*بقلم: جان لومبار/ ترجمة: عبد الوهاب البراهمي
الليتي Léthèالنسيان، بيوس bios الحياة وكرونوس chronosالزمن: جدلية الحفظ والفقد.
نحن نعلم أيضا بأنّ الزمن المستعاد le temps retrouvé، حتى نستخدم معجمية بروست، لا يمكن تحديدا أن يُستعاد إلاّ إذا فقدناه. تثبت تجربة الذاكرة اللارادية (تجربة نكهة المادلين الشهيرة مثلا) استمرارية الهوية الفردية عبر الزمن، لكنها تثبت أن إيجادها لا قيمة له إلاّ بعد النسيان. إنها تبيّن كيف أن عمق النسيان هو الأصل الجيولوجي للذاكرة: هو ما يذكّرنا بشكل أفضل بالماضي، هو بالضبط ما نسيناه، يقول بروست.
إنّ هذا الشكل من التذكّر موجود في كل موضع من “البحث عن الزمن الضائع” ونحن نفكّر في صوناتا فانتوي sonate de Vinteuil الشهيرة،هذه الموسيقى التي يبدو انه قد نُسيت دون أن تكون قد استُمع إليها بما أنّ شارل سيوان قد تعرّف عليها لحظة التقى بها: مثال جيد عن الحميميّة العفوية والمُرْبِكة مع شيء من العالم يبدو انه آت من عالم آخر. يمكننا ملاحظة هذه الظاهرة بالقيام بتجربة إعادة قراءة كتاب ما سبق أن قرأناه ثمّ نسيناه. فسنكتشف إذن أن ” إعادة القراءة” هو أن نحيا من جديد دون توقّع، وهي تحصيل الانطباع بما سبقت رؤيته دون التوقّف عن رؤيته قادما”، وانطلاقا من هذه التجربة الخاصّة للغياب، نشعر في الآن نفسه ” بلطف العودة ولذّة الانتظار” ( 44). كان لدى أفلاطون بعدُ تحليلا أوليا للنسيان الأصليّ مع أسطورة ” آير البافيلي التي ينتهي بها الكتاب العاشر للجمهورية. مات آير على ساحة المعركة، وقد وضع على حطبٍ كي يحرق، فيقدر على رؤية ما سيحدث للأرواح بعد الحياة وقبلها. وفي إجراء معقّد يفضي إلى التناسخ، تتوقّع مرحلة تختارها كل نفس بدورها، من بين مصائر مقترحة، حياتها الجديدة. بقدر ما تسلك الطريق نحو سَهْل الليتي Léthè النسيان) للشرب من ماء النهر(45).ويجعلها هذا الماء تنسى ذكرى الحياة الماضية، قبل أن تُنقل نحو مكان ولادتها الموالية، أي في الأجساد حيث تُنْسَخ. لقد اختارت النفس بحرية مصيرها الجديد قبل نسيان حياتها الماضية، ويقول النص بأنّ نَفْسَâme اوليس (46) قد اختارت اختيار صائبا، مستلهمٍ من التجربة الثرية المكتسبة من مغامرات الأوديسا. غير أن النسيان وحده يسمح بإيجاد مكان للجديد والفعل من جديد، وفي هذا المعنى، فإن شرب ماء نهر أميليس، الليتي Léthè، وبتعبير آخر القدرة على النسيان، هي الشرط الحقيقيّ للحريّة: أن أكون حرّا، هو ألا نخضع لما سبق. وفي ذات الوقت، تظلّ آثار حياة قديمة ربّما، تظهر من جديد بوصفها علامات إلغازية في الوجود الجديد. وبالفعل فإنّ البدء أو البدء من جديد “يمثّل تجربة لا تقبل طعن ” كما يقول بول ريكور: فمن دونها لن نفهم ما يعنيه الاستمرار والدوام والبقاء والانتهاء”. (47) كل عود على بدء محكوم بماض منسيّ. كل بداية جديدة مشروطة بماض منسيّ، للماضي الذي، بعبارة سارتر، “ينتظر التصديق”(48)، النسيان بوصفه فعل ماض. وفي هذا المعنى، يبني النسيان الماضي ويسمح، من وراء الماضي وحده، باحتلال المسافة الزمنية وبالتالي هيكلة كليّة الزمن. يعرف المؤرخون بالخصوص، بأنّ الذاكرة، سواء أكانت “جماعية أو فردية هي أيضا نسق تنظيم للنسيان. لكن، كان برجسون في شأن بناء الماضي، أوّل من تساءل في حال تكوّن الذكرى، عن اللحظة التي يختفي فيها الإدراك ويترك المكان للذكرى. لقد طرح هذا السؤال غير المألوفوالجوهري سنة 1908 في تذكر الحاضر والاعتراف الكاذب (49)، حيث بيّن بأنّ نسيان الإدراك ضروري كي تظهر الذكرى.” إن تشكلّ الذكرى ليس مابعديا بالنسبة إلى ذكرى الإدراك، يقول برجسون، إنه متزامن معها”.( 50)، لكن مع نسيان هذه الذكرى، التي هي بالضرورة بعدية، فإنّ الزمن هو الذي يمرّ”.
