التنويريسلايدرفكر وفلسفة

راهنية ماركس: هل تحفر الرأسمالية قبرها؟

راهنيّة أفكار كارل ماركس: هل الرأسمالية تحفر قبرها في زمن التشيؤ التكنولوجي؟

“لم يكن ماركس مفكرًا في القرن التاسع عشر فحسب، بل كان ولم يزل منظّرًا يستشرف أبعاد الحاضر والمستقبل، وما زالت تحليلاته حول الرأسمالية والعولمة والتناقضات الاجتماعية تظل موجهة لنا حتى اليوم.” المؤرخ البريطاني إيريك هوبسباوم (Eric Hobsbawm) ()

مقدمة:

 إنّ أوضاع الطبقة العاملة في عصرنا تغيّرت كثيراً عمّا كانت عليه في زمن ماركس، لكنّ الجوهر واحد لم يتغيّر. فالرأسمالية تُحوّل الإنسان إلى مادّة خامّ قابلة التّصنيع والتّسويق وتجعله موضوعاً أو شيئاً للبيع والشّراء ومصدراً ل لرّبح والثروة والقوة. وهنا يكمن جوهر الرأسمالية في أيّة مرحلة من مراحل تطوّرها، وفي أيّ مستوى من مستويات تبدّلها وتغيّرها. ومهما تغيّرت الظّروف والأحوال فإنّ جوهر الرأسمالية الاغترابيّ – القائم على الاستغلال الطبقي والاجتماعي – لم يزل قائماً لا تبدّل ولا تغيّر في طبيعته الأساسيّة. 

وعلى الرّغم من كلّ هذا التّباعد بين نظريّة ماركس الاغترابيّة – التي وصف لنا فيها الكيفيّات التي يغترب بها العامل في الإنتاج – والتّغيّرات الحادثة، فإنّ الشيء الذي لا يمكن نكرانه ولا التّهوين من شأنه هو فرضيّته التي تقول: إنّ الرأسمالية – أيّا كانت صيغتها ومراحل تطوّرها – ستجرّد الإنسان من إنسانيّته. وهذه هي الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يجحدها في الإرث الماركسيّ. وإذا كان ماركس قد وصف لنا بعضا من وجوه الاغتراب في الماضي، فإنّ هذا الاغتراب يأخذ اليوم ألف وجه ويتجلّى في أكثر المناطق الحيويّة في الإنسان: في أعماق الرّوح والوعي والإرادة والوجود الأخلاقيّ. 

والحصيلة من ذلك أنّ أفكار ماركس ما زالت تفرض حضورها وصلاحيّتها في فهم العصر الذي نعيش فيه، وهذا ما يؤكّده الكاتب والصّحفيّ البريطانيّ فرانسيس وين (Francis Wheen) في كتابه المعروف “رأس المال لكارل ماركس” الذي يرى فيه أنّ الرأسمالية مهما بلغت شأوها، ومهما حقّقت من انتصارات عظيمة، فإنّها تبقى كارثة”(). وذلك ” لأنّها تحوّل البشر إلى سلعٍ يمكن مبادلتها بسواها من السلع، وإلى أن يتمكّن البشر من تحقيق أنفسهم بوصفهم ذوات التاريخ لا موضوعاته، لا يمكن أن يكون ثمة مفرّ من هذا الطّغيان” ()

2- القدرة على الاحتواء والتجاوز :

وعلى هذا الإيقاع، يصوغ المفكر الفرنسيّ هنري لوفيفر (Henri Lefebvre) رؤيته مستلهما ماركس في كتابه المعنون “الماركسية” (Le Marxisme) (): ” كيف يُعقل تجاوز تصوّر عن العالم يحتوي هو ذاته على نظريّة التّجاوز؟”. وفي هذا السياق نفسه يرى لوفيفر أن الماركسية ليست فقط نظامًا فكريًا مغلقًا يمكن تجاوزه، لأنها تحتوي في داخلها على آلية نقدها وتجاوزها لذاتها. أي أن الماركسية بوصفها فلسفة للتاريخ والتغيير، تتضمن في صلبها دينامية داخلية تجعلها قادرة على النقد الذاتي والتجدد. وهذا يعني أنه لا يمكن تجاوز ماركس لأن فكره لا يكتفي بوصف الواقع، بل ينطوي على نظرية لتغييره وتجاوزه. وهذا يجعل من الماركسية فكرًا مفتوحًا على المستقبل يصعب تجاوزه دون أن يُستبطن أو يُعاد إنتاجه بطريقة ما. وفي هذا السياق يقول المؤرّخ الماركسيّ إيريك هوبسباوم(Eric Hobsbawm) في سياق حوار مع المفكر الفرنسي البارز جاك أتالي (Jacques Attali) “إنّه لمن المفارقة الغريبة أنّ الذين يعيدون اكتشاف ماركس هم في معظمهم من الرّأسماليّين(). وفي هذا السياق يؤكد جاك أتالي رؤية هوبسبام الآنف الذكر التي تفيد أن ماركس هو اليوم “أكثر أهمّيّة من أيّ وقت مضى“، مشيراً إلى أنّ تحليلاته الرأسمالية ما تزال تكشف الكثير من أوجه الاختلال في العالم المعاصر(). 

ويمكننا القول في هذا الاتّجاه: إنّ نظرية ماركس لم تفقد مشروعيّتها في الوقت الحاضر، وبقيت صالحة كأداة لتحليل النظام الرأسمالي. ومن الثّابت أنّ ماركس قد ألحّ مراراً وتكراراً على تقاطب الفقر والغنى، وأشار دائما إلى أنّ تراكم الثّروة في أيدي الأغنياء يقابله تراكم الفقر عند الفقراء. وهذا هو الأمر الذي يمثّل جوهر التّناقض في النظام الرأسمالي الذي يشكّل نظاما تقاطبياً بامتياز. 

 أمّا تطوّر ظاهرة الاغتراب والتّشيّؤ في النظام الرأسمالي فيمكن الاستدلال عليها من خلال الوصف الذي يقدّمه الممثّل البريطانيّ الشّهير شارلي شابلن (Charlie Chaplin 1889 – 1977) في فيلمه الشّهير “العصور الحديثة” (Modern Times) في عام 1936. إذ يصوّر بداية حالة الاغتراب والقهر الّتي يتعرّض لها الإنسان داخل المصنع فيما يطلق عليه خطّ التّجميع في الإنتاج، وهو النّمط الاغترابيّ الذي يتعدّى ما يجري داخل المصنع وسط العمل، فيشمل ما يحدث خارجه. وبعد ثلاثين عاما اندلعت ثورة الشّباب الجامحة في أوروبا – وتحديدا في فرنسا – عام 1968 (حركة ماي التّحرّريّة). وكانت هذه الثّورة (في وجه من وجوهها) تجسّد حالة القهر وتعبر عن الثّورة ضدّ ما تتعرّض له آدميّة الإنسان، وكانت أيضا وصفاً بليغاً لما يجري للمستهلكين خارج المصنع من تنميط ينذر بتحوّل كلّ منهم إلى الإنسان ذي البعد الواحد(One-dimensional Man) كما يسمّيه هربرت ماركوز(Herbert Marcuse). وبعد مرور ثلاثين عاما شهدت الإنسانيّة أعنف مظاهر القهر الإنسانيّ ببداية الخطر التكنولوجي الّذي يتحرّك سريعاً وبعيداً ليتجاوز كلّ الحدود والخطوط والممنوعات، ” إنّه اليوم يتحرّك ليدمّر أعمق أعماق الإنسان، إنّه يهدّد شعوره وأعماقه الواعية واللاواعية، الشعورية واللاشعورية، إنّه يمارس قهرا على المخّ والتفكير عند الإنسان. وتتمثّل هذه الثورة التكنولوجية المدمّرة في ما يطلق عليه اليوم ثورة المعلومات والثّورة الرّقميّة. وهذا يعني في نهاية الأمر أنّ التّهديد أصبح ينال من الإنسان بوصفه كائنا عاقلا يمارس ملكة التفكير وكائنا يمارس فعاليّة المشاعر والأحاسيس الإنسانيّة ” ()

 لقد دفعت هذه التّطوّرات المبهرة المفزعة الإنسانيّة إلى حالة اغترابيّة لا مثيل لها في تاريخ الوجود. وأصبح الإنسان بكينونته الخلاّقة مجرّداً من الكرامة والهويّة والحسّ الإنسانيّ، فالإنسان اليوم في ظل الضغط التكنولوجي يتحوّل إلى آلة، في الوقت الذي تتحول فيه الآلة إلى إنسان كما يحدث في عالم الروبوتات الذكية. وهذه لعَمري ذروة الاغتراب والتّشيّؤ. ومع أنّ ماركس عاش في زمن مختلف ولم يعايش هذه الطفرات الذكية الخارقة في التطور، ولم يكن أيضا قادراً على إدراكها والتنبؤ بها فإنه رغم ذلك لم يخطئ أبداً في إدراك الجوهر الاغترابيّ للرأسمالية، ولم يكن بالإمكان له أو لأيّ أحد آخر في زمنه أن يدرك الصّيرورة التي سيتّخذها منحى التّشيّؤ في زمن الثّورة الصّناعيّة الرّابعة. 

