اجتماعسلايدر

إرهاصات نظريَّة الاختيار العقلاني في تفسير السلوك الإنساني

ترتكز نظريات الاختيار العقلاني Theories of Rational Choice على افتراض أن الناس عقلانيون، ويؤسسون أفعالهم على ما يتصورون بأنه أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق أهدافهم. وفي عالم الموارد النادرة فإن ذلك يعني الموازنة المستمرة بين وسائل بديلة تقابل غايات بديلة والاختيار من بينها، ومن هنا جاء مصطلح الاختيار العقلاني.

إن النظريات من هذا النمط تشترك إلى حد كبير مع السياق الاقتصادي. وبالفعل، يمكن أن يُعبر عن هذا المنظور من خلال العبارة المألوفة التي تقول: ” هناك سعر لكل شيء، وكل شيء له سعره “. ومع ذلك، لا يدل هذا – ضمناً – على أن المسائل الاقتصادية التقليدية (الإنتاج، والعمل، وبيع السلع) تمثل الحقائق المهمة الوحيدة في تفسير السلوك الاجتماعي، بل إن ما يقترحه منظرو الاختيار العقلاني يتمثل في الطريقة اللازمة لفهم الكثير عن كيفية تصرف الناس تجاه بعضهم بمشاهدتهم كصانعي قرار عقلانيين في عالم الندرة.

لقد كانت نظرية الاختيار العقلاني تمثل أحد التأثيرات الفكرية التي شكلت تطور نظرية التبادل الاجتماعي، وخاصة ميل هذه النظرية إلى افتراض وجود فاعل عقلاني. لذلك، من المستبعد تماماً أن تكون نظريات التبادل الاجتماعي والاختيار العقلاني متماثلة، فأحد الاختلافات الأساسية تكمن في أن نظريات الاختيار العقلاني تركز على عملية اتخاذ القرار الفردية، بينما تتمثل الوحدة الأساسية لتحليل نظريات التبادل الاجتماعي، في العلاقة الاجتماعية، وحديثاً منحت نظريات التبادل الاجتماعي المزيد من الاهتمام لشبكات العلاقات الاجتماعية، وهذا الاهتمام يميل إلى ربط النظرية بنظرية الشبكة الاجتماعية نفسها. وهناك الكثير من الجوانب المشتركة بين نظرية الشبكة الاجتماعية ونظرية الاختيار العقلاني رغم أن هذه النظرية ترفض افتراض عقلانية الفاعل الإنساني.

بمعنى آخر، لقد أصبحت مقاربات الاختيار العقلاني في علم الاجتماع المعاصر معروفة على نطاق واسع ضمن   ” نظرية التبادل “. يعرف منظرو التبادل التفاعل الاجتماعي بأنه: تبادل السلع والخدمات المادية أو غير المادية، والتي تمتد من الطعام والمأوى إلى القبول الاجتماعي والتعاطف. إن الناس يختارون فيما إذا كان لديهم الرغبة بالمشاركة في التبادل بعد أن يتفحصوا التكاليف والعائدات لمسارات الفعل البديلة، ويقومون باختيار الأكثر جاذبية. وبحسب تعبير زمل، فإن ” جميع التفاعلات بين الرجال ترتكز على خطة إعطاء وأخذ ما هو مساوٍ ومكافئ “.

ظهر أحد ردود الفعل على النظرية الوظيفية البنائية لبارسونز تحت اسم نظرية التبادل exchange theory، وأصبحت منذ الخمسينيات من أهم النظريات في الولايات المتحدة وارتبطت باسم كل من جورج هومانز George Homans وبيتر بلاو Peter Blau. وقد سعت نظرية التبادل إلى رفض النظرية الكبرى، من خلال محاولة هومانز بناء نظرية استنباطية انطلاقاً من المبادئ الأولية لعلم النفس السلوكي وتدعي النظرية في منطلقها الأساسي أن البشر يمارسون سلوكاً يجلب لهم منافع ويشبع لديهم حاجات، وهذا المستوى من التحليل يقابل مستوى وحدة الفعل الصغرى عند بارسونز في بداية تحليله لعملية إيجاد المؤسسات. وفكرة التبادل باعتبارها مصدراً من مصادر التضامن الاجتماعي أو وسيلة من وسائله فكرة راسخة في تقاليد الانثروبولوجيا الاجتماعية. وصورة المجتمع عند هذه النظرية تتلخص في أن نشاطات البشر المتبادلة ترمي إلى الحصول على الحد الأقصى من المنفعة، وهي تركز في ذلك على الإجراءات العقلانية التي يتبعها البشر في تقرير أفعالهم. وعلى الرغم من أن هذا التناول يرفض أي نظرية على شاكلة نظرية بارسونز، فقد ترعرع ونما في محيط بارسونزي وركز أكثر ما ركز على فكرة المجتمع على خلاف نظرية الاختيار العقلاني الحديثة. بذلك يؤمن أصحاب نظرية الاختيار العقلاني بفكرة وجود المجتمع إلى حد التعصب، ويتخذونها منطلقاً لجميع مقولاتهم النظرية.

إن أسهل طريقة لإيضاح الخصائص المميزة لنظرية الاختيار العقلاني هو في التركيز على محاولتها بناء نماذج لما يقوم به الفرد إذا ما تصرف بعقلانية في موقف معين مثلاً، أنا أعرف ما هو دخلي، وأعرف ما هي السلع والخدمات المتاحة لي وأعرف ترتيب الأشياء التي أرغب في الحصول عليها، ولذا فإنني أستطيع ترتيب البدائل المتاحة لي تبعاً لما هو أفضل. وهناك جانب نفعي واضح في نظرية الاختيار العقلاني فأنا أختار ما يجلب لي أكبر درجة من الإشباع أو المنفعة، إلى جانب افتراض أنني أعرف ما هو وضعي. على الرغم من أن مسألة مقدار المعرفة اللازمة لكي أقوم بعملية اختيار عقلانية هي موضع خلاف في النظرية والتفسير المنطلق من نظرية الاختيار العقلاني تفسير يعتمد على القصد، بمعنى أنه يفترض أن رغبات الفرد ومعتقداته هي مبررات فعله، غير أن هذا التفسير يذهب أبعد مدى إذ يدعي أن تلك الرغبات والاعتقادات هي أسباب للفعل الاجتماعي.

إن نظرية الاختيار العقلاني هي نظرية معيارية (أي ما يتعلق بمقياس تقييمي)، حيث تشير النظرية إلى أكفأ وسيلة للوصول إلى هدف معين في موقف معين. وتجدر الإشارة إلى أن أبرز إسهامات هذه النظرية تعلقت بطرق بناء الأنساق السياسية ومن الأمثلة على التفسيرات الاجتماعية ما طرحه جاري بيكر Gary Becker حول موضوع    ” الاقتصاد المنزلي “. إذ يرى بيكر أن تقسيم العمل في البيت هو نتيجة لاختيار عقلاني حول كيفية إيصال المنفعة إلى أعلى درجاتها، وذلك بتخصص الوقت للسوق أو للنشاط المنزلي. وحسب فهمنا لنظريته، فإنه لما كانت القاعدة هي أن الرجال ينالون أجراً أعلى في السوق، فإنه من المنطقي في حالتهم أن يخصصوا معظم طاقتهم لعمل السوق وليس للعمل المنزلي، بينما العكس هو الصحيح في حالة المرأة. على الرغم من أن التغيير في ظروف العمل والسوق يمكن أن يغير هذا الوضع. وبناءً على ذلك فإن إمكانية تحقيق المرأة دخلاً أعلى تعتبر سبباً في زيادة معدلات الطلاق، لأن من غير المعقول لها أن تختار دوراً تقليدياً بينما تتوافر أدوار أخرى.  بمعنى أدق، إن استقرار العلاقات الاجتماعية ونمطيتها يعودان إلى أن البشر يتصرفون بعقلانية. إلا أن هذه المقولة لا تدعي أن كل فعل عقلاني.

وتذهب نظرية الاختيار العقلاني إلى أن الناس يستخدمون الحسابات العقلانية لاتخاذ خيارات عقلانية وتحقيق نتائج تتوافق مع أهدافهم الشخصية. لذا تنطلق نظرية الاختيار العقلاني من مبدأ مفاده أن البشر كائنات عقلانية تمارس إرادتها الحرة في اتخاذ القرار بشأن مسار العمل. وهي تستند إلى الفكرة الكلاسيكية القائلة بأن الناس سوف يحاولون تحقيق أعظم الفوائد لأنفسهم بأقل تكلفة.

يتخذ كل فرد خياراته من خلال النظر أولاً في التكاليف والمخاطر والفوائد المترتبة على اتخاذ خيارات معينة. فالخيارات التي تبدو غير منطقية بالنسبة لشخص ما قد تبدو منطقية بالنسبة لشخص آخر بناءً على رغبات الفرد، لأن هذه الخيارات تستند إلى تفضيلاته الشخصية.

بذلك تفترض نظرية الاختيار العقلاني أن الناس يسيطرون على قراراتهم بأنفسهم. ويمكن أن تكون نظرية الاختيار العقلاني مفيدة في فهم سلوك الأفراد والمجموعات ويمكن أن تساعد في تحديد سبب تحرك الناس والمجموعات والمجتمع نحو اختيارات معينة بناءً على تكاليف ومكافآت محددة. بذلك يعتبر ” الشخص العقلاني ” هو الفرضية المركزية لنظرية الاختيار العقلاني، والتي تنص على أن تعظيم الفوائد يجب أن يكون هدف كل مسعى، وهذا الهدف الشامل هو العمود الفقري لبحوث الاقتصاد وقد تبناه علماء الاجتماع.

بذلك يكون التركيز في نظرية الاختيار العقلاني على الفاعلين، فالفاعلون يُنظر إليهم على كونهم هادفين أو ذوي مقاصد، أي إن الفاعلين لديهم غايات وأهداف يقصدونها بأفعالهم. كما أن الفاعلين يُنظر إليهم على أن لديهم تفضيلات (أو قيماً أو منافع). ونظرية الاختيار العقلاني تركز على معرفة ماهية هذه التفضيلات أو المصادر. وجدير بالأهمية حقيقة أن الفعل يتم إجراؤه للوصول إلى أهداف متوافقة مع ترتيب تفضيلات الفاعل.

ورغم أن نظرية الاختيار العقلاني تبدأ بأهداف الفاعلين أو نياتهم، فإنها لا بد أن تأخذ في الاعتبار اثنين على الأقل من القيود الموجودة على الفعل. الأول هو ندرة الموارد. فالفاعلون لديهم موارد مختلفة، بالإضافة إلى طرق وصول متنوعة إلى موارد أخرى بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم موارد كثيرة، فإن إنجاز الأهداف ربما يكون سهلاً نسبياً ولكن هؤلاء الذين لديهم القليل من الموارد إن كانت لديهم موارد من الأساس، فإن الحصول على أهدافهم ربما يكون صعباً، أو حتى مستحيلاً. وترتبط بندرة الموارد فكرة تكاليف الفرصة، فعند إدراك غاية معينة، لا بد أن يضع الفاعلون نصب أعينهم تكاليف الهدف التالي الأكثر جاذبية لهم ليتخذوه وربما يختار الفاعل ألا يلاحق أكثر أهدافه قيمة إذا كانت موارده قليلة، وإذا كانت فرص تحقيق هدفه ضئيلة نتيجة لذلك، وإذا كانت المعاناة لتحقيق هذا الهدف ستجعله يخاطر بفرص تحقيق هدفه التالي الأكثر الأهمية فيعتقد أن الفاعلين يحاولون تعظيم منافعهم. وهذا الهدف ربما يتضمن تقييم العلاقة بين فرص تحقيق غاية أولية وما سيفعله هذا التحقيق من أجل فرص الحصول على غاية ثانية عظيمة الأهمية.

أما عن المصدر الثاني للقيود الموجودة على فعل الفرد هو المؤسسات الاجتماعية. سوف يجد أن أفعاله، بدءاً من ميلاده وحتى وفاته، خاضعة للمراجعة من قِبل المعايير الأسرية والعائلية والمدرسية والقوانين واللوائح والسياسات المجتمعية الراسخة والمؤسسات الدينية. ومن خلال تقييد مجموعة الأفعال المتاحة للأفراد، فإن المعايير المفروضة على اللعبة – بما في ذلك المعايير والقوانين والأجندة وقواعد التصويت – تؤثر بشكل منهجي على النتائج الاجتماعية. وهذه القيود المؤسسية توفر جزاءات سلبية وإيجابية، والتي تعمل على تشجيع أفعال معينة، وتثبيط أفعال أخرى.

وفي النهاية تتعارض نظرية الاختيار العقلاني مع بعض النظريات الأخرى في علم الاجتماع. على سبيل المثال، حيث تنص نظرية الديناميكية النفسية على أن الناس يسعون إلى الإشباع بسبب خصائص غير واعية. وفي الوقت نفسه، تزعم نظرية الاختيار العقلاني أن هناك دائماً مبرراً عقلانياً للسلوكيات، ويحاول الناس تعظيم المكافآت لأنها تستحق التكلفة.

ومن أبرز الانتقادات الموجهة لنظرية الاختيار العقلاني هي أن مفهوم العقلانية بالاختيارات الشخصية لا الجماعية، فربما يعتقد أحد الأشخاص بأن الاختيار عقلاني بينما يراه آخرون غير منطقي أو عقلاني، كما يؤمن العديد من الاقتصاديين بعدم جدوى هذه النظرية ويعتقدون بأن القرارات التي يتخذها الأشخاص لا تكون عقلانية في كثير من الأحيان، ففي مجال الاقتصاد السلوكي على سبيل المثال، يتخذ الأفراد قرارات غير عقلانية ويسعون إلى استكشاف أسباب قيامهم بذلك. بالإضافة إلى أن فكرة ومفهوم العمل الجماعي، حيث يدعي البعض أنه إذا كانت خيارات الأفراد قائمة في الأساس على حسابات الربح الشخصي، فلماذا يلجأ بعض الأفراد إذا إلى مراعاة مصلحة الآخرين بخياراته أو لماذا يختار بعض الأشخاص شيء يفيد الآخرين أكثر من أنفسهم.

– تفسير نظرية الاختيار العقلاني لجريمة السرقة: تُعرف السرقة بأنها أخذ ممتلكات شخص آخر دون إذن هذا الشخص أو موافقته بقصد حرمانه من مُلكه، أو هي أخذ مال الغير المنقول خفية أو عنوة بقصد التملك. ويعرف القانون السرقة بالإكراه بأنها سلب ملكية الآخر تحت تهديد العنف أو بممارسة العنف. وتخضع مثل هذه الممارسات للعقوبة بموجب قانون العقوبات، فيما يفرق القانون بين أشكال مختلفة من السرقة بالإكراه، وبحسب درجة الانتهاكات بحق الضحية. كما تعتبر السرقة أحد المصطلحات التي تدل على الجرائم ضد الممتلكات الخاصة، مثل: (الاختلاس، والنهب، والسطو، والاحتيال، والاستيلاء)، ويُسمى الشخص الذي يقوم بتنفيذ عملية السرقة باللص أو السارق. والسرقة فعل مُجرَّم ومُخالف في الكثير من قوانين الدول.

 وهكذا تصنف جريمة السرقة من الجرائم الواقعة على الأموال، وقد عرّف المشرع عموماً في جميع دول العالم جريمة السرقة بأنها الاستيلاء بنية التملك على مال منقول للغير دون رضاه، حيث إن جريمة السرقة تندرج ضمن أنماط الأفعال الإجرامية الأخرى التي عاقب على ارتكابها القانون، فقد نظم لها عقوبة تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة مدة لا تقل عن خمسة عشر سنة في حال ارتكابها من قبل شخص أو مجموعة من الأشخاص مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المشددة التي تمت الإشارة إليها في قانون العقوبات. ومع ذلك نجد أن هناك أشخاصاً يرتكبون هذه الجريمة ومنهم من يكرر ارتكابها، وهذا ما أشارت إليه التقارير الإحصائية الصادرة عن مديريات وأجهزة الأمن في العديد من دول العالم بسبب الارتفاع الملحوظ في نسبة جريمة السرقة على اختلاف تصنيفها (الجنائية – الجنحوية) في فترة زمنية معينة.

يعد السلوك الإجرامي ظاهرة معقدة استحوذت على اهتمام العلماء والباحثين منذ عقود. ونجد أن إحدى النظريات التي حظيت باهتمام كبير في مجال علم الجريمة هي نظرية الاختيار العقلاني. وتفترض هذه النظرية أن الأفراد ينخرطون في سلوك إجرامي بعد أن يزنوا بعناية تكاليف وفوائد أفعالهم.

أي إن الأفراد وفقاً لنظرية الاختيار العقلاني يتصرفون بطريقة عقلانية تهتم بالدرجة الأولى بالمصلحة الذاتية، حيث يسعون إلى تعظيم فوائدهم الشخصية مع تقليل تكاليفهم المحتملة. وفي سياق السلوك الإجرامي، قد يختار الأفراد الانخراط في أعمال غير قانونية أنشطة إذا كانوا يعتقدون أن المكافآت المحتملة تفوق المخاطر التي تنطوي عليها. ويتأثر اتخاذ القرار الجنائي بعدد من العوامل، بما في ذلك الفوائد المتصورة للجريمة ارتكاب جريمة والتكاليف الملموسة للقبض عليهم، والاحتمال المتصور للقبض عليهم ومعاقبتهم. فعلى سبيل المثال، قد يختارون الأفراد الانخراط في سرقة المتاجر إذا كانوا يعتقدون أن المكافآت المحتملة (مثل الحصول على سلع قيمة مجاناً) تفوق التكاليف المحتملة (مثل خطر القبض عليهم ومواجهة العواقب القانونية).

إن فهم عملية صنع القرار الجنائي من خلال رؤية نظرية الاختيار العقلاني يمكن أن يساعد علماء الجريمة والمسؤولين عن إنفاذ القانون على تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لمنع وردع السلوك الإجرامي. ومن خلال التركيز على زيادة التكاليف المتصورة والحد من الفوائد المتصورة للانخراط في الأنشطة الإجرامية، ويستطيع صناع السياسات خلق بيئات أقل ملاءمة للانخراط في الأنشطة الإجرامية. السلوك الإجرامي.

وهكذا تعتبر نظرية الاختيار العقلاني من النظريات المعاصرة المفسرة للجريمة والسلوك المنحرف، التي اعتمدت في تفسير الانحراف والجريمة على أفعال وسلوك الفرد ذاته. أي إنها تسعى إلى تفسر دوافع المجرمين نحو الجريمة كمحاولة لتلبية الحاجات العادية والعقلانية في عملية صنع القرار لتحديد الفرص لتلبية هذه الحاجات، وتحديد التكاليف المحتملة للفعل والمنافع المتوقعة وليست العقلانية الكاملة مطلوبة من قبل هذا المنظور، كما لا يفترض أن يكون الجاني متمرساً في عملية صنعه للقرار حتى أن المعلومات الدقيقة أو المناسبة ليست ضرورية، وهذا يعني أن الجناة قد يكون لديهم عقلانية محدودة وليست تامة. بالمقابل نجد أن النموذج العقلاني التام لصناعة القرار في سرقة المناطق السكنية لا يمكن دعمه، إذ أن لصوص المنازل المحترفين ينخرطون جزئياً في الحساب عملية العقلاني للمكاسب والمخاطر قبل أن يقرروا سرقة منزل، وفي ذات السياق يمكننا القول بأن نظرية الخيار العقلاني على نحوها الخالص لا تقدم تفسيراً ملائماً للسلوك الإجرامي إلا عندما يتم توسعتها لتشمل متغيرات تتجاور مسألة المنفعة المتوقعة، فالسلوك الإجرامي يتم تفسيره بصورة أفضل عن طريق نموذج متسع يفترض عقلانية محدودة ويترك مجالاً للحوافز اللينة للقيام بفعل السرقة، وكذلك للضغوطات الملموسة وغير الملموسة الموجودة في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية.

بمعنى أوسع، يرى منظرو الاختيار العقلاني أن الجرائم هي نتيجة للخيارات العقلانية القائمة على تحليل التكلفة والمنفعة، وهكذا يقرر الأفراد ارتكاب الجريمة من أجل المنفعة أو توسيع تلك المنافع والإقلال من التكاليف، فالفرد يقرر ارتكاب الجريمة والاستمرار فيها من عدمها، أو الانسحاب منها بناءً على الحاجات من خلال النظر إلى الخيارات المتعددة لإشباع حاجاتهم، وتسمى هذه الحالة الانخراط المبدئي أو قرارات الانخراط، ويتحكم فيها العديد من العوامل منها: الخبرات السابقة والتجارب بما فيها النواحي الأخلاقية، ونظرتهم إلى أنفسهم والقدرة على التخطيط والتنفيذ، وهذه الأنماط من القرارات هي أداتية في وزن التكاليف والمكاسب، حيث نجد مع مرتكبي جرائم السرقة باستمرار، بأن النقود كانت الدافع الأول لقرارات الانخراط في الجريمة، أما عندما يتخذ الفرد القرار بارتكاب الجريمة ويحدد نوعها، فهذا ما يسمى نموذج الحدث الجرمي أو قرارات الحدث، وهذا القرار يتأثر في عدة عوامل منها على سبيل المثال، الموقف الآني الفردي اعتماداً على التكلفة والمنفعة، حيث تختلف العوامل باختلاف نوع الجريمة المرتكبة، وهنا يكون القرار بناءً على التكتيكات التي اتخذها الجناة للقيام بجريمة ما (المتطلبات الملقاة على الجناة) والمحددة مسبقاً، فإذا كانت تلك التكتيكات سهلة تحصل قرارات الانخراط على منافع محتملة، أما إذا كانت صعبة فسوف تفقد قرارات الانخراط المكاسب المحتملة. وفيما يخص القرارات المتعلقة بالحدث الجرمي نجد أن نموذج سرقات وعنف الراشدين يدمج الخبرات التعليمية والاختيار العقلاني، حيث يبدأ الأفراد باحتمالية الذاتية المسبقة لحدث ما، فيتم جمع المعلومات التي راكموها عند هذا الحد، ثم يستخدموها في تحديث ومراجعة تقديراتهم. بذلك يسعى رواد هذه النظرية إلى تفسير جريمة السرقة في بعدها الشمولي، لكل من اتخاذ القرار بارتكاب جريمة محددة أو الابتعاد عن الجريمة، أو اتخاذها كمهنة، حيثتوفر نظرية الاختيار العقلاني رؤى قيّمة حول عملية معقدة في اتخاذ القرارات الجنائية. من خلال فهم العوامل التي تؤثر اختيارات الأفراد للانخراط في أنشطة غير قانونية، كما يمكننا تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لمنع الجريمة والتصدي لها في مجتمعاتنا.

خلاصة القول، يعد السلوك الإجرامي حسبما تفترض نظرية الاختيار العقلاني أنه مثل السلوك القانوني لا تحدده عوامل بيولوجية أو نفسية أو بيئية تسيطر على الشخص وتجبره على ارتكاب جرائم، حيث تجادل هذه النظرية بأن الناس يختارون طواعية عن عمد ارتكاب أعمال إجرامية مثل السطو وسرقة السيارات والاعتداء، كما يختارون عمداً القيام بأشياء أخرى مثل العمل في محل البقالة أو الذهاب إلى الجامعة أو تناول العقاقير المخدرة. أي إن الأفعال الإجرامية هي نتاج عملية الاختيار، وعند اتخاذ القرار بارتكاب جريمة ما يسترشد الناس بمراعاة تكاليف وفوائد السلوك الإجرامي وتكاليف وفوائد السلوك البديل غير الإجرامي باختصار شديد.

__________

– المراجع المعتمدة:

1- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

2- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.

3- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم- محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع (244)، شهر يناير، 1999.

4- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.

5- أيمن الكريميين وآخرون: تفسير جريمة السرقة في ضوء نظرية الاختيار العقلاني، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، الأردن، المجلد: 50، العدد: 02، 2023.

6-  Charlotte Nickerson: Rational Choice Theory: What It Is in Economics, With Examples, Simply Psychology, October 10, 2023.

_______
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

حسام الدين فياض

د. حسام الدين فياض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.