أدبالتنويري

همسات مع المشاعر والأحاسيس في صدى الصرخات

   صدى الصرخات.. ديوان شعر للشاعرة سعاد بيكة الشاعرة المغربية الرقيقة وذات المشاعر الحساسة والرهيفة، صدر في المغرب في عام 2024 من 94 صفحة من القطع المتوسط، ولوحة غلاف من تصميم اوبحامو الحسين، تصور امرأة رسمت باللون الأسود وكأنها ظل لامرأة بدون أن يظهر أي من ملامحها وتحني رأسها للخلف وتصرخ، وهي تقف في منطقة لونها أشبه بلون الصحراء والأفق مع السماء باللون الأزرق الداكن ولا تظهر في الأفق إلا بعض الألوان الحمراء وكأنها نيران مشتعلة، والغلاف الأخير تعريف بصاحبة الكتاب وصورتها، والاهداء كان لوالدتها ووالدها وابنها، وعرفت الكاتبة على كتابها بمقدمة جميلة قالت في عبارة منها: “إذا لم أستطع أن أدهش القارئ بما أبدع بشكل عام فليس هناك شعر ولا زجل”، والكاتبة عرفتها من خلال ما كنت اقرأ لها على صفحتها في صفحات التواصل الاجتماعي، وكان يلفت نظري مدى حساسيتها واعتزازها بنفسها ورقتها في كلماتها، فجمعنا القلم عبر الفضاء الافتراضي وتبادل الملاحظات ووجهات النظر، وأسعدتني بطلب تقديم كتابها “صدى الصرخات”، ورغم الظروف التي نمر بها في فلسطين المحتلة وتعرضي لحالات صحية متعبة مع تغير الجو وسفري المتكرر، إلا أني وافقت على ذلك وشعرت بفرح وأنا أقرأ ما باحت به روحها من نصوص نثيرة ممتعة وجميلة، وهذا ما يمكن أن نلاحظة في كافة نصوصها بدءًا من “برهة خاطفة” وصولا الى “خلخلة التمني”، فالكاتبة في شعرها النثري وما أسميه “نصوص نثيرة” حفلت بالفكرة والجمال.

    وفي هذا المقال سأمر على بعض نصوص الكتاب ومحاوره التي كتبت بها الكاتبة، فهناك فارق بين توطئة كتاب وبين قراءة نقدية من حيث الأسلوب ومساحة الكتابة لكل صفحات الكتاب من الغلاف للغلاف، وقبل ذلك أشير للعنوان فالصدى لغويا له معاني متعددة ولكن هنا يعيدنا العنوان للمعنى اللغوي الأقرب للعنوان وهو الصوت الذي يرتد اليك بمثل صوتك في الجبال، فهنا سنجد صرخات الشاعرة ترتد اليها وتسمعها هي وحدها، وهذا ما هو واضح في صورة الكتاب فالمرأة تقف في الفلاة وحدها وتصرخ ويرتد لها صدى الصرخات، فهل هناك من يسمع صرخاتها أو حتى صدى صرخاتها غيرها؟ هذا ما سنراه مع الشاعرة في ديوانها الشعري النثري الأول فلعلنا نسمع معها صدى الصرخات، حيث سنجد الشاعرة باحت بنصوصها في عدة محاور أساسية ومنها:

  الألم والحزن: وفي النص الأول في الكتاب “برهة خاطفة” سنجد كماً كبيراً من المشاعر الانسانية حيث أن هذه البرهة الخاطفة أتت ورحلت بسرعة لكنها تركت أثارها النفسية بقوة حيث تقول الكاتبة:”برهة خاطفة رحلت، وتركتني بكماء، صماء، أعاود تفاصيل الحكاية”، حيث نلاحظ مدى حساسية الشاعرة للألم ومشاعر الحزن بحيث أن اللحظة والبرهة الخاطفة التي قالت عنها في بداية النص: “برهة خاطفة، ذكرتني، أفاقت أوجاعي، بذكريات مؤلمة”، وهذا الألم والحزن يثير لدى القارئ تساؤلات عدة وأهمها: أليس في حياتها ذكريات سوى الحزن والألم ولا يوجد لحظات فرح تتذكرها فلا تتذكر سوى الألم؟ ويبقى هذا التذكر قائما حتى لو أن البرهة كانت خاطفة وسريعة ورحلت؟ وهذا الحزن ما تؤكده بقولها: “إنه الصبح، صبح بلا فجر، ويوم من يوميات، حزن معتاد”، ونرى الحزن يتجدد في نص “درب المستحيل” حين تبث ألمها وتقول: “فأحتار، حين يسكن الشوق، في درب المستحيل، ويكاد النبض يتوقف، وأنهار..”.

