوَ مراحلِ تطوُّرٍ سابقةٍ.
فقد يجدُ الفردُ نفسَهُ مشدودًا تحتَ تأثيرِ نزعةٍ قويَّةٍ إلى المرحلةِ الفَمَوِيَّةِ، حيثُ كان يحظى بعنايةِ أُمِّه ورعايتِها المُطلقةِ، ويجدُ ملجأَهُ وملاذَهُ. ويمكنُ للمرحلةِ الشَّرجيَّةِ أن تُشكِّلَ ملاذًا نكوصيًّا لبعضِ الشَّبابِ. فالتعلُّقُ بمرحلةٍ من مراحلِ التَّطوُّرِ السَّابقةِ، أو النكوصُ إليها، يُشكِّلُ واحدًا من عواملِ الانحرافِ الجِنْسِيِّ، ولا سيَّما الجِنسيَّةُ المِثليَّةُ: اللِّواطُ أو السِّحاقُ.
جِنْسَانِيَّةُ الأَطْفَالِ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الآبَاءِ
ينظرُ الآباءُ إلى الحياةِ الجِنْسِيَّةِ للأبناءِ بوصفِها حِملًا ثقيلًا، ويسعى بعضُهم إلى الابتعادِ عن مقاربةِ هذه المسألةِ طلبًا للهدوءِ وخوفًا من مطبّاتِ التورُّطِ في جنباتِها، لأنَّها تُشكِّلُ بالنسبةِ لهم مصدرًا للقلقِ والانزعاجِ. وغالبًا ما يُلاحظُ أنَّ أكثريَّةَ الآباءِ يرغبونَ ألّا يعرفوا أيَّ شيءٍ عن حياةِ أبنائهم الجِنْسِيَّةِ وعن مشكلاتِ هذه الحياةِ. ويُلاحظُ بأنَّ مثلَ هؤلاء يجهلونَ كلَّ شيءٍ عن الحياةِ الجِنْسِيَّةِ، وهم بالتالي لا يقرؤونَ عن هذه الجوانبِ ولا يدخلونَ في مجاهلِها. وليسَ غريبًا أن نجدَ بعضَ المراهقينَ الذين يجهلونَ حتّى أيَّ شيءٍ عن طبيعةِ حملِ أُمَّهاتهم أو أخواتهم.
وبعضُهم يذهبُ ضحيَّةَ الاعتقادِ بأنَّ فعلَ الولادةِ مرهونٌ بأساطيرَ أصبحت شائعةً، مثلَ الولادةِ من نباتِ الملفوفِ أو غيرِه. وهناك كثيرٌ من الشَّبابِ يُصابونَ بحالةِ ذُعرٍ هائلةٍ عندَ الدُّخلةِ الأولى! وكم هو عددُ هؤلاء الذين تزوَّجوا من غيرِ تجربةٍ، أو حتّى معرفةٍ بمعاني الزَّواجِ وأصولِه، أو حتّى العناصرِ الأولى للحياةِ الجِنْسِيَّةِ.
ويقعُ اليوم كثيرٌ من الشَّبابِ ضحايا الكتبِ الجِنْسِيَّةِ الرَّخيصةِ والمُصوَّرةِ، أو عن طريقِ المُساراةِ معَ أصدقائِهم المُحبَّبةِ والكاذبةِ في أغلبِ الأحيان. فالآباءُ يعتقدونَ أنَّ كلَّ اهتمامٍ جِنْسِيٍّ أو تناسليٍّ قبلَ مرحلةِ البلوغِ أمرٌ شائنٌ، وبعضُ الأُمَّهاتِ تُساورُهنَّ الشكوكُ أحيانًا بصددِ الآثارِ المَنَوِيَّةِ التي يتركُها الأبناءُ على ملابسِهم، وبعضُ الأبناءِ يُغيِّرونَ ملابسَهم خوفًا من الأسئلةِ التي تطرحُها الأُمَّهاتُ اللواتي يسألنَ الأبناء: هل تُعاشرونَ نساءً سيِّئاتٍ؟
ومن المشكلاتِ التي تعترضُ الأبناءَ مشكلةُ الاستمناءِ، والتي تُثيرُ شكوكَ وشبهاتِ الأبوينِ الذين يُكرِهونَ أبناءَهم على الاعترافِ بأشياءَ لم يسبق لهم أن عرفوها أو ارتكبوها.
فالجِنسيَّةُ المِثليَّةُ (Homosexuality) التي يُطلَقُ عليها غالبًا تسميةُ «الهوموسيكسويل»، تُمثِّلُ اليوم هاجسَ المُربِّينَ والآباء. ومن منطلقِ هذه المخاوفِ غدت كلُّ علاقةٍ بينَ الصِّبيانِ مصدرًا للشُّكوكِ والاتهاماتِ الوضيعةِ. وغالبًا ما يُعاني الشَّبابُ الذكورُ من نظامِ الصَّدِّ والمنعِ، حيثُ يُمنعُ عليهم أحيانًا الدخولُ إلى المنازلِ المُغلقةِ، وذلك لأنَّ المنازلَ المسكونةَ تُقلِّلُ من فرصِ الانحرافاتِ الجِنْسِيَّةِ المعنيَّةِ. وهكذا يُعاني بعضُ الشَّبابِ اليوم، تحتَ تأثيرِ هذه الرؤيةِ، من عمليَّةِ حجرٍ صحِّيٍّ ضدَّ مظاهرِ الحياةِ الجِنْسِيَّةِ.
ويؤدي هذا الاستنكارُ وتلك المخاوفُ إلى توليد أحاسيسُ الخوفِ التي تمتلكُ الآباءَ على أبنائهم من الانحرافِ، ويرتدي مثلُ هذا الاستنكارِ أثوابَ المبادئِ الأَخلاقيَّةِ، حيثُ يُعاني الشَّبابُ اليومَ من الرُّعبِ الذي ينبعُ من العذابِ الأَبديِّ الذي يمكنُ للآلهةِ أن تصبَّهُ على مرتكبي هذه الخطيئةِ.
وفي هذا الصَّددِ يتحدَّثُ علماءُ النَّفسِ عن عُقدةِ الخِصاءِ (Complexe de castration): وهي تجاهلٌ لا شُعوريٌّ، ولكنَّه مُستهدِفٌ للدافعِ الجِنْسِيِّ، الذي غالبًا—وتحتَ تأثيرِ هذه العقدةِ—يُستبعَدُ نهائيًّا من ساحةِ الشُّعورِ، وذلك عبرَ عمليَّةِ تأنيبٍ قهريَّةٍ. وهذه العقدةُ تأتي بالتأكيدِ تحتَ تأثيرِ التربيةِ الجِنْسِيَّةِ القهريَّةِ، ومن أولويَّاتِ هذه التربيةِ تهديدُ الأهلِ المستمرُّ لأطفالِهم ببترِ أعضائهم التناسليَّةِ، وهي سياسةٌ تربويَّةٌ تربطُ غالبًا بينَ الجِنسيَّةِ وبينَ الإحساسِ بالذنبِ، حيثُ تصبحُ عمليَّةُ الفصلِ بينَ الجانبينِ عمليَّةً مُستحيلةً. وقد تنعكسُ آثارُ هذه العقدةِ أثناءَ الزواجِ أو الدُّخلةِ، حيثُ يُصابُ الزوجُ بعمليَّةِ إخفاقٍ جِنْسِيٍّ شديدةٍ، وبالتالي فإنَّ هذه العقدةَ تدفعُ الشَّبابَ إلى انحرافٍ قِوامُهُ الممارساتُ الجِنْسِيَّةُ المِثْليَّةُ أو إلى الممارساتِ الجِنْسِيَّةِ ذاتِ الطابعِ السَّاديِّ أو الماسوشيِّ ().
وما قدَّمناهُ في هذا المقطعِ يُعبِّرُ عن مواقفِ الآباءِ إزاءَ المشكلاتِ الجِنْسِيَّةِ عندَ أبنائهم، ولا سيَّما في أوساطِ الطبقاتِ المتوسِّطةِ، ولكنَّ الحياةَ في الأوساطِ الريفيَّةِ والمحليَّةِ تجعلُ من شروطِ الحياةِ أكثرَ مواءمةً لتساهلٍ تربويٍّ يتعلَّقُ بالحياةِ الجِنْسِيَّةِ، فالمسألةُ هنا أقلُّ إحراجًا، والحياةُ أكثرُ ميلًا لاحترامِ أشكالِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ.
لقد عرفت بداياتُ هذا القرنِ شخصيّاتٍ رائدةً قدَّرت عاليًا اتِّجاهاتِ المنعِ والتحريمِ، ولكنَّها في الوقتِ نفسه أدانت الجهلَ بقضايا الحياةِ الجِنْسِيَّةِ، وأشارت إلى عواقبِه الوخيمةِ.
