القـراءات الحداثيـَّة للنصّ القرآني

– تقديم
في التراث الإسلامي ملاحظة بارزة وقوية تأخذ كل مهتم ومشتغل ومتتبع للدراسات والبحوث القرآنية بشكل عام، وهي محورية البحث في القرآن الكريم،وفي كل ما أنتجته الأمة الإسلامية من بحوث ودراسات وعلوم وفهارس ومعاجم وموسوعات ذات صلة قوية بالبحث في القرآن الكريم.
إذ بذلت هذه في البحوث القرآنية جهود علمية وبحثية كبيرة، لم تبذل في غيره من الكتب،سماوية كانت أم غير سماوية. بحيث يتعذر إحصاء أو تقييد أو رصد جميع هذه البحوث والدراسات والمؤلفات والكتب المنجزة في تفسير القرآن الكريم وعلومه[1].
-الخلفيَّة الدينيَّة في العلوم الإسلاميَّة
بناء على هذا المعطى، فإن الذي ترسخ في وعي الدارسين قديما وحديثا ورغم اختلاف التخصص،وتنوع التوجه الفكري وتعدد الرؤى،و واختلاف المذهبيات والاختيارات أن جميع العلوم التي نشأت في الحضارة الإسلامية، إنما هي علوم اتجهت نحو خدمة القرآن الكريم في جميع جوانبه ومستوياته ومكوناته خاصة ما اتصل بالتوثيق والتحقيق والرسم والقراءة وكذا ما اتصل بالبيان والفهم والتفسير والاستمداد…[2]. فلما كان الوحي هو مركز المعرفة في التراث الإسلامي،نشأت جميع هذه العلوم والمعارف انطلاقا من هذا المركز.
وهو ما يعني وبلغة صريحة وواضحة، أن هناك خلفية دينية، كانت من وراء نشأة كثير من العلوم البيانية واللغوية في الثقافة العربية الاسلامية ،وفي هذه الورقة العلمية نسعى ى الى التعريف بتداخلية العلوم البيانية في علم التفسير،وهوالعلم الذي يعد من أبرز العلوم الشرعية التي اتجهت الى تلقي واستمداد المعنى من كلام الله.
فهذا الأصل المعرفي الثابت هو ما جعل كثيرا من الباحثين يرى أن عطاء الفكر العربي الإسلامي وإبداعه وقوته، إنما نشأت ابتداء وأساسا من خلال تعامله مع النص القرءاني توثيقا وتحقيقا وفهما وضبطا وبيانا واستمدادا.
القراءات الحداثيَّة :السياق والمواصفات
إن ما يميز القراءات الحداثية هو سعيها الدؤوب نحو إحداث قطيعة كلية مع كل مناهج التفسير التي سادت في التراث الإسلامي[3]،ورفض استثمار الفهوم السابقة التي أنتجها علماء الإسلام في تعاملهم المباشر مع القرءان الكريم.
وهذا الرفض كان تحت دعوى قدم هذه المناهج،وتغيبها كليا للقارئ من حيث هو أداة وطرف أساسي في إنتاج المعنى الذي يحمله النص فهي تراهن على المعنى المتعدد والمتنوع بدل المعنى الواحد، مع عدم الإخضاع أو الاحتكام إلى المنطق الحاكم للتخاطب في اللغة العربية الذي يعد الأصل والمنطلق في التفسير، كما أنها لم تعر أية أهمية للإشكاليات المنهجية التي يطرحها التفسير.
المناهج الجديدة في التفسير
من الإشارات الأولية التصريح بأن المناهج المخصصة للتفسير،ظلت مؤصلة في كتب التفسير، وحاضرة في كتب علم أصول الفقه بشكل قوي، لكن مع ذلك فإن هذه المناهج الجديدة في التفسير عملت على تخطي كل الأصول،وتجاوزت الضوابط والقواعد بدعوى التجديد والعصرنة والتحديث.
بحيث عمل المناصرون لهذا الاتجاه بالدفع بقوة بمشاريعهم من أجل جعل هذه المشاريع الحداثية في قراءة النصوص القرآنية وتأويلها البديل المنهجي المرتقب لكل الإنجازات العلمية التي راكمتها جهود العلماء السابقين واجتهاداتهم في موضوع تفسير القرآن الكريم.
وقد دعا المناصرون لهذه المشاريع أن هذه المناهج تحمل من القدرات التفسيرية والإمكانيات الـتأويلية ما لم تحمله المناهج القديمة في التفسير والـتأويل.. فهي تعمل على الحد والتقليص من سلطة النص المتمثلة في القواعد والضوابط والمعايير الحاكمة للفهم،والمنظمة لمنطق التخاطب والتلقي في اللغة العربية،على حساب سلطة القارئ الذي منحته هذه المناهج حق التأويل المطلق والتلقي الحر للنصوص الدينية ومطاوعتها تبعا لمؤهلاته الفكرية وخلفياته المذهبية واختياراته الذاتية،ما جعل النص أداة مطاوعة لتوجهات واختيارات وقبليات القارئ الفكرية والمذهبية في تفسره للنص[4].
مستندات في القراءات الجديدة
من لوازم الفهم لطبيعة ووظائف التراث العربي الإسلامي،هو قناعة أصحاب القراءات الجديدة أن النص الديني بصفة عامة،والقرآني بصفة خاصة نصوص حاملة بطبيعتها للتأويل،وقابلة لأكثر من معنى وقراءة .
لأن النص المنفتح والمتعدد غير الخاضع للمعاييروالضوابط عند اصحاب هذا الاتجاه نص حي يتميز بالحركة وعدم الثبات، أما النص الذي تحكمه القواعد والضوابط فهو نص مكشوف وثابت تغيب فيه الحركة وترتفع فيه المنافسة،بحيث يستوي في معرفة دلالته ومعناه جميع المتلقين له،وبعبارة اخرة نص ميت لا حياة فيه…
وهذا الانفتاح الدلالي للنص هو الذي يكفل لهذا للنص بالبقاء والاستمرار والحياة عبر الأجيال…فمن المبادئ الأساسية في هذا الاتجاه: أن “النص مفتاح لكل من استطاع قراءته”.. وأنه لا وجود لمعنى حقيقي في النص …[5]
ولعل هذه المراهنة على تعدد المعنى في قراءة النص كان من آثاره وتجلياته أن اتجه أصحاب مشاريع القراءات الحداثية إلى رفض التراث التفسيري الذي راكمته جهود المفسرين القدماء،ورمي أصحابه بالسذاجة والغفلة والجهل والإعراض عن التعددية والاختلاف في اكتساب المعنى.
لأن المفسرين القدماء في نظر هؤلاء عملوا على تكريس المعنى الواحد للنص[6]،ومنانصرة الدلالة الواحدة بما أصلوه من ضوابط وما وضعوه من قواعد ضابطة للفهم،وحاكمة للتمثل لعملية التفسير والتأويل.
ومصادرة التراث التفسيري الذي شيده علماء الإسلام على امتداد التاريخ الطويل يعود أن هذه القراءات المعاصرة والجديدة التي تستمد مرجعيتها من المناهج المعاصرة قد تشكلت من خارج التداول الإسلامي،وهي مناهج مستوحاة من العلوم الإنسانية واللسانيات المعاصرة بجميع مدارسها ومذاهبها،ومنها : البنيوية والتداولية والتوزيعية والتفكيكية … وهذه المناهج تعد المتلقي الطرف الأساسي في تلقي النص وفي انتاج المعنى المحمول في هذا النص.
السلطة التأويلية في تلقي النص
إن السلطة التأويلية في تلقي النص وتفسيره عند المناصرين لقراءات الجديدة ينبغي أن تتجرد عن المعايير والضوابط اللغوية،والأصول الدلالية المعتمد ة في التفسير،فقد اعترض الاتجاه التأويلي على سلطة النص وقواعده الناظمة للمعنى،واعتبر المعنى في النص معنى نسبي ومحتمل،وهذا ما يجعل كل معنى مستخلص من النص مرشحا للتجاوز تبعا لتغير التاريخ والثقافة،وتطورالقيم والسياقات والمرجعيات .