5- الرّأسماليّة تحفر قبرها: 

يقول ماركس في أحد أهمّ تنبّؤاته إنّ الرّأسماليّة ” تنتج، أوّل ما تنتج، حفّاري قبرها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا أمران حتميّان” (). وهو في هذه الرّؤية الاقتصاديّة يستند أيضا إلى قوانينه الديالكتيكية، ولا سيّما قانون ” نفي النّفي ” (The Law of the Negation of the Negation))) الذي يرى من خلاله أنّ الرّأسماليّة تنطوي على بذور فنائها. ومع ذلك لم يحن الوقت للقول بسقوط تنبّؤات ماركس على وجه الإجمال، فكثير من مقولاته وتوقّعاته لم تزل مشروعة في جوهر أمرها حتّى يومنا هذا. ويجد القول المذكور تأييده فيما ذهب إليه المفكّر التّروتسكيّ البريطانيّ)) آلان وودز(Alan Woods 1944 -) الّذي يقرّ براهنيّة نظريّة ماركس في كتابه « راهنيّة أفكار كارل ماركس»، إذ يرى أنّ “نظرية ماركس استطاعت الصّمود في الاختبار التّاريخيّ، وخرجت الآن منتصرة” ()، ويستند وودز في رؤيته لهذا الصّمود إلى ما ورد في كتاب ماركس “رأس المال” الذي بيّن فيه أنّ السّوق الرّأسماليّة لا تضبط نفسها تلقائيًّا، بل تُنتج بفعل تناقضاتها الدّاخليّة أزمات دوريّة تؤدّي إلى انهيارها، كما حصل في أزمة عام 2008. 

وممّا يؤكّد مشروعيّة هذه التّنبّؤات أنّ الرّأسماليّة واجهت نسقاً منتظما من الأزمات الخانقة والاهتزازات الاقتصاديّة العنيفة التي تواترت بقوّة منذ أزمة الائتمان في بريطانيا عام 1772، تلاها الكساد الاقتصادي العظيم (Economic Depression) بين عامي 1929 – 1933، ثمّ الأزمة الآسيوية في عامي 1997 – 1998 التي أدّت إلى انهيارات اقتصاديّة في دول “النّمور الآسيويّة” (Dragons asiatiques)، ويشار أيضا إلى أزمة أسعار النفط سنة 1973 التي كادت تطيح باقتصاديّات الدّول الرّأسماليّة، ثم الأزمة الاقتصاديّة في سنتي 2007 – 2008 التي أحدثت انهياراً ماليّاً في مختلف أنحاء العالم، ثم أزمة جائحة كورونا التي كادت تُسقط المنظومة الرّأسماليّة كلّها، وأخيراً أزمة الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة التي أنتجت تأثيرات وخيمة في اقتصاديّات الدّول الغربيّة، وهي تضع العالم اليوم على شفير حرب نوويّة محتملة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الانتفاضات الطّلاّبيّة والجماهيريّة التي تشهدها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبّا على خلفيّة الإبادة العرقيّة والعنصريّة التي تنفذها إسرائيل بدعم من الصهيونية العالمية في غزّة الفلسطينيّة التي تتعرض اليوم لإبادة عرقية لم يعرف لها التاريخ مثيلا على مرأى العالم الراسمالي الذي يمد الكيان الصهيوني الغاصب بالسلاح وأدوات التدمير والموت والإبادة. وهي كلّها حوادث وتوتّرات تُهدّد بنية النّظام الرّأسماليّ العالميّ في المركز، وليست في الأطراف هذه المرّة()

ويمكن أن نلاحظ اليوم تواتر عدد كبير من الدراسات المستقبليّة والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تتضمّن ما يفيد بأنّ النّظام الرّأسماليّ ينطوي في ذاته على بذور فنائه. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري (Michel Onfray) الموسوم “من يسوع إلى بن لادن، حياة الغرب وموته” (Décadence: De Jésus à Ben Laden, vie et mort de l’Occident. ) () الذي يشتمل على توقّعات تنذر بنهاية الحضارة الغربيّة لأنّ الحضارات كلّها ذائقة الموت، وعليه فإن انهيار الحضارة الغربيّة وسقوطها أمر لا مردّ له ولا مفرّ منه. ونجد مثل هذا التّصوّر في كتاب الفيلسوف الفرنسيّ بيار توبي (Pierre Toubia) “الانفجار الأكبر. تقرير حول انهيار الغرب” (The Great Explosion) () الذي يرصد فيه العوامل التي ستؤدّي إلى زوال الحضارة الغربيّة، منها النّزعة الاستهلاكيّة، وهيمنة الثقافة المادّيّة وسيطرة التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي، والتّغييرات الجوهريّة التي تنتاب روح الإنسان وأخلاقيّاته. ويعدّ الشاعر الفرنسيّ شارل بودلير (Charles Baudelaire: 1821-1867) من أوائل الذين حذّروا من التّدهور عندما رأى أنّ التكنولوجيا التي يعيش بها الغرب تُدمّر الثقافة والقيم ()

ويوجد عدد كبير من المفكّرين الّذين يرون أنّ النظام الرأسمالي يعاني تواتر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالغة الخطورة التي لا تهدّده هو فحسب، بل تهدّد الحضارة الإنسانيّة برمّتها، فالحروب النّوويّة تدقّ الأبواب، وبعض الدول تُحضّر للحروب الجرثوميّة القاتلة، وهي حروب تهدّد نظام الحياة على الكوكب. والغرب اليوم – كما يعلم الجميع – يقف على شفا هاوية قد تأخذه إلى حرب مدمّرة فتّاكة لا تبقي ولا تذر في مواجهة الشرق المتمثّل في روسيا بوتين التي تخوض معارك مصيريّة في أوكرانيا. ومن يتأمّل يعين بصيرة سيجد أنّ الرأسمالية تفتك بالطّبيعة والإنسانيّة والمجتمع، وهي في هذا المسار التّدميريّ تنذر بهلاك المجتمعات الإنسانيّة قاطبة. ولا بدّ من الإشارة أيضا في هذا السياق إلى أنّ الذكاء الاصطناعي يهدّد اليوم بتسريح 80% بالمئة من العمالة ووضعهم في دائرة العاطلين عن العمل، وهذا يشكّل تهديدا للنظام الرأسمالي كلّه. وهنا يكمن المعنى الحقيقيّ لمفهوم ماركس الذي يوحي بأنّ الرأسمالية تحفر قبرها، أو تفرز حفّاريه. وعلى هذا الأساس تقوم النّظريّات الجديدة التي تتنبّأ بنهاية التاريخ وسقوط الحضارة، كما يعلن الفيلسوف الألمانيّ أوسفالد شبنجلر (Oswald Spengler 1880 – 1936) في كتابه “تدهور الحضارة الغربيّة” (The Decline of the West) () الذي يستند فيه إلى عدد كبير من أزمات النظام الرأسمالي المتكرّرة عبر الزّمن ()

