تدرس الانثروبولوجيا اللغوية طبيعة اللغات البشرية في سياق الثقافات التي طورتها، أي إنها تسعى إلى دراسة اللغة كمورد ثقافي والتحدث كممارسة ثقافية. كما تسعى إلى فهم الأسس الاجتماعية والثقافية التي أنتجت اللغة، بالإضافة إلى دراسة الأساليب اللغوية التي تؤدي إلى إعادة إنتاج الأشكال الثقافية وطبيعة العلاقات الاجتماعية. وللإحاطة بموضوع المقال سنناقش العناصر التالية:
أولاً- تعريف الانثروبولوجيا اللغوية: تدرس الانثروبولوجيا اللغوية العلاقات بين اللغة، والثقافة، والمجتمع. وينظر علماء الانثروبولوجيا اللغوية إلى اللغة باعتبارها شكلاً من أشكال الفعل الاجتماعي. بعبارة أخرى، نستكشف كيف تشكل اللغة إحدى الطرق التي يُنشئ بها الناس المعتقدات الثقافية والعلاقات والهويات ويحافظون عليها. وباعتبارها وسيلة وممارسة للتعبير، تشكل اللغة معظم جوانب التجربة الإنسانية من الضمائر التي نستخدمها إلى الخطاب السياسي الذي نسمعه.
نظراً لأن اللغة والثقافة تؤثران على بعضهما البعض، فإن علماء الانثروبولوجيا اللغوية يحللون الأشكال النحوية والممارسات التواصلية لفهم كيفية تشكيل اللغة للفكر. كما تؤثر الطرق التي يستخدم بها الناس اللغة ويتعلمونها في السياقات اليومية بشكل كبير على عمليتي الإبداع والإدراك.
وفي هذا السياق تطرح الانثروبولوجيا اللغوية تساؤل عن كيفية انعكاس استخدام اللغة وخلقها وتوظيفها في الحياة الاجتماعية من خلال بيئات اجتماعية متنوعة، حيث يعتنق أفراد المجتمع معتقدات وأفكاراً أو يدلون بتصريحات حول اللغة تعكس قيمهم ومعاييرهم ومواقفهم السياسية. وبالتالي فإن اللغة هي أداة انعكاسية للتعليق على الإيديولوجيات الاجتماعية والسياسية وتوجيهها. كما تساعد دراسة الأنماط والمعتقدات التواصلية حول اللغة في تحديد هياكل السلطة وعدم المساواة التي تعمل في المجتمع.
وتبحث الانثروبولوجيا اللغوية في كيفية تأثير العلامات اللغوية (العلامة اللغوية ليست صلة بين شيء واسم، بل بين مفهوم ونمط صوتي. نمط الصوت ليس في الواقع صوتاً، لأن الصوت شيء مادي. والنمط الصوتي هو الانطباع النفسي الذي يحدثه السامع للصوت، كما يعطيه له دليل حواسه) … وغيرها، على معتقداتنا وطرق التواصل وأنظمة التصنيف. وهذا التخصص، المشار إليه باسم علم العلامات، لا ينظر إلى اللغة باعتبارها منفصلة بشكل واضح عن الظواهر الثقافية الأخرى، بل باعتبارها تساهم في كيفية صنع الناس للمعنى وفهم الاختلافات.
تعتبر الانثروبولوجيا اللغوية هي أحد المجالات الأربعة الرئيسة لعلم الانثروبولوجيا، حيث يتم تدريب علماء الانثروبولوجيا اللغوية، لدراسة مواضيع واسعة النطاق تشمل الثقافة، العرق، والجنس، والسياسة، والاقتصاد، والمناخ والبيئة ووسائل الإعلام والصحة والقانون والصراع. كما تشترك الانثروبولوجيا اللغوية مع بعض نظريات وأساليب وموضوعات معينة في علم اللغة (التخصص الأوسع الذي يشمل جميع جوانب اللغة)، حيث يقوم بعض اللغويين بالتحقيق في استخدام اللغة في السياق، بما في ذلك كيفية اختلاف اللغة في المجتمع أو تغيرها على مدى فترات زمنية قصيرة نسبياً.
ومع ذلك، فإن الانثروبولوجيا اللغوية تشكل مجالاً متميزاً. ومن السمات المميزة لهذا المجال أن علماء الانثروبولوجيا اللغوية يستخدمون الأساليب الإثنوغرافية لدراسة كيفية استخدام الناس للغة في الحياة اليومية. وعلاوة على ذلك، يتبنى علماء الانثروبولوجيا اللغوية رؤية شاملة للغة باعتبارها تشكلها المؤسسات والشبكات والعلاقات الاجتماعية. وهذا يعني أنهم ينظرون إلى اللغة باعتبارها جزءاً من السياق الاجتماعي والتاريخي الأوسع الذي يحيط بها.
خلاصة القول إن الانثروبولوجيا اللغوية هي فرع من فروع الانثروبولوجيا العامة واللغويات، تهدف إلى توثيق ودراسة استخدام اللغة كأداة اجتماعية، وإدراكية، وتواصلية، وثقافية. أو هي دراسة اللغة في الثقافة والمجتمع، ويحلل هذا التخصص الممارسات اللغوية باعتبارها أفعالاً ذات أهمية ثقافية تشكل الحياة الاجتماعية. كما تركز على اللغة وأهميتها في فهم التاريخ البشري والثقافة والبيولوجيا. وتشترك الانثروبولوجيا اللغوية في العديد من الاهتمامات المتداخلة مع اللغويات العامة، ولكنها تتميز بالتركيز على العمل الميداني والارتباطات بفهم انثروبولوجي أوسع للبشر، كما تشمل التخصصات داخل الانثروبولوجيا اللغوية توثيق لغات الأقليات واللغات الأصلية، وعلاقة اللغة بالأبنية الاجتماعية (الجنس، والطبقة، والعرق) والعلاقة بين اللغويات التاريخية وعلم الآثار.
باختصار شديد، الانثروبولوجيا اللغوية هي فرع من فروع الانثروبولوجيا العامة تدرس دور اللغة في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات. وتستكشف كيف تشكل اللغة التواصل الاجتماعي، وكيف تلعب اللغة دوراً كبيراً في صياغة الهوية الاجتماعية وعضوية الجماعة وتأسيس المعتقدات والإيديولوجيات الثقافية.
ثانياً- زاوية اقتراب الانثروبولوجيا من اللغة: في حقيقة الأمر، تعمل اللغة على مستوى اللاوعي للتأثير على أفكارنا ومعتقداتنا وأفعالنا. للمشاركة بكفاءة في المجتمع، ولا يمكن للناس أن يكونوا واعين جداً باستخدام اللغة في الحياة اليومية. لكن تلك الجوانب من اللغة التي لا يدركها الناس على الإطلاق لها التأثير الأكبر على كيفية إدراك الناس للعالم. وبالتالي، يستعين علماء الانثروبولوجيا اللغوية بتقنيات منهجية مختلفة لتحليل الاتفاقيات والأنماط المضمنة في الكلام والكتابة ولغة الإشارة والإيماءات وحركة الجسم. إنهم يفكرون في كيفية تفاعل القواعد واستخدام اللغة ومعتقدات الناس وأفكارهم حول اللغة.
يستخدم علماء الانثروبولوجيا اللغوية عادةً الأساليب الإثنوغرافية للمشاركة في أنماط التواصل والتفاعلات الاجتماعية وملاحظتها. وتعتمد هذه الأساليب على التوثيق، من خلال كتابة ملاحظات ميدانية أو استخدام التسجيل الصوتي أو المرئي لتوثيق استخدام اللغة في الممارسة العملية. وقد يجري بعض علماء الانثروبولوجيا اللغوية مقابلات مع أشخاص لمعرفة المزيد عن كيفية تأثير ممارساتهم ومعتقداتهم حول اللغة على السياسة والمجتمع. كما يقوم علماء الانثروبولوجيا اللغوية الآخرون بتصميم التجارب أو استخدام الأساليب الإحصائية لتقييم كيفية انعكاس الأشكال النحوية أو أنظمة الكتابة وتأثيرها على الإدراك والفكر البشري.
تهتم الانثروبولوجيا اللغوية مثل الانثروبولوجيا الثقافية بشكل أساسي بالظواهر الراهنة والحالية، على الرغم من أن بعض علماء الانثروبولوجيا اللغوية يعتمدون أيضاً على الأساليب الأرشيفية (الوثائق التاريخية) للتحقيق في كيفية تغير الأشكال الاجتماعية اللغوية المعاصرة أو ظهورها تاريخياً. كما يجري البعض دراسات طولية للنظر في التنشئة الاجتماعية للغة بمرور الوقت. وتشير التنشئة الاجتماعية إلى كيفية استخدام المبتدئين للغة المنطوقة ولغة الإشارة والإشارات المنزلية (أنظمة الإيماءات ذات الهياكل الشبيهة باللغة) لاكتساب الكفاءة الثقافية والتواصلية. كما تدرس هذه الدراسات كيفية إعادة إنتاج الهويات واللغات على مدار حياة الأفراد الاجتماعية.
كما يدرس بعض علماء الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً العوالم الافتراضية والمنصات الرقمية لفهم كيفية تأثير الوسائط الجديدة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الطريقة التي يتواصل بها الناس ويستخدمون اللغة. قد يشمل ذلك النظر في كيفية استخدام الأشخاص لمنصات الوسائط الاجتماعية أو الهواتف الذكية أو منصات مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية.
ثالثاً- موضوعات الانثروبولوجيا اللغوية: يغطي علماء الانثروبولوجيا اللغوية مجموعة واسعة من الموضوعات، ولكن ما يوحد هذه الدراسات هو الاعتراف بأن الاتصال له وظائف وجوانب متعددة. فاللغة الشفهية والمكتوبة ولغات الإشارة تفعل أكثر من مجرد تسمية ووصف الأشياء أو الأفعال أو المفاهيم. ويهتم علماء الانثروبولوجيا اللغوية بشكل خاص بالوظائف غير المرجعية، أو الوظائف التي تكشف كيف تولد اللغة المعنى في السياق بما يتجاوز مجرد نقل المعلومات. وقد يدرسون أيضاً كيف يتم تنظيم اللغة ثقافياً في أجناس مثل: (الفولكلور، والأساطير، والفكاهة، والقيل والقال، والخطابة، والسرد، … وما إلى ذلك). ويدرس علماء الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً كيف يكون الفن اللفظي شعراً. وتُظهر تحليلات ممارسات سرد القصص والعروض الطقسية، المصحوبة أحياناً بالموسيقى، أن اللغة صيغة إبداعية.
كما يهتم العديد من علماء الانثروبولوجيا اللغوية بشدة بكيفية ارتباط اللغة بالهوية، حيث تعمل أشكال اللغة وممارساتها كعلامات على الجنس، والعرق، والدين، والعرق، والطبقة، والعمر. يدرس علماء الانثروبولوجيا اللغوية كيفية تجسيد الهويات من خلال اللغة وكيف يمكن للغة بدورها أن تظهر تمايز الهويات، مثل الأنثى والذكر. وتنظر هذه الدراسات إلى الهوية باعتبارها بناءً إبداعياً وموقعاً للتنافس، بدلاً من رؤيتها ثابتة أو جامدة.
وتركز دراسات أخرى على السياقات المتعددة اللغات لفهم كيفية تغير اللغة ومستخدميها عندما يتواصلون مع لغات أخرى، من خلال الاستعمار أو الهجرة أو أشكال أخرى من التبادلات العالمية. وغالباً ما تلعب مواقف الناس وهوياتهم دوراً مؤثراً في تحديد كيفية تحولهم من استخدام لغة إلى أخرى. تكشف أمثلة ” التبديل بين اللغات ” و ” الترجمة عبر اللغات ” وتطور العديد من اللغات الكريولية* والبيدجينية (اللغة الهجين pidgin language) في جميع أنحاء العالم بسبب الطرق المعقدة التي يدمج بها بعض الأفراد ويتنقلون بين أنظمة لغوية متعددة. وتشير الأبحاث حول التعدد اللغوي إلى أن معظم المجتمعات البشرية كانت وستظل دائماً متنوعة لغوياً. بمعنى آخر تتكون اللغات العامية عندما يتفاعل متحدثو لغة واحدة مع متحدثي لغة ثانية لأغراض معينة. وكما هي الحال مع خليط اللغات، وتسمى هذه اللغات لغات الاتصال، وفي الغالب، تطورت خلال الفترات الاستعمارية عندما أبحر التجار الأوروبيون إلى بلدان في إفريقيا، وكذلك إلى أمريكا الجنوبية، وإلى الجزر في أحد المحيطات الكبرى. كما قد تنشأ اللغات العامية في أي وقت يشعر فيه متحدثو لغتين بحاجة خاصة للتواصل. وتتميز هذه اللغات بمزيج من الكلمات من كل لغة (على سبيل المثال، الفرنسية والإيوي، وهي لغة رسمية في توغو) في نوع من القواعد النحوية ” المختصرة ” إلى حد ما. وكثيراً ما تنقرض اللغات العامية عندما يصبح الأفراد ثنائي اللغة أو إذا لم تعد هناك حاجة للتواصل بين متحدثي كل لغة طبيعية. بالمقابل تصبح العديد من اللغات العامية السائدة منتظمة تنتقل من جيل إلى آخر، وتتخذ قواعد صرفية ونحوية محددة جيداً. وعندما يحدث ذلك، يطلق عليها لغات الكريول.
لقد كانت الدراسات اللغوية المتعلقة باللغات العامية والكريولية، مصدراً للمعلومات القيمة للمؤرخين والجغرافيين وكذلك لعلماء الانثروبولوجيا وعلماء الاجتماع. وبالإضافة إلى فهم التاريخ خاصةً في إبان موجات الاستعمار الأوروبي والهجرات القسرية في العصر الحديث.
ويبحث بعض علماء الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً في كيفية الربط بين اللغة والقومية. وتؤيد بعض الدول القومية الاعتقاد بأن الوحدة الوطنية تعتمد على استخدام لغة موحدة، في حين تتبنى دول أخرى سياسات متعددة اللغات. وفي هذا السياق يعمل العديد من علماء الانثروبولوجيا اللغوية مع أفراد مجتمعات اللغات الأقلية أو البدائية لوصف وتحليل تجاربهم في الانتماء. ويقارن البعض بين كيفية تعلم الأطفال واستخدامهم للغات التراثية واللغات السائدة في المدارس أو في المنزل أو في أماكن أخرى. ويوثق آخرون كيف تتغير اللغات بسبب التحولات بين الأجيال في تعلم اللغة واستخدامها.
كما يعمل بعض علماء الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً جنباً إلى جنب مع قادة المجتمع ويتعاونون مع المسؤولين الحكوميين وغيرهم من الباحثين لاستعادة اللغات المهددة بالانقراض. للمساعدة في توثيق اللغة، وغالباً ما يعمل علماء الانثروبولوجيا اللغوية بشكل تعاوني مع خبراء محليين لتسجيل القصص والتقاليد الشفوية المهمة لمجتمعات محددة من المتحدثين.
رابعاً- الفرق بين علم اللغويات والانثروبولوجيا اللغوية: يميل علماء اللغة إلى اعتبار اللغة نظاماً رسمياً له قواعد محددة مسبقاً وغير قابلة للتغيير. ومن ناحية أخرى، يدرس علماء الانثروبولوجيا اللغوية اللغة عموماً باعتبارها جزءاً من الحياة الاجتماعية.
ولكن ماذا يعني هذا في الممارسة العملية؟ فقد يستخلص علماء اللغة أمثلة لكلمات وعبارات محددة وما شابه ذلك من المتحدثين لتكوين بياناتهم، بالمقابل يتبنى علماء الانثروبولوجيا اللغوية نهجاً مختلفاً، فهم يسجلون الكلام والكتابة والإيماءات ولغة الإشارة في سياقات يومية أو بيئات طبيعية. تتداخل الانثروبولوجيا اللغوية بشكل وثيق مع مجالين فرعيين لغويين: اللغويات التطبيقية وعلم الاجتماع اللغوي (النوعي). يدرس هذان المجالان الفرعيان المعنى الاجتماعي لاستخدام اللغة في المجتمع ويشتركان في الاهتمام بالتفاوت الاجتماعي والممارسات المؤسسية. ومثل علماء الانثروبولوجيا اللغوية، يتميز اللغويون التطبيقيون والنوعيون بنظرتهم إلى الهويات البشرية ليس باعتبارها ثابتة بل باعتبارها ” مُنجزة ” من خلال الممارسات اللغوية ومتحولة من خلالها. ويتناقض هذا الرأي مع تركيز علم الاجتماع اللغوي الكمي على كيفية ارتباط الأشكال اللغوية بالمتغيرات الثابتة، مثل: العرق أو الجنس أو الطبقة.
كما تتداخل الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً مع المجالات الفرعية لعلم الآثار اللغوية وعلم اللغويات التاريخي، والتي تبحث في تغير اللغة بمرور الوقت. في حين أن المجالين الأخيرين مهتمان بإعادة بناء العائلات اللغوية، فإن الانثروبولوجيا اللغوية تهتم في الغالب بتحديد كيفية تغيير المعتقدات حول اللغة للأبنية والممارسات اللغوية. ويقتصر علماء الانثروبولوجيا اللغوية عادةً على الحاضر أو الماضي القريب بسبب القيود المفروضة على من يمكنه جمع هذه البيانات. ومع ذلك، يفحص بعض الباحثين الأرشيفات والنصوص الأدبية في فترات تاريخية معينة، مثل: أوقات التوسع الاستعماري، لتقييم التأثير الطويل الأمد للمعتقدات حول اللغة.
خامساً- من هو عالم الانثروبولوجيا اللغوية؟ عادةً ما يحصل علماء الانثروبولوجيا اللغوية المحترفون على درجة الدكتوراه في الانثروبولوجيا. ويقضي الطلاب من ستة إلى ثمانية أعوام في المتوسط في برنامج الدكتوراه. وخلال السنوات الثلاث إلى الأربع الأولى، يأخذون مقررات في النظرية والأساليب والموضوعات في الانثروبولوجيا اللغوية والمجالات ذات الصلة. وقد تشمل هذه المقررات: (علم الأصوات وعلم الصرف والنحو وعلم الاجتماع اللغوي وعلم اللغة التاريخي).
يكتسب علماء الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً معرفة متعمقة بتاريخ ومجتمع منطقة جغرافية معينة، حيث يخططون لإجراء بحث متعمق. قد يأخذون دورات حول مواضيع ذات صلة بالانثروبولوجيا الثقافية، مثل القانون والدراسات البيئية والانثروبولوجيا الطبية. كما يدرس علماء الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً لغة واحدة أو أكثر لاستخدامها في أبحاثهم الميدانية. في بعض الأحيان يعملون مع مدرس إذا لم تكن الدورات اللغوية متاحة في مؤسستهم التعليمية. وبعد الانتهاء من دراستهم واجتياز سلسلة من الامتحانات لاختبار مدى فهمهم واستعدادهم، يقوم الطلاب عادةً بإجراء أبحاث إثنوغرافية ولغوية في هذا المجال لمدة عام أو عامين. ثم يقومون بنسخ التفاعلات وترميز بياناتهم وكتابة نتائجهم لإعداد أطروحتهم، وبعد الدفاع عنها، يحصل الطلاب على درجة الدكتوراه في الانثروبولوجيا اللغوية ويمكنهم التقدم لوظائف أكاديمية وغير أكاديمية.
سادساً- الوظائف التي يشغلها علماء الانثروبولوجيا اللغوية: يشغل علماء الانثروبولوجيا اللغوية وظائف أكاديمية وغير أكاديمية. تشمل الوظائف الأكاديمية المناصب في الكليات المجتمعية وكليات الفنون الحرة والجامعات البحثية. يمكن أن تكون هذه المناصب دائمة، مما يؤدي إلى توظيف دائم، أو مؤقت، وأحياناً مع خيارات للتجديد. قد يقوم الأساتذة بتدريس دورات تمهيدية ومتقدمة في الانثروبولوجيا اللغوية والمجالات ذات الصلة، مثل: الانثروبولوجيا الثقافية، واللغويات. بالإضافة إلى التدريس، يقدم الأساتذة خدمات لمجتمعهم الأكاديمي ويحافظون على أجندة بحثية نشطة من خلال إجراء البحوث العلمية المتقدمة، كما يقومون في نشر المقالات والكتب والمشاركة في المؤتمرات العلمية طوال حياتهم المهنية. كما يسعى علماء الانثروبولوجيا اللغوية الآخرون إلى الحصول على وظائف في المؤسسات الصناعية أو الحكومية. وغالباً ما يكون لديهم دراسات مجالية ومهارات لغوية تجعلهم مرشحين جذابين لهذه القطاعات. وقد يكون لدى علماء الانثروبولوجيا اللغوية وظائف في البحث في ممارسات وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، أو وضع السياسات الخاصة بتعليم اللغة الثنائية اللغة، أو حتى اختراع لغات جديدة، مثل لغة: الكلينجون من ستار تريك Klingons in the Star Trek universe التي تعتبر لغة مصطنعة، وليست لغة تطورت بشكل طبيعي.
سابعاً- أهمية الانثروبولوجيا اللغوية: تنبع أهمية الانثروبولوجيا اللغوية باعتبارها التخصص الأكاديمي الوحيد الذي سعى إلى التحقيق من كيفية استخدام اللغة بطرق ذات معنى اجتماعي وثقافي، وهي تولي اهتماماً بما يحدث من تفاعلات اجتماعية، وكيف، وأين، ومتى، ومع مَنْ، وهذا يقدم رؤية شاملة ودقيقة للتواصل في المجال. هذا النهج، مثل المجالات الأخرى في الانثروبولوجيا، يحاول أن يلقي الضوء على الطرق المتنوعة والمعقدة التي يعيش بها البشر في كل مكان، لمعرفة كيف يكافحون، ويعبّرون عن أنفسهم. كما توضح الانثروبولوجيا اللغوية كيف تقوم الطرق المختلفة للتحدث والكتابة والإشارة في بناء الهويات الفردية والمجتمعات، كما تعمل على تشكيل المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. ومن الممكن أن تُيسّر الممارسات اللغوية عملية التغيير بين الأجيال، أو تساهم في إيجاد أشكال ثقافية مستقرة نسبياً. ومن خلال تحليل الأفكار والمعتقدات حول اللغة التي تشكل أساس أنظمة الهيمنة، تستطيع الانثروبولوجيا اللغوية أيضاً أن تقدم رؤية لتحديد أشكال التفاوت الراسخة في البناء الاجتماعي في عالم يتغير باستمرار من خلال الحركات الاجتماعية، والهجرات، والتكنولوجيات الجديدة، والأزمات البيئية والسياسية، وغير ذلك من الاضطرابات حيث يتغير دور اللغة أيضاً.
كما تؤدي أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته المرتبطة بالتغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية إلى تعطيل المفاهيم المسلم بها في عملية التواصل الإنساني، وإدخال أساليب جديدة للتحدث والكتابة والإشارة، والتي قد تستبعد بعض الناس من المحادثة أو تقدم طرقاً جديدة للانتماء. وأخيراً تقدم الانثروبولوجيا اللغوية عدسة لا تقدر بثمن على الطرق العديدة والديناميكية التي يستخدم بها الناس اللغة لسكن عوالمهم الاجتماعية وخلقها وتحويلها.
___________
– المراجع المعتمدة:
– Sonia N. Das: What Is Linguistic Anthropology?, magazine Sapiens Journal of Anthropology, 9 Nov 2022.
https://www.sapiens.org/language/what-is-linguistic-anthropology
– Indiana University Bloomington: Department of Anthropology (What is linguistic anthropology?), Date of entry to the site (2024.08.25).
https://anthropology.indiana.edu/about/four-fields-of-study/linguistic-anthrolopology.html
– University of Florida: Linguistic Anthropology, Liberal Arts & sciences, Date of entry to the site (2024.08.25).
– Linguistic Anthropology, Date of entry to the site (2024.08.24).
– Richard Nordquist: What Is Linguistic Anthropology?, Thought Co, May 30, 2019. https://www.thoughtco.com/what-is-linguistic-anthropology-1691240
– Linguistic Anthropology, Date of entry to the site (2024.08.25). https://www.sciencedirect.com/topics/social-sciences/linguistic-anthropology
* اللغات الكريولية هي لغات عامية تطورت في المستوطنات الأوروبية الاستعمارية في القرنين السابع عشر والثامن عشر نتيجة للتفاعل بين المجموعات التي تتحدث لغات غير مفهومة بشكل مشترك. وغالباً ما نشأت اللغات الكريولية في المستعمرات القريبة من سواحل المحيط الأطلسي أو المحيط الهندي.
____________-
*د. حسام الدين فياض/الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.