وفي هذا المعنى، فإنّ للّليتي Léthè رابط جدّ قوّي مع الكرونوس Chronos والبيوس bios، مثلما يبّن ذلك المشهد ذي المحتوى الميتافيزيقي الرفيع والذي حضره آر البامفيلي Er le Pamphylien، الذي اختاره أفلاطون لملاحظة كيفية اشتغال العالم من خلال الكواليس. يجري هذا المشهد في آخر محاورة الجمهورية أيضا وفق منطق هو منطق النسيان الذي يبني الزمن: هو منطق الانتقال المتبادل على نحو ما بين الحيوات viesالماضية والوجود المستقبلي، التي اختارتها الأنفس التي وقعت محاسبتها والمصنفة، مع تدخّل توسّطي للنسيان في وظيفته التطهيريّة، والإبداعية والتجديدية. وبفضل الليتي(النسيان) يحتل البيوس (الحياة) مكانه ضمن الكرونوس (الزمن). لا يستخدم الإغريق مفردة موحدة للتعبير عن الحياة. لقد انشئوا تمييزا سنجد صعوبة في تجاوزه الآن، بين كلمتين: زو وي zôê، مجرد أن نحيا وهو المشترك بين جميع الأحياء والحيوانات والبشر بل والآلهة، والكلمة التي نجدها مختصرة ومخصصة في زوولوجيا zoologie وبين كلمة بيوس طريقة الحياة، نجده في البيوغرافيا، السيرة الذاتية biographie (51). لقد ابتكر الإغريق القديم إذن ووضع الوجود من وراء الحياة، هذا الوجود الذي نرويه في السير الذاتية. ليست السيرة الذاتية ممكنة مع ذلك، إلاّ انطلاقا من خط تقاسم بين الذاكرة والنسيان، ونحن نعرف فعلا أنه يجب أن يقرأ ما بَيْنَ السيرة الذاتية بعمق بقدر ما يقرأ سطحيا. بينما الكر ونوس (الزمن) فهو ما يحدث في مقابل اللحظة، kairos ، الحد الذي تعذّر الإمساك به، والأبدية aiôn، الزمن الذي لا يحدث. فليس من الغريب إذن بأن يكون انصراف الاهتمام إلى الذكرى والنسيان في أعلى مستواه لدى فلاسفة الزمن. فقد كتبالقديس أغسطينوس الذي نعرف مقامه الرفيع مفكرّا في الزمنية (52)، في الكتاب العاشر من ” الاعترافات “ترنيمة نابضة بالحياة للذاكرة، مجاز ” قصر الذاكرة الواسع” مع “كنوزها التي لا تحصى”، مجازا معروفا جدا. وعلينا قراءة الفصول 8 و13 من هذا الكتاب العاشر، عن وطن الذاكرة، ذاكرة العالم واستمرارية الذات وعالم المعارف(53). فنحن نجد فيها ذكر الكنوز العظيمة للذاكرة السعيدة. لكن ها انه منذ الفصل 14، توضع هذه الذاكرة موضع السؤال، ذلك أن اغسطينوس قد قابل النسيان باندهاش ثم بأَسَى:” كيف يكون النسيان حاضرا بينما يمنعني حضوره من التذكّر؟”. وبعبارة أخرى، كيف يمكن أن يكون لما هو غياب مثل هذا الحضور؟ كيف يمكن لسلبية أن تكون ذات ضرر كبير؟ ” عل أيّ حال، إلهي، أنا أعاني من هذا الموضوع ومن ذاتي ؟” (54)، كما يقول أغسطينوس في نهاية هذا التحليل الدرامي. ويقدّر أغسطينوس أنه من الفضيحة أن يجتاح ذكرياتنا وفي ذات الوقت يساهم في الإيجاد والتقدير، وان يكون أيضا مدمّرا. ويقول بأنّ هذا المفترس، ويقصد النسيان، الذي يعمّق وضعه المأساوي باعتباره يستخدم على نحو ما الذاكرة بما هي شريك بجعلها تشهد بالموضوع المنسيّ وبالتالي بواقعها الخاص. ويعود أغسطينوس إلى ذلك عديد المرّات قائلا:” مهما كان غير قابل للتفسير، فإنّني أتذكر بالذات النسيان، أنا على يقين، النسيان الذي يدفن ذكرياتنا”، وفي موضع آخر يقول: “لا يمكننا البحث عن ذكرى ضائعة إذا كان النسيان مطلقا”(55). لقد أصبحت هذه الصفحات ذاتها، حيث الإعجاب بالذاكرة ملغوم بالتهديد المخيف للنسيان، خالدة.
إلا أنّ النسيان لا يهدّد الذاكرة فحسب، بل الوجود أيضا. ثمّ إنّ الخشية التي عبّر عنها اغسطينوس هي في قلب كلّ لاهوت الغرب. فالعهد القديم يقدّم علاقة الإله بشعبه المختار بوصفها ميثاقا على عدم النسيان: الله لا ينسى شعب إسرائيل إذا لم تنس إسرائيل الله. لأجل ذلك، تقرّ الكتابة صراعا لا ينتهي مع خطر النسيان (56). وبدورها ستقدّم المسيحية نفسها بعد اليهودية بوصفها دين الذاكرة:” افعل هذا تخليدا لذكراي” هي لعنة للنسيان من حيث هو الوجه المظلم للذاكرة. وقد أقيمت، حفاظا على استمرارية إسهام الإغريق المتعدد الآلهة مع ذلك، محاور كبرى لجدلية الحفظ والتلف.
إنّ الحفظ عبارة قديمة (المكان الآمن كلمة من القرون الوسطى) لكن لها راهنية ومستقبل في مجال الإعلامية. الحفظ هو تأمين، وبالتالي احتياط جذريّ بالنسبة إلى النسيان. وبالفعل، فإنّ تراكم المعطيات في النظام الحديث المفرط يطرح مشاكل خاصّة مقلوبة تماما لأولئك الذين هم من زمن تحمل فيه الرغبة على شمولية المعرفة، ويكون فيه الهدف هو الجمع وحفظ المعطيات، الزمن المجيد لورق البردي وفيما بعد بالمكتبات. يتعلق الأمر اليوم بالحماية من النموّ غير المعقول للمخزون من كلّ نوع. لقد أبرز هنريش بول مؤلف “صورة لمجموعة مع سيدة”، هذه الظاهرة لتشبّع مجتمعات المعرفة في قصّة تسمّى ” الرامي” (57) حيث يتحدّث عن ولادة مهنة جديدة. رجل متحفّظ، يلبس بلوزة رمادية، ويشتغل يوما بعد يوم على تحطيم بريد غير ضروري لشركة تأمين كبيرة لعطر الكولونيا. فهو يرمز بداهة إلى وظيفة الإتلاف التي تَنْتهي الذاكرة في حالتها قصوى دائما إلى استدعاءها، نقيضا تماما لخطر لانهائي للفقد. نلتقي في هذا المحور بعدد كبير من الأعمال الأدبية المعروفة والشعبية أحيانا، لأن الحفظ والفَقْد يؤطران بالتأكيد أكثر من أيّ وقت مضى وجود الإنسان المعاصر.
تطابق الذاكرة القصوى أوّلا على وجه العموم لهاجس حقيقيّي بالماضي. إنّ إعادة قراءة مثيرة للمؤلف المشهور “حكايات مونت كريستو” للإسكندر ديما، كانت انطلاقا من هذه الفرضية. (58) نعرف أن إيدمون دونتاس، وقد أصبح غنيا وقويّا، بدأ بشكل منهجي، وخلف هوية مونت – كريستو، بالانتقام من أولئك الذي اتهموه ظلما وسجنوه. فهو لم يغفر لأحد، بينما كان بإمكان “حظه الوقح وثروته غير المتوقعه، آن يجعلاه أكثر تسامحا. لكنه كان مهووسا بالماضي “الذي ” بالبحث في الذاكرة لا يجد سوى النسيان”. إذ لا أحد سيتعرّف عليه باستثناء مارسيديس. ومن الحقيقيّ بأنه مثل إيليس في عودته إلى إيثاكيا، لم يرد أن يقع التعرف عليه، مفضلا القيام “بقطيعة زمنية” في حياة أولئك الذين يريد الانتقام منهم. نرى جيّدا هنا، بأنّ فكرة الانتقام ترتكز على العجز عن النسيان أكثر من الانشغال بتحقيق العدالة. فدانتيس لا يريد لا إرساء توازن مختلّ ولا العودة إلى الوضع الراهن. لم يتوّصل بكل بساطة إلى تجنّب الإساءة والضرر الذي لحقه- وانّ الخراب قد وقع إصلاحه كفاية بعدُ. إنّ هاجسه هو كشف قناع رفاقه القدامى، وإظهار حقيقتهم بالتأكيد على الفارق بين ما صاروا عليه وما كانوا عليه من قبل. يستخدم في هذه الاستراتيجيا التي يصرّ عليها، عدّة أقنعة ( مونت كريستو، الب بيسوني واللورد ويلمور). وما هو ملفت الانتباه، هو أنّه يذهب إلى لقاء ماضيه لكنه لا يعثر عليه أبدا. فكلّ شيء يمّحي بقدر ما يقترب، أصدقاءه من قبل، ذكرياته وشغفه بمارسيديس وحتى، في النهاية، قوة رغبته في الانتقام. فهذا الماضي الذي لم يستطع نسيانه لم يترك مكانه فحسب لحياة أخرى ممكنة أو شغف جديد، بل يفقد شيئا فشيئا، حتى بالنسبة إلى نفسه، كلّ معنى. كان دانتيس مهووسا بالزمن و ليس لهذا الهوس دون نسيان ممكن، من معنى أكثر من نسيان دون هوس. ” ماتت مارسيديس ولا أعرف إنسانا بهذا الاسم”، يقول مونت دريستو لحبّ شبابه. إنه لا يتخيّل حتى الإيدمون الذي كانه في حياة أخرى. تشعر مارسيديس بأنّ تقبيل يدها الذي كان يقوم به هو بلا لهفة، مثل التي يكون ليد رخامية لتمثال قديسة”، كما ورد في النص. رحل إيدمون ولكن وحيدا، إذ في الواقع لا يستطيع الذهاب إلى أيّ مكان: وفي الجملة انتصر الزمان على المكان. يصبح غياب النسيان في هذا الاحتفاظ المتوتّر والدغمائي بالماضي، حدّا قدَرَيٍا.
نجد في الطرف الآخر حدّا مخالفا، كان موضوع أعمال أدبية كبرى لإعادة بناء الزمن. نذكر بدرجة أولى بروست. وعلى خلاف مونت كريستو، الذي يبحث عن الذاكرة لكنه لا يعثر إلاّ على النسيان، فإنّ الراوي في ” البحث عن الزمن المفقود” يبحث عن النسيان ويعثر على الذاكرة. (59). ” يقول يروست في ” بالقرب من سوان” :” لا يتكوّن الواقع إلاّ في الذاكرة”، مضيفا هذه الصياغة المدهشة: ” إنّ الأزهار التي تقدّم إليّ اليوم لأول مرّة ليست أزهارا حقيقيّة”.(60) يتعلق الأمر هنا بالذاكرة اللاإرادية، الوحيدة التي لها قيمة شعرية حسب بروست، وليست الذاكرة الإرادية، العقلية – الفكرية إن أمكن أن نقول – تلك التي لا تتوصّل رغم جهودنا، إلى ردّ الماضي حقّا. تنمو الإرادة الحقيقيّة، التي هي إرادة الحواسّ، بطريقة تحتية، عبر النسيان. النسيان طويلا وبعمق شديد قدر الإمكان، الوقوع في هاوية النسيان، هو الوسيلة الوحيدة للشفاء من خوف الزمن و قلق الموت- نحن نعرف المكانة التي يحتلها القلق من الشيخوخة ومن الاختفاء في البحث عن الزمن المفقود، العنوان الذي ألفناه كثيرا والذي لا نفكّر حتى في أنه يعالج الفقدان، هو النقيض الأمثل للحفظ.
يمكن للنسيان المنتظم أن يكون بالمناسبة بابا للخروج، ووسيلة مضمونة في أن نكون على نحو ما دون ماض. ففجوة الذاكرة trou de mémoire مثلا، يمكن أن تكون، من وجهة نظر علم النفس التحليلي، حذف سحريّ لكلّ ما سبقها. هذا ما حدث لكازانوفا، المُغوي الشهير، بينما كان في الخامسة عشرة من عمره. يحدث المشهد في 19 مارس 1741. كان على كازانوفا وقد دخل بعدُ في الحياة الدينية، أن يلقي خطبة، أول خطبة دون شكّ عن القديس جوزيف الزوج العفيف للعذراء. لم يكن على ما يرام بعد غداء أفرط فيه قليلا في شرب الخمر، حينما بدأ كازانوفا الشاب في إلقاء الخطبة، التي حفظها عن ظهر قلب، وسرعان ما التبس عليه الأمر ولم يستطع المتابعة. شعر بضيق وسرعان ما وجد نفسه على حافة الإغماء وأحس “بفجوة في ذاكرته” زادت الطين بلّة. (61). وكان لابد من إخراجه. استخلص كازانوفا من هذا الذي حدث العبرة بالتخلّي عن البابوية. إنّ هذا النسيان المطلق الذي قرّره سيترك المكان كلّه، وفق ميكانيزم أثرناه من قبل، لحياة جديدة: الطريق مفتوحة لقدرته على الإغواء. لقد ولد كازانوفا. لا يجب أن نرى هنا حلقة معزولة: كلّ حياة كازانوفا هي التي ستكون استراتيجيا متواصلة من الفقد، وتعاقب لنسيان مقيّد. لقد وقع سريعا في حبّ حفيدة الراهب توسيللو، ذاك الذي جعل كنيسته مكانا لأول خطبة ولفجوة الذاكرة الحاسمة. وَعَدَتْ أنجيلا الشابة بالإخلاص في حبها لكازانوفا لكنها دافعت عن فضيلتها ” مثل تنّين” كما يقول. وسيكون لكازانوفا عديد المغامرات العاطفية غايتها نسيان هذا الحب الأوّل المتوتّر والمحفوف بالمزالق. نسيان أنجيلا، ضمنيا إلى الأبد، سيصبح هاجسا. وستهتم فتاتان نانات ومارتون بذلك. وقد عنون كازانوفا الفصل 5 من الكتاب الأول للمذكّرات:”أنسى أنجيلا”. والباقي في مجمله سيكون سلسلة متواصلة من النسيان لترك المكان بوضوح لغوايات جديدة، وصولا إلى التي لا تنسى هنريات Henriette.
هكذا كانت حكايات الحب لكازانوفا حكايات نسيان، بخلاف حكايات دون جوان، هاوي جمع المغامرات العاطفية الذي يرتكز إذن على الذاكرة. يتدخّل “نسي” هنا كفعل حدث دون مفعول به، مستعمل إطلاقا، ومعبّرا عن اكتمال الفقد perte. يوجد هذا المعنى أيضا حينما يحمل المفعول اسمه لكن على أصل، مثلما في عنوان كتاب إيدومون دي شارل- رو” نسيان بالارموPalerme، الذي يعبّر طبعا عن إصرار الهويّة. نعثر على هذا المعنى الجذريّ لفعل نسيَ في الفعل verbe الذي يشير إلى الفعل l’action بالضبط نقيضا لشعار كيبيك السامي أتذكّر Je me souviens، حيث يقول غياب المفعول بقدر من القوّة ما لا يقول.” (يتبع)
___________
– هوامش:
44- مارك أوغي المصدر السابق ص 65.
45- عن فعل ” النسيان” لنهر الليتي، انظر فرجيل “الانيادة” الكتاب 4.
46- الجمهورية أفلاطون الكتاب العاشر 619ب621
47- بول ريكور، الذاكرة والزمن والنسيان” باريس سوي2000 ص40.
48-سارتر ” الوجود والعدم” ص 559.” إنّ ماضيّ قضية ملموسة ومحدّدة، ينتظر بما هي كذلك تصويبا”.
49- نص أعاد برجسون النظر فيه ( 1919) وادمجه في كتاب الطاقة الروحية
50- برجسون، الأعمال الكاملة باريس بيف 1959 نسخة المائوية ص 913.
51- انظر الأسطر الأولى من جيورجيو أغامبان/ الإنسان الكاهن الجزء 1 ” السلطة السيادية والحياة لعارية” باريس سوي 1997ص9.
52- الزمن موضوع الكتاب 11 للاعترافات، والنسيان والذاكرة موضوعا الكتاب العاشر.
53-القديس أغسطينوس ” إعترافات” باريس غاليمار 1998ص989-995.
54- المصدر السابق ص997.
55-الاعترافات الكتاب 10 و14و 19
56- انظر مثلا دوترينوم 4، 5، 6،.
57-” دير فاغفارفار”، مينيخ 1982.
58-مارك اوغي المصدر المشار إليه سابقا ص 86 والصفحات الموالية.
59- انظر في ” سادوم و غومور” عن الملاحظة القائلة بان الذاكرة تعني التناقض الغريب جدا للبقاء والعدم “.
60- بروست،” البحث عن الزمن المفقود” الكتاب 1 ص 2
61- عن هذا الحديث انظر نسخة ” تاريخ حياتي ” في سلسلة بوكان باريس لافون 1993 وكذلك تحليل ه. وانريش في المصدر السابق ص 115-123.