لقد شكّك عالم الاقتصاد البريطانيّ جون هيكس(John Hicks 1904 – 1989) في كتابه “القيمة ورأس المال” (Value and Capital) عام 1939 في قدرة الرأسمالية على البقاء والاستمرار، واقترح في الوقت نفسه أن تستخدم الحكومات سلطتها في التّحكّم بالاستثمار والسّياسة النّقديّة لتخفيف حدّة هذه التّقلّبات، ممّا يعكس قلقه بصدد استقرار النظام الرأسمالي دونما تدخّل فعّال (). ونجد ما يماثل هذه الرؤية في أعمال جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes) الاقتصادي البريطانيّ الأشهر في بداية القرن العشرين (1883 – 1946)- وهو أحد نقّاد ماركس – إذ ‏كتب يقول في كتابه المعروف: ” نظريّة عامّة في العمالة والفائدة والنّقود” )) (The General Theory of Employment) (1936): “إنَّ الرأسمالية طور ‏ انتقاليّ سيختفي حين ينجز عمله”(). ويتردّد هذا التّوجّه حول سقوط الرأسمالية وانحلالها في كتاب رجل السّياسة والاقتصاد النّمساويّ جوزيف شومبيتر(Joseph Schumpeter 1883 – 1950) “الرأسمالية والاشتراكية ‏والديمقراطية” (Capitalism, Socialism and Democracy) 1942 ()، وهو الكتاب الذي يتنبّأ فيه بأنَّ الرأسمالية لا تستطيع البقاء. ولم تتوقّف الكتابات التي تؤكّد النّبوءة التي تقول بنهاية الرأسمالية. وفي هذا الصدد نشرت صحيفة الـ فاينانشل تايمز (Financial Times) مقالاً لها بعنوان “عودة إلى ‏رأس المال” (Das Kapital Revisited) بتاريخ 28 أغسطس 1998، داعية إلى إعادة قراءة عمل كارل ماركس الرئيسي “رأس المال” (The Capital) في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. وتناولت المقالة الأزمات الاقتصادية العالمية آنذاك، مثل الانهيار المالي في روسيا والأزمات الاقتصادية في آسيا وفي مختلف أنحاء العالم، وتدعو المقالة إلى إعادة النظر في أهمية أفكار كارل ماركس حول الرأسمالية ولاسيما تلك التي صدرّرها في كتابه الشهير “رأس المال” ويعكس عنوان المقال تجدُّد الاهتمام بانتقادات كارل ماركس للرأسمالية في تلك الفترة ولاسيما تأكيده حتمية سقوطها اختناقاً بأزماتها. 

ويتجدّد هذا الرأي عند رجل المال الأمريكيّ من أصول مجريّة جورج سوروس(George Soros) في كتابه “أزمة الرأسمالية العالميّة: ‏مجتمع مفتوح معرَّض للخطر” (The Crisis of Global Capitalism: Open Society Endangered) الّذي ينوّه إلى حتميّة سقوط النظام الرأسمالي، ويحذّر سوروس في هذا الكتاب من أنّ النظام الرأسمالي العالمي يواجه أزمات متكرّرة نتيجة لعدم استقراره الدّاخليّ، ويُعزى ذلك إلى غياب التّنظيم الكافي في الأسواق الماليّة العالميّة. ويرى أنّ هذه الأزمات قد تؤدّي إلى انهيار النظام إذا لم يتمّ اتّخاذ إجراءات إصلاحيّة جذريّة (). 

 ويتّضح ممّا تقدّم أنّ مقاربات ماركس الاقتصادية شكلت المصدر الأكثر إلهاماً للمفكرين في تناولهم لأوضاع النظام الرأسمالي والبحث في أزماته واختناقاته. وسادت ‏وجهة نظر ماركس التي تؤسس للقول أنّ الاقتصاد هو القوّة التي تدفع التّطوّر الإنسانيّ، وأصبحت أفكاره هذه أكثر انتشاراً بين المفكرين في ‏المجتمعات الغربيّة. 

 ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى كتاب الصحفيّ العالمي جيمس بوكان (James Buchan) المُعنون “رغبة مجمَّدة: بحث ‏في معنى النّقود” (Frozen Desire: An Inquiryinto the Meaning of Money. ) عام 1997 الّذي يطلق فيه عبارته المشهورة قائلاً “إنَّ “ماركس” راسخ في ‏ قلب تفكيرنا الغربيّ(). وهو الأمر نفسه الذي حدا بالصّحفيّيْن في مجلّة الـ (إيكونوميست) (The Economist) “”جون ‏مايكلثوايت” و”أدريان وولدريدج” في كتابهما “مستقبل تامّ: تحدّي العولمة ووعدها المضمر” عام 2000 () إلى تأكيد أهمّيّة الرؤية الماركسيّة المذهلة في تفنيد قضايا العولمة والرأسمالية العالميّة ” (). ويمكن القول في هذا السياق أن نظرية ماركس الاقتصادية حول الرأسمالية وحتمية سقوطها ما زالت تستقطب المفكرين المعاصرين وتحظى باهتمامهم وما زال كتاب ماركس رأس المال يشكل أيقونة الاقتصاد العالمي الأكثر قدرة على تحليل وفهم الديناميات الخفية التي تعتمدها الرأسمالية في السيطرة على الاقتصاد العالمي وهو الكتاب الذي تتجلى فيه قدرة ماركس وعبقريته الفكرية. 

6-تقاطب الغنى والفقر في العالم: 

ومن المهمّ أنّ ماركس قد ابتدع رؤية سوسيولوجيّة تتميّز بالأهمّيّة والخطورة، إذ كان يؤكّد دائما في مختلف أعماله على تقاطب الفقر والغنى في العالم، وكان يرى أنّه كلّما اشتدّ الفقر في جانب تراكمت الثّروة والغنى في جانب آخر. وقد صدقت رؤيته هذه في مختلف مراحل تطوّر المجتمع الرأسمالي، وتكفي نظرة خاطفة اليوم على جغرافيّة توزيع الثّروة في العالم المعاصر لتبرهن على مصداقيّة المقولة الماركسيّة في التقاطب بين الغنى والفقر. هذا وتبيّن التّقارير الاقتصادية حديثا أنّ 1% من سكّان العالم يمتلكون نصف ثروته.، وأنّ 10٪ من السّكّان يملكون 85% من الثّروة في العالم، وفي المقابل فإنّ 90% لا يملكون إلاّ 15٪ من إجمالي الثّروة، وبصيغة أخرى يمتلك 30٪ من السّكّان 97٪ من مجموع الثّروة (). وتؤكّد مثل هذه الإحصائيّات وغيرها على أنّ تنبّؤات ماركس كانت صحيحة في جوهرها. ومن ينظر في إحصائيّات الفقر والفاقة والجوع والحروب سيجد أنّ النظام الرأسمالي يدمّر العالم ويدمّر نفسه في الآن الواحد، وفي هذا الاتّجاه تشير الإحصائيّات العالميّة إلى أنّ نحو 700 مليون شخص يتقاضون دون 2. 15 دولاراً للفرد في اليوم، وهو خطّ الفقر المدقع الذي يتمركز في أجزاء من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، والمناطق المهمّشة والمتأثّرة بالصّراعات، والمناطق الرّيفيّة. كما تشير الإحصائيّات الأحدث إلى أنّ 1. 3 مليار شخص ما يزالون يعيشون في فقر ” متعدّد الأبعاد”، وأنّ نصفهم تقريباً هم من الأطفال والشباب. ويضاف إلى ذلك نموّ تجارة الأطفال والجنس والمخدّرات بمقاييس خرافيّة. وتدلّ هذه الظواهر والمؤشّرات على أنّ النظام الرأسمالي متخم بالأزمات والتّناقضات، ممّا يؤكّد لنا أنّ تصوّرات ماركس حول طبيعة هذا النظام تمتلك راهنّيتها ومصداقيتها التاريخية. 