لقد امتلكَ الكاتبُ المسيحيُّ أوجين بريو (Eugène Brieux) كلَّ الجرأةِ لعرضِ مسرحيَّتهِ التي تحملُ عنوانَ «المفسدون” (Les Avariés)، وقد أثارت هذه المسرحيَّةُ سخطَ كثيرٍ من الناسِ، ومع ذلك فإنَّ هذه المسرحيَّةَ كان لها أثرٌ كبيرٌ في لفتِ الانتباهِ إلى أهميَّةِ مسألةِ الحياةِ الجِنْسِيَّةِ وقضاياها.²
وفي هذه المرحلةِ نفسها كتبَ الطبيبُ المشهورُ فورنييه (Fournier) كتابَهُ المعروفَ الموسومَ «من أجلِ أبنائِنا عندما يبلغونَ العشرينَ من عمرهم” (Pour nos fils quand ils auront vingt ans)، وفي هذه الأثناءِ، وبعدَ صدورِ هذا الكتابِ، كان الآباءُ يستفيدونَ منه ويدفعونَ أبناءَهم إلى قراءتِه متجنِّبينَ بذلك مغبَّةَ الدخولِ في مناقشاتٍ لا يمتلكونَ لها القدرةَ، وبالتالي فإنَّ الشَّبابَ كانوا يتعلَّمونَ ويُدرِكونَ من خلالِ الكتابِ عواقبَ الحوادثِ الجِنْسِيَّةِ المحتملةِ، مثلَ أمراضِ السَّيلانِ والزُّهريِّ والحملِ.³
وفي هذه المرحلةِ أيضًا بدأت الأحاديثُ العلنيَّةُ تسودُ بدلًا من الصَّمتِ المُطبِقِ حولَ هذه القضايا، وبدأ النقاشُ يدورُ، ولا سيَّما بينَ الآباءِ، حول نماذجِ التربيةِ الجِنْسِيَّةِ المطلوبةِ. وكانت الأسئلةُ التي تدورُ هي: هل يجبُ على الأبِ أن يُجيبَ عن الأسئلةِ الجِنْسِيَّةِ التي يطرحُها الأبناءُ؟ أم أنَّ ذلك يجبُ أن يتمَّ عن طريقِ المُعلِّمينَ أو المُدرِّسينَ؟ أم بتوسُّطِ طبيبِ العائلةِ؟ وهل يجبُ أن تبدأَ التربيةُ الجِنْسِيَّةُ في مرحلةٍ مُبكِّرةٍ من العُمُرِ؟
ولكن، عندما انتشرتْ نظريَّةُ فرويد (Freud) وبدأ صداها يدقُّ في كلِّ مكانٍ، بدأتْ تجدُ قبولًا جزئيًّا في أكثرِ الأوساطِ الاجتماعيَّةِ، وبدأتْ مفاهيمُ هذه النظريَّةِ تؤثِّرُ في اتِّجاهاتِ الآباءِ ومواقفِهم. ويمكنُ الإشارةُ في هذا الصَّددِ إلى مفهومِ فِطريَّةِ الغريزةِ الجِنسيَّةِ، وأنَّ مظاهرَ الحياةِ الجِنسيَّةِ لا تعني أشياءَ مُستهجَنةً، بل تعني حالةَ نُضجٍ طبيعيٍّ، وأنَّ الحياةَ الجِنسيَّةَ تؤدِّي وظيفةً حيويَّةً بالنِّسبةِ للوجودِ الإنسانيِّ.
ومن التَّصوُّراتِ المركزيَّةِ التي انطلقتْ منها نظريَّةُ فرويد يمكنُ الإشارةُ إلى الآثارِ التي تتركُها الصَّدماتُ العاطفيَّةُ على حياةِ الفردِ النَّفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ. وغنيٌّ عن البيانِ أنَّ بعضَ علماءِ النَّفسِ كانوا ينظرونَ إلى الطَّبعِ بوصفِه صخرةً من الصَّوَّانِ، وأنَّه ليسَ رهينًا بدرجةِ ما يتعرَّضُ له من الصَّدماتِ والكدماتِ الصَّادرةِ عن المُحيطِ. ومن المؤكَّدِ أنَّ فرويد، وهو تلميذُ شاركو (Charcot)، وعلى خلافِ ما سبقتْ إليه الإشارةُ، يُؤكِّدُ أهميَّةَ الظروفِ المُحيطةِ بالكائنِ، بل يعتقدُ أنَّ المُحيطَ هو الذي يجعلُ المرءَ حسّاسًا أو قليلَ الحساسيَّةِ تجاهَ الصَّدماتِ الانفعاليَّةِ. ولكنَّ بعضَ علماءِ النَّفسِ المُعاصرينَ يُنكرونَ أهميَّةَ الوسطِ، ويذهبونَ إلى القولِ بأنَّ الطَّبعَ ليسَ رهينًا أبدًا بلعبةِ الصَّدماتِ الانفعاليَّةِ، ومهما يكنِ الأمرُ فإنَّ الظروفَ التربويَّةَ، مثلَ النِّظامِ والتَّوجيهِ والعقابِ، تكمنُ في الأسبابِ الحقيقيَّةِ للطِّباعِ غيرِ السَّليمةِ.
فالآباءُ غالبًا ما يشعرونَ بالمسؤوليَّةِ، ويتملَّكُهم الإحساسُ بالذَّنبِ، وذلك لما ارتكبوه من أخطاءَ معَ زوجاتهم. وغنيٌّ عن البيانِ أنَّ التَّأنيبَ الذَّاتيَّ يَترافَقُ معَ أحاسيسِ اللذَّةِ السَّوداءِ، ومن غيرِ خلفيّاتٍ فكريَّةٍ. وهذا كلُّه يعني أنَّ اللذَّةَ تتعاظمُ وتُصبِحُ أكثرَ غِنًى في إطارِ المناقشاتِ الاجتماعيَّةِ، حيثُ يُغني كلُّ واحدٍ في الجماعةِ مشاعرَ الآخرِ ويُطوِّرُها؛ فالحياةُ المُعاصرةُ تتميَّزُ بالفوضى والاضطراباتِ، والآباءُ يعودونَ منهمكينَ إلى منازلهم، والأمُّ غالبًا ما تجدُ نفسَها مُكرهةً على العملِ في الخارجِ.
وهذا يعني أنَّ الحياةَ العائليَّةَ تُعاني اليومَ من الفوضى والفراغِ، ومن هذه الزاويةِ يجدُ بعضُ الناسِ ذريعةً لتبريرِ الفوضى التي تظهرُ عندَ الشَّبابِ، ويميلونَ إلى تحميلِ مسؤوليَّةِ ذلك إلى ما يُسمَّى بالصَّدمةِ الانفعاليَّةِ. وهذا كلُّه يعني أنَّ الارتماءَ في أحضانِ الرَّذيلةِ أمرٌ في غايةِ السُّهولةِ، وذلك في إطارِ الحُرِّيَّةِ الجِنسيَّةِ التي تضمنُ للشَّبابِ نوعًا من التَّصريفاتِ الانفعاليَّةِ الضَّروريَّةِ لميولِهم الجِنسيَّةِ.
الحُرِّيَّةُ الجِنْسِيَّةُ
تُغطِّي الحُرِّيَّةُ الجِنْسِيَّةُ المتاحةُ حاجاتِ الشَّبابِ الذكورِ بالدرجةِ الأولى، ويُلاحظُ أنَّ أبسطَ معطياتِ هذه الحُرِّيَّةِ هو هذه الفوضى وانعدامُ النِّظامِ، ومعَ ذلك فإنَّ الإصابةَ بالأمراضِ الجِنْسِيَّةِ محدودةٌ حتّى اللَّحظةِ التي يُسجَّلُ فيها غيابُ الرعايةِ الاجتماعيَّةِ، وعندَ غيابِ الرعايةِ الاجتماعيَّةِ فإنَّ نسبةَ الإصاباتِ ترتفعُ بصورةٍ ملحوظةٍ. ولا بدَّ من الإشارةِ في هذا الصَّددِ إلى أنَّ التَّطوُّرَ الطبِّيَّ جعلَ من أمراضِ السِّفلسِ والسَّيلانِ والزُّهريِّ أقلَّ خطورةً وأهميَّةً بالنِّسبةِ لشريحةِ الشَّبابِ. وغنيٌّ عن البيانِ أنَّ التَّلقيحَ لا يفي بالغرضِ في هذا الميدانِ.
ولكنْ غالبًا ما تطرحُ قضيَّةُ الحملِ نفسَها في هذا المجالِ، والحملُ في أغلبِ الأحيانِ حدثٌ غيرُ مرغوبٍ به لأنَّه يتعارضُ معَ القيمِ والمعاييرِ الأَخلاقيَّةِ السائدةِ، وخاصَّةً في المستوى الأَخلاقيِّ والدِّينيِّ والقضائيِّ. وغالبًا ما يلجأُ آباءُ الفاعلينَ إلى دفعِ مبالغَ نقديَّةٍ، وذلك من أجلِ التَّغطيةِ على مثلِ هذه الفضائحِ.
ومن الملاحظاتِ الهامَّةِ في هذا السِّياقِ أنَّ الجِنسيَّةَ المِثليَّةَ «الهوموسيكسويل» بدأتْ في الغربِ تكفُّ عن أن تكونَ ظاهرةً مخيفةً وفاضحةً، وبدأتْ تُفهمُ اليومَ على أنَّها نوعٌ من الخصوصيَّةِ الفيزيولوجيَّةِ والنَّفسيَّةِ، وكلُّ شيءٍ في هذا المجالِ يجري وكأنَّهُ شيءٌ طبيعيٌّ، إلَّا إذا كانَ الأمرُ يتعلَّقُ بالفتياتِ. ولا بدَّ من الإشارةِ هنا إلى أنَّ تجاهلَ جوانبِ الحياةِ الجِنْسِيَّةِ ما عادَ مناسبًا، وبالتالي فإنَّ الاعتراضَ على معرفةِ هذه الجوانبِ يبدو اليومَ عملًا شائنًا.
ومعَ ذلك فإنَّهُ لا بدَّ من الوقوفِ طويلًا عندَ مسألةِ الحملِ والإجهاضِ التي ما زالتْ تترتَّبُ عليها نتائجُ خطرةٌ، ومعَ ذلك فإنَّ وطأةَ خطورتِها تتراجعُ تدريجيًّا، وذلك على أثرِ تطوُّرِ أساليبِ الإجهاضِ وتقنيّاتِه. لقد أُكرِهَ الآباءُ سابقًا على إبعادِ بناتهم الحواملِ خارجَ البلادِ، على سبيلِ المثالِ، وإلى قتلِهنَّ أحيانًا، وذلك كلُّه من أجلِ الحفاظِ على الشَّرفِ والنَّبالةِ الخاصَّةِ بالعائلةِ.
لقد أدَّتْ حوادثُ الإجهاضِ إلى طرحِ أسئلةٍ متعدِّدةٍ تتعلَّقُ بوضعيَّةِ الجنينِ، وتتعلَّقُ بمبادئِ النَّفسِ والحياةِ والموتِ. وقد ترتَّبَ على كثيرٍ من الآباءِ إجراءُ بعضِ التَّعديلاتِ في مبادئهم الأَخلاقيَّةِ والدِّينيَّةِ التي تمنعُ قتلَ الأجنَّةِ والإجهاضَ. وبدأتْ القيمُ الاجتماعيَّةُ الجديدةُ تسودُ وتُهيمنُ إلى حدٍّ كبيرٍ في وسطِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ المعاصرةِ.
مسألةُ مَنْعِ الحَمْلِ
يمتلكُ أنصارُ العلاقاتِ الجِنْسِيَّةِ الحُرَّةِ حُججَهم الواقعيَّةَ على المستوى الاجتماعيِّ والأَخلاقيِّ، وهم يُؤكِّدونَ في سياقِ مداخلاتهم أنَّ الطِّفلَ المرغوبَ والمطلوبَ هو الطِّفلُ الذي يُسبِّبُ سعادةَ والديه: أَلَا يفترضُ الباحثونَ في مجالِ علمِ النَّفسِ أنَّ العصابيِّينَ كانوا أطفالًا غيرَ مرغوبٍ فيهم خلالَ مرحلةِ الحملِ؟ كانتْ زيادةُ السُّكَّانِ قديمًا مدعاةً من أجلِ الدِّفاعِ عن الوطنِ، وكانَ الإنجابُ واجبًا وطنيًّا، ولكنْ ما الذي يعنيه ذلك اليومَ أمامَ الأسلحةِ النوويَّةِ؟ فلِمَ الإنجابُ أو زيادةُ السُّكَّانِ اليومَ؟
تمتلكُ هذه الحُججُ والذَّرائعُ وزنَها الخاصَّ، وهي بالتالي تذهبُ إلى تعزيزِ الدَّعوةِ إلى مَنْعِ الحملِ، وتُسدِلُ السِّتارَ على الغايةِ الأَساسيَّةِ، وهي حُرِّيَّةُ الوصولِ إلى الملذَّاتِ الجِنْسِيَّةِ بلا حدودٍ أو ضوابطَ، دونَ أن يترتَّبَ على ذلك مسؤوليَّةُ الإنجابِ والتَّربيةِ ومشاغلِها. ومن أجلِ هذه الغايةِ يُؤكِّدُ بعضُ النَّاسِ على أهميَّةِ الحبوبِ المانعةِ للحملِ، بينما يُعارضُ هذه الطَّريقةَ آخرونَ لما تنطوي عليه من مخاطرَ صحيَّةٍ، بينما تُعاني شريحةٌ من النَّاسِ من القلقِ والاضطرابِ والحيرةِ إزاءَ هذه المسألةِ.
كانتِ الحياةُ الجِنْسِيَّةُ للشَّبابِ تجري قديمًا تحتَ رعايةِ الأبوينِ وإشرافِهما، ولكنْ سيرورةُ هذه الحياةِ غدتْ اليومَ تجري في مناخِ الحُرِّيَّةِ الجِنْسِيَّةِ الكاملةِ، التي حقَّقها الشَّبابُ تحتَ تأثيرِ الثَّورةِ الفُرويديَّةِ، وتحتَ تأثيرِ موانعِ الحملِ التي تُشكِّلُ بدورها انتصارًا عصريًّا لسلطةِ الشَّبابِ.
ويجبُ أن نضعَ هنا في الذَّاكرةِ صورةَ أُمَّهاتٍ في مجتمعاتٍ غربيَّةٍ يطلبنَ من بناتِهنَّ العذراواتِ تناولَ حبوبِ مَنْعِ الحملِ تحتَ إشرافِهنَّ، وذلك لأنَّهُ لا أحدَ يعرفُ أبدًا ماذا يمكنُ أن يحدثَ لهنَّ. وقد بلغَ الأمرُ بإحدى الجدَّاتِ أنَّها كانتْ لا تسمحُ لحفيدتِها أن تخرجَ لأداءِ الصَّلاةِ إلَّا بعدَ أن تتأكَّدَ بأنَّها قد تناولتْ أقراصَ مَنْعِ الحملِ.
الجنسانية والإعلام: تسليع الجسد والرغبة
أدّى التحوّل العميق الذي عرفته وسائل الإعلام، ولا سيّما مع صعود الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى إعادة تشكيل أنماط التعبير عن الجنسانية، وحدود ظهورها، وآليات تداولها داخل الفضاء العمومي. ولم تعد الجنسانية، في هذا السياق، مجرّد بُعد خاص أو حميمي من أبعاد الحياة الفردية، بل غدت عنصرًا مركزيًا في الاقتصاد الرمزي، وأداة فعّالة في إنتاج المعنى، والهوية، والرغبة، والسلطة. وغني عن البيان أنّ هذا التحوّل لا يمكن فهمه بمعزل عن التحوّلات الأوسع التي طالت أنماط التنشئة الاجتماعية، وبنية الأسرة، ودور المدرسة، وتراجع الأطر التقليدية للضبط الأخلاقي، مقابل صعود آليات جديدة للضبط الرمزي تمارسها الصورة، والخوارزمية، وثقافة الاستعراض.
ويمكن القول في هذا المدار ، أن الإعلام لم يعد مجرّد وسيط ناقل للمعرفة أو الترفيه، بل أصبح فاعلًا أساسيًا في عملية التنشئة الجنسية، من خلال ما يقدّمه من تمثّلات للجسد، والعلاقة بين الجنسين، والحب، والرغبة، والنجاح الاجتماعي. وتعمل هذه التمثّلات، في كثير من الأحيان، خارج أي إطار تربوي أو معرفي منضبط، فتقدّم الجنسانية في صورة مجزّأة، استهلاكية، ومفصولة عن أبعادها العاطفية والإنسانية.
وتتجلّى خطورة هذا الدور في كون الإعلام يخاطب فئات عمرية مختلفة في الوقت نفسه، دون تمييز واضح بين مراحل النضج النفسي، وهو ما يجعل الشباب والمراهقين عرضة لاكتساب تصوّرات مشوّهة عن الجسد واللذة والعلاقة مع الآخر.
الجنسانية في وسائل التواصل الاجتماعي:
مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، انتقلت الجنسانية من مستوى التمثيل الإعلامي إلى مستوى الممارسة اليومية المعروضة. فالجسد لم يعد موضوع نظر خارجي فقط، بل أصبح مشروعًا يُدار ويُعدَّل ويُعرض بصورة مستمرة عبر الصور، ومقاطع الفيديو، والقصص العابرة.
في هذا السياق، تتحوّل الجنسانية إلى شكل من رأس المال الرمزي الذي يأخذ هيئة المتابعات، والتعليقات، وقابلية تحويل الجسد إلى قوة إغراء . وهكذا، لا تُقاس القيمة الاجتماعية للفرد بما هو عليه، بل بما يعرضه، وبقدرته على الامتثال لمعايير جمالية وجنسية مفروضة خوارزميًا، لا ثقافيًا أو أخلاقيًا.
تؤدّي وسائل التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في تسليع الجنسانية، حيث تُفصل الرغبة عن سياقها الإنساني والعاطفي، وتُعاد صياغتها في منطق السوق إذ يصبح الجسد كسلعة، والرغبة كطلب، العلاقة كاستهلاك سريع. ويُعاد إنتاج هذا المنطق عبر الإعلانات، والمؤثّرين، وثقافة “الترند”، حيث تُستثمر الإيحاءات الجنسية بوصفها أكثر عناصر الجذب فعالية، بغضّ النظر عن آثارها النفسية أو الاجتماعية بعيدة المدى.
ويُروَّج غالبًا لوسائل التواصل الاجتماعي بوصفها فضاءً للتحرّر الجنسي وكسر المحرّمات، غير أنّ هذا التحرّر الظاهري يخفي شكلًا جديدًا من الضبط الخفي. فالفرد يبدو حرًّا في التعبير عن جسده، لكنه في الواقع خاضع لمعايير صارمة تفرضها المنصّات: بما يُسمح بعرضه، وما يُكافَأ عليه، وما يُقصى أو يُعاقَب رقميًا. وبذلك تنتقل السلطة من المؤسسة الأخلاقية التقليدية (الأسرة، الدين، المدرسة) إلى سلطة غير مرئية تمارسها الخوارزميات، وتُعيد تشكيل الرغبة والهوية الجنسية وفق منطق الربح والانتباه.
ويقينا فإن هذه الوضعيات ستترك آثارًا عميقة على الشباب والمراهقين ، من أبرزها: القلق المرتبط بصورة الجسد، وتراجع الثقة بالذات، والخلط بين الحميمي والاستعراضي، صعوبة بناء علاقات عاطفية مستقرة، وتطبيع العنف الرمزي ضد الجسد، وخصوصًا جسد المرأة. كما تتفاقم الفجوة بين التجربة الجنسية الواقعية والتجربة الرقمية المتخيَّلة، وهو ما يولّد إحباطًا، وشعورًا بالنقص، ونزوعًا إلى المقارنة المستمرة.
إنّ معالجة علاقة الجنسانية بالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن أن تتم عبر المنع أو الرقابة وحدها، بل تقتضي بناء وعي نقدي لدى الشباب، يقوم على: التربية الإعلامية، التربية الجنسية العلمية، إعادة الاعتبار للبعد العاطفي والإنساني للعلاقة الجنسية، وتمكين الشباب من فهم آليات التأثير الرمزي بدل الخضوع لها. فالرهان الحقيقي لا يكمن في إسكات الجنسانية، بل في تحريرها من منطق السوق والاستعراض، وإعادتها إلى سياقها الإنساني بوصفها علاقة، لا صورة؛ تجربة، لا سلعة.
خاتمة: التربية الجنسية شرطًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا
تُظهر العلاقة بين الجنسانية والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أنّنا إزاء تحوّل عميق في أنماط الضبط، والتنشئة، وبناء الرغبة. وإذا كانت المجتمعات المعاصرة قد كسرت كثيرًا من المحرّمات التقليدية، فإنّها، في المقابل، أفرزت محرّمات جديدة أكثر خفاءً، وأكثر ارتباطًا بالسلطة الرمزية والاقتصاد الرقمي. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تفكير نقدي يعيد مساءلة هذه التحوّلات، لا من موقع الحنين إلى الماضي، بل من موقع الدفاع عن إنسانية الجسد والرغبة في زمن الصورة.
وإذا كانتِ الحُرِّيّةُ الجِنسيّةُ، كما عُرِضَتْ في هذا المقال ، قد مثَّلَتْ في سياقِها التّاريخيّ والاجتماعيّ محاولةً لتجاوزِ أنماطِ القمعِ التّقليديّ، وتخفيفِ وطأةِ المُحرَّماتِ الأخلاقيّةِ الصّارمةِ التي أحاطَتْ بالحياةِ الجِنسيّةِ لدى الشّبابِ، فإنّ هذه الحُرِّيّةَ نفسَها لم تَبْقَ حبيسةَ المجالِ الخاصّ أو التّجربةِ الفرديّةِ، بل سرعانَ ما انتقلَتْ إلى الفضاءِ العموميّ عبرَ وسائلِ الإعلامِ، ثمّ اتّخذَتْ، مع صعودِ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ، أشكالًا جديدةً أكثرَ تعقيدًا وتأثيرًا ().
فما كانَ يُقدَّمُ في البدايةِ بوصفِه تحرّرًا من الرّقابةِ الأُسريّةِ والدّينيّةِ والقضائيّةِ، تحوّلَ تدريجيًّا إلى نمطٍ جديدٍ من التّنظيمِ غيرِ المباشرِ للجِنسانِيّةِ، تمارسُه الصّورةُ والخطابُ الإعلاميّ ومنصّاتُ التّواصلِ، لا بوصفِها مؤسّساتٍ أخلاقيّةً، بل بوصفِها فاعلين رمزيّين يُعيدون تشكيلَ الرّغبةِ ومعاييرِ القبولِ وحدودِ المشروعِ والممنوعِ. وهكذا لم تَعُدِ الحُرِّيّةُ الجِنسيّةُ تعني فقط إمكانَ الممارسةِ، بل أصبحتْ مشروطةً بمنطقِ الظّهورِ والاعترافِ والتّداولِ الرّمزيّ داخلَ فضاءاتٍ رقميّةٍ مفتوحةٍ() .
وفي هذا السّياقِ تغدو الجِنسانِيّةُ جزءًا من اقتصادِ الانتباهِ، حيثُ تُعادُ صياغتُها في هيئةِ تمثّلاتٍ مرئيّةٍ وأنماطٍ سلوكيّةٍ قابلةٍ للعرضِ والتّكرارِ والمقارنةِ. ويجدُ الشّبابُ أنفسَهم، مرّةً أُخرى، داخلَ منظومةِ ضبطٍ جديدةٍ لا تقومُ على المنعِ الصّريحِ أو التّهديدِ الأخلاقيّ، بل على الإغراءِ والمعيارِ الجماليّ والسّعيِ إلى القبولِ الاجتماعيّ الرّقميّ. إنّ هذا التّحوّلَ يفرضُ الانتقالَ من تحليلِ الحُرِّيّةِ الجِنسيّةِ بوصفِها مسألةً أخلاقيّةً أو قضائيّةً، إلى تحليلِها بوصفِها ظاهرةً إعلاميّةً–ثقافيّةً، تتقاطعُ فيها الرّغبةُ مع الصّورةِ، والذّاتُ مع العرضِ، والجسدُ مع السّوقِ .
ومن هنا يصبحُ من الضّروريّ الانتقالُ إلى دراسةِ العلاقةِ بينَ الجِنسانِيّةِ والإعلامِ ووسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ، ليس بوصفِها امتدادًا بسيطًا للحُرِّيّةِ الجِنسيّةِ، بل باعتبارِها طورًا جديدًا من أطوارِها، تتداخلُ فيه مظاهرُ التّحرّرِ مع أشكالٍ خفيّةٍ من الضّبطِ، وتُعادُ فيه صياغةُ التّجربةِ الجِنسيّةِ ضمنَ منطقِ الاستهلاكِ والتّسليعِ والتّمثيلِ الدّائمِ .
تُظهر المقاطع السابقة في هذا لمقال في مختلف مقارباتها النفسية والاجتماعية والثقافية، أنّ مسألة الجنسانية لا يمكن اختزالها في بعدها البيولوجي، ولا التعامل معها بوصفها موضوعًا هامشيًّا أو عرضيًّا في حياة الفرد والمجتمع. فالجنسانية، كما تبيّن، تشكّل بُعدًا تأسيسيًّا من أبعاد التكوين الإنساني، وتتداخل فيها عناصر الرغبة، والعاطفة، والهوية، والقيم، والضبط الاجتماعي، والتمثّلات الثقافية، بما يجعلها مجالًا شديد الحساسية والتعقيد.
وتبين القراءة التحليلية لدور الأسرة، ولا سيّما مواقف الآباء إزاء الحياة الجنسية للأبناء، عن مفارقة عميقة بين الرغبة في الحماية الأخلاقية والخوف من الانحراف من جهة، وبين الجهل، والصمت والقمع غير الواعي من جهة أخرى. ويُفضي هذا التناقض، في كثير من الأحيان، إلى نتائج عكسية، حيث تتحوّل التربية القائمة على المنع والتهديد إلى عامل مُولِّد للقلق، والشعور بالذنب، والاضطراب العاطفي، بدل أن تكون إطارًا للفهم والتوجيه.
كما أبرز التحليل النفسي، منذ فرويد، أنّ التجربة الجنسية لا تبدأ مع البلوغ فحسب، بل تتشكّل منذ الطفولة المبكرة، وأنّ الصدمات العاطفية، وأنماط التنشئة، وأساليب التربية القهرية، تترك آثارًا بعيدة المدى في البناء النفسي للفرد. وهو ما يجعل من تجاهل التربية الجنسية أو تأجيلها خطأً تربويًّا جسيمًا، لا يقلّ خطورة عن الإفراط غير الواعي في كشفها أو تسليعها.
ومع التحوّلات التي عرفتها المجتمعات المعاصرة، ولا سيّما مع انتشار الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، انتقلت الجنسانية من مجال الصمت والكبت إلى مجال العرض الدائم، والصورة، والتداول الرمزي المفتوح. غير أنّ هذا الانتقال لم يُفضِ بالضرورة إلى وعي أعمق أو تحرّر إنسانيٍّ حقيقيّ، بل أفرز أشكالًا جديدة من الضبط الخفي، حيث تُعاد صياغة الرغبة والجسد ضمن منطق السوق، والانتباه، والمعايير الجمالية المفروضة خوارزميًّا. وهنا يظهر بوضوح أنّ غياب التربية الجنسية الواعية يترك الشباب عرضةً إمّا للمنع القهري، أو للانفلات الاستهلاكي، وكلاهما يُفضي إلى اغتراب الإنسان عن جسده ورغبته.
إنّ الوعي بالتربية الجنسية، كما يتبدّى من مجمل هذا العمل، لا يعني الدعوة إلى إطلاق الغرائز بلا ضوابط، ولا إلى استنساخ نماذج ثقافية جاهزة، بل يقتضي بناء مقاربة تربوية–إنسانية شاملة، تقوم على المعرفة العلمية، والاحترام المتبادل، وفهم المراحل النفسية للنمو، والتمييز بين الحميمي والاستعراضي، وبين الحرية والمسؤولية. كما يتطلّب هذا الوعي إشراك الأسرة، والمدرسة، والإعلام، في مشروع تربوي متكامل، يهدف إلى تمكين الفرد من فهم جسده ورغبته دون خوف أو شعور بالذنب، ودون الوقوع في فخ التسليع أو التطبيع مع العنف الرمزي.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إنّ الرهان الحقيقي للتربية الجنسية اليوم لا يكمن في الإجابة عن الأسئلة التقنية فحسب، بل في بناء ذات قادرة على النقد، والاختيار، وضبط الرغبة، وإقامة علاقة متوازنة مع الآخر، علاقة تقوم على الاعتراف والاحترام لا على الهيمنة أو الاستهلاك. فالتربية الجنسية الواعية هي، في جوهرها، تربية على الإنسانية ذاتها، وعلى الحق في المعرفة، وعلى المسؤولية الأخلاقية تجاه الذات والآخر والمجتمع. وبذلك، لا تكون التربية الجنسية مسألة ثانوية أو عارضة، بل أحد المفاتيح الأساسية لفهم أزمات الإنسان المعاصر، ولإعادة بناء علاقة أكثر نضجًا وتوازنًا بين الجسد، والرغبة، والثقافة، والحرية.
د. علي أسعد وطفة
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.