مع ذلك نقول من غير المعقول أن يتصدى للتفسير والفهم واستخلاص المعاني من القرءان من غير التمكن من المقتضيات التي يتأسس عليها التفسير.
السلطة التاريخية في تلقي النص
لتأكيد تاريخية النص القرآني بصفة عامة والقرآني منه خاصة اتجه دعاة القراءات الحداثية إلى القول بأن أسباب النزول مؤشرات وعلامات وإيحاءات دالة وبقوة على تاريخية النص القرآني،وارتباطه النص بزمانه،وبإحداث تاريخه معينة[7].
وقد وضع الدكتور بسام الجمل أطروحة جامعية للدفاع على اختياره وإظهار الإشكالات المعرفية التي يطرحها موضوع أسباب النزول،وحملت اسم” أسباب النزول” [8].
تقرير
مشاريع القراءات الحداثية سعت في أصلها إلى تجاوز القراءات التراثية لنص القرآني وكان مسعاها مسعاها هو رصد سقطات مناهج التفسير القديمة المعهودة بين علماء التفسير.
كما تعاملت مع الوحي وفصلته عن مجاله التداولي والثقافي بحيث جعلت منه حقائق تاريخية مطلقة مقيدة بالزمان والمكان، إضافة أن التفاسير القديمة تنبني وتستند إلى منهجية الأخبار والمرويات المنقولة بالأسانيد الصحيحة.[9]
إن الاعتراف للمفسرين الأقدمين بالعلم والكفاءة في التفسير ضرورة علمية وحضارية،”لأن تجاهل فضل السابقين جحود للنعمة وطمس المزايا،وهذا ليس من حميد خصال هذه الأمة”[10]،.
فعلى الرغم من الدعوة إلى التجديد والإصرار نحو التفاعل مع الواقع الجديد، إلا أن الضرورة لازمة بالتقيد بالقيود الناظمة لعملية التفسير ومنها ـ احترام الثوابت والأصول وعدم تجازوها أو اختراقها بدعوى التجديد .
[1]– أعلام الدراسات القرآنية في خمسة عشر قرنا للدكتور مصطفى الصاوي الجويني، نشر منشأة المعارف المصرية بالإسكندرية.
– فهرست مصنفات القرآن الكريم في ثلاثة مجلدات . منشورات مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
– التفاسير المطبوعة من القرن الهجري الأول وحتى العصر الحديث. للدكتور ياسر بن إسماعيل راضي.بحث مقدم للجامعة الإسلامية بماليزيا:2005.
[2]– يراجع ندوة الرابطة المحمدية للعلماء “الاستمداد من الوحي” وكانت في مناهج واصول التفسير. 2008. المقدمة :11
[3]– ظاهرة القراءة المعاصرة للقرآن وإيديولوجيا الحداثة لعبد الرحمان الحاج.مجلة الملتقى:العدد الأول السنة 1996ص:45
[4]– بخصوص النشأة الدينية للهرمينوطيقا يراجع: – النص الشعري ومشكلة التفسير للدكتور عاطف جودة نصر.ص:45
– نظرية التأويل للدكتور مصطفى ناصف، النادي الأدبي الثقافي، جدة ط1، مارس، 2000. ص:20
[5]– المقاربة الهرمسية للوحي: قراءة في الخطاب اللاديني لنصر حامد أبو زيد يحي رمضان، مجلة إسلامية المعرفة، ع63، 2011. ص:52
[6]– دعاوي الطاعنين في القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري والرد عليها. لعبد المحسن بن زين المطيري دار البشائر: 2007.ص:144
[7]– التاريخية: المفهوم وتوظيفا ته الحداثية لمرزوق العمري.مجلة إسلامية المعرفة .السنة السادسة:2011..ص:45
[8] – صدر عن المركز الثقافي العربي سنة 1998.
[9] — دراسة الدكتور عبد الرحمان بدوي وهي بعنوان: القرآن الكريم ضد منتقديه وقيه تعرض لأهم المستشرقين الذين تعرضوا للقرآن الكريم دراسة وبحثاونقدا..
[10] التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشورج :ص:4
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.