وتأخذ هذه الوضعية في التفاوت بين قطبي الفقر والثراء طابعها المأساوي اليوم تأكيداً لتنبؤات ماركس إذ يتعمّق تفاوت الثّروة على نحو مفاجئ. فَدَخْلُ ملياردير مكسيكيّ واحدٍ في اليوم يساوي ما يجنيه الملايين السبعة عشر من أفقر المواطنين المكسيكيّين. لقد خلّفت الرأسمالية ازدهاراً أكثر ممّا عرفه التاريخ من قبل. وبحسب البنك الدّوليّ فإنّ 2. 74 مليار نسمة في سنة 2001 كانوا يعيشون بأقلّ من دولارين في اليوم. وعلى هذه الصّورة – في مشهد التقاطب بين الفقر والغنى- سيتسبّب اتّساع الهوّة بين الأثرياء والفقراء في البلدان الغربيّة الأكثر ضعفا إلى زعزعة استقرار المجتمع من الداخل. ويعبّر يورغن راندرز (Jorgen Randers) عن هذه الوضعيّة بقوله: “مع حلول عام 2050، سينقسم المجتمع في الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة إلى طبقتين، إذ تعيش حفنة من الأثرياء في رغد من العيش في حين تتدهور الأوضاع المعيشيّة للغالبيّة، ومن ثَمّ ستنهار العدالة الاجتماعية”(). وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا التقاطب للفقر والغنى سيشكّل يوما ما أحد عوامل انهيار النظام الرأسمالي القائم بصيغته الجديدة كما يرى عدد كبير من المفكرين وعلماء الاقتصاد في العالم ()

7-التّحوّلات في النظام الرأسمالي: 

ومهما يكن الأمر، فإنّ فكر ماركس قد أضاء بقوّة في المستويات الاقتصادية وسجّل حضوره المُظفّر في أزمنة متعاقبة، ولا سيّما في النّصف الأول من القرن العشرين. ومع أهمّيّة ما حقّقه من سبق فكريّ، فإنّه ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار التّغييرات الهائلة الذي فرضت نفسها في ساحة الفكر كما في مجال الثّورات العلميّة والتّكنولوجيّة. ومثل هذه التّحوّلات الهائلة التي ضربت بقوة في عمق الحضارة الغربيّة خلال العقود الماضية تفرض استحضار نسق من الملاحظات حول مشروعيّة النّظريّة الماركسيّة الاغترابيّة في العصر الذي نعيش فيه اليوم. ولا بدّ لنا في إطار هذه الرؤية النّقديّة من الإشارة إلى التّغيّرات الجوهرية في بنية النظام الرأسمالي الذي انتقل من صيغته الكلاسيكيّة في القرن التّاسع عشر إلى صيغته الليبرالية الجديدة أو ما يُسمّى بالنّيوليبراليّة (Neoliberalism)() في القرن العشرين. 

وقد اجتاحت هذه التّغيّرات وضعيّات الطبقات العاملة والعمل والإنتاج وطبيعة الوعي، ولا سيّما التّطوّرات الجديدة التي أدّت إلى أتمتة الإنتاج بصورة واسعة وشاملة. ولم يكن بإمكان ماركس أن يدرك – مهما بلغت عبقريّته – ما سيعتري المجتمعات الحديثة من تغيّرات هيكليّة. ويرى معظم الباحثين أنّ النظام الليبرالي الرأسمالي الجديد يختلف جوهريّا عن النظام الرأسمالي الكلاسيكيّ الذي كان سائدا في عهد ماركس. ومن هذا المنطلق، فإنّ نظريّة التّشيّؤ الماركسيّة لا يمكنها أن تُعبّر عن الوضعيّة الدّيناميّة المتحوّلة للاغتراب والتّشيّؤ في ميدان العمل والإنتاج. إذ لم يعد هناك خطوط للإنتاج كما كان الأمر في عهد ماركس، ولم يعد العامل ترساً في آلة الإنتاج كما جرت العادة على وصفه، فكلّ شيء تغيّر وكلّ أمر قد تبدّل، وأصبحت التّكنولوجيا الذّكيّة المتقدّمة القائمة على الذكاء الاصطناعيّ الفاعل الرئيس في عمليّة الإنتاج والتوزيع. ويعني هذا كلّه أنّه لا يمكن لنظريّة ماركس الاغترابيّة أن تُفسّر لنا كلّ ما يجري اليوم في عالم الإنتاج والعمالة والوعي الطبقي. وماركس نفسه لم يُحدّثنا عن المطلقات في نظرياته، ولو كان ماركس على قيد الحياة لأقرّ بأنّ نظريّته الاغترابيّة بشكلها التّقليديّ قد عفا عليها الزمن، وأنّ التّطوّر المستمرّ هو من طبيعة الأشياء والأفكار. 

 من المؤكّد أنّ ماركس استطاع أن يفرض مشروعيّة نظريّته في زمنه انطلاقا من تحليله لأوضاع العمّال المزرية في معامل النّسيج وأوضاع المناجم والبؤس الواسع الانتشار الذي عمّ الطبقات العمّاليّة في عصره، ولكنّ نظريّته غير مؤهّلة اليوم للبحث في طبيعة المجتمعات الغربيّة ما بعد الصّناعيّة التي تختفي فيها الطبقات الاجتماعية بصيغتها الكلاسيكيّة ()

ومن الواضح اليوم أنّ المجتمعات الغربيّة شهدت تغيّرات جوهريّة بدأت منذ منتصف سبعينيّات القرن العشرين، وجرى هذا التّغيّر تحت تأثير الثّورة الصّناعيّة الثّالثة ثمّ تحت تأثير الثّورات العلميّة الكبرى، ولا سيّما الثّورة الصّناعيّة الرّابعة. وقد أدّت هذه التّغيّرات إلى تحوّلات نوعيّة لم يكن في مقدور ماركس – أو أيّ أحد آخر- أن يتصوّرها، ومنها الأتمتة الشّاملة للإنتاج الصّناعيّ، واعتماد المجتمعات الغربيّة – وسائر بلاد العالم المتطوّر – على الذكاء الاصطناعي منهجاً عصريّاً في معالجة مختلف مظاهر الوجود والحياة. وفي خضمّ هذه الثّورات الصّناعيّة والتّكنولوجيّة القائمة على الذكاء الصناعي الخارق تغيّرت القوانين التي تحكم الأسواق والتّجارة، وأصبحت مختلفة كلّيّا عمّا عهدته الرأسمالية في زمن ماركس، وتُضاف إلى ذلك التّغيّرات المذهلة في بنية الطبقات العاملة التي تحوّلت من طبقات جامدة بائسة إلى طبقات سائلة مرنة تختفي وتظهر وتأخذ أشكالاً متغايرة في بؤسها وشقائها ونعيمها. ويتّضح أنّ الطبقات العمّاليّة الفاعلة قد تآكلت ثمّ تعرّضت ” لعدوان تشريعيّ وسياسيّ وحشيّ أضعف تحالفاتها التّقليديّة، فيما نمت بشكل أكثر حدّة الهويّات بحسب الجنس والعرق والدّين واللّغة وأصبحت الشّؤون السياسية مُدارةً ومتلاعبا بها بازدياد” ()

ولم يعد العامل هو ذلك الرّجل البائس المعفّر وجهه بالتّراب، أو هذا الذي اكتست ملامح وجهه بسواد الفحم وثيابه بغبار المصانع، على شاكلة أبطال الرّوائيّ الفرنسيّ إميل زولا(Émile Zola 1840 – 1902) – في سلسلة (Les Rougon-Macquart) – لم يعد هو ذلك العامل البائس المقهور الذي يعمل تحت دويّ الآلات وأزيز المحرّكات، ولم يعد هو ذلك العامل الذي يتنقّل في الحافلات، ويقف على قارعة الطّريق كما كان الأمر في زمن ماركس. فالعامل اليوم أصبح من ذوي الياقات البيضاء، يرتدي أفضل الماركات، ويكتسي بأفخم البِذلات والربطات. لقد تحوّلت الطبقات العاملة إلى جيش من الموظّفين الذي يعملون في حقول النّقل والتّوزيع والإنتاج، ويستخدمون أفضل أدوات الذكاء الاصطناعي في عمليّة تفاعلهم مع أنشطة الإنتاج. وهذا لا يعني أنّ هؤلاء العمّال قد وصلوا إلى درجة من الغنى والثّراء، فالفقر في جوهره يلاحقهم والدّيون تثقل كواهلهم، والرّهون العقارية تهدّد مصائرهم والتّأمين الصّحيّ لا يفي بمطالب علاجهم، وهم عرضة للطرد والإحالة والاستغناء عن خدماتهم أو استبدالهم. وهم ضحايا تشيّئيّة تتّخذ لَبوساً تنكّريّاً متجدّداً. 

وفي ظلّ هذا التّحوّل في أوضاع الطبقات العاملة وانسيابيّاتها المرنة أصبح من الصّعب الحديثُ عن ثورة ماركسيّة طبقية، فالطبقات تآكلت ووقع استيعابُها كلّيّا في آليّات الإنتاج الرأسمالي الجديد الذي يعتمد على التكنولوجيا الذكية. ولو أخذنا على سبيل المثال، وليس الحصر، ظاهرة الإنتاج الزّراعيّ لوجدنا أنّ الطبقة العاملة في هذا الميدان قد اختفت تماماً مع انتشار الأتمتة الزّراعيّة، فآلة الحصاد ألغت العمالة اليدويّة لحساب الأتمتة في مختلف مظاهر الإنتاج، حتى إنّك لم تعد ترى عاملا في الحقول أو بين الأشجار، وهذا يحدث أيضا في المصانع، إذ يختفي العمّال وتحلّ الآلات المبرمجة بأحدث أدوات الذكاء الاصطناعي في مختلف ميادين العمل والإنتاج. 

وفي هذا الاتّجاه أشارت أنيتا شاري(Anita Chari) في كتابها “العمل الفارغ: الكسل والمقاومة في مكان العمل” (Empty Labor: Idleness and Workplace Resistance) إلى أنّ العمل الذّهنيّ في الرأسمالية بلغ كبيراً من الهيمنة، وأدّى إلى إحداث تحوّلات جوهريّة في بنية العمل والإنتاج داخل النّظام الرأسمالي. وتُبيّن شاري أنّ الإنتاج بدأ يأخذ طابعا ذهنياً ناعماً ويحلّ محلّ العمل المادّيّ الذي ساد في المراحل السّابقة للرأسمالية. وقد اشتمل هذا التّحوّل على فواعل جديدة تتمثّل في إنتاج المداخيل وبناء رؤوس الأموال، وذلك في إشارة منها إلى تدخّل التكنولوجيا الذّكيّة المتمثّلة في وسائل الاتّصال الاجتماعي (تويتر، وفيسبوك، والهواتف الذّكيّة) التي بدأت تشكّل قوّة جديدة في الفعل الإنتاجيّ للرأسمالية السائلة(). وترى شاري أنّنا نعيش اليوم في زمن “ما بعد الصناعة” ذاتها، وهو الأمر الذي يضع الإنسانيّة جمعاء في موضع التّساؤل. فالعمل المادّيّ قد تحوّل إلى عمل ذهنيّ عقليّ شفّاف يمارس دوره في عمليّة إنتاج السّلع وتلبية مطامح رجال الأعمال (). وقد ساهم تعاظم الاستخدام المُنظّم للذكاء الاصطناعي في تدمير مؤسّسات إنتاجيّة كلاسيكيّة كبرى. ويحضرنا اليوم أنّ برمجيّات ذكيّة متوفّرة مجّانا على شبكة النت أدّت إلى إلغاء مصانع ومعامل ومؤسّسات كبرى، ومثال ذلك: برنامج تحديد المواقع العالميّ (Global Positioning System) وهو برنامج مجّانيّ صغير أدّى اليوم إلى الاستغناء عن مصانع كاملة كانت تعنى بإنتاج الأجهزة الصلبة لتحديد المواقع. وقد نتج أيضا عن ظهور برامج صغيرة لحجز السفريات وغيرها اختفاء أسواق ضخمة من المكاتب التي كانت تعنى بعمليّات الحجز. وأدّى تركيز برنامج ” أوبر” (Uber) للنقل إلى ثورة في عالم النقل والمواصلات واختفاء كبير لمكاتب سيّارات الأجرة في العالم. ناهيك عن اختراع الهاتف المحمول الذي أحدث ثورة في عالم العمل. فالتّطبيقات الذّكيّة اليوم تعوّض جيوش العمّال في مختلف القطاعات، واختفاء عدد كبير من العمّال – وكذلك المهن – يستمرّ ويتصاعد وسيتسبّب في أزمة عالميّة كبرى في النّظامين الرّأسماليّ والاشتراكيّ على حدّ سواء، وهذه الثّورة الرّقميّة لم تكن يوما في حسبان ماركس، ولا يمكن تفسيرها في ضوء نظريّته. وممّا يجدر ذكرُه في هذا الإطار أيضا انتشارُ “العمل عن بعد” (Le travail à distance)، وهي ظاهرة من نتائج جائحة كورونا الّتي أجبرت ملايين البشر العاملين على التزام الحجر (confinement) لمُدد طويلة، ومن ثَمّ مواصلة ممارسة الأنشطة بواسطة الأنترنت. 

في زمن ماركس، يمكن القول إنّ العلاقات الاجتماعية للسّوق كانت المصدر الرّئيسيّ للأشكال المجسّدة للوعي الاجتماعي. ولكن في الرأسمالية المعاصرة، عُدِّلَت علاقات السّوق من خلال قوّة الشّركات الاحتكاريّة والدّولة البيروقراطيّة. لقد أنتج تطبيق العلم على الصّناعة تحوّلات عميقة في بنية علاقات الإنتاج وفي تشكّلاته، فقد حلّ العمل العقليّ والذكاء الصناعي محل العمل اليدويّ في شتّى مناحي الإنتاج والاقتصاد. 

وفي ظلّ هذه التّغيّرات الجوهريّة ظهرت أشكال جديدة من التّشيّؤ. فإلى جانب صنم السلع الأساسية، أصبح لدينا الآن صنم التكنولوجيا وصنميّة البيروقراطية وصنميّة المؤهّلات المهنيّة، وقد شكّل إدخال التّقانة الذّكيّة الجديدة في مجال الإنتاج الضّخم والاتّصالات والسّيطرة أحد أهمّ مصادر التّشيّؤ في المجتمع الرأسمالي المعاصر. ففي مجال الإنتاج المعاصر أصبحت الآلات الإلكترونيّة معنيّة بمراقبة العمال وتنظيم عمليّة الإنتاج، وبصيغة أخرى نُقِلَت وظائف اتّخاذ القرار وتنسيق الإنتاج من العمّال إلى الآلات، وهو الأمر الذي ينطوي على نمط جديد من الاغتراب والتّشيّؤ لم يكن لماركس القدرة على تصوّره(). فبينما كان العامل يستخدم أدوات الإنتاج، أصبحت الآن أدوات الإنتاج تستخدم العامل. ونتيجة لهذا فإنّ التّرتيبات الاجتماعية التي كانت ذات يوم نتاجاً واضحاً للفاعليّة البشريّة أصبحت الآن بمثابة ضرورات تكنولوجية. إنّ تطوّر التكنولوجيا في المجتمع الرأسمالي يقدّم مثالاً واضحاً لديالكتيك ماركس حول ” تشيّؤ العلاقات الإنتاجية” و” تشيّؤ الأشياء”. وكما ظهر تاريخيّا، فإنّ عمليّة الابتكار التكنولوجي تعكس المصالح الطبقية لأولئك الذين يتحكّمون في تصميمها وتطبيقها. وبشكل عامّ، فإنّ الابتكارات التي تُركّز المعرفة وصنع القرار في أيدي المديرين وتفرض رقابة أكثر صرامة على وتيرة العمل وتقلّل من الحاجة إلى العمالة الماهرة، تُفقد العمّال قدرتهم وتقلّص من هامش مقاومتهم. ويتمثّل الوجه الآخر للتكنولوجيا الذّكيّة في أنّها تعمل اليوم على تعزيز العلاقات الاجتماعية الرأسمالية. وهكذا، فإنّ خضوع العمل لرأس المال ينعكس في خضوع العامل للآلة التي بدأت تفرض هيمنتها الذكية وسطوتها الرقمية؛ وعلى مستوى الوعي الاجتماعي، فإنّ نمط الإنتاج التكنولوجي يفرض مسؤوليّته عن الطابع الاغترابيّ للعمل في المجتمع المعاصر()