   التمرد والاصرار: بينما في نصها “ضجة العبث” نجد مشاعر الاصرار تتجلى في النص بقوة ويليها المشاعر الانسانية حيث تقول: “وأحلام تنجز في وطن، المرارة، بعزم وإصرار”، ورغم المعاناة “وأحلام وردية ضائعة” نجدها في نهاية النص تتألق بمشاعر انسانية راقية تدلل على روحها وفكرها فتقول: “واتركيني في وطني المختار، وطن، كل الجنسيات فيه تذكر”،   بينما في نص “يا بحر” تؤنسن البحر وتتحدث اليه وتقول: “أنا شبيهتك يا بحر، ومثلك حين تثور”، وفي نص “سيدتي” وهو على الأغلب على لسان ذكر تقول: “ناضلي سيدتي، كسري القيود، تجاوزي القمع، والخوف، والتجاهل، لا تترددي”، ورغبتها في التغيير في نصها “عالمي المختلف”.

مقالات ذات صلة

   المجتمع ومشكلاته: حيث نجدها تعالج بعض القضايا الاجتماعية وهذا ما نجده في نص “ما بعد الصمت” والذي أوردته على لسان ذكر يخاطب امرأة: “ما بعد الصمت، قلت لها أحبكِ، تجاهلتني، واكتفت بالصمت”، فهو هنا يمارس ذكوريته ولا يحترم صمتها وموقفها حين تجاهلت تصريحه بالحب، ولم يقدر ولم يحترم أنها ربما مرتبطة  بمشاعرها بغيره، فلم ترد عليه ولم تناقشه فاعتبر موقفها عجرفة فقرر أن يثأر لذكورته وليس لرجولته فهذا ليس بسلوك رجل فيقول: “فأقسمت، أن أقتحم دربها”، وفي نصها “سراب مبعثر” سنرى فيه حالة من رؤيتها الأشياء كسراب مبعثر يختلف عن السراب الذي يراه السائر في الصحراء فيظنه ماء من البعيد وحين يقترب منه يجده وهما سببه انعكاس الشمس، فهنا ترسم لنا الشاعرة صورة عدة ولكنها تراها سراباً مبعثراً وقد تكون جوانب منها حقيقية وليست وهما، فهذه الصور التي تراها وتشعر بها تجعلها تتساءل بنصها: “الفضاء الحزين” بمشاعر صادقة أمام ما تراه  فتقول: “لكن، الى أين المسير، إلى البحر الهائج، أم إلى الغدير”.

   وحين نتجول في النصوص نجد مشاعر مختلفة مثل رفض الواقع السلبي في نص “زمن العجز” حيث تقول بعد استعراض كل الصورة السلبية والمظلمة في المجتمع الذي يحيط بها: “أما أنا، فليس لي في دنيا الطغيان، كلمة ألقيها”، وفي نصها الجميل “رعشة قلب” تقول: “لكن الأرض تدور، وتدور، لذلك جعلت الدموع، مدادا، وريشتي رعشة قلبي، تكتب السطور”، وفي نص “غضب” تعري المجتمع بوصفها إياه: “زمن الصرخات، والعبودية، وقهر النفوس”، وتكمل تشريح المجتمع بنصها “ماذا عساني أكتب” بالقول: “أحلام في دروب القمع، تحتضر، ومن يوميات حزن، لا ينتهي، ماذا عساني أكتب”، بينما في نص “عبء مدمر” نجدها تتحدث عن الصراصير التي تملأ المجتمع في إشارة للفساد بينما تشير للورود التي تظهر فوق الكثبان الرملية في اشارة لقوى التغيير فتتساءل: “أتقتل الصراصير؟ أم تقطع أجنحتها؟”، وتواصل الحديث عن قضايا مجتمعية في نصوصها ومنها “الزمن الحزين” و”تخريب النفوس” و”أسدلوا الستائر” و”الخديعة”، لتختم عشقها في نص “خلخلة التمني” بقولها: “معا مجانين، على إيقاع العشق المعذب”.

   الحب والعشق والفراق: والقارئ سيلاحظ هذه المشاعر الانسانية الراقية في العديد من النصوص، فنجدها في نص “حلاوة المجد” تعود من جديد للحديث على لسان ذكر يعشق المرأة فتقول: “تدللي يا سيدة النساء، واشربي من نخب الهوى، ما يكفيك” ، وتتألق بمشاعر الحب والعشق بنص ممتع الصور وهو نص “موطن العشق” فتقول فيه بعد أن وصفت مشاعر حبها الكبير بصور مرسومة بالكلمات: “عشقت فيكَ، ما لم تعرفه النساء، أتلذذ بسحر جنونك، وأمتطي بساط العشق، وفي أعماقك أنام، ولا أستفيق”، فتخيلوا معي كم هو حب وعشق رائع وصفته بهذه الكلمات والصور وعلى مساحة النص وليس هذه الشطرات فقطـ، وهذا العشق يتكرر أيضا في نص “بلاد الجنة”، ويشتد الحب في نص “تتوقف كلماتي”، ونجد عمق مشاعرها تجاه أمها في نص “أمي” وهي تخاطبها من خلال نص حافل بمشاعر المحبة للأم بالقول في مقطع منه: “يا قطرة الندى، ونور، به أبصر أمي”.

   وتجدد سعاد بيكه الحديث عن العشق في نص “سلطان الهوى” فتقول: “فيا عاذلي، في العشق لا تسأل، وسجل حبي له، فيك للأزل”، بنما نراها في نص “حب عذري” تقول: “أعود من جديد، ليحملني الشوق والحب إليك، عبر الأنفاس كلها”، وفي نص “خليلي” يتجلى العشق بقولها: “ذاك الشرود، في حب فاتن مغري، مجنون، فأسكر أنا، بلذة العشق”، وفي نص “رعشة قلب” تقول: “ألا أنني عاشقة الدنيا، أهيم في بحر العشق، واللقاء”، ويستمر الحديث عن الحب والعشق في نصوص مختلفة منها: “ذكرني بإسمي” و”دمعتي” وبساط العشق” و”بَعدك”، بينما نص “الوطن المفقود” نجدها تنتقل للفراق فتقول: “كان حلما وألما لا ينسى، لقد كنت أحفر في أرض بور، لعلها تنبت شيئا”، وكذلك نرى الفراق في نصها “قدر محتم” بالقول: “سنفترق، من أجل غيرنا، ونحترق”.

   الوطن: والوطن لم يفارق روح الشاعرة سواء وطنها الذي تعيش فيه أو الوطن المحتل البعيد أو معاناة الشعوب، فتقول في نص “عبء ثقيل”: “هات لا تنسى أو أتناسى المشهد المثير، والمسيرات الحاشدة والتقصير، طوبى لشعب مناضل يخلق الأحداث، ويكمل المسير”، ونراها في نص “وطن العشق” تقول: “ما عهدت، أن للعشاق وطن، تجتمع فيه باقي، الأوطان”، وأيضا تعبر عن حب الوطن في نص “أرض الشهداء” حين تهمس: “وأداعب جبيني، بتربة الأرض الصامدة، فأغطيها، بأوراق الزعتر والزيتون، والبرتقال”، وفي نص “وطن الأحرار” كانت تحلم وتسعى إلى وطن: “لا تغرب فيه الشمس”، وتعلو بصوتها بمشاعر انسانية برفض التمييز العنصري ومعاداة أصحاب البشرة السوداء في نص “أفيون الشعوب” بالقول: “إنسان أنا، ولي حلم وقضية، أن تسقط معاداة السود”.

   في النهاية سنرى أن كل نص نمر عليه في صدى الصرخات نجد مشاعر مختلفة وأفكار متنوعة تدلل على مدى رحابة أفق الكاتبة وحجم مشاعرها، ومثال لذلك نصها “رعشة قلب” ونصها “وطن العشق” ونصوص متعددة أخرى ومنها “أحلام مقيدة”، وهذه المشاعر والأحاسيس تتكرر في المحاور التي أشرت اليها وفي كافة النصوص ومما لفت نظري لجوء الشاعرة سعاد بيكه لتقمص شخصية الذكر في العديد من النصوص في كتابها، ورغم أن الديوان كان بحاجة لمراجعة بعض الأخطاء الطباعية التي سقطت سهوا، إلا أني وجدت أنها تبحث في قضايا مختلفة تشير لانصهارها بمحيطها وتجارب حياتية، فنلاحظ جمالية الصور الشعرية والتعابير العاطفية وجمالية التعبير، ومعاناة الانسان والألم والحزن ومشكلات المجتمع وعشق الوطن والحب والتمرد بأسلوب سهل يلامس الروح، وهنا سنلاحظ قدرة الشاعرة على البوح بمشاعرها والتمرد والإصرار في روحها، إضافة للوطن ومشكلات المجتمع والحب والعشق والفراق والألم والحزن، فقلمها وروحها تفاعلت مع ما حولها من بيئة ومجتمع، فعكست هذه الهموم وتمردت عليها، بأسلوب شعري حافل بالأحاسيس والمشاعر والعمق، بحيث لم تخل نصوصها من الاستعارات والتشبيهات بعيدا عن التعقيد مع المحافظة على سلاسة اللغة، ونلاحظ الثنائية في نصوصها، فهناك الحب وهناك الفقد، وهناك الألم وهناك الأمل، وهناك الفرح مقابل الحزن، والتمرد ورفض الخنوع وهذا ما نراه كمثال في نص “الوطن المفقود” حيث ترتفع نغمة الأنا والاعتزاز بالذات، والدعوة للتمرد والثورة في نص “سيدتي”، ويرتفع مستوى الحلم والرغبة في التغيير في نص “مساحة العشق”، والشاعرة من خلال انصهارها بمجتمعها أضفت على الديوان روح الانتماء، حيث ظهر بوضوح ارتباطها بجذورها ووطنها والقضية الفلسطينية إضافة للروح الإنسانية والتمرد على الظلم ورغبتها في التجديد، فكان ديوانها “صدى الصرخات” عبارة عن رواية لتجربة الشاعرة الحياتية والإنسانية من خلال شعر النثيرة، ومن خلال ما طرحته من أفكار وتساؤلات وما اسبغته على الديوان من أحاسيس ومشاعر.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد