صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار

image_pdf

من صفات ما يجمع الأيديولوجيا إلى الفاعل الأيديولوجي أنها بالنسبة إليه مرآة ذاته، في الحقول المتعددة لأفعاله وأحواله. ومع هذا فلا يملك أن يَكْسَبَ صِفَتَه ما لم يُلقِ رغبته في التجربة. فإنه بذلك يختبر ذاته حين يجعل الفكرة التي يحملها في نفسه عن نفسه، خطاب قوة، إما للإعلان عن هوية كامنة، أو للدفاع عن حقٍّ يتهدَّده خطب جلل.

كل فكرة هي أمر ذاتي، يهتدي إليها المفكر إثر مخاض جدل داخلي في مواجهة ما مع الخارج. ليس بالضرورة أن يكون هذا الخارج متحيِّزاً أو متمفصلاً على حدود أو تعيُّنات واضحة المعالم. يكفي أن يرسل الموضوع شيئاً من حرارته لكي تتحفزالذات المفكِّرة لممارسة التفكير به. ثم لتتحد فيه اتحاد الواحد مع نفسه، ثم لتنتقل تلك الوحدة إلى الشعور وصولاً إلى الشغف. فيتحصّل من ذلك ضرب من عالم ذهنيّ يطوي تصوراً مفترضاً لما ينبغي أن يكون عليه العالم الخارجي من اتساق هندسي شديدة المطابقة وعالم الذات المتصوِّرة.

بهذا تظهر الفكرة المتشكلة ضمن مدارج جدلية الذات / الموضوع كما لو كانت مرآة لنفس المفكر. بها تطمئن نفسه إلى أنها فارقت غربتها. فأصبح معها حالاًّ في دائرة الإعتراف. يُسمع ويُرى، وينظر إلى كلماته بوصفها نصاً مطلوباً للقراءة. غير أن الأيديولوجي  في مجال صفته المرآوية غالباً ما يستدعي كل نواحي المشهد إلى ذاتيته كما لو كان يريد أن يجعله ظلاًّ له. أنه يسمع كل الأصوات، لا لكي تشاركه صوته، وإنما ليرى إلى أحوال نفسه عبر مراياها المتعددة. ذلك أن الأيديولوجي في النهاية لا يأنس إلا لأصداء كلماته. أو للإشارات والعلامات التي تناهت إليه في مرآة فكرته بعد ما تحولت تلك الفكرة إلى كينونة ضاجّة بالحياة.

في عرضه وتعليقه على مقالة الفيلسوف الماركسي لوي التوسير بعنوان “الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية” سوف نتبيَّن من تأويلية بول ريكور كيف عالج التوسير مقولة الذات في الأيديولوجيا. معتبراً أن وظيفة الأيديولوجيا تتمثل في أن كلاً منهما يعطي مضموناً للآخر. وأن مقولة الذات تكوِّن كل الأيديولوجيا، مضيفاً في الوقت نفسه ومباشرة، أن هذه المقولة تكوِّن كل الأيديولوجيا طالما قامت الأيديولوجيا بوظيفة “تكوين” الأفراد الملموسين بوصفهم ذوات.

وفي سياق بحثه عن زوايا الخلل في مقولة الذات التي تكونها الأيديولوجيا عند ألتوسير، يلاحظ ريكور أن من العسير جداً تكوين مفهوم الذات برمته على أساس العكس المرآتي النرجسية الضيقة . ويرى أن من الأسهل فهم هذه العلاقة بصفتها ذات طابع تشويهي لتكوين ما، ولكن يصعب علينا فهمها بوصفها داخلة في التكوين هي نفسها. ثم يوضح أن ظاهراتية الأنا تقع ضمن مفهوم الأيديولوجيا من حيث كونها تعرِّف الأيديولوجيا على أنها النزعة الإنسانية. والنزعة الإنسانية تعتمد على مفهوم الذات، والأيديولوجيا هي التي تكوِّن الذات. لكن ريكور يأخذ على التوسير أنه يتحدث بلغة شديدة السلبية حيال مقولة التكوين المتبادل. حيث الأيديولوجيا والذات يكونان بعضهما على نحو متبادل. وها هو يقول: نحن مجبرون على أن نضع في جانب الأيديولوجيا، ما هو بمعنى ما، أكثر المشاكل الفلسفية إثارة للإهتمام: كيف نصبح ذواتاً؟ إن منح الأيديولوجيا  كل هذه الأهمية من أجل إنكارها – والكلام لريكور – لمحاولة جريئة حقاً من جانب التوسير. وهذا هو ما دعاه إلى القول بـ ” أن علينا إذا ما أعطَيْنا العلم الكثير، أن نعطي الأيديولوجيا ما هو أكثر. فهنالك صعوبة متزايدة في التعامل مع الأيديولوجيا كمجرد كلمة تشير إلى الأوهام والبنيات الفوقية، فإن هي تدخل إلى هذا الحد في تكوين ما نحن عليه، يجعل ما تكون عليه، إذا ما انفصلنا عنها، أمراً مجهولاً تماماً. ما نحن عليه هو بفضل الأيديولوجيا تحديداً، – بحسب منطق التوسير – وعبء الأيديولوجيا أن تخلق منا ذواتاً. وهي حالة فلسفية غريبة – كما يقول ريكور – ذلك ما دام وجودنا الملموس موجود في جانب الأيديولوجيا.[1]

إن الأيديولوجيا بهذه المنزلة. أي بما هي صفة مرآوية للذات، تتأتى على أشد ما يكون في مجال السياسة. تعييناً في مجال الكشف عن الهوية السياسية. تتأتى الأيديولوجيا هنا، من جدلية التمثل والتمثيل التي تمارسها الذات مع الموضوع في إطار لعبة التبادل. لكن في اللحظة التي تتحول فيها الذات (كأفراد أو كجماعات) إلى جهاز أيديولوجي تبدأ التشوهات تحفر مجراها في المرآة، حتى لتغدو الذات أسيرة ما قد ابتنته بشغفها المحموم، ثم لتقع في الغربة، وتروح تهيم في ليل المعنى باحثة عن شمس تضيء لها مراياها الجديدة.

ليس بالضرورة لفكرة يجري توظيفها في جدلية التمثُّل والتمثيل أن تكون وُضعت لقصديات أو استراتيجيات الحقل الذي وظفت فيه فيما بعد. لكن لكل فكرة، بالضرورة، غاية وقصد، بداية ونهاية. وإلاّ كفت عن أن تتوفر لها استعدادات الولادة من الذات المفكرة التي أصدرتها. إذ عندما تفارق الفكرة رأس المفكر، وتروح تتنقَّل في حقول التداول، بين آخذ بها، أو معترض عليها، فإنها تكون قد انفصلت عن واضعها، وتتحرر من سلطانه. بل قد تصبح هي سلطانة عليه. فلا تعود تتصل به بعدئذٍ إلا بقدر حملها لإسمه، وانتمائها الرمزي إلى والديةٍ لم تعد شرائط العلاقة معها هي نفسها قبل الولادة. أي من قبل أن يُخضِعَهَا الناسُ لأهوائهم وأغراضهم، بعد أن وضعوا لها شراط أخرى.

زئبقيـة المتكلم الأيديولوجي

من الصفات التي جُعلت للغة الأيديولوجي حين يتكلَّم، صفة كونها لغة زئبقية لا تستطيع أن توقفها على لون واضح محدد. فإنها مزيج من ألوان، وحروف تترجم أحوالها، وتعكس طبائعها. وهي، في الممارسة السياسية، من التكثيف واللّبس، حتى تكاد لا تنضبط إلا في منطقة التشكيل. أي في تلك المنطقة الرمادية التي يبقى ظهور كل لون فيها رهناً بحضورٍموازٍ لنظيره. إن لغة الأيديولوجي في انبساطها السياسي متحركة، متوترة، سيّالة. هي سهلة على الفهم وممتنعة عنه في الوقت نفسه. لأنك سوف تحتاج إلى مشقة التفكيك، والتحليل، والفطنة، والدراية، لكي تتميّز مواطن الصدق والكذب، والكشف والحجب، والخفاء والظهور، وأنت تعاين مسيرتها الشعائرية لبلوغ أهدافها. فكرة الأيديولوجي وموقعيته وغايته هي التي تقرر اللغة المناسبة لما ينبغي أن يكون عليه مساره، وممارسته، ووفقاً لشروط زمان ومكان حراكه داخل الشبكة الإجمالية للقوى المختلفة.

عندما يقول الأيديولوجي قوله لا يعود هذا القول مجرد كلمات مرسلة إلى المخاطَبين، فإن قوله يعود ليرتد إليه على شكل أصداء تؤكد مشروعية الكلمات وصدقها؛ خصوصاً إذا استجاب المخاطَبون إلى تلك الكلمات وتماهوا معها، حتى لتجري في وجدانهم مجرى الدماء في العروق.

اللغة السياسية في خطاب الأيديولوجي، ذات طبيعة وجودية (أنطولوجية). فلا تمر لحظة على واضع الخطاب وإلا وقصد منه مفعولية، تروح فيها الكلمات تحفر في الزمن لتقيمه على نشأة أخرى. حتى لتبدو حركية هذه اللغة متجهة نحو موضوعها السياسي أو الإجتماعي أو الثقافي بوصفه حقلاً للتفكيك، أو إعادة التأليف، أو الأمرين معاً. وهي إذ ترفعه من سياقه الرتيب، فإنَّها تُدخلُهُ في منطقها ليصبح ذلك الحقل بعدئذٍ ظلاَّ لحدودها وعلاماتها ورموزها الدلالية.

تفترض الطبيعة الأنطولوجية لخطاب الأيديولوجي أن تتحول الكلمات المرسلة كذات ناطقة للمرسل وكذلك كذات جمعية للمخاطب المتماهي أو المذعن في آن. فالكلمات صادقة لا ريب فيها بالنسبة لواضع الخطاب. فهو قد تمثّلها من قبل أن ينطقها؛  ثم تمثَّلها كرَّة أخرى حين عادت إليه مزهوة بتمثلها في ضمائر المخاطبين. لقد كان ميشيل فوكو غالباً ما يعرب عن استحسانه ترديد فقرة رائعة من رواية لصمويل بيكيت “يجب أن أقول الكلمات إلى أن تقولني.. إلى أن تعثر عليّ…

يحرص منشئ الخطاب الأيديولوجي على المطابقة بين المرسِل والرسالة والمرسَل إليه. فإنه يدرك أن بطلان المقاصد العليا للخطاب عائد إلى القطيعة، وبالتالي إلى عدم الإنسجام بين الأطراف المشكَّلة لمثلث الخطاب. لذا يبذل جهده لكي يوطِّد صلات الوصل داخل المثلث وصولاً لتحقيق  استراتيجيته. لكن حين نتحدث عن تلك  الاستراتيجية لا نعني بها باعتبارها غاية نهائية بعيدة المدى للجهاز الأيديولوجي. قد تستهلك القضية الأيديولوجية لكي تنجز استراتيجيتها وقتاً محدوداً. ربما لأسابيع أو شهور أو سنوات. يتوقف الأمر على أن ينجز  المخطط العام للقضية الأيديولوجية دورته الكاملة. وهذا يعني أن الإستراتيجية ووسائطها يجريان على نظام تحول دائم، في حين تبدو الكلمات كما لو كانت تتولى صناعة ذلك النظام المتحول.

كان اللسانيون يقولون إن الخطاب معادل للكلام، لأنه منجز لغوي. لكن الخطاب الأيديولوجي لا يتوقف على كونه كلاماً وحسب. فإنه فضلاً عن كونه كذلك، هو خطاب مركّب حيث يتركب فيه الكلام على مواضيعه المستقلة عنه استقلالاً نسبياً ومؤقتاً؛ حتى إذا اكتمل التركيب ظهر في صيغة بيان يترجم ما نشأ وتكوَّن في الواقع. ولأنَّ خطاب الأيديولوجي ذو وظيفة إيصالية بطبعه وطبيعته. فإنه يؤول إلى الإبلاغ عن هدف يراد للمستهدَف أن يبلُغَه، كما يؤول إلى إفهام المبلَّغ (بفتح اللام)  أن هذه هي الكلمات التي ينبغي أن يتخذها ليشارك المبلِّغ (بكسر اللام) سعيه في جعل تلك الكلمات أشياء في الواقع.

على هذا الخط، لا تكون لغة الخطاب عند الأيديولوجي هدفاً بحد نفسه. وإنما هي حركة ضمن هذا الهدف. فلا تكاد تبلغه حتى يستغنى عنها، ثم ليستأنف المبلِّغ رحلته إلى هدف تالٍ بلغة جديدة وبكلمات مختلفة. كل الذي حصل هنا هو البيان عن قضية بدأت وانتهت داخل مساحة المكان ومسافة الزمان التي حدَّدتها العلاقة بين المرسِل والمرسل إليه. إن هذا بالضبط ما عنيناه من الاستراتيجية الإيصالية للخطاب. وهي استراتيجية تقوم على نشاط ثلاثة فاعلين:

ـ الفاعل الأول، أي (قيادة الجهاز الإيديولوجي) وهو واضع تلك الاستراتيجية.

ـ الفاعل الثاني، هو اللغة الموصِلة أو الموجّهة لتكتمل جدلية التخاطب فتلعب اللغة هنا دوراً وسائطياً، من دون أن يكون هنالك انفصال مع مرسِلِها، أو مع من سيبلَّغ كلماتُها. وهو ما يُعرف بالرسالة.

ـ الفاعل الثالث هو الحلقة الأخيرة في توليد العملية الإجمالية للخطاب الأيديولوجي. وهو اكتمال الدورة الخطابية بإفهام المرسَل إليه فحوى الرسالة. فلو تلقَّاها الفاعل الثالث على الدرجة الفضلى، لبلغ البيان مراده، واطمأن المبيِّن إلى أن فكرته باتت حية تسعى في ثنايا الزمان والمكان.

إذا عاينا هذه الجدلية سنرى كأن الخطاب من حيث هو شكل لغوي يقيمه نظام المخاطب، يغيب – بعد اكتمال الدورة المشار إليها- عمَّا يقول، ليبقى ذلك المخاطب نائباً عنه ودالاً على معنى ما يقول. والجدير بالملاحظة أنه كلما طغى حضور المرسِل (المخاطب) بوصفه كائناً باثاً، ازدادت عملية الإيصال وضوحاً وتحققت أهدافها. وما كان ذلك ليكون إلا لأن هدف الإيصال هو نقل فكرة المرسِل، لا نقل لغة الخطاب التي يتم الإرسال بها.

وسنقرأ الجاحظ في “البيان  والتبيين” في هذا الخصوص قوله: “إن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان  في ذلك الموضع”. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الخطاب الإيصالي في مقصوده، هو المرسِل فيما يريد أن يخبر عنه. وهو بهذا – أي المرسِل – يستمر بقاء لأنه يحقق وجوده الإجتماعي.[2]

المتناهي السياسي واللامتناهي الأيديولوجي

ليس لدى الأيديولوجي في رحلته أمراً لا متناهياً في لعبته إلاّ المصلحة. لكن هذه الأخيرة لا تقوم إلا ضمن لعبة لها شرائطها وأصولها. لذا لا يستطيع الأيديولوجي أن يرسل خطابه بينما يبقى اللاّمتناهي من كلمات ذلك الخطاب ساكناً في عليائه. فهو لو بقي في محل سكنه ذاك، لاستحال مجرد سديم. فلا مناص من إرادة تنزل لغة اللاّمتناهي إلى الوضع الذي يجعلها طائعة في ميادين الاستخدام.

فلو حقَّت الإرادة أصبحت اللغة نصّاً. فالنص بحسب هذا التحول، هو حصيلة زواج شرعي بين المتناهي السياسي واللاّمتناهي الأيديولوجي. وبمقتضى هذا الزواج تنشأ قابليات التوليد تبعاً لجدليات الواقع وتحيُّزاته.

عندئذٍ سوف يمكن تعريف النص عبر إنزاله إلى مواضع الإختبار. وكما يقال فإن غياب التعريف بالشيء، مع ممارسة هذا الشيء، واتخاذه دليلاً، لهو تعريف به أيضاً. فالممارسة هي تعريف بالشيء، وهي برهانه على وجوده واستمراره وانفتاحه. أما التعريف بالشيء بعد انقضاء ممارسته فهو برهان على انقضائه وانغلاقه، وهذا يعني أن اللاّمتناهي يستعصي على التعريف. إذ لا انقضاء فيه، ولا انغلاق، وأن المتناهي يقبل التعريف إذ لا استمرار فيه ولا انفتاح (…) وهذا اتجاه في التراث العربي و”الإسلامي”، يقف على النقيض من البنيوية التي تنظر إلى النص على أنه بنية مغلقة منتهية (…) فإن غيبة التعريف بالنص في هذا التراث تتفق مع منظورها التوليدي. فالمقاربات الفقهية واللغوية له، لا تزيد في الميدان الأول، عن الإشارة إلى أن النص هو القرآن الكريم، أو مجموعة القواعد المستمدة من القرآن والسنة. وهذه الإشارة ذات أهمية بالغة، لأن كل كلام يُصدَرُ، من وجهة نظر أصولية، إنما يُصدِرُ توليداً من ممارسة المتكلم للنص عبر قواعده. ولذا يتساءل ابن رشد في كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”. “كيف يقابل المتناهي من النصوص اللاّمتناهي من الأحداث في حياة الأناسي. فيعزز بهذا مفهوم التوليد في الممارسة النصّية. وأما الإشارة إلى النص في الميدان الثاني، أي في الميدان اللغوي، فهي وإن كانت تفسيراً معجمياً ولفظياً، إلا انها تساهم في تأكيد هذا المفهوم، وتدخل معه في السياق نفسه. [فالفعل “نصَّ الشيء” يعني رَفَعَه وأظهره، وإذا كان حديثاً أسنده إلى قائله” وفي لسان العرب أيضاً “نصّ الناقة” أي استحثَّها بشدة].

والذين مضوا في هذا التحليل سيقودهم ذلك إلى مقاربة مفادها: ان النص دائم الإنتاج لأنه مستحثٌّ بشدة. ودائم التخلُّق لأنه دائماً هو في شأن ظهوراً وبياناً. ومستمر في الصيرورة لأنه متحرك. وقابل لكل زمان ومكان لأن فاعليته متولِّدة من ذاتيته النّصية. وهو إذا كان كذلك، فإن وضع تعريف له يعتبر تحديداً يلغي الصيرورة فيه، ويثبت إنتاجيته على هيئة نمطية لا يكون فيها للمتغيرات الأسلوبية والقرائية أثر. وكذلك يلغي قابليته التوليدية زماناً ومكاناً ويعطِّل في النهاية فاعليته النّصية.[3]

عندما يمضي الفاعل الأيديولوجي إلى بيان هدفه من خلال الكلمات فإنه لا ينفصل عن الوقائع التي يسعى ليغشاها بتلك الكلمات. وهو بهذا إنما يقوم بإجراء تمرينات على الربط بين المتناهي المتعيِّن بالوقائع المكسوَّة بالكلمات المناسبة لها، وبين اللاّمتناهي الزاخر بقابليات التوظيف. إن ثمة علاقية حَثِّية بين الوجهين. إذ كل من السياسي المتعيّن والأيديولوجي السابح في فلكِهِ اللامحدود يحثّ نظيره على الحراك فيكونان مصدراً لولادات لا نهاية لها.

فلو أفلح الفاعل الأيديولوجي في إجراءاته لدلّ هذا على حسن التوحيد بين مظهرين يبدوان على تغاير واستحالة فيما هما يستويان على نشأة واحدة.

سوف نقع على إضاءة فلسفية معاصرة لو نحن عدنا إلى الفرنسي بول ريكور في محاظراته حول ” الأيديولوجيا واليوتوبيا”. فلقد ظهر لنا إن إحدى النتائج الهامة لتأكيد ريكور على الواقعي بوصفه فعلاً، هو أن طبيعة الحقيقة نفسها لا يمكن أخذها كأمر مسلم به. فيقول ريكور إن البعدين الزمني والرمزي للوجود البشري يضعان طبيعة الحقيقة موضع التساؤل. لأن الحياة الإنسانية متوسَّطة رمزياً، فإن أي مفهوم للواقعي هو ذو طبيعة تأويلية. إن أنموذج الحقيقة بوصفها مكتفية بذاتها غير كاف، لم يعد بإمكاننا الاستمرار بوصف تأويل ما، بأنه يمثل، أو يستجيب لحقيقة غير خاضعة للتوسط أو “حرفية”. بدلاً من ذلك، تحقق اللغة الشعرية اختراقها إلى ذلك المستوى ما قبل العلمي والسابق على الإسناد حيث توضع أفكار مثل الحقيقة الواقعة، والقصد، والواقع، الحقيقة نفسها، كما تحددها فلسفة المعرفة، موضع التساؤل…” ليس بإمكاننا في نهاية المطاف ـ كما يضيف ريكور ـ فصل الواقعي عن تأويلاتنا؛ فإن طبيعة الواقعي نفسها تبقى محافظة على خاصية استعارية. كما أن الاستعارة تنشط أيضاً في البعد الزمني، لأن “مرجع المنطوق الاستعاري يُنشِّط الوجود كحقيقة واقعة وكإمكانية” لكن على المستوى الاجتماعي تتولى اليوتوبيا هذه الإمكانية.[4]

والواضح أن استجابة ريكور لهذا التحدي لفكرة الواقع تتمثل في دعوته إلى “إعادة صياغة جذرية لمشكلة الحقيقة”. وسوف يُطوِّر ريكور هذا الموضوع في المجلد الثالث من كتابه “الزمن والسرد” لكنه يستبق معالجته تلك من خلال كلامه في الأعمال المبكرة عن مفهوم “استعاري” أو “مستقبلي”  للحقيقة. يقول ريكور إن المهمة هي “أن نذهب بعيداً إلى حد تحويل فعل الكينونة نفسه إلى استعارة، وندرك “الوجود بصفته” قريناً لـ “النظر إليه بصفته”، وفي ذلك ما يُلخِّص عمل الاستعارة. إن ما نفهم أنه الواقعي يصلنا عبر وسيط رمزي منذ البداية، كما أن الواقعي يمر دائماً في حالة صيرورة. لذلك، يدّعي ريكور أن “الواقعي هو كل شيء اتخذ شكلاً مسبقاً بالفعل وغيّره أيضاً”. ولا يعود من الممكن الإبقاء على الحد الفاعل بين الابتكار والاكتشاف. “ليس مجدياً السؤال إن كان الشمولي الذي “يعلمنا” إياه الشعر، حسب أريسطو، موجوداً بالفعل قبل ابتكاره. أنه مبتكر بقدر ما هو مكتشف. ربما كانت امكانيات الإبداع والتغيير التي تفتحها نظرية ريكور الاستعارية عن الحقيقة أوج مشروعه الفلسفي. ومع ذلك، فكما هو الحال دائماً لدى ريكور، علينا لكي نفهم هذه الإمكانيات على نحو تام، إعادة إدخال الجدلية وإعادة تأكيد المصادر التي خرجت منها هذه الإمكانيات. علينا أن نستصلح الجدلية القائمة بين اليوتوبيا والأيديولوجيا. وهذه النقلة مستبقة في الاقتباس أعلاه حول العلاقة الحركية بين التمثيل المسبق وتغيير الشكل. فلئن فتحت اليوتوبيا الممكن، فإنها تفعل ذلك على أساس التحويل الاستعاري لما هو موجود. لقد استخدمنا في وقت سابق مفهوم الأيديولوجيا ليوجه مناقشتنا لحقيقة أننا دائماً نكون قد بدأنا بالفعل، وأننا دائماً نجد أنفسنا داخل حالة من التوسط الرمزي الخاص بالطبقة والأمة والدين والجنس لا مجال للانتقاص منها.[5]

هذه الجدلية بين ما تمثَّل مسبقاً وما تغير شكله تتخذ أشكالاً عديدة في كتابات ريكور. إنه يصف الإيمان الديني، على سبيل المثال، باعتباره متجذراً في التوتر بين الذاكرة والتوقع. ويمكن العثور على مثال آخر في طبيعة الحياة الأخلاقية:” لا تثبت الحرية نفسها إلا عبر إعادة تقويم على أساس مختلف لما تم تقويمه بالفعل. الحياة الأخلاقية صفقة أبدية بين مشروع الحرية وشرطها الأخلاقي الذي رسم حدوده عالم المؤسسات المعطى. يمكن أن نقول بشكل أكثر عمومية بأن الجدلية بين ما تمثَّل مسبقاً وما تغيَّر شكلُهُ توفر إحساساً موسّعاً، بمعنى التقليد. ليس التقليد هو “البث الجامد لمخزون مادي ميّت، بل هو البثّ الحي لابتكار يقبل دائماً إعادة التفعيل من خلال العودة إلى أكثر لحظات الفعالية الشعرية إبداعاً… وفي واقع الأمر يتشكل التقليد من التفاعل بين الابتكار والترسيب”. وعلى ما يُلاحظ جورج تيلور في قراءته لريكور فإنه إذا كانت جدلية الأيديولوجيا واليوتوبيا تشتغل في أحد معانيها بصفتها الارتباط بين ما تمثل مسبقاً وما تغيَّر شكله، فإنها تنشط أيضاً على مستوى آخر. وهو المستوى الذي تصفه نظرية في التأويل. هنا يشير التأكيد على اليوتوبيا إلى احتمالات، ولكن لا بد من موازنة هذه الحركة الاستعارية من خلال استجابة الفكر التأملي. وبحسب ريكور فإن التأويل هو … نمط خطاب يشتغل في تقاطع عالمين، الاستعاري والتأملي. إنه خطاب مركّب إذن، وبوصفه كذلك فإنه لا يستطيع إلا أن يستشعر الجذب المضاد من حاجتين متنافستين. من جهة، يسعى التأويل إلى وضوح المفهوم، لكنه يأمل من جهة أخرى في الحفاظ على حركية المعنى الذي يمسك به المفهوم ويثبته.[6]

جوهرانية الصلة بين المتناهي واللاَّمتناهي

على شدة ما يبدو في الظاهر من اختصام بين المتناهي واللاّمتناهين وبالتالي ـ وعلى وجه التعيين،  بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، فإنهما محكومتان بمنطق داخلي واحد. وإذن، لا يمكن النظر إليهما إلاّ كذلك. فالعلاقة الناشئة بينهما ليست علاقة بين طرفين بقدر ما هي تمظهر لجدلية واحدة. فلكي يُحسم الغموض بتلك العلاقة القائمة على شكلانية التناقض وجوهرانية الاتحاد، حرص ريكور على وضع الأيديولوجيا واليوتوبيا داخل إطار مفهومي واحد. وقد انطلق من فرضية أن ضمّ هذين الطرفين أو الوظيفتين المتكاملتين إلى بعضهما يقدم الانموذج لما يمكن أن يسميه المخيلة الاجتماعية والثقافية. وهكذا، يكشف البحث الذي افتتحه ريكور بصدد الأيديولوجيا واليوتوبيا، عن خاصّتين تشترك فيهما الظاهرتان:

الخاصيَّة الأولى إن كليهما غامض لكل منهما جانب إيجابي وآخر سلبي، دور بنّاء وآخر مدمر، بُعد تأسيسي وآخر مرضي.

الخاصيَّة المشتركة الثانية: إن الجانب السلبي من بين جانبي كل منهما يظهر قبل التأسيسي، متطلباً منا الانطلاق إلى وراء، من السطح إلى الأعماق. تشخص الأيديولوجيا إذن منذ البداية عمليات تشويهية إخفائية يعبر من خلالها الفرد أو الجماعة عن حالته من دون أن يعلم ذلك أو يدركه. تبدو الأيديولوجيا، على سبيل المثال، وكأنها تعبّر عن الحالة الطبقية لفرد دون وعي الفرد بها. لذلك فإن إجراء الإخفاء لا يعبّر عن هذا المنظور الطبقي فقط بل ويقويه. اما بالنسبة لليوتوبيا فإن لها سمعة سيئة أيضاً بحسب رؤية ريكور ـ إنها تبدو وكأنها تقدم نوعاً من الحلم الاجتماعي دون أن تكترث بالخطوات الواقعية الضرورية الأولى للتحرك باتجاه مجتمع جديد. وغالباً ما تعامل الرؤية اليوتوبية كنوع من الموقف الفصامي تجاه المجتمع، فهي في الوقت ذاته طريقة للهرب من منطق الفعل عبر تشكيلة خارج التاريخ، ونوع من الاحتماء ضد أي إثبات للصحة عبر الفعل الملموس. وضمن سياق هذه الرؤية تذهب فرضية ريكور إلى أن هنالك جانباً يضاف إلى الجانب السلبي في كل من الأيديولوجيا واليوتوبيا، وأن القطبية بين هذين الجانبين في كل مصطلح يمكن أن تتكشف من خلال استقصاء قطبية مماثلة بين المصطلحين. ودواعي هذه القطبية بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، وأيضاً داخل كل واحدة منهما، يمكن أن تُعزى إلى خواص تركيبية لما يسميه ريكور “المخيلة الثقافية”. إن هاتين القطبيتين تحويان ما يمثل بالنسبة الى ريكور التوترات الرئيسية في دراسته للأيديولوجيا واليوتوبيا.

أما القطبية بين الأيديولوجيا واليوتوبيا فإنها لا تكاد تخضع للبحث منذ كتاب كارل مانهايم الشهير “الأيديولوجيا واليوتوبيا”. هذا الكتاب الذي يصرِّح ريكور أنه سيعتمد عليه كثيراً، قد نشر مرة عام 1929. وهو يعتقد أن مانهايم هو الشخص الوحيد، على الأقل حتى وقت قريب، الذي حاول أن يضع الأيديولوجيا واليوتوبيا في إطار مشترك، وقد فعل ذلك من خلال اعتباره لهما كليهما موقفين منحرفين عن الواقع. وهما يتباعدان ضمن الجانب المشترك بينهما والمتمثل في اللاتطابق مع الواقع أو التعارض معه.

منذ مانهايم، تركَّز أغلب الاهتمام بهاتين الظاهرتين إما على الأيديولوجيا أو على اليوتوبيا، ولكن ليس عليهما معاً. من جانب آخر، هناك نقد للأيديولوجيا، طرحه أساساً علماء الاجتماع الماركسيون وما بعد الماركسيين. وهنا يتذكِّر ريكور على وجه الخصوص بمدرسة فرانكفورت التي يمثلها هابرماس وكارل أوتوابل، وغيرهما. مقابل هذا النقد الاجتماعي للأيديولوجيا نجد أن لليوتوبيا تاريخاً وعلم اجتماع. واهتمام الحقل الأخير باليوتوبيا لا تربطه إلا علاقة واهية باهتمام حقل النقد الاجتماعي بالأيديولوجيا. ولكن ربما كنا نشهد تغيراً في الميل إلى الفصل بين هذين الحقلين، هنالك على الأقل اهتمام متجدد بالعلاقات بينهما. وحسب ريكور فإن الصعوبة في ربط الأيديولوجيا باليوتوبيا مفهومة على أية حال، فهما أمران مطروحان بطرق شديدة الاختلاف. الأيديولوجيا مفهوم مثير للسجال دائماً. أما الأيديولوجيا فإنها ليست أبداً موقف الشخص المتكلم، إنها دائماً موقف شخص آخر. إنَّ الأيديولوجيا عندما توصف بطريقة فضفاضة جداً تكون بمثابة خطأ ارتكبه الآخر. لذلك فإن الناس لا يقولون أبدا إنهم أنفسهم دعاة أيديولوجية ما، المصطلح موجه دائماً ضد الآخر. من جانب آخر نجد إن كتاب اليوتوبيات يدافعون عنها، بل هي تشكل جنساً أدبياً محدداً. هنالك كتب تسمى يوتوبيات، وهي تتمتع بمكانة أدبية متميزة لذلك، فإن اللغوي للأيديولوجيا واليوتوبيا لا يتطابق دائماً. اليوتوبيات يدّعيها كتّابها لأنفسهم، بينما الأيديولوجيات ينكرها كتّابها. وهذا هو السبب الذي يجعل وضع الظاهرتين معاً صعباً للوهلة الأولى. لا بد لنا من الحفر تحت التعبيرات الأدبية والدلالية عنهما لكي نكتشف وظيفتهما وعندها نؤسس لرابطة تجمع بينهما على هذا المستوى.[7]

حضوريـة اللاَّشعور السياسي:

ماذا لو أقمنا صلة قربى بين ما يسميه بول ريكور بـ”المخيَّلة الثقافية” التي تتولى

مهمة الوصل والتركيب في عالمي الأيديولوجيا واليوتوبيا، وبين ما يسمى بـ”اللاَّشعور السياسي”؟..

ما دمنا على قناعة بأن الأيديولوجيا هي إحدى أكثر المفاهيم سعة لقبول التعددية المنهجية في تفسير ذاتها وموضوعها فلا يعد أمراً مفارقاً للمنطق استعمال مقولة اللاَّشعور السياسي كواحدة من إواليات فهم الممارسة الإيديولوجية. والذين عكفوا من الحداثيين الغربيين على تسييل نظرية اللاَّشعور من كونها مقولة محض علم نفسانية إلى مقولة سارية في الاجتماع السياسي، فقد وجدوا أحد أبرز خطوط عمل الأيديولوجي. فلقد توصلوا ـ وعلماء الاجتماع الألمان منهم على وجه الخصوص ـ إلى أن المجتمع السياسي هو ميدان الدعوة المعبِّرة عن المصالح وليس ميدان الحق. وهم بهذا فتحوا باب الجدل واسعاً أمام ضرورة دراسة السياسة دراسة علمية وموضوعية. وبالنسبة إليهم لم يعد هناك أصل ثابت يضمن الحقيقة المطلقة. فلا يوجد علم مطلق ولا مغزى للتاريخ ولا طبقة كونية. المجتمع مجزَّأ إلى طبقات وفئات ولا سبيل إلى إرجاع معتقدات الطبقات والفئات إلى أصل واحد. كل طبقة وكل فئة تبدع منظومة فكرية تبرر لها مصالحها الظرفية. وجميع تلك المنظومات تخدم بالضرورة الأهداف المرسومة لها.. لذلك فهي في عين الملاحظ متساوية، لا تتميز الواحدة عن الأخرى فيما يتعلق بالحق، وإنما فقط فيما يرجع إلى الفعالية، إلى القدرة على كسب الأتباع وتقريب الأهداف وبالتالي، يمكن وصف السياسة بدون تقييم.[8] وإذاً، كيف تدخل مقولة اللاَّشعور السياسي، في سيرورة الاجتماع السياسي، وبالتالي ضمن جدلية الاستخدام الأيديولوجي؟

لقد رأينا من المفيد، وقبل شرح مضمون المقولة، أن نمر على مفهوم اللاَّشعور الذي ملأ فضاء الدراسات النفسية والاجتماعية في بداية القرن العشرين. لقد لاحظ علماء النفس أن هناك أنواعاً من السلوك تصدر عن الفرد البشري من دون شعور منه، وهي تختلف عن ردَّات الفعل الآلية في كونها هادفة، تلبي حاجات معينة وتنزع إلى تحقيق رغبات خاصة، ومع ذلك فهي لا تخضع لمراقبة “الأنا”. وبما أن الأفعال الإرادية، الخاضعة للمراقبة الشعورية، يقال عنها أنها تصدر عن “الشعور”، فإن الفعال التي لا تخضع لمثل هذه المراقبة قد نسبت إلى منطقة أخرى في الجهاز النفسي أطلق عليها اسم “اللاَّشعور”.

ومعلوم أن عالم التحليل النفسي الشهير سيغموند فرويد (1856 ـ 1939) قد أولى أهمية خاصة لـ”اللاَّشعور” إذ جعل منه منطقة واسعة من الجهاز النفسي تضم الدوافع الغريزية والرغبات المكبوتة، واعتبره مسؤولاً عن قسم كبير من سلوك الفرد البشري، وهو يكشف عن نفسه من خلال الأحلام وفلتات اللسان وغيرها من الأفعال غير الإرادية. وهكذا صار السلوك البشري يضيف إلى سلوك صادر عن الشعور، عن وعي وقرار وتصميم، وسلوك صادر عن اللاَّشعور لا تتحكم فيه إرادة المرء بل يفلت من الرقابة الشعورية، رقابة “الأنا”، ليلبي حاجات غريزية دفينة أو رغبات مكبوتة منذ الطفولة.[9]

ومع أن “اللاَّشعور” بحسب الأطروحة الفرويدية سوف يوظف في عالم الأيديولوجيا، إلاَّ أنه يأخذ منحنىً مختلفاً عما ستأخذه مقولة اللاَّشعور السياسي في استخداماتها المعاصرة. تعتبر الفرويدية في سياق شرحها لثنائية الوعي واللاَّوعي، أن الوعي كيان مرتبط بكيان آخر أساسي هو اللاَّوعي. ومع أن فرويد يعترف بواقع الارتباط، والتأثر والتأثير المتبادلين بين الوعي واللاَّوعي بيد أنه يرى إلى اللاَّوعي بصفته العامل المحدِّد. وفي حين تشكل “الأنا” العامل الأساسي في الوعي، يشكل “الهو” عاملاً تأسسياً في “اللاَّوعي”. لكن “الأنا” تبقى تمثل الأساس الواقعي الذي على أرضه يتصل الفرد بحقائق الحياة المتحركة. وهي تتأثر بـ”الأنا العليا” الجامعة للقيم والمثل والمتساميات والمقاييس الكلية. كذلك فهي على صلة وثيقة، ديالكتيكية مع هذه الأخيرة (الأنا العليا) و”الهو”. على حين يمثل “الهو” مبدأ اللذة الذي تؤسسه الدوافع والرغبات. وفي خلال سيرورة التفاعل بين مثلث “الأنا” و”الهو” و”الأنا العليا”، يمارس “الهو” ضغطاً دائماً على “الأنا” الفرد، و”الأنا العليا” الكل، ويقوم بوظيفة الدور الحاسم في توجيه تصرفات الفرد الساعي إلى مواجهتها عبر “الأنا”، حيث تتمظهر عادة، وبحسب المخطط الفرويدي، في صيغة رموز، يجري التعبير عنها بوضوح في الأحلام.

على هذا النحو يكتسب “اللاَّوعي” سمة الاستقلال النسبي كونه العامل الفعال في شخصية الفرد. مع هذا تبدو الفروق الثقافية والاجتماعية سطحية إذا تذكرنا وحدة البشر النوعية. ذلك أن ثمة تطابقاً بين النفسانية الفردية والأنظمة الاجتماعية والتاريخ الإنساني في لاعالم. لهذا السبب ينتقل فرويد من دون إنذار من ميدان إلى ميدان. لنأخذ، مع عبد الله العروي، كمثال على التفسيرات الفرويدية، تحليله (فرويد) لانتشار الدعاية السياسية ـ أي للكيفية التي يقتنع بها الفرد بأيديولوجية ما. ويصبح يرى كل شيء حسب منطق مقولاتها. التفسير الرائج في أواخر القرن التاسع عشر يعتمد كما يبيِّن فرويد على الإيحاء والتلقين، ويرى أن الإقناع هو نتيجة هيبة يشعر بها فرد بإزاء فردٍ آخر. وهذه الهيبة تعمل كالمغناطيس. فالفرد الذي يملكها يوحي إلى الآخرين بآرائه ويفرضها عليهم. لكنه ـ على ما يبيِّن العروي ـ يرفض هذا التفسير لأنه مبنيٌّ على النفس الفردية وحدها. يقول إن الفرد، كيف ما كان، قريب جداً من أصله، أي من المجتمع الحيواني الأول وهو القطيع. وبرأي فرويد، إن الفرد لا ينفرد إلاَّ بقسم ضئيل جداً من نفسانيته. أما القسم الأكبر فهو نفسانية جموعية مشتركة… إننا نستطيع أن نحدد متى انفصلت النفسانية الفردية عن النفسانية الجموعية، متى استقلَّ الفرد نسبياً عن الحشد. لذلك فعندما يكون الفرد في حشدٍ فإن نفسه تكون مسرحاً لعمليتين:

الأولى: التماهي مع الآخرين، لأن الكل قلق بنفس القدر. وينتج عن التماهي، التآخي والشعور بالقوة والتغلُّب على الوحدة والخوف والقلق.

الثانية: تشخيص الأنا ـ العليا في القائد. وينتج عن هذه العملية رضوخ إداري، وتخلٍّ عن قيود العقل، وإطراح أعباء المسؤولية.

إن هذا المثال ـ يبيِّن لنا ـ حسب فرويد ـ مدى سطحية التفسير العقلاني المبني على الفرد. فالعقل أداة، ولأنه كذلك فكيف يمكن لنا أن نفسِّر الأداة بقوانينها؟ لذا يقول العروي ـ استناداً إلى تحليله لمقاصد الفرويدية ـ لا بد من البحث عن الأسباب الحقيقية خارج العقل. ذلك أنه لا يمكن أن نفهم الأفكار والأنظمة الاجتماعية والمذاهب بالنظر إلى القواعد العقلية التي أنشأتها وركَّبتها. لا بد من الغوص في ما يتحكَّم بالعقل ويستخدمه. إن القوة التي تستخدم العقل لتنفيذ أغراضها بوسائل ملتوية، هي الرغبة المكبوتة وراء الوعي. فكل ظاهرة (فكرة ـ مؤسسة ـ مذهب) هي عبارة عن نزوات الرغبة. وتتغير العبارة ـ أي التعبير اللغوي عن الظاهرة، حسب الظروف والأهداف المرحلية. يجب إذن تأويل الأخلاق والأديان والأساطير والأعمال الفنية والأنظمة الاجتماعية والوقائع، وكذلك سمات الأمراض، باعتبارها رموزاً تشير إلى أهداف غريزية وأقمصة شفافة تتقمَّصها الرغبة. إذا أخذنا هذه الأشياء على ظاهرها، وفهمناها على أساس العقل الذي ركَّبها فإنها تقودنا إلى أوهام، إلى ما يظهر حقيقة في حين أنه يستر الحقيقة. لكن إذا ما أوَّلناها حسب قانون الرغبة فإنها ترشدنا إلى الحقيقة الأساسية التي تجري على الإنسان كما تجري على باقي الكائنات الحية. وهكذا فإن الأفكار ـ كما تقول الفرويدية ـ أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى هدفها، وأما تعرية الأوهام

من صبغة الحق التي يلصقها بها العقل المخدوع هي واجب العلم في رأي فرويد.[10]

ماذا الآن عن التأويل المعاصر لما سمي “اللاَّشعور السياسي”؟ من الواضح كما بيَّنت لنا أطروحة الرغبة التي تساوي فعلية الأيديولوجيا عند فرويد، أن نتاجات العقل هي تبريرات خلقها الإنسان المتمدن لمعارضة دفع الرغبة الجارف، ويعلِّل قوله هذا استناداً إلى طبيعة الإنسان الحيوانية. ومن الواضح كذلك أن أقوال ماركس حول الأيديولوجيا بأنها تخفي مصلحة طبقية تحتوي على بنية مشتركة مع الفرويدية لجهة أن الأفكار هي رموز لا تحمل حقيقتها فيها، بل تستر حقيقة باطنية، وفي هذا الستر ذاته تومئ إليها، وبتأويل ذلك الإيماء نكشف عن الحقيقة المستورة. في حين أن البنية المشتركة المشار إليها إنما هي إرث مشترك جاء من مشروع فلسفة الأنوار.[11]

تأويلية ريجيس دوبريه

هل هذا يعني أن كل ما أتى بعد ذلك يستمد حرارته التأويلية من ذلك المشروع الفلسفي نفسه مع بعض التعديلات أو الاجتهادات الأخرى؟

لنرَ كيف تأوَّلت الأنوار البَعْدية مقولة اللاَّشعور السياسي في سياق فهم آليات التوظيف الأيديولوجي.

جاء يونغ ليعطي مفهوم اللاَّشعور أبعاداً أخرى، فيجعله يضم ليس فقط غرائز الفرد ومكبوتات طفولته، كفرد، بل أيضاً بقايا نزوعات وعواطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية القريب منه والسحيق وتنتصب على شكل “نماذج” (أشبه بمُثُل أفلاطون) لتشكِّل نوعاً من اللاَّشعور المشترك سماه يونغ بـ”اللاَّشعور الجمعي” إن هذا المفهوم عند يونغ هو عبارة عن رواسب دفينة في النفس البشرية ترجع إلى تجارب وخبرات النوع الإنساني يمتد بعضها إلى الماضي السحيق، إلى ما قبل نزول آدم إلى الأرض. وهكذا فإن ما ورثته النفوس البشرية من تجربة الإنسان الأول في الجنة (آدم والخطيئة) وما ورثه الناس من أصلهم الحيواني ومن الإنسان البدائي الأول، وما تركته فيهم حياتهم الاجتماعية في العشيرة والقبيلة والأمة، وما ترسَّب في نفوسهم من خلال تجاربهم الخاصة إضافة إلى مخيَّلاتهم المتعلقة بالمستقبل، كل ذلك يشكل في نظر يونغ “اللاَّشعور الجمعي” الذي يتحكم بصورة، أو بأخرى في سلوك الفرد وسلوك الجماعة (…) ومع أن مفهوم “اللاَّشعور الجمعي” هذا يبدو وكأنه أصل لمفهوم “اللاَّشعور السياسي”، يؤسسه ويؤطره بوصفه أعم منه، فإن المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه في توظيفه لهذا المفهوم يحرص على التمييز بينهما تمييزاً يجعل من اللاَّشعور السياسي مفهوماً خاصاً ومستقلاً. ذلك لأن هذا الأخير وإن كان يخصّ الجماعة كاللاَّشعور الجمعي، فإنه يختلف عنه لكونه يخص أساساً الجماعة المنظَّمة، كالقبيلة والحزب والأمة، من حيث أنها ذات نشاط سياسي. هذا بينما يتعلق اللاَّشعور الجمعي عند يونغ بالسلوك الجماعي عموماً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأعراض التي يتمظهر فيها اللاَّشعور السياسي غير تلك التي يعبِّر بها اللاَّشعور الجمعي عن نفسه. فبينما تكتسي تعبيرات هذا الأخير طابعاً سيكولوجياً تتخذ أعراض اللاَّشعور السياسي طابعاً سياسياً وأيديولوجياً.

تقوم أطروحة دوبريه التي يوظفها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في سياق مشروعه لنقد العقل السياسي العربي، على جلاء الوجه السياسي الأيديولوجي لـ”اللاَّشعور السياسي”. ينطلق دوبريه من مناقشة مسألة العلاقة بين الروابط السياسية وما يؤسسها في المجتمع فيقرر، خلافاً للماركسية “الرسمية”، أن العلاقات السياسية ليست انعكاساً لقاعدة اقتصادية. ولا هي “الاقتصاد المكثَّف” كما يقول لينين. ولا هي تجسد تفسيرها في الأشكال التي تظهر فيها فتشرح نفسها بنفسها، كلا. “إن ملاحظة المجتمعات الحديثة [يقول دوبريه] تشهد على أن بنيات السلوك السياسي لا تتعرض لتعديل جوهري. بحلول أسلوب في الإنتاج مكان آخر. فهي لا ترتبط بدرجة تطور قوى الإنتاج، بل إنها تبقى مستقلة عنها. إن هذه البينات تفرض نفسها على المجتمعات على الرغم منها، وعندما يقتضي الأمر ذلك تفرض نفسها ضداً عليها، ليس على صورة خيالات بل على صورة أنواع من السلوك.[12]

يشرح دوبريه فكرته هذه في إطار نقده للاشتراكية المطبَّقة في الاتحاد السوفياتي فيقول:” إن “التجربة الاشتراكية” هي على الرغم من قصر مدتها تقدم لنا دروساً في هذا الصدد. إن الاشتراكية كما طُبِّقت [ وليس كما يحلم الناس بها] قد أنجزت في تطبيقها كل ما كانت تحرمه عليها نظريتها الخاصة بها، بل كل ما كانت تفترضه هذه النظرية مستحيلاً. لقد بعثت في كل مكان أو في كل حين، ولو بدرجات مختلفة الأشكال الدينية للوجود الاجتماعي، تلك الأشكال التي كان يُفترض أن ظهورها ثانية هو شيء ستحول دونه علاقات الإنتاج الجديدة. إن هذا لبرهان على أنه يوجد في جذور الظاهرة الاجتماعية، كما هي بطبيعتها، “قوة” غير مراقبة، قوة تبدو في الظاهر لاعقلانية تُفسِدُ على المنطق قوانينه، وعلى البرامج مطامحها. وهذه القوة التي لا تتحكم في تأثيرها وفعلها لا المخططات ولا الإرادة الصريحة للأفراد، تهملها الدراسة التقليدية للنظم السياسية وتُقصيها من ميدان البحث. أما عندما تؤخذ بعين الاعتبار ، فينظر إليها على أنها شيء من قبيل السحر، تنتمي بصورة ما إلى عالم الأسرار، فتدفع بالمختصين في “علم السياسة” إلى الهجرة إلى “بلاد العجائب”[13]، وحينئذٍ يدور الحديث عن الحلم والسحر والخداع ونصيب كل منها بوصفها أنصبة تمثل البقية الباقية التي لا تقبل التحليل ولا تشجع عليه. إن هذا يعني ـ كما يقول ريجيس دوبريه ـ نسيان الباحث إعطاء العقل نصيبه، أي نسيان أنه إذا كان العالم قابلاً للوصف العلمي في نقطة منه، فإنه يقبله على كل المستويات في جميع النقط.[14]  

وهكذا يواصل دوبريه تظهير مفهومه عن “اللاَّشعور السياسي”، فسيتبين لنا مما اقتبسه

الجابري منه في كتابه “نقد العقل السياسي” كيف أنه خالف ماركس والماركسية في تعريفهما للأيديولوجيا انطلاقاً من أطروحته عن اللاَّشعور السياسي. بل إنه سيمضي مسافة أكثر عمقاً ليرى أن الظاهرة السياسية لا يؤسسها وعي الناس، ولا ما يؤسس هذا الوعي نفسه من علاقات اجتماعية ومصالح طبقية، بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه بـ”اللاَّشعور السياسي”، الذي هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطاً لا يقاوم. علاقات من نوع العلاقات القبلية العشائرية والعلاقات الطائفية والعلاقات المذهبية والحزبية الضيقة التي تستمد قوتها المادية الضاغطة القسرية مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر ما يقوم بينهم بفعل تلك العلاقات نفسها من نصرة وتناصر أو فرقة وتنافر. وهذه البنية من العلاقات اللاشعورية تبقى قائمة وفاعلة رغم ما قد تتعرض له البنية الفوقية في المجتمع من تغييرات نتيجة التطور الذي يحدث في البنية التحتية المقابلة لها. فهي ليست جزءاً من تلك، وبالتالي فهي لا تخضع لهذه، بل لها وجودها الخاص المستقل عن البنيتين معاً: فالنعرة القبلية العشائرية والتعصب الطائفي والطموح إلى الحصول على مغانم ومصالح ظواهر تبقى، نشطة، أو كامنة في كيان الجماعات سواء كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو اشتراكي من نوع الاشتراكيات المطبقة حالياً: نقول ـ والكلام للجابري ـ في كيان الجماعات “وليس فقط في نفوس الأفراد، لأن “اللاشعور السياسي” لا شعور جماعي إذ الأمر يتعلق بعلاقات سياسية اجتماعية بين الأفراد، وليس بسلوك الفرد، فهو إذن يختلف عن اللاشعور عند علماء التحليل النفسي كما ذكرنا من قبل.[15]

غير أن دوبريه لم يبلغ الحد الذي يفارق فيه تأويلية ماركس بالكامل. فها هو يعود ليلج فضاءاتها على طريقته الخاصة. فيقول:” فكما أن الشعور لا يشكل جوهر الحياة النفسية للفرد فإن المؤسسات والتصورات السياسية لا تؤسس جوهر الحياة السياسية للمجموعات ـــــــــــــــــ

البشرية يضيف: ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم السياسي، بل إن وجودهم الاجتماعي، هو الذي يحدد وعيهم ذاك، وأن هذا الوجود، خاضع هو نفسه لمنظومة منطقية من العلاقات المادية القاهرة. وهذه المنظومة تبقى حاضرة ثابتة عبر مختلف أشكال المؤسسات القانونية أو الفلسفية التي يناظر كل نوع منها بنية اقتصادية معينة، وذلك من خلال الروابط التي يقيمونها بينهم، بعضهم مع بعض، بـ”حرية”، بل إنهم هم أنفسهم نتاج هذه العلاقات التي تتولد فيها ترابطاتهم تلك. وكما هو الحال تماماً بالنسبة للأفراد، ولكن بصورة أخرى، فإن الجماعات البشرية المنظمة لها لا شعور نوعي خاص بها، تشكل الديانات وما يقوم مقامها من الأيديولوجيات أكثر أعراضه وضوحاً، إنه لا شعور نطلق عليه هنا “اللاشعور السياسي”. ثم يعرِّف دوبريه الصفة الإبستمولوجية لهذا “اللاشعور” فيقول له إنه ليس من طبيعة سيكولوجية إذ لا تتكون قاعدته من التصورات النموذجية [ خلافاً لمُثُل أفلاطون] وليس هو طبيعة روحية ولا مما ينتمي إلى عالم الغيبيات. كما أنه لا يتحدد بأشكال رمزية طافية على السطح بل يتحدد بأشكال ثابتة من التنظيم المادي ليست الشكال الرمزية إلاَّ رسوماً لها وبصمات”.[16]

ربما علينا أن نتساءل بعد كل هذا، عما لو كان دوبريه وجد نفسه مضطراً للمضي إلى هذا الحد في تحديد وظيفة “اللاشعور السياسي”. هل كان من الوجاهة في شيء أن يسقط عن “اللاشعور السياسي” جملة التصورات والأبعاد الروحية والغيبية والسيكولوجية؟ أَفَلَم يكن من المفيد على المستوى المنطقي والمنهجي أن يُبقي للناظر في أطروحته فسحة للتأويل. ثم أَوَلَم يكن من الواجب عليه أن يبادر إلى شيء من التسامح ليتمكن الناظر في أطروحته من أن يرى أن الوظيفة المعطاة للاشعور السياسي تفترض، حضور كل تلك الأبعاد بوصفها عوامل حاثَّة على تشكُّله وظهوره كلاعبٍ وازن في عالم الجماعة الأيديولوجية؟

هذه الأسئلة الموجَّهة إلى دوبريه “ولاشعوره السياسي” تبدو مجدية وجادة، لو نحن عاينَّا بعض جوانب تطوره الفكري، ولا سيما للجانب المتصل بحضور الغيبي والديني والخيالي في تشكيل الزمن الأيديولوجي. يقول ريجيس دوبريه في حوار نشرته مجلة ماغازين ليترير (Magazine Littéraire) الفرنسية:” ليس الشأن الديني بالنسبة إليَّ ظاهرة سابقة، بل هو أمر لاحق: لقد توصلت إلى الاهتمام بمسألة الدين عن طريق التساؤل حول السلوكــات الفعليــة أو “البراكسيس” (Praxis) أي عبــر فلسفـة خاصــة بالممارســة. فقــد أطلعــت في السبعينات ـ والكلام لدوبريه ـ على كتاب أعجبت به كل الإعجاب وعنوانه: “ما الذي يحرِّض المناضلين في مسعاهم؟ Qu’est ce qui fait courir les militants? وهو كتاب وضعه طبيب نفساني يتساءل فيه عن العوامل الكامنة في مخيَّلة الفرد التي تحرِّك فيه الروح الكفاحية”. ويكشف دوبريه عن السبب الذي دفعه إلى الاهتمام بالإلهيات بعد عمر مديد من العيش في رحاب ماركسية ملحدة. فيقول إن ما يشغله هو أسئلة من طراز مختلف من مثل: ما الذي يجعل المرء يقرِّر المخاطرة بحياته.. وما الذي يجعل الفكرة وإن كانت خاطئة تغير عالم الواقع.. وبماذا نفسِّر انخراط الأفراد في تشكيل عصابات، وجماعات، وأحزاب، وأمم، وكنائس؟ وبالتالي ما الخطوات التي تؤدي بالناس تدريجياً إلى التجمع، وما الذي يدفعهم نحو “الفعل”؟..

لقد تبيَّن لريجيس دوبريه إثر مكابدات طويلة ومعاينة حركية الإنسان في الزمن أن الشأن الديني الذي لا يشغل الفلاسفة وهم يعملون على إنتاج الأبستمولوجيا (نظرية المعرفة) باعتباره أسطورة وخيال وخرافة وقد تصنفه الأبستمولوجيا ضمن “الضبابي” والعقيم وعديم المردود، وغير المثمر، إنه غير ذلك ذلك وإن الواقع الواقع يثبت العكس تماماً. وحسب دوبريه إن الناس غالباً ما تستقبل الحقائق بشيء من اللاَّمبالاة. ولأنها حقيقية لا يمنحها الناس أي قوة لتفرض نفسها وتلقى القبول. بينما الفاعلية الحقيقية تكمن في تلك التي تغيِّر الأشياء، أي القوة المؤثرة بالفعل وهي الموجودة في جهة الإيمان (Croyance). وسواء كانت هذه القوة عادلة أو غير عادلة، صحيحة أو خاطئة، فتلك مسألة أخرى. ذلك أن الإيمان ـ برأيه ـ لا يحتاج إلى أدلة. فهو غير قابل للإثبات، أو للاحتمال، إنه حاسم، وهو يبرهن على الحركة بالتوغل إلى الأمام. فالمهم بالنسبة إليه هو تلك الوظيفة المحركة الكامنة في الإيمان، وفي قدرته على سنّ القوانين المصيرية للعالم.. وإذ يجد دوبريه نفسه في موقع تصوري يعارض فيه التنوير الذي أنشأ فلسفة الوعي بالفرد والذات، يبيِّن قربه من دوركهايم حين يرى أن التجمع في حد ذاته هو إما “شأن ديني” أو ” لا شيء”. وسواء تعلَّق الأمر بتمجيد الميت، أو الجدود، أو تاريخ حدث خرافي، أو حدث تأسيسي، أو بإحياء ذكرى، فإن كل المعتقدات ترتكز إلى أفكار في غاية الجنون، لكنها متماسكة، فهي تحرك الجماهير وتضبط اتجاه التاريخ.[17]

إذا كان ريجيس دوبريه قد توصل إلى هذه النتائج التي ترى إلى المقدس (اللاَّشعوري) على أنه المحرِّك، وأنه الطريق الأفضل لفهم الدنيوي، فذلك ما يفتح الباب على جدل عميق تشهده ثقافة الغرب حول ما إذا كان من المجدي استمرار التمركز حول الذات (Nombrilism). ذاك المتمثل في القول إن الشأن الديني هو شأن ينتمي إلى الماضي.

المسألة إذن، تكمن في الكشف عما في مفعولية “اللاَّشعور السياسي” النائم في أعماق الناس، وسيكون له أن ينفجر أو أن ينبثق بصورة مدوِّية، ليشكل أحد أكثر آليات التغيير فاعلية في توظيفات الجهاز الأيديولوجي.

تقنيـات الفاعل الأيديولوجي

ونحن نواصل الكلام على الجهاز الأيديولوجي، فإنما نرمي إلى التعامل معه بوصفه الجسد المرئي لتقنيات عمل الفاعل الأيديولوجي. فالفاعل بمعنى ما نقصده هو أعم من الجهاز. إنه يتضمن ما هو مرئي وما هو غير مرئي. كما يتضمن فعل المرسِل وفعل المرسَل إليه كاستجابة أو تماهٍ أو تكيُّف مع فعل المرسِل. إذ بمجرد أن يتحصَّل الوصل بين الفعل والاستجابة تكتمل دائرة نشاط الفاعل الأيديولوجي حيث تعبِّر عن نفسها بمخاطبات لا تتحكم  بالضرورة بتقنية مادية ما. فالمخاطبات الأيديولوجية التي تصدر في كل وقت، وفي كل مكان، وعن كل شخص. لها دائماً مظهر غير خطابي، مادي. لكن لا معنى للقول أن الأيديولوجيات موجودة فقط في الأجهزة، كما يرى المجدِّد الماركسي لوي ألتوسير. اللهم إلاَّ إذا أفرغت كلمة “جهاز” من كل معنى مؤسساتي(…) إن الأجهزة الأيديولوجية على ما يبيِّن جوران ثربورن هي جزء من تنظيم السلطة في المجتمع، والعلاقات الاجتماعية للسلطة تتكيف وتتبلور في الدولة. فالعائلة مثلاً، يضبطها تشريع الدولة وقضاؤها. ومع ذلك، ومع أن المخاطبات الأيديولوجية تحصل في كل مكان، فإن الخطابات وآلياتها الواقية، ـ بالتضامن مع التأكيدات والجزاءات والطقوس والحرمات المرتبطة بها ـ تتجه إلى التموضع في السيرورة المجتمعية التي يمكن أن ندعوها أجهزة أيديولوجية. إن هذه الأجهزة بحسب تربورن ـ هي وضعيات من خطاب “متموضع”، وممارسات غير خطابية مرتبطة به، ووضعيات أو مواقع نزاع أيديولوجي. وهكذا فإن التنظيم الاجتماعي للخطاب يستتبع أن تكون وضعية الأجهزة الأيديولوجية مُبَنْيَنَة بطريقة خاصة في منظومة روابط وتبعية متبادلة.[18]

حين تجري عمليات تموضع السيطرة الأيديولوجية في دوائر المجتمع والسلطة وأبنية الدولة يتولى الفاعل الأيديولوجية مهمة ضبط وتسيير وإنتاج وإعادة إنتاج النظام الإجمالي للسيطرة. صحيح أن الجهاز الأيديولوجي سيمثل أداة التحكم المادي في النظام المشار إليه (جيش ـ شرطة ـ مؤسسات تشريعية وقضائيى، الخ) إلاَّ أن هذا الجهاز غير منفصل عن الفاعل الذي يسيطر على الفضاء الآخر غير المادي لحقول الممارسة الأيديولوجية. ونقصد بذلك (مناطق “اللاَّشعور السياسي” ومحركات الوجدان العام الدينية والاعتقادية والأسطورية الخ).

في رصدنا للمشهد السياسي ـ المدني في المجتمعات الحديثة ومن خلال الكتابات الانتقادية متعددة الأبعاد الفكرية سوف نقع على طائفة خصبة من منهجيات السيطرة

الأيديولوجية. وهي منهجيات تفضي ـ على ما سنرى بعد قليل ـ إلى وحدة لا ينفصم عراها بين الفاعل والجهاز مثلما تفضي إلى آثار وتداعيات يستحيل اكتشافها أو إدراكها قبل الانخراط في حمَّى التجربة.

من هذه المنهجيات ما يورده جوران ثربورن على النحو الآتي:

ـ المطابقة: (Accommodation) ومعناها يتمثل في نوع من القبول يُطاع الحاكمون بموجبه من جانب المحكومين من دون مساءلة. ويمكن النظر إلى المطابقة بوصفها

آتية من توزيع اجتماعي خاص للمعرفة والجهل.

ـ حسّ الحتمية: ومعناه يعود إلى الطاعة عبر الجهل لأي بديل كان. ويبيِّن ثربورن أنه من الخطأ الإعتقاد بأن هذه ظاهرة جبرية محصورة في ما قبل العصر الحديث. إنها، بالأصح، عنصر مؤلَّف في التهميش السياسي لقطاعات واسعة من السكان في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة(…) ذلك أن التهميش السياسي يتضمن التخريج من المنظومة السياسية التي تُرى بوصفها مستحيلة التغيير وذلك مع عدم تحميلها أية صفات من خير أو صواب. وكثيراً ما يبدو التهميش مصحوباً برؤية نقدية، كلبية الطابع للحكام.

ـ حسن التمثيل: وهي ناجمة من آثار الطاعة. إذ حين يُطاع الحكام لأنهم يُرون كحاكمين نيابة عن المحكومين، ولأن هذه الحالة ترى كشيء جيد، عندئذٍ يمكن أن نتحدث عن طاعة ترتكز على حسن تمثيل، هو في حقيقته كما يُستنتج من تحليل ثربورن ـ أكثر من آثار ومفاعيل السيطرة الأيديولوجية. وذلك بالقدر الذي فيه صفة الحكام التمثيلية هي فعلياً موضع طعن من جانب أيديولوجيات أخرى.

ـ الاحترام (Deference): وهذه المنهجية هي أيضاً ناتجة عن إفصاحات ما هو صالح حول الحكام الحاضرين. هؤلاء الذين يتصورون ـ ويُصوِّرون ـ على أنهم طائفة مميزة تملك صفات عليا، صفات هي توصيفات ضرورية من أجل الحكم، ولا يملكها إلاَّ هؤلاء أنفسهم.

ـ الخوف: وهو أثر للسيطرة الأيديولوجية. ومن المهم إبراز حقيقة أن القوة والعنف يعملان كشكل للحكم فقط عبر آلية الخوف الأيديولوجية. ومع ذلك فإن الخوف لا يصير إجرائياً، فقط عندما تدعمه القوة والضعف. فهناك خوف لامرئي يستطيع الفاعل الأيديولوجي أن يوظِّفه في أعماله وكلماته وهو الناجم من الخوف الديني من عقاب إلهي.

ـ التسليم: وهو كالخوف. لكن إذا كانت الطاعة الآتية من الخوف عَرَضية، وتركز على اجتماعات القوة الغالبة في الحاضر، ويمكن أن تتفق تماماً مع الاحتفاظ بإيمان بإمكانية بديل أفضل في المستقبل، فإن التسليم له تضمينات أعمق. إنه يضمِّن رؤية عميقة التشاؤم عن إمكانيات التغيير والتسليم. هذا السياق، يستخدم لتسمية شكل للطاعة مشتق من تصوُّرات الاستحالة العملية لبديل أفضل، أكثر ما هو مشتق من تصورات القوة القمعية للسلطات الموجودة.[19]

ترشيدات الماكيافيلية

تظهر الماكيافيلية كممارسة أيديولوجية بامتياز. بل هي تبدو كمنطق لهذه الممارسة، إن لم تكن هنا بمثابة مكوِّنِها التأسيسي. حين تكون السياسة الحقل الخصيب لممارسة تقنيات السيطرة الأيديولوجية، فلا يمكن بحال من الأحوال مغادرة عالم الماكيافيلية الذي يلفُّ بسحره كلمات وأفعال وأنساق كل زمن سياسي. والذين اكتفوا بالحكم على الماكيافيلية في كونها مجرد مصدر للخديعة والشر وفي كونها أولاً وأساساً مقدِّسة للقوة وحسب، فإنهم لم يكونوا يفعلون سوى فعلٍ أيديولوجي جاء من الضفة المقابلة. فلو قدِّر لهؤلاء أن يتحولوا من مجرد كونهم رائين، أو ناقدين، إلى كونهم حاكمين فما وجدوا سبيلاً إلى السياسة خارج فضاء الماكيافيلية. ذلك أن من يجتنب أو يتفادى هذا الممر الإجباري هو كمن يقصد هدفاً لا سبيل إليه. يقول ماكيافيللي: على كل من يرى ضرورة للاحتفاظ بإمارته الجديدة عن طريق تأمين نفسه ضد الأعداء، وكسب الأصدقاء ، فلا مناص له من القوة والخدعة وفرض الحب والخوف على رعاياه ، وبسط الاحترام والتبعية على جنوده، وتدمير كل ما يمكن أن يلحق به الأذى.. والاتصاف بالشدة والرحمة، والشهامة والتحرر.[20]

وفي تعليقته الشهيرة على “أمير” ماكيافيللي، التي جاءت في سياق رسالة دكتوراه في العام 1924 يقول الزعيم الفاشي الإيطالي بنيتو موسوليني” إذا كانت السياسة هي من حكم البشر، أو بعبارات أخرى تربية أهوائهم وأنانيتهم ومصالحهم بالنظر إلى غايات نظام عام يكاد أن يخرج دائماً على نطاق الحياة الفردية لأنها غايات تمتد إلى المستقبل، إذا كانت تلك هي السياسة، فلا ريب في أن الإنسان هو العنصر الجوهري لهذا الفن ومن هنا يجب الانطلاق.[21]

لعل اهتمام موسوليني بماكيافيللي على هذا النحو، كان ينطوي على شغفٍ خاص بما تؤديه أطروحته لجهة إتمام العمارة الكبرى للأيديولوجية السياسية. وثمة كثيرون ذهبوا إلى الحد الذي جعلوا فيه الفاشية الإيطالية ابنة شرعية لأمير ماكيافللي. وسيظهر لنا ذلك بوضوح، في مدى ما منحته الفاشية للعنصر الجماهيري وهي تمضي إلى إقامة صرحها المدوي في خلال النصف الأول من القرن العشرين. وحين يسأل موسوليني في أطروحته عن عنصر الخلود في نصائح ماكيافللي لرجال الدولة، يحدده بالجواب على السؤال التالي: ما البشر في المذهب السياسي لماكيافللي؟ ثم يجيب كمن يقبل على تلك النصائح قبول الطائع لفكرة أتت إليه باليقين:” البشر عند ماكيافللي، خبثاء يتمسكون بالمصالح المادية أكثر من تمسكهم بحياتهم الخاصة. وهم على استعداد لتغيير أهوائهم وعواطفهم. ويعبِّر ماكيافللي عن فكرته هذه في الباب السابع عشر من كتاب الأمير هكذا:” وقد يُقال عن الناس بصورة عامة، أنهم ناكرون للجميل، متقلبون، مراؤون، ميالون إلى تجنُّب الأخطار ، وشديدو الطمع وهم إلى جانبك، طالما أنك تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم، وحياتهم وأطفالهم، وكل ما يملكون. ومصير الأمير ـ الذي يركن إلى وعودهم ، دون اتخاذ أية استعدادات أخرى ـ آيلٌ إلى الدمار والخراب. إذ أن الصداقة التي تقوم على أساس الثراء، لا على أساس نبل الروح وعظمتها، هي صداقة زائفة تُشرى بالمال ولا تكون أمينة موثوقة، وهي عرضة لأن لا تجدها في خدمتك في أول مناسبة. ولا يتردد الناس في الإساءة، إلى ذلك الذي يجعل نفسه محبوباً، بقدر تردُّدهم في الإساءة إلى من يخافونه، إذ أن الحب يرتبط بسلسلة من الإلتزام، التي قد تتحطم، بالنظر إلى أنانية الناس، عندما يخدم تحطيمها مصالحهم، بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب، وهي خشية قلَّما تُمنى بالفشل”.[22]

أهمية هذا المقطع الذي اقتبسناه من ماكيافللي على لسان موسوليني، يعود إلى أهمية كونه يشكل أحد أبرز خلاصات الأطروحة الأيديولوجية في الحقل السياسي وهي تلك التي وظَّفتها الفاشية الإيطالية أيَّما توظيف في مرحلة صعودها المدوِّي في النصف الأول من القرن العشرين. إنها خلاصة تقوم على أن السبيل الوحيد لاستمرار السلطة وتدعيم السيادة يكمن أساساً في القوة. في حين سوف يمكِّن الأخذ بسبيل القوة، كل “أمير” واستطراداً كل فاعل أيديولوجي من أن يوجه الأحداث الوجهة التي تفضي إلى مصلحته العليا. كما تمكِّنه من القدرة على التكيُّف مع الأحداث عبر استخدام الكلمات المناسبة في اللحظات المناسبة.

عند هذه النقطة من رحلة الأيديولوجي في السياسي ينعقد الإشكال حول “فكرة التسيُّد” وجدلية التبادل في تمثُّل هذه الفكرة بين الحاكمين والمحكومين، بين المخاطِب والمخاطَب والأنا والآخر وبين المرسِل بوصفه فاعل والمرسَل إليه بوصفه متلقياً لفعل بينما هو يتهيَّأ لرد معاكس.

فالفكرة السياسية بصفة كونها كينونة متحركة تكتظ بمحامل أيديولوجية يتلقاها كل فاعل أيديولوجي ويحملها إلى الغاية (المصلحة) التي يشاء. فإن للفكرة السياسية ـ على ما يبيِّن العالم الفرنسي موريس روبان (Maurice Robin) نقلاً عن جان توشار (J. Touchard) ـ عمقاً وثقلاً اجتماعياً يمكن مقارنتها بهرم ذي عدة طبقات: طبقة العقائد التي يسميها الماركسيون التطبيق العملي (أي محاولة تغيير العالم)، وطبقة التصميم، وطبقة الرموز والتصورات الاجتماعية.[23]

وما دمنا نتوخَّى توسيع مساحة الإشكال المنعقد حول “فكرة التسيُّد”، لنرَ أي معنى تنطوي عليه كلمة “فكرة” وكيف جرى ويجري توظيفها في جدلية السياسي / الأيديولوجي؟

تعني الفكرة من وجهة نظر الفلسفة، “عرض ما يتشكل ويتكون في الذهن من شيء ما. وقد يكون مصدر هذا الشيء حالة خارجية، وقد يكون مجرَّد حالة عقلية محضة تجسَّمت في الداخل” في هذا السياق يعتبر قاموس الفلسفة التقني والنقدي لـ”لالاند” (Lalande) إنه في حال تبلور الأفكار السياسية على هيئة تصورات لا بد لها من أن تحمل في جوهرها شحنة عاطفية ما. لذا فهي تظهر غالباً كنتائج مجرَّدة لتلك التصورات، وتتمثَّل في رموز وأساطير، وتنتمي في الوقت نفسه إلى مجال الفعل.[24]

أما كيف يجري تسييل مساحة الإشكال في “فكرة التسيُّد” فإنَّا نلاحظه على الأكيد في أرض الممارسة السياسية. فهناك يمكن معاينة سلوك الفاعل السياسي في حقله ليظهر كما لو أنه يقول الحق ويفعل الحق لأجل غاية هي في ذاتها حق. قد يقول الآخر إن هذا إلاَّ زعم كاذب. لكن قولاً كهذا لا يغيِّر من الأمر في شيء ما دام الفاعل السياسي يمارس مسلكه في ميدان تحيُّزه. ذلك أن الأيديولوجيات على ما نعرف، تظهر دائماً في صيغة الجماعات، ففي مجتمع ما، هناك دائماً “عدة” أيديولوجيات تتماشى مع تعددية الشخصيات السياسية، ومع تعددية المشاريع السياسية. وتكون الأيديولوجية طبعاً على علاقة فيما بينها، مشكِّلة بذلك مجموعة يمكن أن نطلق عليها “الحقل الأيديولوجي” في حين سنكتشف عبر الاختبار، أن تركيبة الحقل الأيديولوجي معقدة جداً. ويعود السبب إلى كون كل أيديولوجية تتمحور حول عدة نقاط فيما تعترض أيديولوجيات أخرى تتبنى وجهات نظر مخالفة. ولا يبدو هذا التعارض نفسه سهلاً، لأن التعارض بين أيديولوجتين مثلاً، هو نادراً ما يتمّ حول جميع النقاط، بل فقط حول البعض منها.[25]

لكن كيف تبدو تمظهرات الفاعل السياسي / الأيديولوجي على مسرح التنافر والتجاذب بين الحاكمين والمحكومين وتعييناً ضمن جدليات ممارسة الفكرة بكلماتها وأفعالها والأحداث المترتبة عليها.

ممارسات الفاعل بالكلمات

ليست الكلمات التي تشكَّل منها الخطاب الأيديولوجي إلا الحقيقة الواقعية لقصد ذلك الخطاب. وذلك على الرغم من ارتدائها أحياناً كسوة كثيفة من الرموز والإشارات. وسنجد ظهورات القصد حين يفلح الفاعل الإيديولوجي في ترتيب المصالحة بين المتناهي واللاَّمتناهي

بين الواعي واللاَّشعوري في إطار الواقع المتحدِّد في الزمان والمكان.

نستنتج من ما مرَّ، أن الكلمات ليس لها إلا معانٍ متحركة،  ومؤقتة، ومتغيرة من عصر إلى عصر، ومن شعب إلى شعب. وعندما يريد الجهاز الأيديولوجي أن يدعو إلى خطب ما، أو أن يؤثِّر على الجمهور بواسطتها، فسينبغي عليه أولاً أن يعرف ما هو معناها بالنسبة له في لحظة معينة، وليس معناها في الماضي أو معناها بالنسبة لأفراد ذوي تكوين عقلي مختلف. ذلك أن الكلمات تعيش كالأفكار. فعندما تشعر الجماهير ـ بوصفها متلقية للرسالة ـ بنفور عميق من الصور التي تثير بعض الكلمات، وذلك  على أثر الإنقلابات السياسية والمتغيرات التي أصابت العقائد، فإن الواجب الأول على رجل الدولة الحقيقي هو تغيير هذه الكلمات من دون أن يمس الأشياء ذاتها. أي جوهر القضايا التي وجب أن يعبّر عنها بكلمات جديدة. ذلك أن جوهر القضايا الذي يُعاد إنتاجه هو نفسه اللاَّمتناهي، أو بالأحرى ذلك المتسامي الذي يفيض بروح العزيمة. فهذه القضايا كما يقول عالم الإجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، مرتبطة بقوة التكوين الوراثي ولا يمكن تغييرها أو تحويلها (…) وإذن فإن إحدى المهام الأساسية لرجالات الدول هي أن يعمِّدوا بكلمات شعبية الأشياء التي لم تعد مستساغة من قبل الناس وهي تحت أسمائها وصفاتها القديمة. إن قوة الكلمات وتأثيرها من الضخامة بحيث أنه يتعيَّن على القادة أن يحسنوا اختيار الكلمات لكي يجعلوا الجماهير تقبل أخطر أنواع القضايا. وينقل لوبون عن الفيلسوف تين بهذا الصدد قوله “إن اليعاقبة في الثورة الفرنسية، استطاعوا عن طريق رفع شعار الحرية والإخاء، وهما الكلمتان الأكثر شعبية آنذاك أن يفرضوا “نظاماً استبدادياً لا يقل بشاعة عن نظام داهومي، وأن ينصبوا محكمة مماثلة لمحاكم التفتيش، وأن يرتكبوا مذابح بشرية مشابهة لمذابح المكسيك القديمة”  لهذا ـ يقول لوبون ـ إن براعة الحكام، كبراعة المحامين، تتمثل في معرفة كيفيات التلاعب بالكلمات. وأنه لفنٌ صعب. ذلك لأن الكلمات نفسها تمتلك في المجتمع نفسه معاني مختلفة بالنسبة للطبقات الإجتماعية المختلفة. فهذه الطبقات تستخدم ظاهرياً نفس الكلمات ولكنها لا تتكلم نفس اللغة.[26]

القضية الأيديولوجية إذاً، تبدأ من الكلمات المؤلِّفة للفكرة. وهذه الأخيرة هي نفسها التي ينطوي عليها الخطاب واستراتيجيته. ولذا فلن تكون  الفكرة ذات جدوى ما لم تنطوِ على سحر ما. هذا السحر الذي من شأنه أن يفجر القوى الكامنة في نفوس حامليها. إن هذه الفكرة التي ستتحول تدريجياً إلى عقيدة ليست بالضرورة أن تكون حقيقية وواقعية لكي تكون  ذات فعالية. ربما على العكس فكلما كانت مثالية أكثر كان لها تأثير أكبر. سنرى أنه بمجرد أن تدخل الفكرة نطاق “المأسسة” فسيتعرقل تهيؤها للتغيير. وبهذا تكون قد حكمت على نفسها بالضمور والابتراد. لقد حرص غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” على تأويل هذه الإشكالية في كثير من العمق حين رأى أن قوة الكلمات التي تؤلف الفكرة المعتقد بها، مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماماً من معانيها الحقيقية. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحياناً قدرة على التأثير والفعل. مثال ذلك كلمات: ديمقراطية، اشتراكية، مساواة، حرية ألخ… فمعانيها من الغموض بحيث إننا نحتاج إلى مجلدات ضخمة لشرحها. ومع ذلك فإن حروفها تمتلك قوة سحرية بالفعل، كما لو أنها تحتوي على حل لكل المشاكل. فهي تجمع المطامحة اللاواعية المتنوعة وتركبها. كما وتحتوي على الأمل بتحقيقها. أما العقل والمحاجّات العقلانية قد يمكنها أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية؛ فما أن تلفظ بنوع من الخشوع أمام الجماهير حتى تعلو آيات الإحترام على الوجوه وتنحني الجباه لها. والكثيرون يعتبرونها بمثابة قوة من قوى الطبيعة، أو قوة خارقة للطبيعة. فهي تثير في النفوس صوراً مجيدة وغامضة، ولكن الغموض الذي يظللها يزيد من قوتها السحرية. ثم ينتهي لوبون إلى وصف اسطوري لذلك السحر الناجم من وقع وقوة الكلمات، فيقارنها ” بتلك الآلهة المرعبة المختبئة وراء خيمة لا يقترب منها الرجل الورع إلا ويرتجف مرتعشاً”.[27]

الأيديولوجي في رحلته السياسية

تنبسط السياسة تحت أقدام الأيديولوجي انبساط الأرض لحارثها. فإنها بالنسبة إليه تعني المنهج لكل ما هو فعلي. إن السياسة هي المنطقة الفضلى لكي يمارس الأيديولوجي فعليته الأيديولوجية. وفي هذه الوجهة يظهر الأيديولوجي كسياسي بامتياز. لكن هذا الظهور، لا يعني ـ كما قد يُظَن ـ أن الأيديولوجي مضى ليحل في النطاق السياسي. أي أنه انتقل من مكان إلى مكان، أو من شخصية إلى أخرى. الشخصية واحدة، وليس ثمة من مائز إلاَّ في الوظيفة التي تفترضها سياقات استخدام المعنى. ولسوف يتضح لنا بصورة مذهلة كيف تتمرأى وحدة الأيديولوجي / السياسي، كيف تتكثَّر في الوقت عينه.          

فإذا كانت السياسة والأيديولوجيا حالين لحضورية واحدة، فلكل حال مراتب وألوان ومدارج. وهذه كلها متأتية من أصل واحد، هو الشغف الذي يُدخلها في سياق التوظيف. وحيث أن الأيديولوجيا واحدة في المفهوم، كثيرة الظهور في تحيزات الزمان والمكان، كذلك هي  السياسة. بل إنها غالباً ما تكشف عن نفسها في الفضاءات الشاسعة للسياسة. فإن لأبي نصر الفارابي وهو يؤصِّل فلسفته المدنية أن يقرر بـ “أن السياسة ليست على الإطلاق جنساً لسائر أصناف السياسات، بل هي كالإسم المشترك لأشياء كثيرة تتفق فيه وتختلف في ذواتها وطبائعها، ولا شركة بين السياسة الفاضلة وبين سائر أصناف السياسات الجاهلية (…) وإنما قنَّن المتقدمون هذه السياسات الجاهلية لأن العلم إنما يُحفظ ويُضبط بالقوانين الكلية، وإن كان الموجود من سياسات الجاهلين كثيراً سياسات مركبة. لأن من عَرَفَ طبع سياسةٍ سياسةٍ أمكن أن يعرف السياسة الموجودة ممّاذا هي مركبة، ويحكم عليها بحسب ما يجد من تركيبها، وبحسب ما عرف من طبيعة كل صنفٍ من الأصناف البسيطة. وكذلك الحال في جميع الأشياء العملية، مثل الخطابة والسوفسطائية، والجدل، والصناعة الشعرية. فإن المستعمِل لها الذي ليس له علم بها وإنما يظنّ ويحسب أنه يستعمل البرهان، كثيراً ما  يستعملها مختلطة اختلاطاً مختلفاً.[28]

أما ابن رشد فقد كان على سيرة المعلم الثاني في النظر إلى السياسة على أرض التكثُّر المعنوي وفقاً لتحيّزاتها. لذا سيقرر وجود أربع سياسات هي: السياسة الجماعية، وسياسة الخسة، وسياسة جودة التسلُّط، وسياسة الوحدانية. وها هو يشرحها في ما يلي:

– السياسة  الجماعية، هي السياسة التي تكون فيها الرئاسة بالاتفاق، إذ لا يكون لأحدٍ على أحدٍ فضل.

– سياسة  الخسة، هي السياسة التي يتسلَّط فيها المتسلطون على المدنيين بغية جمع الثروة.

–  سياسة جودة التسلط، هي السياسة التي يكون فيها التسلط عن طريق الأدب، والإقتداء بما توجبه السنة. والسلطان فيها للقانون وأحكامه، والنوع الذي به صلاح أهل المدينة والسعادة الإنسانية.

– أما ما يسميه ابن رشد بالسياسة الوحدانية فهي سياسة الرياسة التي لا يُنقِص السلطان منها شيء، بأن يشاركه غيره.

مع هذا فأنَّى تكثَّرت أحوال السياسة وألوانها، يبقى لكل حال أو لون منها، حزمة من الكلمات المأثورة، تبشِّر بها أو تبرر لها، أو تسعى لتضع للّحظة السياسية المحدَّدة نظاماً متعالياً من المشروعية.

كسـاء الكلمـات

هكذا تمثل الأيديولوجيا لازمة تكوينية للسياسة. ومن دونها لا وجود لفكرة تريد أن تشق سبيلها إلى الفعالية لتصبح جسداً مكتمل الوجود. وقد تكون هذه الرؤية هي التي حدت بعالم الأنتربولوجيا المعروف كلايفور جيرتس إلى وصف الأيديولوجيا بأنها الخارطة الفكرية للكون. أي الكيفية التي نرى إلى الكون من خلالها. أما الحاجات السياسية فليست معطى موضوعياً مجرداً وإنما هي معطى منفرداً، متشخصاً تحكمه قيم ومصالح وعصبيات. ربما هذا هو الشيء الذي دعا آخر فلاسفة الحداثةفي الغرب فريدرك نيتشه إلى وجوب نقل كل المشكلات إلى الشعور وصولاً إلى الشغف. كشرط ضروري – كما يُفهم من كلامه – لكشف الحقيقة من دون مواربة و خداع. وسنرى، حالئذٍ، كيف سعت الأيديولوجيا لتسمو فوق التنميط والتجزئة والحصر. قصدها في ذلك أن تحل في الميادين الفعالة، وتتلبس كل فكرة طموحة فتحيلها إلى أمر واقع. وبهذا ستظل على شموليتها ورغبتها في السيطرة. وإذا لم يتسن لها أن تسمو على كل شيء في يوم من الأيام فقد تلجأ إلى المساومة والمهادنة وفي قلبها شعور عارم بالمهانة. هذه الآلية تنطبق على شبكة التناقضات داخل مجتمع بعينه وبين مجموع البيئات والجماعات المحكومة بمصالحها وأهوائها وشروط استمرارها. وحين تذوي ظاهرة أيديولوجية  في مكان ما ولظروف معينة فلا يعني هذا أن حقيقتها الوجودية هي التي ذوت واندثرت وإنما الجهاز الأيديولوجي الخاص بالظاهرة. أي بشرط انوجاد ذاك الجهاز أخذ الحادث السياسي والتاريخي لونَهُ المخصوص. فقد تموت أيديولوجية ظاهرة سياسية بموت الأخيرة أو اضمحلالها، سواء تعلق الحادث بدولة أو جماعة أو طبقة اجتماع – سياسية. فالحاصل هو أن ما اضمحل وذوى هو مادة الظاهرة حصراً، لا قابلياتها التي لا تفتأ أن تولد من جديد سواء في المكان نفسه على يد أناس جدد أو في مكان آخر وزمان آخر، لتؤسس لانبثاق جديد في ظاهرة أخرى. إن هذا النمو المتجدد مقدر له أن يعبر السيرورة نفسها التي حكمت الولادة والنمو والكمال صعوداً ثم الإضمحلال والموت نزولاً.  لكن الظاهرة الأيديولوجية التي تنفجر بعد أن تكمل دورة حياة مقدرة تبعاً لظروفها الواقعية، تموت ويبقى ذاك  الذي حفزها على الولادة فإنه يمكث في القاع العميق للضمير البشري. ففي هذا المعنى يكون فناء الظاهرة فناءً سياسياً وليس فناء وجودياً. أي أن الأيديولوجيا التي غطت سيادة الظاهرة ردحاً من الوقت، لم تغب لحظة عن تغطية ظواهر أخرى وإن جهرت بخطاب مختلف وكلمات أشد قرباً إلى البراءة والعدالة وسعادة الفرد. في الممارسة السياسية يكون على الأيديولوجيا أن تتوسل كل كلام جذاب لتهيمن وتسود وتتسلط وهي تدعو المحكومين أو من هم في الطبقات الدنيا للإيمان المحموم بالقيم والشعائر التي تفسر وتبرر خضوعهم. ومن وجه آخر فإن ثمة ما يشبه التبادل الأيديولوجي بين  المهيمِن والمهيمَن عليه. كل فريق يختزن في داخله أيديولوجيا تطابق غايته في السيادة أو في الانقلاب على من له السيادة عليه. ربما بسبب هذا اللبس البليغ في مدارج استعمال الأيديولوجيا في الحقل السياسي راح عالم الإجتماع الأميركي جيمس سكوت يؤول الهيمنة الأيديولوجية بأنها تحصل عندما يوجد احتمال أن يتمكن عدد لا بأس به من الخاضعين من شغل مواقع في السلطة. أو عندما يظن المرء أنه سيتمكن ذات يوم من ممارسة فعل السيطرة الذي يتحمله اليوم. فهذا يعتبر حافزاً باطنياً يخدم في إضفاء المشروعية على أنماط الهيمنة. إنه يشجع على الصبر والرغبة في المحاكاة، كما أنه، أخيراً وليس آخراً، يعد بنوع من الثأر، حتى لو كان هذا الثأر سوف يمارس على طرف لم يكن هو في البداية موضوع الكراهية.

إن هذا ما يساعد على تفسير السبب الذي يجعل العديد من الأنظمة المسيطرة التي عاشت ردحاً طويلاً من الزمن قادرة على أن يكون لها مثل هذه الديمومة، إن الصغير الذي يستغل من قبل الكبار سوف يقيض له أن يحصل على فرصته حتى يصبح كبيراً بدوره. أما أولئك الذين يقومون بأشغال منحطَّة لصالح الآخرين في مؤسسة ما، فسوف يكون من شأنهم أن يجعلوا آخرين يقومون بتلك الأشغال لصالحهم إن قيض لهم أن يتوقعوا الإرتقاء في عملهم إلى درجة أعلى…[29] هكذا تأخذ الأيديولوجيا منحنىً تبادلياً بين الحاكم والمحكوم ثم لتتمظهر في كل محل بخطاب مناسب.

لنرَ أولاً كيف يبدو أثر الخطاب الأيديولوجي التبادلي:

يُظن أحياناً أن الخطاب الأيديولوجي العلني يكف عن فعله بمجرد بلوغه دوائر المتلقيِّن من التابعين أو الخصوم. غير أن الآثار الناجمة من عمليات الإرسال لا تفتأ أن ترتد على المرسل عبر تمثُّله لروح الخطاب نفسه. فتلك الحركة الإرتدادية لأصداء الخطاب على مرسله ليست مجرد عودة سلبية لعمليات الإرسال، بقدر ما تشكل اكتمالاً موجباً لديالكتيك إنتاج الخطاب الأيديولوجي. ليست ثمة انفصال بين حدَّي العلاقة التي يتألف منها الخطاب. فما دامت الإستجابة حاصلة عبر العلاقة اللغوية الناشئة بين الحاكم والمحكوم فإن الخطاب يكف عن أن يكون أحادياً، ليُمسي خطاباً واحداً في نطاق جدلية الذهاب والإياب بين المرسِل والمرسَل إليه.

كيف تحصل هذه الجدلية؟

تستأنف الحكاية دورتها انطلاقاً من الخطاب العلني الذي هو الصورة الذاتية لمرسل

الخطاب على حد وصف عالم الإجتماع الأميركي جيمس سكوت. هذه الصورة الذاتية التي ترسمها النخب المسيطرة لنفسها هي ذات مهمة محددة. وتقوم على الرغبة في  أن تكون هذه هي الصورة التي تُرى بها. وبالنظر إلى قدرة النخب المسيطرة، في العادة، على إجبار الآخرين على أداء ما تريد منهم أن يؤدوه، فإن من الواضح أن خطاب الأداء العلني هو خطاب غير متساوق. ففيما نجد أنه من غير المحتمل له (الخطاب) أن يكون مجرد تراكم من الأكاذيب وسوء التفسير، نرى هذا الخطاب كسردٍ شديد التحيُّز والاجتزاء. لقد صيغ وأُريد منه

أن يكون مؤثراً، وأن يؤكد على قوة النخب المسيطرة ويعطيها سمة طبيعية، وأن يغطي على قذارة غسيل حكم هذه النخب أو يقلل من شأن تلك القذارة.[30]

يوجد في الخطاب الأيديولوجي التبادلي بين الحاكمين والمحكومين منطقة اشتراك تقوم على ازدواجية الشعور بالأمان والخشية في آن.

يتأتى هذا الشعور من حقيقة وجودية محيِّرة ومثيرة للهلع. حقيقة أن القويّ قويٌ إلى حين، وأن الضعيفَ ضعيفٌ إلى حين. وعلى الرغم من أن الإقرار بهذه الحقيقة خصوصاً من جانب الحاكم أمر غير وارد في خطابه العلني، إلا أنها -أي الحقيقة- تظل سارية على اليقين في قرارة نفسه. ولكن غالباً ما يجري طمسها بطقس رتيب من الكلمات، وذلك  للإيحاء بديمومة البقاء على ذرى القوة والإقتدار.

كذلك هو الحال بالنسبة للمحكوم. فإنه حتى لو لم يكن يملك القدرة على الجهر بما يرتبه عليه الإعتقاد بنسبية ضعفه، أو نسبية قوة الحاكم، يبقى يملك الحيلة لإجراء مقاومة ما. قد تبتدئ المقاومة بالصمت. ولكنْ الصمت الماكر المنطوي على وعد مكنون بيوم يأخذ فيه خصيمه اللدود على حين بغتة منه. إنها أيديولوجيا الصمت، التي لا تفتأ إثر صبر مؤجل حتى يصدح صوتها كزلزال يهدم سلطان الخشية.

هنا تظهر جدلية التبادل على أتمِّها. فإن كلاً من المحكوم والحاكم يروح يبتني مقاومته بكلمات تعلن الموت الرمزي لخصيمه. كأنما قدر الأيديولوجيا أن تلتجئ إلى هذا النوع من الكلمات كلما آنت لحظة مواجهة.

إن كل  نص يرنو إلى الهيمنة يحمل بذرة أيديولوجية ما. فالرغبة في الهيمنة تبتدئ من فكرة الهيمنة. وحين يسعى أصحابها إلى حملها على محمل الجد والمرارة فإنما يقصدون في ذلك جذب الهِمَمِ والعصبيات لكي تصبح عاملاً مكوناً لفعالية كل ظاهرة سياسية أو ثقافية أو سوسيولوجية. لكن في اللحظة التي تكف فيها رغبة الهيمنة عن مجرد كونها فكرة تكون قد غدت جسماً يتحرك وينمو في الإجتماع العام. وإثرإذٍ يروح هذا الميلاد الجديد ليبتدئ رحلة جديدة بوصفه سلطة، فيما تحتاج هذه بدورها إلى رداء أيديولوجي يضمن سيادتها ويؤمن لها سيرورة بقائها واستمرارها أطول أمد ممكن.

ليس ثمة منطقة محايدة على طول مساحة الأيديولوجيا. أي أن الفاعل السياسي الاجتماعي وهو يسبح في نهر الأيديولوجيا إنما يتحد بمجرى الماء، فلا يعود يملك إلاّ أن يتَّبع قوانين المجرى وجاذبية النهر. لذلك كان الكلام عن شخص غير متورط في اللعبة الاجتماعية يعدُّ ضرباً من المستحيل. لا مناص إذا من حلول الفكرة في قلب المصلحة لكي تستوي على نشأة التخاصم الأبدي بين الحاكم والمحكوم.

إنَّ فكرة الهيمنة وهي تنتقل من حال إلى حال، تبقى تحافظ على عصبها البدئي. فهو الذي يحملها لكي تحفر سبيلها نحو الإنبعاث من جديد. وهو الذي يجعل للكلمات التي يصوغها الفاعل  بإتقان ويبثها إلى السامعين، قدرة عجيبة على التمثيل والتحويل والتوليد المتواصل. من الواضح، كما يقول “مور” في كتابه ( اللاعدالة In- justice ) إن أي فريق حاكم ينتهي به الأمر إلى جعل نفسه ضعيفاً أمام أي خط من خطوط النقد، فيما هو يحاول أن يبرر مبادئ التفاوت الإجتماعي التي يؤسس عليها حقه في السلطة. ويبدو الوضع منطقياً إذا ما وجد الفريق المحكوم نفسه أمام هذه الصورة. فسيعمل هذا الفريق، بما أوتي من عزم لكي يصعِّد من نقده، وكشفه عما في السلطة من عيوب وخطايا. ها هنا تتدخل الشائعات بكلمات ساحرة، وجذابة إلى ميدان المواجهة. فتتحول هذه بدورها إلى سلطة جبارة، تختفي حيناً، وتظهر حيناً، تبعاً لشروط الأداء التي تفترضها ظروف العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. هكذا سوف يترتب على أية أيديولوجية مسيطرة ذات مزاعم هيمنة أن توفر للجماعات المحكومة أسلحة سياسية يفيد استخدامها في مجال الخطاب العلني… وتأويل هذا النص، إن الجهود الأيديولوجية التي تبذلها النخب الحاكمة، إنما هي موجهة شطر إقناع المحكومين بأن خضوعهم لسلطانها هو أمر عادل. بهذا تتحول نتيجة عمليات الإقناع إلى أيديولوجيا معاكسة، هي في الحقيقة وليدة أيديولوجيا سلطة النخب الحاكمة. وعند هذه النقطة، أي عندما تحقِّق هذه الأخيرة مثل هذه التحولات سيتاح لها فسحة أكبر وأوسع لإنجاز المزيد من الإستيلاء والاستحواذ. لقد أصبح بين يديها الآن سلطتان متحدتان، متضافرتان، سوف تنتجان في المطاف الأخير شرعية التصرف بقيم ومصالح المحكومين من دون أن يستنفر هؤلاء احتجاجاً واعتراضاً على حق سلب منهم. غير أن النخب الحاكمة التي استأثرت بإذعان المحكومين واستسلامهم، لن تكتفي على ما يبدو بما بين يديها. ستذهب إلى خطاب من نوع جيد. وهو استتباع (ظاهرة اعتقاد المحكومين بأن خضوعهم أمر عادل)، بظاهرة جديدة تقوم على خلق إيمان راسخ لدى هؤلاء بأن حصول أصحاب الامتيازات على الثروة هو أمر عادل أيضاً.

إن هذه الظاهرة الشاملة، متجذرة عميقاً في عدد من الأنماط السيكولوجية على ما بيَّن جيمس سكوت، “فحين يقارن رجل سعيد وضعيته بوضعية إنسان تعيس، لا يبدو مسروراً بواقع أنه سعيد، بل نراه يرغب في أكثر من هذا… يرغب في الحصول على الحق في أن يكون سعيداً، وعلى الإعتقاد الراسخ بأنه إنما اكتسب ثروته، بالتناقض مع الإنسان الذي لم يحصل على أية ثروة، والذي كان عليه بدوره أن يكتسب تعاسته”. ثم يمضي إلى القول:

إن ما تطلبه طبقة أصحاب الإمتيازات من الدين، مثلاً – إن كانت تطلب منه أي شيء على الإطلاق – إنما هو هذه الطمأنينة السيكولوجية لمشروعية حصولها على امتيازاتها[31].

على أن الرغبة السلطوية في الحصول على طوباوية جماهيرية تمنحها شرعية الحصول على الثروة والإمتيازات من دون أسئلة، وعلامات استفهام مضمرة أو معلنة، إنما هي الرغبة المتأمَّلة لدى الحاكمين. لذلك فهم لا يكفّون عن المثابرة من أجل صناعة وإتقان النص الذي سيمكنهم من ذلك. وهو في هذه الحالة نص جذاب من الدرجة العليا. نص ميتافيزيقي لا يدانيه نص أرضي ويكون له مفعول السحر المنطوي على سر لا يفقه تأويله سوى صاحب السلطة نفسه. وغالباً ما يكون النص الميتافيزيقي نصاً دينياً تسليمياً لا يقبل الجدال أو السجال أو السؤال. فهذا سيمكن السلطة من ضبط سيرورة تحكُّمها بالواقع المحكوم على صورة مطلقة.

يستوي الخطاب الأيديولوجي في حيِّز كونه سلطة، أو بما هو نحو من الكلمات ترنو  لتصير سلطة، على صفة المنع والحجب؛ وعلى إقامة الحد على كل مقابل مختلف. فللخطاب الأيديولوجي بهذه الصفة منطق داخلي، أكثر حالات بروزه وانكشافه تكون في الاجتماع السياسي؛ حيث يتمأسس كل شيء في هذا الاجتماع على نظام السُلَط وتحيُّزات الجماعة. يقوم الخطاب الأيديولوجي بتبرير قيُّومية الجماعة على أفرادها أو جماعة على الجماعات الأخرى. أما الفرد فلا وجود له في لغة ذلك الخطاب، او بصفة كونه فرداً ذاوياً في نظام الجماعة. يقول إميل شارتييه (Emile Chartier)  أحد أكبر أساتذة الفلسفة في فرنسا في خلال النصف الأول من القرن المنصرم “يفكر الإنسان دائماً في وحدته وصمته أمام الأسياد. وبمجرد أن يفكر الناس جماعياً حتى تسوء الأمور بسرعة. يضيف :” ليس أعدى عند الفيلسوف من سياسة المجتمع. فسياسة الفيلسوف هي سياسة الفرد. ذلك أن المجتمع -عند شارتييه- الذي اتخذ له اسماً مستعاراً هو آلان (Alain) – هو دائماً قهر وقمع. فهو ينتج بصفة دائمة ومستمرة الحرب والعبودية والشعوذة بطبيعته الخاصة. فالإنسانية تجد نفسها دائماً في الفرد في حين تجد البربرية نفسها في المجتمع[32].

لقد انبرت الفلسفية السياسية المعاصرة في الغرب الى الحد الأقصى في إظهار خصومتها للخطاب الأيديولوجي. ولا سيما في تجلِّيه السياسي. ولكأن الخطاب، بحسب نظير شارتييه ومعاصره ميشيل فوكو، هو أحد المواقع الذي تمارس فيه السياسة بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. ويبدو أن الخطاب في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة بالسلطة. وما المستغرب في ذلك – يقول فوكو – ما دام الخطاب – وقد أوضح لنا التحليل النفسي ذلك – ليس فقط هو ما يظهر أو ما يخفى الرغبة، لكنه أيضاً هو موضوع الرغبة. وما دام الخطاب ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة بل هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو  السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.[33]

أيديولوجيا ضد أبنائها

لا شك في أن انخطاف المحكومين بسحر النص يؤدي إلى تحولهم قوة تجديد لسلطة الحاكمين. إن هذه الدينامية المفارقة ناجمة – كما يبين جيمس سكوت-  من شوق الجماهير الدائم إلى البطولة المخلصة حتى لو كانت بطولة كاذبة. وناجمة كذلك من ميلها الغريزي نحو اللامعقول. وبما أن المحرضات القادرة على تهييج الجماهير متنوعة، متعددة، وبما أن الجماهير تنقاد لها دائماً، فإننا نجدها حيوية ومتحركة إلى أبعد حد. فنحن نجدها تنتقل في لحظة واحدة من مرحلة الضراوة الأكثر دموية إلى مرحلة البطولة المطلقة. إن الجمهور يمكنه بسهولة أن يصبح جلاداً، ولكن يمكنه بنفس السهولة أن يصبح ضحية وشهيداً (…) إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير – قد تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو جبانة، وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات – ولكنها سوف تكون دائماً قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها.

تستخدم السلطة بسهولة تلك الأيديولوجيا الخفية الكامنة في نفوس المحكومين. فلهذه الأيديولوجيا المتحولة إلى إيمان راسخ، مخزون قوة قادرة على زحزحة الجبال كما يقول الإنجيل، وأما دور القادة الحاكمين فيكمن في بث الإيمان. سواء أكان هذا الإيمان دينياً أم سياسياً أم اجتماعياً.

الفاعلون الأيديولوجيون هم الذين يخلقون الإيمان بعمل ما، أو بشخص ما أو بفكرة ما. ومن بين كل القوى التي تمتلكها البشرية نجد أن الإيمان كان أهمها وأقواها. القادة يحركون الأحياز الأكثر مرونة وقبولاً وطواعية لدى الجماهير، لكن اللغة التي يستخدمونها غالباً ما تتخذ اللامعقول والمخفي والجاذب لقوى النفس، صفة لها.

وإذن، فلا مجال للحجة العقلية في هذه الزاوية الوظيفية من ساحة الأيديولوجيا. تلك التي يواصل فيها الحاكمون شحن الغرائز بنار الكلمات. وهكذا سنرى في كثير من الأحوال أن الخطيب العقلاني مثلاً أي ذلك الذي يحشد الوثائق والحجج الحسية والمقترحات، ويخطب بها العقل العام، سنراه قليل الحظ في الفوز بدعم الجمهور وتأييده، بينما نرى على العكس من ذلك، حين تنأخذ الجماهير وتتأثر وتتهيأ للحركة إذا ما جاءها متكلم لا يقول شيئاً سوى قرع الطبول والكلمات الساحرة العجيبة..[34]

لا تظل الأيديولوجيا على حال وحيدة الجانب. فما دامت حمالة وجوه، مثل كل نص قابل للتأويل، فإن استخدامها المعاكس هو على نفس الدرجة من الفعالية. فإذا كان الحاكمون يستطيعون صوغ منظومة أيديولوجية متحركة ولا متناهية بقصد ترميم تصدعهم أو تجديد حكمهم، فللمحكومين أيضاً فرصة النجاح، وعن طريق الأيديولوجيا، لإقصاء حاكميهم والإستيلاء على الحكم. لقد قال مرة فاكلاف هافل – الكاتب ورئيس جمهورية سلوفاكيا الأسبق بعد التحولات العاصفة في المعسكر الإشتراكي – “إن المجتمع حيوان غامض جداً، مكتنف بالأسرار، له وجوه وإمكانات مخيفة عديدة… ومن قصر النظر البالغ أن نعتقد أن الوجه الذي يعرضه المجتمع لك في لحظة من اللحظات، هو الوجه الصحيح الوحيد. لا أحد منا يعرف جميع الإمكانات التي تكمن نائمة في روح السكان”…

كان هافل يومئ إلى “جيولوجيا اجتماعية” لا بد أن تختلج في يوم من الأيام لتطيح بما بدا كأنه ثابت لا يشوب يقينه شيء. إن هذه “الجيولوجيا” كامنة متحفزة في ثنايا المحكومين. وعلى قواعدها سيبنون قواهم ويراكمون عدتهم وعديدهم. ويصوغون كلماتهم المناسبة كوقود ينشر النار في الهشيم. والتجارب المعيَّنة تدل، بما لا يرقى إليه الشك، على أن الجماهير لا تنقصها القدرة والنباهة على صنع كلامها وخطبائها وقيادييها. وهي إذ تستهل زمن الإعداد للثورة تأخذ مطامحها ورغباتها شكل خطاب هادر مملوء بشغف الكلمات. هذا الشغف هو الذي سيظهر على الملأ في صورة خطاب علني، ودعوة ذات صفة رسالية فوق طبيعية.

إن الخطاب والدعوة هنا، هما الأيديولوجيا المعاكسة عينها. إلا أن هذه لا تختلف عن تلك التي يصنعها الحاكمون، أو يلتجئون إليها في حالات الضرورة، إلا في التوجيه المراد لها. ربما تأخذ أيديولوجيا السلطة الحاكمة وأيديولوجيا الجماهير المحكومة اللغة نفسها والمظلة الأخلاقية نفسها، وهذا يعني، على الأكيد أن الأيديولوجيا هي مثابة لعبة حكائية يدخلها من يشاء من دون استئذان حتى ينال غايته العظمى، إن الأيديولوجيا – كما يقول تربورن – لا تخضع الناس لنظام معطى فقط، بل هي توظِّفُهم، وتهيُّؤهم أيضاً من أجل العمل الإجتماعي الواعي، بما في ذلك أفعال التغيير المتدرج أو الثوري. إن الأيديولوجيات لا تعمل فقط كـ”أسمنت اجتماعي”. أما القصد من توصيف كهذا فيرمي إلى النظر أن المعطى الأيديولوجي لا يؤخذ للتسكين والإقناع والمخادعة فحسب، وإنما أيضاً وأساساً كمعطى للفوضى والتوتر والتشكيك والثورة. وفي اعتقاد تربورن: أنه يبدو من المناسب أكثر، ومن المثمر أكثر أن نرى الأيديولوجيات، لا كحيازات، كأفكار (مقولبة) بل كسيرورات اجتماعية. ضمن هذه السيرورات المستمرة، تتداخل الأيديولوجيات، تتنافس وتتصادم، يُسقِطُ أو يعزِّزُ بعضها بعضاً. لكن العملية الراهنة للأيديولوجيا في المجتمع المعاصر يوضحها ضجيج الأصوات والإشارات في شوارع المدن الكبرى أكثر مما يوضحها النص الواصل بصفاء إلى القارئ المعزول أو المعلم أو الشخصية التلفزيونية التي تخاطب جمهوراً منزلياً هادئاً…

إنها بكلمة، الفضاء الذي يسبح العالم الجديد في داخله من دون أن يتنفس بعد…

قائمة المصادر والمراجع

  1. الأمير ـ ترجمة خيري حمَّاد ـ دار الآفاق الجديدة ـ
  2. انظر – منذر عياشي – النص: ممارسته وتجلياته – مجلة الفكر العربي  المعاصر – عدد (96-97) 1992.
  3. بول ريكور – محاظرات الأيديولوجيا واليوتوبيا – تحرير جورج هـ. تيلور – ترجمة فلاح رحيم – دار الكتاب الجديد المتحدة- بيروت 2002 .
  4. جوران ثربورن ـ ايديولوجية وسلطة اليديولوجيا ـ ترجمة الياس مرقص ـ دار الوحدة ـ بيروت ط أولى 1982 ـ ص116ـ117.
  5. جيمس سكوت ـ المقاومة بالحيلة ـ كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم؟ ـ ترجمة ابراهيم العريس ومخايل خوري ـ دار الساقي ـ بيروت ـ لندن 1995 ـ
  6. حمد عابد الجابري ـ العقل السياسي العربي ـ محدداته وتجلياته ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ الطبعة الرابعة 2000 ـ ص10.
  7. “الأمير” ـ تعريب: خيري حمَّاد ـ تعقيب فاروق سعد ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت 1995 ـ
  8. الترجمة العربية في مجلة “مدارات غربية” العدد الثالث ـ أيلول ـ تشرين أول ـ 2004.
  9. دوبريه في المرجع الذي اعتمده الجابري وهو كتاب العقل السياسي: Régis Debray, Critique de laraison Politique: Gallimard, 1981, P.50.
  10. عبد الله العروي ـ مفهوم الأيديولوجيا ـ المركز الثقافي العربي ـ ط4 ـ 1988 ـ
  11. غوستان لوبون ـ سيكولوجية الجماهير ـ ترجمة وتقديم هاشم صالح ـ دار الساقي ـ بيروت ـ لندن ـ 1991 ـ ص120.
  12. الفارابي –  فصول منتزعة – تحقيق وتقديم وتعليق د. فوزي متري نجار – دار المشرق – بيروت ط 2 – 1993 –
  13. موريس روبان ـ تاريخ الأفكار السياسية المقارن ـ نقله عن الفرنسية دعد قنَّاب عائدة ـ المركز الثقافي العربي ـ 2004 ـ ص33.
  14. – Régis Debray: Penser le Religieux Magazine Littéraire No 124. (June) 2003.
  15. Alain: Eléments d’une doctrine radicale “3ém edit. Nrf.Gallimard – Paris. 1925 – P.21
  16. Debray, Critique de la Politique, P.50.


[1] بول ريكور – محاظرات الأيديولوجيا واليوتوبيا – تحرير جورج هـ. تيلور – ترجمة فلاح رحيم – دار الكتاب الجديد المتحدة- بيروت 2002 – (ص 222).

[2] انظر – منذر عياشي – النص: ممارسته وتجلياته – مجلة الفكر العربي  المعاصر – عدد (96-97) 1992.

[3] عياشي – مصدر سبقت الإشارة إليه.

[4] ج. هـ. تيلور ـ المصدر نفسه ـ ص32.

[5]ج. هـ. تيلور ـ المصدر نفسه ـ ص32.

[6] المصدر نفسه ـ ص49.

[7] المصدر نفسه ـ ص49.

[8] – عبد الله العروي ـ مفهوم الأيديولوجيا ـ المركز الثقافي العربي ـ ط4 ـ 1988 ـ ص45.

[9] – حمد عابد الجابري ـ العقل السياسي العربي ـ محدداته وتجلياته ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ الطبعة الرابعة 2000 ـ ص10.

[10] – العروي ـ مصدر سبقت الإشارة إليه ـ ص41 ـ42 .

[11] – العروي ـ المصدر نفسه ـ ص43.

[12] – راجع دوبريه في المرجع الذي اعتمده الجابري وهو كتاب العقل السياسي: Régis Debray, Critique de laraison Politique: Gallimard, 1981, P.50.

[13] – يشير دوبريه هنا إلى كتاب جورج بيروردي السياسة في بلاج العجائب الصادر في باريس عام 1980.

[14] Debray, Critique de la Politique, P.50.

[15] – الجابري ـ مصدر سبق ذكره ـ ص13.

[16] – المصدر نفسه ـ ص12.           

[17] – Régis Debray: Penser le Religieux Magazine Littéraire No 124. (June) 2003.

راجع أيضاً الترجمة العربية في مجلة “مدارات غربية” العدد الثالث ـ أيلول ـ تشرين أول ـ 2004.

[18] – جوران ثربورن ـ ايديولوجية وسلطة اليديولوجيا ـ ترجمة الياس مرقص ـ دار الوحدة ـ بيروت ط أولى 1982 ـ ص116ـ117.

[19] – المصدر نفسه ـ ص129 ـ 130.

[20] – الأمير ـ ترجمة خيري حمَّاد ـ دار الآفاق الجديدة ـ ص94.

[21] راجع “الأمير” ـ تعريب: خيري حمَّاد ـ تعقيب فاروق سعد ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت 1995 ـ ص6.

[22] –  المصدر نفسه ـ ص8.

[23]  موريس روبان ـ تاريخ الأفكار السياسية المقارن ـ نقله عن الفرنسية دعد قنَّاب عائدة ـ المركز الثقافي العربي ـ 2004 ـ ص33.

[24] – المصدر نفسه ـ ص46.

[25] – موريس روبان ـ المصدر نفسه ـ ص50.

[26]غوستان لوبون ـ سيكولوجية الجماهير ـ ترجمة وتقديم هاشم صالح ـ دار الساقي ـ بيروت ـ لندن ـ 1991 ـ ص120

[27]غوستان لوبون – المصدر نفسه- ص 116.

[28]الفارابي –  فصول منتزعة – تحقيق وتقديم وتعليق د. فوزي متري نجار – دار المشرق – بيروت ط 2 – 1993 – ص: 92 -93

[29]جيمس سكوت ـ المقاومة بالحيلة ـ كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم؟ ـ ترجمة ابراهيم العريس ومخايل خوري ـ دار الساقي ـ بيروت ـ لندن 1995 ـ ص42

[30]جيمس سكوت المصدر نفسه –  ص 43.

[31] – جيمس سكوت ـ المصدر نفسه ـ ص501.

[32] اتخذ اميل شارتييه اسماً مستعاراً هو آلان ( Alan ) وكتب عدداً من الكتب والمقالات الفكرية والفلسفية بهذا الإسم.

[33] Alain: Eléments d’une doctrine radicale “3ém edit. Nrf.Gallimard – Paris. 1925 – P.

[34]جيمس سكوت ـ المصدر نفسه ـ ص51.


_______
*د. محمود حيدر/ مفكر وأستاذ محاضر في الفلسفة والإلهيات/ رئيس تحرير فصلية “علم المبدأ”.

وسوم:

اترك رد

جديدنا