وقد شكّلت هذه الوضعيّة – أي تبعيّة العامل للآلة – إحدى القضايا المحوريّة التي تناولها عالم الاجتماع جاك إلول (Jacques Ellul) ()في كتابه ذائع الصّيت “المجتمع التكنولوجي” (The Technological Society)() الذي يبحث فيه مسألة “المصانع المجرّدة من الإنسانيّة ” في المجتمع الحديث. وقد كتب يقول: ” إنّه من غير المجدي أن نهاجم الرأسمالية، فالرأسمالية لم تخلق عالمنا؛ بل الآلة هي التي خلقته” (). والبيّنُ اليوم أنّ النظام الرّأسماليّ الجديد تمكَّن من تفكيك الطبقات المناهضة له واستقطاب معظم القوى ‏ المنافسة ودمجها في حركته الشّموليّة، واستطاع حتّى استقطاب النّقابات العمّاليّة ومختلف أشكال التّجمّعات الحقوقيّة وإدماجها في بنية النظام الرأسمالي، وفوق ذلك كلّه استطاع أن يُوظّفها في خدمة توجّهاته وخياراته وللسّيطرة على مختلف ‏ مظاهر الفعل والتفكير والسّلوك اليوميّ لدى الإنسان المعاصر. وإزاء هذه الوضعيّة المأساويّة سقط الإنسان والإنسانيّة في براثن الاستلاب الرأسمالي، وأصبح الفرد كيانا استلابيّاً في دوّامة الحركة الرأسمالية المعاصرة فاقداً إرادته ووعيه وقدرته على التّغيير والـتّأثير وتقرير المصير. ولا ريب أنّ الرأسمالية تمثّل اليوم جهازا إداريّاً جبّاراً يمتلك مختلف وسائل ‏ القمع والإكراه والضّغط والسّلب والإغواء والإغراء على حدّ سواء، وهي تستخدم هذه القوى كلّها في عمليّة سحق القوى المناهضة لها وتدمير جميع المؤسّسات والهيئات التي تقف في طريقها. وعلى هذه الصّورة يجد الإنسان المعاصر نفسه في دوّامة الخضوع للنظام الرأسمالي القائم، ولا يجد أمامه سوى الشّعور بالإحباط والاستسلام. وقد لا نبالغ بالقول إنّ الإنسان في هذا العصر الرأسمالي أصبح كائنا عدميّا فاقدا للوعي والإرادة وغير قادر على إدراك ما يجري حوله من تحوّلات وما يلمّ به من تغيّرات، إذ سقط في بؤرة التّشيّؤ الذي يشكّل “القلب ‏ النّابض للأيديولوجيات الرأسمالية” ()

وباختصار، لم يكن لماركس الذي عاش في النّصف الثاني من القرن التّاسع عشر، أو لأحد سواه أن يكون شاهداً على التّغيّرات الجوهريّة العميقة التي تحدث في الزمن الرأسمالي الجديد، إنّه عصر يتزامن مع نمط جديد من الثّورات العلميّة التي تحقّقت مع التّقدّم الذي أنجزه النظام الرأسمالي. وقد لاحظنا أنّ الطبقات العاملة في الغرب قد حصلت على مكاسب كبيرة في الوقت الذي كان فيه الاستبداد والقهر يعمّان في البلدان الشّيوعيّة. وهنا علينا أن نأخذ في الحسبان المعطيات الفكريّة لماركس في ظلّ الأوضاع التاريخية التي عاش فيها واستطاع أن يستكشف أبعادها ويهتك أسرارها، وهذا يعني أنّه يتوجّب علينا أن ننظر إلى فكر ماركس في السياق الذي وجد فيه وعبّر عنه وليس في السياق التّاريخيّ والحضاريّ لأزمنة جديدة تختلف عن زمنه بمعطياته وخصوصيّته. وهذا لا يمنع أبدا من فهم الحاضر في ضوء التّصوّرات الماركسيّة التي قدّمت مؤشّرات مهمّة جدّا لحركة المستقبل وفق قوانين الديالكتيك المادّيّة.

3- نقد النظرية الماركسية :

يمكن أن نجمل أهمّ الانتقادات التي وُجّهت إلى نظريّة ماركس على النّحو الآتي: 

 أوّلا – لم يكن لماركس أو لأيّ أحد آخر القدرة على التّنبّؤ بالتّطوّرات المذهلة والتّعقيدات الهائلة التي حدثت في بنية النظام الرأسمالي، وبناء عليه فليست نظريّته مؤهّلة عمليّاً لتفسير طبيعة هذه التّطوّرات. ويرى جمع من المفكّرين أنّ الظّروف الاقتصادية والاجتماعية قد تغيّرت كثيراً من عهد ماركس، وأنّ التّشيّؤ الاجتماعي يمكن أن يتطوّر مع الزمن والتّغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية. ولا يعقل أن نُحمّل ماركس المسؤوليّة من هذا الجانب، ويكفي ماركس فضلا وريادة أنّه فهم عصره، وامتلك القدرة على تحليل ظروفه التاريخية بطريقة عبقريّة. 

ثانيا – يعيب بعض المفكّرين على نظريّة ماركس أنّها تمركزت حول العوامل الاقتصادية، وأنّها لم تعط للعوامل الثّقافيّة والنّفسيّة دورها في عمليّة التّشيّؤ، ولم تُولِها ما تستحقّه من اهتمام. وكثيراً ما يتردّد بأنّه لا يمكن تفسير عمليّة التّشيّؤ الاجتماعي عن طريق الهياكل الاقتصادية فحسب، ويجب أن تؤخذ العوامل الثقافية بعين الاعتبار. وقد ركّز روّاد مدرسة فرانكفورت على الجوانب الثّقافيّة والسّيكولوجيّة لعمليّة التّشيّؤ الاغترابيّ. ومع ذلك فهناك كثير من المفكّرين الّذين يرون أنّ ماركس لم يهمل قطّ العوامل الثقافية ودور البنى الفوقيّة في التّأثير في الاقتصاد، وإن كان يولي العوامل المادّيّة والاقتصادية أولويّة أكبر. 

ثالثا- يرى بعض النّقّاد أنّ نظريّة ماركس الاغترابيّة قد وُظِّفَت أيديولوجيّاً في المستويات السياسية، وقد استخدمت كأداة أيديولوجيّة لتبرير المصالح السياسية للأحزاب اليساريّة، ولا سيّما في بلدان المعسكر الاشتراكيّ سابقا. وهذا الأمر يتناقض مع الرؤية العلميّة لنظريّة ماركس في هذا المجال. وقد أوضحنا أنّ الممارسات الّتي ارتكبت باسم الماركسيّة هي بعيدة عن روحها. فالماركسيّة نظريّة منتصرة للكرامة الإنسانيّة ولحقوق البشر وحريّتهم. 

رابعا – وبشكل عامّ، وعلى الرّغم من أنّ نظريّة ماركس في التّشيّؤ الاجتماعي قدّمت فهماً عميقا لكيفيّة تشكّل القيم والتّصوّرات الاجتماعية حول السلع في المجتمعات الرأسمالية، فإنّها تواجه تحدّيات في تطبيقها العمليّ وفي فهمها الشّامل للدّيناميّات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة. ويقتضي هذا تعميقَ التّفكير في ملاءمة المنطلقات الماركسيّة مع تحوّلات التّاريخ. وهو جهد يُنتظر من الدّارسين والباحثين – وكذلك المناضلين والنّاشطين – أن يضطلعوا به لابتكار أجوبة راهنة لقضايا عصرنا وإشكالاته. 

ومهما يكن من أمر هذه الانتقادات، فإنّ نظريّة ماركس الاغترابيّة لا تزال تُعتبر أداة ناجعة لفهم بعض جوهر التّحدّيات الاجتماعيّة والنّفسيّة التي تواجه الأفراد في المجتمعات الرأسمالية، وتبقى موضوعاً للدراسة والنقاش في العديد من السياقات الأكاديميّة والبحثيّة. 

4- خاتمة 

خلصنا إلى أهميّة الأفكار الماركسيّة وراهنيّتها وما تُقدّمه لنا من عطاء معرفيّ وعون منهجيّ. وفي هذا المسار يمكن القول إنّ النّظريّة الاغترابيّة عند ماركس فرضت تأثيرها في القرن العشرين، وقد تجلّى هذا التّأثير بداية في فلسفة لوكاش، ولا سيّما في عمله المدوّي “تحطيم العقل “كما في كتابه “التاريخ والوعي الطبقي”. وهو الذي اكتشف مفهوم التّشيّؤ عند ماركس وعمل على صقله، فأعطاه زخماً فكريّاً تاريخيّاً تمثّل في قدرته الهائلة على تجديده وتطويره بما يتناسب وروح القرن العشرين. 

وبرز تأثير نظريّة التّشيّؤ في مختلف أعمال وأفكار وتصوّرات روّاد مدرسة فرانكفورت، فتجلّى هذا التّأثير بوضوح وقوّة لدى كلّ من كارل غرونبرغ وهوركهايمر وأدورنو وماركيوز وفروم وهنيث وهابرماس، وامتدّ إلى الجيل المعاصر من منتسبي هذه المدرسة الذين كانوا في كلّ محاولاتهم يهتدون بنظريّة ماركس ويستضيئون بمنهجه، حتّى لَيكادُ المرء عندما يقرأ لهم يحسب نفسه أنّه يقرأ في نظريّات كارل ماركس نفسه. وينحو هذا القول إلى الاعتقاد جزماً بأنّ الخميرة الفكريّة الماركسيّة ما زالت حاضرة بقوّة في معظم الأعمال التي قدّمها ممثّلو مدرسة فرانكفورت، ويتجلّى هذا التّأثير الكبير على نحو خاصّ في كتاب هربرت ماركيوز “الإنسان ذو البعد الواحد” الذي ستوحي تحليل ماركس لمفهوم التّشيّؤ في النظام الرأسمالي. ومن يقرأ أيضا في أدبيّات الاغتراب عند عالم الاجتماع الألمانيّ إريك فروم (Erich Fromm) يتأكّد أنّه لم يخرج بعيداً عن الأصول الماركسيّة. وهنا لا بدّ من الاعتراف بأنّ بعض الإضافات الجوهريّة قد تجلّتْ في كتابيه “الإنسان بين الجوهر والمظهر() و”الخوف من الحرية“(Escape from Freedom) (). وقد حضر هذا التّأثير القويّ في كتاب لوكاتش ” التاريخ والوعي الطبقي ” الذي استطاع بدوره أن يجترح خطّاً ماركسيّاً جديداً في تناوله لمفهوم الاغتراب من وجهة نظر سّوسيولوجيّة صرفة. 

 وفي ضوء ما تقدّم يمكن القول: إنّ نظريّة ماركس الاغترابيّة تركت أثرها الكبير في التّفكير الفلسفيّ والسّوسيولوجيّ الحديث على مدى القرن العشرين، وما زال هذا التّأثير يفرض نفسه اليوم، ولا سيّما في الرّبع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، وما هذا الدراسة إلاّ نوع من التّأكيد على أنّ المَعين الفكريّ لكارل ماركس لم ينضب بعد، وأنّ فكره ما زال يتدفّق بالعطاء، ويرتسم على صورة

طاقة فكريّة منهجيّة تحليليّة ليس لها بديل في دراسة النظام الرأسمالي حديثه وقديمه أو ما بقي منه قائما في الوجود. ويمكن القول إنّ النّجاح المظفّر لنظريّة ماركس الاغترابيّة يعود إلى المنهج العلميّ الذي وظّفه في تناول هذه الظّاهرة في النظام الرأسمالي. 

 وممّا لا ريب فيه أنّ نظريّة ماركس مارست تأثيرها الكبير في العالم الرأسمالي، وأنّ كثيرا من الإنجازات والمكتسبات التي حقّقتها الطبقات العاملة في العالم كانت نتيجة طبيعيّة للوعي الماركسيّ بحقوق العمل والعمّال. فالرأسمالية ذاتها، كما يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ الماركسيّ رايمون آرون (Raymond Aron 1905 – 1983)، “مَدينة لماركس من حيث لا يدري؛ وربّما لولا ماركس لانحرفت الرأسمالية نحو الزّوال منذ فترة (… ) فالرأسمالية أعادت ضبط مسارها بناء على الانتقادات التي كانت توجّهها الماركسيّة لها” ()

ومن المؤكّد اليوم أنّ ماركس استطاع أن يقدّم للإنسانيّة تحليلاً بارعاً لتلك القوى التي تتحكّم بحياتنا، ‏وما تنتجه من زعزعة واغتراب واستغلال؛ “وإنَّ كُتُب ‏ماركس ستظلّ جديرة بالقراءة ما دامت الرأسمالية باقية… وبعيداً عن أن يُدفن تحت أنقاض ‏جدار برلين، لعلَّ ماركس لم يبرز إلّا الآن بأهمّيّته الحقّة، ولعلّه يغدو المفكّر الأشدّ نفوذاً في ‏القرن الحادي والعشرين”‏. 

ومن الواضح أنّ ماركس، فوق ذلك كلّه، قد أبدع مدخلاً منهجيّاً مرناً يُمكّننا من استكشاف الطّابع المُجسّد للعمل وتحليل الفعاليّة الإنتاجيّة للنظام الصّناعيّ الرأسمالي الذي يحوّل الموجوداتِ كلّها إلى سلع وأشياء وأصنام تخضع لقانونيّات الإنتاج الرأسمالي الصّارم في أسواق العرض والطّلب. 

فالنظام الرأسمالي – وفق ماركس – يخلق لنا مجتمعاً بلا روح وبلا ثقافة إنسانيّة حقيقيّة، وهو في الوقت نفسه يُشيّء كلّ مظاهر الوجود: النّاس والأشياء والمعاني والدّلالات. لقد بيّن ماركس أنّ أقصى حالات التّشيّؤ والاغتراب تُصيب الطبقات العاملة والفقيرة التي تفنى في عمليّة الإنتاج، وتتحوّل ضمن سياقاته الوحشيّة إلى أشياء يفقد فيها النّاس العاملون أرواحهم وأحلامهم وطموحاتهم، ويصيرون كائنات هلاميّة هجينة فاقدة للرّوح والمعنى والدّلالة. فالرأسمالية لا ترى في العمّال المنتجين أكثر من أدوات وآلات وأشياء تخضع لقوانين الفيزياء الحسّيّة الملموسة. وقد لاحظ ماركس أنّ الآلات البشريّة المنتجة تحتاج إلى صيانة وتجديد وتطوير، وأنّ لكلّ آلة أجلاً مُسمّى تنتهي بعده إلى مكاسر الآلات، فالأجور الّتي يحظى بها العامل ليست أكثر من صيانة لهذا العامل؛ إذ تضمن له الحدّ الأدنى من العيش ليكون قادراً على العمل، وبصيغة أخرى، فإنّ الأجور في منظور الرأسمالية لا تعدو أن تكون تجديدا لطاقة العامل الذي يشكّل مصدر الرّبح والثّروة والقوّة بالنّسبة إلى الرّأسماليّ ورأس المال. 

وقد أجاد ماركس استكشاف أعمق أسرار الإنتاج الرأسمالي وأخطر تأثيراته على الإنسانيّة والإنسان. فالرّأسماليّة تمثّل في تكوينها وآليّات اشتغالها جحيم العمّال والطبقة العاملة ومحرقة المعوزين والفقراء والمسحوقين الّذين يشكلون أيضا، وبالضّرورة، إنتاجاً رأسماليّاً. فالمشرّدون والمُهمّشون والفقراء والمسحوقون ليسوا في نهاية الأمر إلاّ نتيجة لفعاليّة النظام الرأسمالي الذي ينتج الثّراء في جانب، والفقر والفاقة والجوع في جانب آخر من المجتمع. وهذا يعني أنّ الرّأسماليّة هي أكبر منتج للبؤس الإنسانيّ، وهي تعمل في حركة تطوّرها على تدمير البيئة والأخلاق والقيم والإنسان. 

ومهما تكن الانتصارات السياسية التي حقّقتها وتُحقّقها الرأسمالية، إلاّ أنّ الرأسمالية تبقى كارثة على البشريّة لأنّها تحوّل البشر إلى سلع تمكن مبادلتها بسواها من السلع. وإلى أن يتمكّن البشر من تحقيق أنفسهم بوصفهم فاعلين في التاريخ، وليسوا مجرّد ضحاياه، فلا يمكن أن يكون ثمة مفرّ من هذا الطّغيان الرأسمالي”. لذلك علينا أن نؤكّد أنّ المنهج الماركسيّ والفلسفة الماركسيّة، – والتي وصلت إلى نضج طرحها الفلسفي ووعيها بقوانين الاقتصاد السياسي في كتاب “رأس المال” – هما مجموعة متناسقة ومنسجمة من الأساليب والمبادئ يجري استخدامها لمعرفة الواقع وإعادة صياغة هذا الواقع على أسس ثوريّة. وهذا النهج يتّسم بالانسجام والانتظام، ويحلّل العمليّات الاقتصادية – الاجتماعية التي تجري في المجتمع بوحدتها وتناقضاتها المرحليّة والتّاريخيّة. 

ومن المفارقة بمكان أنّ الرأسماليّة الّتي تفقد الإنسان روحه وكيانه الإنسانيّ وتحوّله إلى أداة تضفي بالمقابل على الأشياء وعلى السلع والمنتجات والموادّ الأوّليّة طابعاً غائيّاً ذاتيّاً. وهنا تتجلّى بصورة واضحة المعادلة الرأسماليّة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى موضوع وأداة، ويقابل ذلك تحويل الموضوع (الشيء) إلى قيمة وذات. ولا يمكن أن تكون نهاية الاغتراب إلّا بالقضاء على ظاهرة التشيّؤ الإنسانيّ الّتي تفقد الإنسان معناه وتجرّده من قيمته وتستلب منه دلالته الروحيّة وقيمته الغائيّة (). فالرأسماليّة اللّيبراليّة الجديدة تجعل من تطوير الصّناعة وسيلة للرّبح وللسّيطرة وللقوّة، وهي تعمل، حسب تعبير ماركس، على “تأليل” الإنسان، (تحويله إلى آلة) بل إلى كيان متشيّء، بل إلى صنميّة إنسانيّة شديدة التوحّش والانحدار()

وبعبارة أخرى، استطاعت الرأسماليّة أن تحوّل الإنسان إلى شيء من الأشياء المادّيّة وإلى كيان مفرغ من الرّوح الّتي تنبض بالمشاعر الإنسانيّة الخلّاقة، فالرأسماليّة بأدواتها الجبّارة استلبت الإنسان وجرّدته من مشاعره وأحاسيسه وإنسانيّته ليصبح ترساً في آلتها الإنتاجيّة الجبّارة. وفي هذا المجتمع الرأسماليّ تقوم المنظومة بتجريد الفرد من محتواه الإنسانيّ وتدمّر في أعماقه القيم والمبادئ الأخلاقيّة، كما تدمّر صلاته الإنسانيّة بالعائلة والصّداقة والدّين والأخلاق والقيم، فيزداد عمق ارتباطه بالوسط الصّناعيّ للمجتمع الرّأسماليّ. وقد جرّد هذا التشيّؤ الصناعيّ الإنسان من قدرته على التحكّم بمصيره وحياته ووجوده الإنسانيّ. فالطبقة الرأسماليّة الّتي تسيطر على مصيره تحوّله إلى أداة للإنتاج وإلى سلعة للرّبح، وإلى طاقة للاستهلاك تستثمر في تعزيز فائض القيمة وتحقيق أعلى نسبة من العائدات الماليّة الاقتصاديّة الّتي تصبّ في مصالح الطبقة الرأسماليّة على صورة أرباح واستثمارات ومضاربات اقتصاديّة. 

وفي وصف قد يكون أشمل وأعمق يمكن القول إنّ الرأسماليّة تحوّل النّاس إلى مجرّد أشياء وأرقام ومعادلات وبيانات حسابيّة وإحصائيّات، وفي هذا المجتمع يتحوّل الإنسان إلى كيان تغذّيه فكرة واحدة، ويستولي عليه هاجس واحد يتمثّل في الاستهلاك والتسوّق والتملّك والحصول على كلّ ما هو جديد في عالم السلع والأشياء. وهو في دوّامة جشعه الاستهلاكيّ هذا يقتني كلّ شيء ويحوز على كلّ شيء بقدر ما يستطيع، وهو في ذلك يتصرّف بقوّة هائلة لإشباع رغبات زائفة وتافهة لا طائل منها. ففي عالم الأشياء تتحوّل الأشياء إلى قيمة تعطي لمن يمتلكها قيمة أكبر، والإنسان في هذا العالم المتشيّيء لا يكون إنساناً إلّا بقدر ما يمتلك من أشياء وإلّا بقدر ما يستهلك. 

وفي النظام الرأسماليّ – كما يعلمنا ماركس – تشتدّ وتائر التشيّؤ ووطأة التّسليع، ويرتفع منسوب الافتتان بالسلع عند الأفراد في المجتمع. وفي حمأة هذا التشيّؤ يرتبط سلوك الأفراد بالسلع في عالم تعرض فيه الموجودات كلّها بوصفها سلعاً: الأدب والفنّ والمرأة والقيم والتّعليم والإعلام والصّحافة، وكلّ شيء معنويّ أو مادّيّ يخضع لقانونيّة السّوق أي قانونيّة البيع والشّراء. وهذا يعني أنّ علاقات السّوق تتغلغل في سلوك الأفراد، وترسم حدود علاقاتهم الإنسانيّة وتفاعلاتهم الاجتماعيّة، ويتخطّى هذا الأمر الجوانب الاقتصاديّة والمادّيّة إلى الجوانب الإنسانيّة والروحيّة(). والطّريف أنّه في أدبنا العربيّ القديم صور مضحكة يمكن اعتبارها من وجوه التّشيّؤ. ونسوق مثالين اثنين من «مقامات بديع الزّمان الهمذانيّ» (من القرن الرّابع للهجرة): البدويّ السّاذج الّذي اعترضه المتحيّل في السّوق وعدّه فرصة وفريسة (المقامة البغداديّة)؛ والبطل نفسه حين تخاصم بشأنه صاحبا الحمّام، كلّ منهما يريد دلكه، لأنّه يمثّل عائدا ماليّا (المقامة الحلوانيّة). وعلى هذه الصّورة تتغلغل القيم السوقيّة في المجال الإنسانيّ وتتحوّل الظواهر الإنسانيّة إلى قيم مُتشيّئة، وتغرق الحياة البشريّة في مستنقع الاستلاب الّذي يضرب مختلف جوانب الحياة: الفكر والطبّ والتّعليم والفنون والسّياسة وغيرها. وأخيرا نختتم بالقول مع الحكيم الهندي الكبير طاغور(Rabindranath Tagore)(): ” إنّ الحضارة المادّيّة ستخسر كلّ شيء إذا فقدت روحها، وإنّ البشريّة ستصبح مهدّدة بالفناء في ظلّ جسد بلا روح. وعندما تصبح الحضارة بلا قلب فإنّها ستفقد أهمّ مقوّمات الحياة()

د. علي أسعد وطفة 

مراجع الدراسة وهوامشها :

() – وحيد عبد المجيد، ” الرّأسماليّة وظاهرة التّشيّؤ في المجتمعات الحديثة” آفاق اجتماعية، 19/9/2021. شوهد في 20/4/2025 https: //idsc. gov. eg/Article/details/5967 ص 4.

()– رابندرانات طاغور (Rabindranath Tagore): شاعر وفيلسوف وموسيقار ومسرحي ومصلح اجتماعي هندي، وُلد في 7 مايو 1861 وتوفي في 7 أغسطس 1941. يُعدّ أحد أعظم أدباء الهند في العصر الحديث. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1913 عن ديوانه الشهير “جيتانجالي” (Gitanjali)، ليكون أوّل آسيوي ينال هذه الجائزة. لُقّب بـ “شاعر الهند الكبير. ومن أقواله الشهيرة: “لقد بكيت لأنني لم أكن أملك حذاء، حتى رأيت رجلاً بلا قدمين. “


()– مجدي عزيز إبراهيم، المنهج التّربويّ العالميّ: أسس تصميم منهج تربويّ في ضوء التّنوّع الثّقافيّ، (القاهرة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 2001)، ص 232. 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى