صيد المعنى: مقاربات فلسفة السفر بين الزمان والمكان

image_pdf

بَصر التَفَكُّر:

استلطف كثيرًا ما جاء في كتاب أبي الفرج الجوزيصيدُ الخاطر“،[1] وأنا أسطر أول مشاهداتي عن مدينة إسطنبول، وكانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهب، فقررت حفظ ما يخطر، لكيلا يُنسى. وقد قال عليه الصلاة والسلام: قيدوا العلم بالكتابة، لأنه كم قد خطر لي شيء فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه. ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذه الكتابة قيداً لصيد الخاطر، ومثل هذا أفعل.[2] إذ حدثت نفسي بجدٍ صارم، عند بدء إقامتي بها، أن أكتب عن اسطنبول؛ “انطباعًا في مقدمة الطريق، وتأملًا في وسطه، وبحثًا عن المعنى في عمقه”، حتى أصبحت من بعد، مستقرًا ومقامًا. فالمعني العميق للسفر هو ضالتي، منذ أن تعلق الخيال بالأماكن البعيدة، وعقد القلب والعقل النية، وتجاسرت الأقدام على حمل الحواس إلى حيث مظان الشواهد المظنون فيها الحُسن والقيمة، وربما السحر، والغرابة، ومواضع التعلق، وخفايا الافتتان. ففي الحاضر المنظور ننجذب لمعارف نألفها، وفي المشاهدة نقترب من علم عين اليقين، والتعلق بموثوقية التجربة المباشرة حين نترصد مواضع الدهشة في غرابة المكان، لنحيل مكنوناته لاختبارات المعنى. أوليست هذه فلسفة السفر، التي إن أقعدتنا عنها الحركة في مجاهل المكان الحاضر، لا نتوقف عن تَخَيُّل مؤانستها وإمتاعها في عمق الزمان الماضي، أو استشرافًا للمستقبل، فوقع الزمان لا يفتأ يلقي بِثقل تصوراته على حقائق المكان، وبغير استئذان.

ويقيني أنني لن أجد عبارة أكثر رِقَّة ودِقَّة، بل فصاحة، من قول ابن الجوزي ذاك، الذي ينم عن تجربة فلسفية عميقة في خفايا النفس الإنسانية؛ وهي ملتحفة بِدفء المكان ومتدثرة بِسعة الزمان. فمن المثير للاهتمام أن تأخذ منظورًا مختلفًا للأشياء المألوفة، وهو أمر يُمكن الزعم أنه نتيجة للسفر، إذ تذهب إلى مكان آخر ثم ننظر إلى أنفسنا بشكل مختلف. فإرادة السفر كفكرة الفلسفة كلاهما خروج جريءٌ من الألوف إلى المجهول لنتمكن من صياغة وجهات نظر جديدة حول معنى الحياة، الذي يتطلب البحث عنه أفقًا يتسع بقدر جدية المسعى وجهد الاستكشاف. لذلك، فإنه كلما تمكنا من تعيين ما نُحَصِّلُهُ من المعارف الممكنة، فستكون هناك مساحات شاسعة أخرى من الخريطة فارغة ومتاحة للتنقل والتأمل. ومثلما يَقِرُّ مات جونسون أن البشر لا يعرفون الكثير حقًا عن كوكبنا، إذ نحن كبشر لا نمثل نوعًا واحدًا على كوكبٍ واحدٍ في كون هائل، ولم نكن موجودين منذ بدء الخليقة، وأن علماء الأحياء لا يزالون يتعرفون على الآلاف من النباتات والحيوانات الجديدة كل عام. وكما حال علماء الأحياء، فإن الفلاسفة يحاولون غالبًا رسم خريطة معرفية للأشياء، التي لا نعرفها. وبالقطع، فإنهم لا يحاولون بالضرورة تزويدنا بالإجابات على الأسئلة الحرجة، لكنهم يقولون، “مرحبًا، ها هي منطقة التفكير بأكملها، التي لم يتخيلها أحد من قبل أن تكون شيئًا، لكنها شيء” الآن.[3] وهذا ما يدفعني للاعتقاد أن السفر والفلسفة لديهما قدر كبير من القواسم المشتركة، لأن كلاهما يشتركان في هذه الرغبة في رسم خريطة لأماكن غير معروفة، ولديهما هذا الدافع العميق المشترك، الذي لا يبدو واضحًا، لكنه موجود بالفعل.

الفوائد الخمسة:

لقد أكثر الناس، منذ القِدَم، في تِعداد فوائد السفر، التي تَعُودُ بالنفعِ على الإنسان وصحته العقلية؛ ومنها النفسية المعنوية، والجسدية المادية. وتبدو ذاكرتنا الجماعية؛ كناطقين بلغة الضاد، قد رسخت فيها غير قليل من المحفوظات، التي صارت أقرب لـ”التمائم”، أو ما يتخذه علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا كعلامات دالة على خصوصية ثقافة ودين الجماعات المعزولة بين ضوابط هذه الخصوصية. فصارت دَالَّتنا على السفر بيت الأمام الشافعي: تغرَّب عن الأوطانِ في طلب العلا، وسافِرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد تفـــرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ، وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجـد.[4] ورغم أن هذين البيتين جامعين مانعيْن خالديْن، جمعا فوائد السفر، التي لا تعد ولا تحصى، ويندر أن تجد سببًا لا يكون فرعًا من الأصول الخمسة، والتي أرساها الشافعي نهجًا لحياته. وما كان يتسنى لإمام المذهبين، الذي قال فيه الإمام أحمد: “كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس”،[5] يجدد حياته بالأسفار، ولأنه عالمٌ عاملٌ بما يقول، فكان حثُّه الناس على السفر انعكاسًا لواقع حياتِه هذه، أليس هو صاحب مذهب العراق ومذهب مصر؟ ولا عجب إذًا أن ترحل أم الشافعي؛ ابن غزة بفلسطين، به إلى مكة وهو في عمر السنتين، فينشأ على طلب العلم، حتى يؤذن له بالإفتاء قبل سن العشرين. وعلى هامش ذلك يقيم فترات في بادية قبيلة “هذيل” فيكتسب الفصاحة وجودة الشعر. ثم يمضي إلى مدينة الرسول ليدرس تحت إمامها “مالك”، ثم يرحل إلى اليمن، ومنه إلى بغداد بعد الثلاثين بقليل ليتتلمذ على يد “ابن الحسن الشيباني” رأس الحنفية. وبذلك حاز علم المذهبين. ثم عاد إلى مكة وهو على أعتاب الأربعين ليستكمل طلب العلم والتعليم. وبعد تسع سنوات عاد إلى بغداد، التي لم يلبث أن غادرها وهو في الخمسين إلى مصر ليصير إمامها إلى زمننا هذا.[6]

ونتذكر في يفاعنا، ومراحل دراستنا الباكرة في مدرسة المسلمية الأميرية الوسطى، بوسط السودان، أن مقررات الأدب الإنجليزي شملت روايتين للكاتبة والشاعرة الإنجليزية، إيميلي برونتي، الأولى رواية “جينير“، والثانية هي “مرتفعات ويذيرنغ“، وفيما عَلِمنَا أن المؤلفة كانت تُعْرَف بطبعها الخجول، ورغبتها في الانطواء والعزلة، وعدم حبها للسفر. وكان يُسعد الأستاذ أن يُقاِرنها بالشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون، التي “كتبت حوالي 1800 قصيدة، ولم تُنشر سوى مجموعة صغيرة من أعمالها خلال حياتها، ترفض إدخال الضيوف إلى منزلها، أو الخروج إلى الأماكن العامة، وكان ذلك يعزى إلى إصابتها باضطراب القلق الاجتماعي، أو الخوف من الأماكن المكشوفة.”[7] إن هذا إحساس باطن بأن للاختلاط بالآخرين، أو السفر معهم، أو إليهم أضرار وسلبيات، رغم فوائده ومزاياه العديدة، وهذه الأضرار والسلبيات الناجمة عنه، تؤثر بشكل سلبي على بعض المُسافرين أولًا، ومن ثم على أسرتهم ومجتمعهم؛ منها، “الإحساس بالوحدة، والشعور الدائم بالحنين للأهل والبلد وهذا ما قد يخلق شعوراً سيئاً وإحساساً دائماً بالحزن، وقد يصل لمرحلة الاكتئاب في مراحل متقدمة.”[8] وقد يحسب آخرون ارتفاع التكلفة المادية؛ من أجور تذاكر الطيران وكلفة الإقامة بالبلد، الذي يسافر إليه، وغيرها من مصاريف، والإدمان على السفر، الذي قد يولّد شعوراً بعدم الاستقرار.

لهذا، تتعدد أسباب السفر، وتختلف غاياته ومُسمياته، وإن تقدمت مُفْرَدَةُ “السياحة” على غيرها من أغراض التنقل، التي عرفتها التجربة الإنسانية. فقد اختلطت بها أغراض كثيرة، وتنوعت وتعددت أشكالها ومظانها؛ منها ما هو مستقر بتعريفاته الراسخة، ومنها الجوانب التجارية، التي يحركها الربح وتروج لها فنون التسويق المتطورة. لكن، تبقى النتيجة واحدة وهي النزوع للتغيير، والرغبة في الترويح والفرجة، التي تستدعي الخروج من الموطن الأصلي والابتعاد عن الأسرة والأصدقاء. ويعد السفر ظاهرة قديمة، فمنذ أن خُلق الإنسان وهو يبحث عن كل ما هو جديد، ويبحث عن المكان الأفضل للحياة، الذي يتوفر فيه الأمان والاستقلال، ويسهل فيه توفير الطعام وتأمين المسكن.[9] لذلك، فإن أسباب السفر إلى خارج دائرة الإنسان الثقافية والاجتماعية والجغرافية عديدة ومتنوعة؛ فمن حُلم تغيير الموطن، وقصد تحسين الوضع المعيشي، أو بقصد الدراسة، أو العلاج، فيما بات يُعرف بالسياحة العلاجية، أو مجرد السياحة لرؤية المحميات الطبيعية والحيوانية، أو المنتجعات البحرية في المدن الساحلية. كما ارتبط السفر بالتسوق، أو زيارة الأماكن المقدسة، وحضور الفعاليات الثقافية، والتعرف على الثقافات الأخرى، والمشاركة المؤتمرات الدولية، والأنشطة والمنافسات الرياضية العالمية، أو مجرد الترويح التخلص من الضغوط النفسية، التي تدفع الإنسان لينشد التغيير.

أقوال مأثورة:

تُحِيلُنَا أقوال بعض الأدباء والفلاسفة والرواة في الغرب إلى حالة من التجاذب بين نوازع السلب والإيجاب حول حقيقة السفر؛ فمن ذَمٍ يهبط به إلى أسفل سافلين، إلى إطراء يرتفع به إلى عِلِّيين. وقد تكون مشاغبات الروائي البريطاني بيكو أير مثالًا لحالة التجاذب هذه، إذ يقول متناقضًا داخل نفسه إننا “نُسافر، في الأساس، لنصبح أغبياء صغارًا مرة أخرى… لإبطاء الوقت والاستمتاع بالوقوع في الحب مرة أخرى.”[10] ويقول طاعنًا في وسائل الإعلام، التي لا تنقل له العالم كما يحب، “نسافر لفتح قلوبنا وأعيننا ومعرفة المزيد عن العالم أكثر مما تستوعبه صحفنا”،[11] ولا أدري ما سر هذا الموقف الخاص من الصحف، التي كانت في زمانه بلا مزاحم حقيقي للتعريف بأخبار العالم وصفاته. غير أن بيكو يجد سببًا آخر للسفر حين يقول: “نسافر، في البداية، لنفقد أنفسنا، ونسافر، بعد ذلك لنجد أنفسنا”،[12] وهو القائل: “نذهب بسهولة إلى النادي الصحي عندما يقترح طبيبنا أننا بحاجة إلى مزيد من التمارين، لكننا نتجاهل بانتظام نادي الصحة العقلية، الذي تتطلبه رفاهيتنا حقًا”.[13]

إن بيكو كان بحاجة لصوت سقراط، وربما إيمانويل كانط، بأقدارهما المعروفة كأعظم الفلاسفة الغربيين في كل العصور، اللذين لم يعفرا أقدامهما في السفر، ونادراً ما تركا مدينتيهما أثينا وكونيجسبيرج، لأسباب لم يفصحا عنها على طريقة الكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا، الذي صب جام غضبه في مؤلفه الموسوم بـ”كتاب القلق“،[14] الذي قال فيه: “أنا أمقت أساليب الحياة الجديدة والأماكن غير المألوفة، فكرة السفر تغضبني… آه، دعوا أولئك الذين لا وجود لهم يسافرون، فالسفر لمن لا يشعر، فقط الفقر المدقع لخياله يبرر له الاضطرار إلى التحرك ليشعر.”[15] غير أننا إذا كنا نميل إلى رفض هذا القول باعتباره يشي بمواقف متناقضة، فلنحاول العودة إلى أغنس كالارد وموقفها المعلن “ضد السفر“، لأنها تطالبنا بتحويل موضوع تفكيرنا من سفرنا الخاص إلى موضوع الآخرين. إنها موقنة أنه في الداخل، أو في الخارج، يميل المرء إلى تجنب الأنشطة “السياحية”، زاعمة أن “السياحة” هي ما نطلق عليه السفر عندما يقوم به الآخرون. وعلى الرغم من أنها تعلم أن الناس يحبون التحدث عن رحلاتهم، إلا أن القليل منا يحب الاستماع إليها، وتقول إن هذا الحديث يُشْبِه الكتابة الأكاديمية وتقارير الأحلام، وكل أشكال الاتصال، التي تحركها احتياجات المنتج أكثر من المستهلك.[16]

إن أغنس لاكارد في مرافعتها “ضد السفر“، تعترف بأن إحدى الحجج الشائعة لصالح السفر هي أنه يرفعنا إلى حالة مستنيرة، ويعلمنا عن العالم ويربطنا بسكانه، وتُشِير أغنس إلى أنه حتى صموئيل جونسون، أحد المتشككين في جدوى السفر يقول إن “ما كسبته من تواجدي في فرنسا هو تعلم أن أكون راضيًا بشكل أفضل عن بلدي”،[17] أو كما قال ذات مرة أنه يعترف بأن السفر له طابع معين، بل أنه نصح صديقه بوسويل، وأوصاه برحلة إلى الصين، من أجل أطفاله، قائلًا: “سيكون هناك بريق ينعكس عليهم… سوف يُنظر إليهم في جميع الأوقات على أنهم أبناء رجل ذهب لمشاهدة سور الصين [18]“.وهنا تميل أغنس مع جونسون على أن السفر يجري تصنيفه على أنه إنجاز، لأن من يقومون به يشاهدون أماكن مثيرة للاهتمام، ويستمتعون بتجارب مثيرة، وسيكونون هم أنفسهم أشخاصًا مثيرين للاهتمام. ولكن، في الإجابة على تساؤلها: هل هذا ما هو حقًا ما قُصِدَ بالسفر؟ تذهب مباشرة إلى ما يعتقده بيسوا وإيمرسون وتشيستيرتون، الذين مَرَّ ذكرهم، لتقرر معهم بشكل شبه قاطع أن السفر هو أبعد ما يكون عن جعلنا على اتصال بالإنسانية، فقد فصلنا عنها، لأن السفر يحولنا إلى أسوأ نسخة من أنفسنا، مع إقناعنا بأننا في أفضل حالاتنا، أو ما تسميه وهم المسافر.[19] لطالما حظيت السياحة؛ وهي واحدة من أكبر الصناعات في العالم، بالتقدير لفوائدها الاقتصادية، ولكن في هذا الحجم تتلقى السياحة تدقيقًا منهجيًا فريدًا كوسيلة للتبادل الثقافي. فيما أدت التطورات الحديثة في التكنولوجيا والصناعة، إلى جانب الإعلانات الجذابة، إلى خلق أشخاص مستمتعين مؤقتًا بالرغبة في السفر ووسائله. غالبًا ما يقومون بدورهم بإحداث تغيير ثقافي عميق في الأماكن التي يزورونها، ويحضر جميع المساهمين في هذا العمل تأثير هؤلاء “الضيوف” على “مضيفيهم.”[20]

صناعة الخيال:

يقول عَالِمُ الفلك والفيزيائي الأمريكي كارل ساجان إن الخيال يقودنا غالبًا إلى عوالم لم تكن موجودة من قبل، ولكن من دون أن نذهب إلى أي مكان.[21] ووفقًا لجامعة أكسفورد، فإن التعريف البسيط للخيال هو القدرة على إنشاء صور ذهنية، أو أفكار جديدة، أي أن الخيال جزء من الحياة اليومية للمبدع.[22] لذلك، يُعَدُّ الخيال أحد الأدوات القوية لخلق عالم أفضل، لأنه يجعل الحياة ممتعة ومثيرة باعتباره الشيء الوحيد، الذي يجعل من الممكن تجربة العالم كله في العقل. فنحن نستخدم الخيال في الحياة اليومية عندما نخطط لرحلة قصيرة، أو سفر بعيد. لذلك، فإنه من دون قفزات من الخيال، أو الحلم، نفقد إثارة الاحتمالات. فالخيال هو، كما يقول جورج برنارد شو، بداية الخلق، لأنك تتخيل ما تريده، وستتخيل ما تتخيله، وفي النهاية، تصنع ما تريد، أو في تعريف ألبرت اينشتاين، فإنه أهم من المعرفة، لأن المعرفة محدودة، والخيال يُطَوِّقُ العالم.[23] فالخيال، بلا شط، يشكل الطريقة، التي نرى بها الواقع، ويؤثر على توقعاتنا، وآمالنا، وأفعالنا، وسلوكنا مع نحن مقبلون عليهم، أو نحط رحلنا في ضيافتهم. وقد لا يكون جائزًا لنا أن نعبر نقطة الحديث عن الخيال من دون أن نُشِير إلى قول الروائية المعروفة جي كي رولينغ إن “الخيال ليس فقط القدرة البشرية الفريدة على تصور ما هو ليس كذلك، وبالتالي، أساس كل الاختراع والابتكار. في قدرتها الأكثر تحويلية وإثارة للجدل، إنها القوة، التي تمكننا من التعاطف مع البشر الذين لم نشارك تجاربهم أبدًا. [24]“فمن مِنَّا لم يطالع، أو يقرأ عن، أو يسمع بسلسلة “هاري بوتر“، التي باعت 500 مليون نسخة، وترجمت إلى 80 لغة، بما فيها العربية واليونانية القديمة واليديشية والويلزية، وأكسبت كاتبتها مئات الملايين، لتصبح أو كاتبة مليارديرة في التاريخ.

ولطالما ارتبط الخيال بالسفر والسياحة، منذ القرن السابع عشر، عندما كان رجل الاستعراض وصندوق عرض المشاهد الخاص به يأخذون جمهور القرية إلى الأماكن والمدن والأراضي من خلال قوة القصص، وما زلنا إلى اليوم نعتمد على مجموعة مختلفة من الصناديق لنقلنا بعيدًا في رحلاتنا الخيالية: التلفزيون، والسينما، والحاسوب، وكل الوسائط، التي تعج بها الانترنت، وحتى مجرد فكرة السفر، على ما يبدو، تمنحنا رخصة لأحلام اليقظة. وهكذا يصبح الخيال مفهومًا رئيسًا يطمس الحدود بين حياتنا اليومية وفكرة السفر والتجوال الافتراضي في الأماكن البعيدة. ومع ذلك، وعلى الرغم مما يبدو أنه رابط وثيق ومريح، إلا أن جارث لين وراسل ستيف يعترفان بأن هناك غيابًا للمواد العلمية، التي تبحث في السفر والخيال، ما يتطلب الجمع بين الجغرافيين وعلماء الاجتماع والباحثين الثقافيين والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا والباحثين البصريين وعلماء الآثار والباحثين في مجال التراث، وعلماء الأدب والكُتَّاب المبدعين.[25] ويستكشفان في كتابهما المحرر، الذي جاء بعنوان: “السفر والخيال“، الظاهرة الاجتماعية والثقافية لهذا الخيال وما يدفع إليه من رغبة في السفر. ويعكس الكتاب الخيال في سياق العديد من أشكال السفر الجسدي وغير المادي، ويدعو العلماء للبحث هذا المجال الرائع، والمعقد، بكل ألوانه المبهرة، وانزلاقاته، وغموضه، ودسائسه، التي توفر حافز للتفكير والمناقشة والبحث والكتابة في جوانب المعرفة الغائبة حاليًا عن الأدب.[26] ففي الدراسات السياحية يوجد تحول في التركيز نحو الاعتراف بالطبيعة المتجسدة للوجود البشري، التي يمكن استخدامها لتوضيح، على سبيل المثال، الوكالة والهوية، حيث يرتبط الأداء بشكل أكثر دقة بفكرة تنقل الزوار وأدوارهم في الإنتاج المشترك مع الفضاء العام. وعلاوة على ذلك، فإن ما يتجلى في تلك الطرق غير المحسوسة والمتجسدة، التي يتأثر بها الناس بالمكان قبل إدراكهم الواعي له، وقبل أن يشكلوا استجابة عاطفية. [27] ولك ذلك يحدث لتسهيل “التحقق من الواقع” والحرص على عدم تثبيط الحماس في التطلع إلى الأمام، فإن استكشاف المخاوف والمخاطر بشأن السفر هو الأكثر أهمية.[28]

بين ثقافتين:

لقد احتفت الثقافة العربية الإسلامية كثيرًا بموضوعة الخيال والسفر في المجهول، بما في ذلك السفر عبر الزمن الماضي، مع ندرة في أدب الخيال العلمي ومحاولة تصوّر عالم المستقبل، الذي يعتبر مادة سرد واسع الانتشار في الآداب المعاصرة الأخرى.[29] وقد التفت إلى هذه الندرة بعض المحللين وحاولوا تفسيرها، وكان أكثرهم دقة ومعرفة، مايكل كوبرسون.[30] لهذا الالتفات إلى الوراء، حتى عندما يكون الخيال هو المحرّك، أسباب ترتبط بالمعطيات الثقافية والدينية والتاريخية للثقافة العربية المعاصرة التي تنزع عموماً، خاصة في شقّها الديني، للنظر إلى استعادة ماضي الإسلام الذهبي على أنه الهدف المرجو من أي مشروع مستقبلي.[31] ولكن، إذا صادف أن قرأت أي جزء من كتاب دانييل جيه بورستين الضخم والمثير للاهتمام، “المبدعون: تاريخ أبطال الخيال“، عليك أن تقرأ الفصل الخامس بعنوان: “إله خالق“. حجة بورستين الرائعة هي أن الخيال؛ المرتبط بالسفر في المستقبل، هو المبدأ الأساس للحضارة الغربية، ويرى أن هذا المفهوم متجذر في اللاهوت المسيحي الغربي.[32] وبالطبع، فقد تم بالفعل إثبات أن الله هو الخالق الكلي القدرة للعالم في سفر التكوين، ويشير الإسلام إلى مشيئة الله، التي جعلت من الإنسان ذو قدرة مقتدرة. ويعلق بورستين أنه من خلال الأسفار الخمسة قاد سيدنا موسى “جهود الرجل الغربي لفهم الخلق وإيجاد نصيب بشري في عملياته”.[33] لذلك، لزم التأكيد على أن “الحظ” ليس هو، الذي يحكم العالم، ولكن العناية الإلهية، التي تتصرف بشكل حاسم في توفير الأمان لمغامرات البشرية. ويؤثر هذا التأكيد أيضًا على السفر في المستقبل بطرق عميقة، بمعنىً آخر، أنه يمكننا الآن إطلاق العنان للإبداع البشري، وتوقع حدوث كل أنواع الأشياء غدًا، وليس فقط ما حدث دائمًا من قبل؛ في تضاعيف الماضي السحيق.

بيد أن الفكر العربي أهمل التعمق الفلسفي في معنى السفر، رغم كثرة أسفار العرب وتجوالهم ورحلاتهم، فيما أفضى محمد العجمي بالقول إن “في السفر إيقاظ وتنشيط وإعادة توليد للروح؛ ليست تلك الروح التقليدية الخاضعة لسلطان المكان؛ فتدخل وتخرج من الجسد، وتصعد إلى السماء وتهبط، ولا تلك، التي هي من نفخ الإله، ولا الجسم الشفاف، الذي يطوف في المكان. وإنما تلك الروح، التي تجعل من إنسان ما إنسانًا.”[34] وهنا، ارتقى الكاتب بالسفر، الذي وضع له شرط “الغربة”، وأن جعله هو التعريف للإنسان، أو ما أسماه بـ”الوحدة المطلقة” أي الرابطة الروحية، التي هي أقرب إلينا من حبل الوريد، رغم أنها سِرُّ الوجود المُجَرَّد. وما يمكن أن أعيبه عليه هو أن ما اختاره من عنوان: “في فلسفة السفر” غابت عنه لغة التفلسف، الذي جرت به أقلام كثيرة، عاينت “التجربة مع الآخر” بجلاء أكبر وعبارة أرسخ. فبدت مقالته أقل من سردية فيلم “الشاطئ- The Beach “، الذي جَسَّدَ عام 2000 روح السفر، وحكى قصة مسافر أمريكي شاب؛ لعب دوره ليوناردو دي كابريو، متعطش للمغامرة الحقيقية، وينتقد السياحة الحديثة. يعلق كابريو قائلاً، “إن كل شخص لديه نفس الفكرة؛ نحن جميعًا نسافر آلاف الأميال فقط لمشاهدة ما يعرضه التلفزيون، وتسجيل الوصول في مكان ما، مع وجود كل وسائل الراحة في المنزل.”[35] ويخرسه السؤال بما يجب أن يجيب عليه، ما الهدف من ذلك؟

من جانبها، وثقت الفيلسوفة إميلي توماس في كتابها الجديد، “معنى السفر”، هذا الشعور الشائع، الذي زعمت أن تاريخه يعود إلى القرن التاسع عشر، متكئة على ما أعرب عنه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو من أسف لأن “كل العواصم متشابهة”، وأن باريس ولندن تبدوان له نفس المدينة، ما يجعل من الصعب تخيل ما قد يفكر فيه المرء في الضواحي الأمريكية.[36] فقد تبين أنه من المفكر روسو، إلى فيلم “الشاطئ“، وحتى الآن، يمكن للجميع الارتباط بهذه الفكرة العامة، أو ما يمكن قوله إن السفر ما هو إلا هذا الشعور بالذهاب بعيدًا جدًا، ومع ذلك، لا شيء جديد فيه. ويبقى سؤال مات جونسون ملحًا بلا إجابة شافية: كيف يمكن أن يكون هذا؟ وهذا ذات السؤال، الذي كان محوريًا في كتاب إميلي توماس، الذي تُشير فيه إلى أن السفر ليس فقط للاستجمام، وتُجيب بطرح أسئلة فلسفية إضافية عميقة من قبيل: هل السفر جيد لنا؟ وكيف يوسع آفاقنا الثقافية والفكرية؟ وما الذي كسبه فلاسفة العالم من السفر؟[37] وبما أننا لم نبتعد كثيرًا من قيود جائحة الفيروس التاجي “كورونا“، التي جعلت الانتقال والاختلاط مغامرة محفوفة بالمخاطر، فما زلنا نستحضر ما أكدته لنا إجراءات الحجر، وما أبدلته من تصور لفكرة السفر، وأن تعريفه من منظور جغرافي بحت غير كافٍ، فتراجع حيز المكان كفضاء مسافة للحركة، لكن حضور الخيال في غياهب الزمان الساكن جعلنا أكثر قناعة بأن ما تعودنا عليه ما هو إلا تجربة الآخر.

ولاستكشاف حقيقة السفر في الفكر الغربي، نبدأ بما تعنيه المفردة ذاتها، أي “السفر”، إذ ذهب سقراط إلى الخارج عندما تم استدعاؤه للقتال في الحرب البيلوبونيسية، لم يكن مسافرًا بإرادته، لأن خروجه هذا هو ما فرضه عليه الواجب. لذلك، نجد إيمرسون واضحًا بشأن توجيه نقده بعيدًا عن الشخص، الذي يسافر عندما تتطلب “ضروراته”، أو “واجباته” ذلك، وهو أمر عليه اجماع في كل الثقافات والحضارات. ولكن، ليس لدى إيمرسون اعتراض كذلك على قطع مسافات كبيرة “لغرض الفن والدراسة والإحسان”.[38] فيما يعتبر أن إحدى العلامات، التي تشير إلى أن لديك سببًا للوجود في مكان ما هو أنه لديك ما تثبته، وبالتالي، فإن مجرد وجود دافع لجمع الهدايا التذكارية، أو الصور، أو القصص، كافٍ لإثبات ذلك. غير أن أغنس لاكارد لديها اعتراض أصولي على ذلك، لأنها ترى تعريف “السياحة” على أنها نوع السفر، الذي يهدف إلى تزكية الاهتمام؛ كما يدعو إلى ذلك إيمرسون ورفاقه، فإنه يخطئ. الهدف. فالسائح، وفق ما هو شائع، هو شخص متفرغ مؤقتًا يقرر طواعية زيارة مكانٍ بعيدٍ عن المنزل بغرض اختبار فرص التغيير. وهذا التعريف يبدو وكأنه مأخوذ من افتتاحية الكتاب الأكاديمي الكلاسيكي حول أنثروبولوجيا السياحة “المضيفون والضيوف“.[39] وتبدو العبارة الأخيرة حاسمة، وهي أن السفر السياحي موجود من أجل التغيير، ولكن ما الذي يتغير بالضبط؟ سؤال يكابد الكثيرون في الاقتراب من إجابة مفضية إلى سبر أغواره.

تقول الحقيقة، المدرجة في قوائم البحث الأنثروبولوجي، إن المضيفين والضيوف يفحصون عادة الأنواع الخمسة للسياحة؛ التاريخية والثقافية والعرقية والبيئية والترفيهية، وتأثيرها على المجتمعات المتنوعة عبر نطاق جغرافي واسع.[40] وإننا كثيرًا ما نسافر لتجربة هذا التغيير في أنفسنا، لكن ينتهي بنا الأمر إلى إحداث تغيير في الآخرين؛ إما لأننا نبدو مختلفين عنهم، أو لأننا نطل عليهم بجديد لم يألفوه، وهذا ينطبق حتى على عاداتهم وحرفهم الاقتصادية. وعلى عكس التحولات الاقتصادية، فإن التداعيات الاجتماعية للسياحة خفية وغالباً ما لا يعترف بها إلا السكان الأصليون أنفسهم، وعلماء الأنثروبولوجيا، الذين درسوها قبل وبعد إدخال صناعة السياحة.[41] وهنا، تثور أسئلة كثيرة تستفسر جدلية المكان والزمان كحاضنين لفكرتي الثبات والتغيير، وما إذا كُنُّا نسافر في الحاضر، أمر مراوحة بين الماضي والمستقبل، وهل لمواقع المكان؛ المغلقة والمفتوحة، دور في تقرير وجهتنا، أو إحداث ما يمكن أن نتوقعه من تغيير؟ ولماذا قد يكون أمرًا سيئًا، في تقدير أغنس، أن يتشكل المكان من قبل الأشخاص الذين يسافرون هناك طواعية بغرض اختبار هذا التغيير؟ وقد لا نتفق معها في الجواب بأن هؤلاء الناس لا يعرفون فقط ما يفعلونه، ولكنهم لا يحاولون التعلم. وربما كان في مثال جولتها الإرشادية في مستشفى الصقور بأبوظبي، وما التقطته من صور مع صقر على ذراعها، هو ما أورثها اهتمام بالصقور، رغم ما اعترفت به كراهية عامة للقاء المباشر مع الحيوانات.


هوس تيتانيك:

أعادت سفينة “هوريزون أركتيك” الكندية، في يوم 28 يونيو 2023، حطام الغواصة المفقودة “تايتان” إلى اليابسة، بعد أن انفجرت في قاع المحيط بالقرب من حطام “تيتانيك“، التي استحوذت على اهتمام العالم، لأكثر من مائة عام منذ اصطدامها بجبل الجليد عام 1912، ما أدى لغرقها في قاع المحيط وهلاك 1517 شخصًا كانوا على متنها. وتسبب انبهار العالم بمأساتها في حدوث كارثة إنسانية جديدة، في 18 يونيو 2023، إذ انفجرت الغواصة السياحية “تايتان” أثناء توجهها لاستكشاف حطام “تيتانيك” ليلقى ركابها الخمسة حتفهم على الفور. والغريب أن كارثة “تيتانيك” لا تفقد سحرها مع الزمن رغم أنها ليست السفينة الوحيدة، التي تعرضت للغرق، فهناك العديد من السفن الأخرى، التي يرقد حطامها في أعماق الأطلسي، ووراء كل منها قصة مؤثرة، ربما تكون أكثر مأساوية من القصة الأصل.[42] وعلى الرغم من ذلك، فإن “تيتانيك” ما زالت تحظى بالاهتمام الأكبر على مستوى العالم، حيث ألهمت قصتها العديد من المبدعين ليتم تحويلها إلى روايات وفيلم سينمائي وسياحة رائجة يُقدر روادها بمئات الآلاف سنوياً ما بين متاحف ومعارض ومغامرات؛ انتهى الكثير منها بمآسٍي، لا نظن أن “تايتان” ستكون آخرها.[43] غير أن “تايتان” أعادت الجدل حول مدى خطورة مثل هذه الرحلات، التي تمثل تجارب غير مألوفة، وتأتي ضمن فئة “الرحلات السياحية المتطرفة”، وهو مصطلح مستخدم في عالم السياحة لوصف التجارب السياحية غير المألوفة، التي تتعدى الحدود التقليدية للسفر والسياحة، والتي عادةً ما تستهدف الأثرياء من عشاق الإثارة والمغامرة.

ووفقاً لموقع الشركة المُصَنِّعَة لـ”تايتان“، تصل تكلفة الرحلة الواحدة إلى 250 ألف دولار لكل فرد، التي يبدو أن هناك فئة قليلة تتمتع بالمقدرة المالية والجرأة الكافية للقيام بهذا النوع من الرحلات المكلفة والخطرة، وهي الفئة، التي تستهدفها شركة “OceanGate Expeditions” للرحلات السياحية والاستكشافية، والتي تنظّم رحلات مدتها ثمانية أيام لرؤية حطام “تايتانيك” على عمق أكثر من 13000 قدم تحت سطح البحر، ويتم ذلك من خلال غواصات خاصة مصنوعة من ألياف الكربون والتيتانيوم وتتسع لخمسة أفراد.[44] فهذه الفئة من العالم يمكنها دفع مبالغ طائلة للاستمتاع برحلة جوية خاصة حول العالم لمدة 24 يوماً، أو استقلال مروحية لإقامة معسكر عند سفح جبال إفرست، أو حتى الانطلاق في رحلة نحو الفضاء. واستهدافاً لهذه الفئة، أعلنت شركة “فيرجين أتلانتك“، التي يملكها الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، في منتصف شهر يونيو 2023، عن إطلاق خدمة طيران الفضاء التجارية رسمياً في وقت لاحق من نفس الشهر، مع تنظيم الرحلة الثانية في أغسطس 2023. وعلى الرغم من أن سياحة الفضاء غير متاحة سوى لعدد قليل فقط من الأشخاص الذين يمكنهم تكبد تكلفتها، التي تبلغ 450000 دولار، فقد تم حجز 800 مقعد بالفعل.[45]

يقيني أن هذا الجموح، الذي يرقى إلى مستوى المخاطرة بالحياة، وقد ينحو البعض إلى نعته بالحمق والرعونة، هو ما يجعل فكرة السفر كلها محل تساؤل، أو بناء مواقف معارضة لقيمته، التي ظلت محل ترحيب وتبنيٍ طِوال التاريخ الواعي للبشرية. وتأكيدًا لمدخل هذا اليقين ما تطوعت به الكاتبة المرموقة في مجلة “نيويوركر” أغنس كالارد، التي نشرت، في 24 يونيو 2023، مقالًا ضافيًا عنونته: “قضية ضد السفر: إنه يحولنا إلى أسوأ نسخة من أنفسنا مع إقناعنا بأننا في أفضل حالاتنا، متسائلة عن: ما هو أكثر بيان غير إعلامي يميل الناس إلى الإدلاء به؟[46] وقد سارعت بلا تردد للإجابة بأن هذا البيان لن يكون غير عبارة “أحب السفر”، التي تعتقد أن الجميع سيدلون بها عندما يستفسرهم أحد عن ميولهم، أو رغباتهم وهواياتهم. زاعمة بأن هذه الإجابة المتكررة تُخبِرنا القليل جدًا عن الشخص، الذي يدلي بها، “لأن الجميع تقريبًا يحب السفر؛ ومع ذلك يقول الناس ذلك، لأنهم، لسبب ما، يفخرون بأنفسهم لأنهم سافروا وحقيقة أنهم يتطلعون للقيام بذلك.”[47] وتؤكد أغنس كالارد أن الفريق، الذي يعارض هذا التَعَلُّق الشائع بهذه الإجابة صغير لكنه واضح. ولا أحسب أنها ستجد عبارات أفضل مما قال به الفيلسوف الإنجليزي غلبرت كيث تشيسترتون، الذي لم يتردد في وصف السفر بأنه “يُضَيِّق العقل”،[48] أو الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إيمرسون، والذي قال إن السفر “جنة الأحمق”.[49]

لقد توصلنا، في خضم هذا الاستعراض، إلى أن استفسار الفيلسوف عن السفر غالبًا ما يتخذ مسارات مختلفة، ولم تكن إميلي توماس في كتابها، الذي حمل عنوان: “معنى السفر“، مختلفة حيث ذهبت لتكتشف جدالات فلسفية جديدة؛ مثل أنطولوجيا الخرائط، أو أخلاقيات “سياحة الموت“، التي تترجم فيها بوضوح النتائج الكارثية بالسفر إلى الأماكن، التي تكاد أن تختفي بسبب تحديات المناخ، وما يمثله ذلك من معضلة أخلاقية، لأن السياحة الجماعية قد تدمر هذه الأماكن بشكل أسرع.[50] وقد تكون تود الإشارة لمغامرات البعض بجعل متعة السفر تتحول إلى مآسي دامية ودامعة، والتي تقف عليها شواهد كثيرة الآن، لن تكون “تيتانيك” أولها، ولا “تايتان” آخرها. أولم نحفظ عن ظهر قلبٍ قول القائل: وإن قِيلَ في الأسفار ذلٌّ ومحنةٌ وقطعُ الفيافي واكتسابُ الشدائدِ فموتُ الفتى خيـرٌ لهُ من حياتِهِ بدار هـوانٍ بين واشٍ وحاسدِ. ولنقل إنه ربما بشكل غير متوقع للقارئ، تُقَدِّم إميلي توماس أيضًا مناقشات سهلة الوصول وجذابة حول الفلسفة الحديثة غالبًا من خلال ربط الموضوعات المتعلقة بالسفر بعمل بعض المؤلفين المشهورين كرينيه ديكارت وفرانسيس بيكون، أو من هو معروف في الغالب للمتخصصين كهنري مور، أو من تم إهمالهم ظلماً كمارغريت كافنديش.[51] وقد جاءت سياحتها الفكرية والفلسفية إيجابية في الغالب، مع محاولة إبراز نصوصها كقراءة مسلية وثاقبة ومناسبة لعموم القراء، والحفاظ في الوقت ذاته على الكتاب أن يكون نصًا أساسيًا في فلسفة السفر، الذين غالبًا ما يتفقون معها على أن هذه الفلسفة “ليست شيئًا، لكن يجب أن تكون كذلك.”[52] رغم أن كل ما حوته فصول كتابها الاثني عشر عُنِيَت بفلسفة السفر، أو تناولت موضوعات فلسفية أخرى ربطتها إميلي توماس بإحكام بمعنى السفر.

لازمة الختام:

لقد شحذت خيالات السفر، ومتعة الحركة القاصدة لتلمس تجربة الآخر أذهان الكثيرين، ومنهم بعض رواد الفكر في الشرق والغرب، وطور عبرها أبو التجريبية فرانسيس بيكون، على سبيل المثال، مفهومه عن الفطرة الشمولية، التي عاشها من ملاحظة تِجواله بين الثقافات العديدة، التي زارها. ونحن نعلم أن العقلانية الغريبة للسائحين بالتحرك من خلال الرغبة في القيام بما يفترض بهم القيام به في مكان ما، والرغبة في تجنب ما يفترض بهم القيام به على وجه التحديد. لكن، هل يصح أن يُقال ذلك على العقل العربي؟ وهل يتقبل كل ما لحق بالسفر والسياحة من علائق السمات المستحدثة والمواضعات المستجدة؟ وملحم الإجابة لا يبدو صعبًا لو تعمقنا قليلاً في كيفية تقويض مشروع السفر من أجل المعرفة، لصالح حركة السائح بحثًا عن متع تتجاوز قيود المكان. فالمسافر كان على مدى الأزمان شخصية محترمة، يحرص كثيرًا على تبرئة تجاربه من الشبهات، وحول ما يفترض، وما لا يفترض أن يفعله في مكان ما. إن هذا الاحترام هو بالضبط ما شَكَّل رؤية العقل العربي للسفر في زمن سبق، وتنطبق حجة مماثلة على دوافع السائح العربي لتكريم بحر الإنسانية العظيم بقيمٍ هي بعض موروثه الأخلاقي والحضاري، الذي يُقَيِّدُه، ويُظهر لنا مدى صعوبة حصول المسافرين العرب على التجارب الحسية، التي يترددون في البحث عنها. لذلك، لم تكن المشكلة تبدو لمجرد وجود السائح في أماكن أخرى، أو مع أناس من غير بيئته، التي يريد رؤيتها، ولكن مع تأثير السفر، الذي دفعه لأن يكون بين الأشخاص الذين أجبر على التواصل معهم كمتفرج. ولذلك، فإن الحقيقة الوحيدة الأكثر أهمية عن السفر والسياحة؛ في العقل العربي والغربي، هي أنا نعرف بالفعل كيف سنكون عندما نعود من إجازة ليست كالهجرة إلى بلد أجنبي، وإنما انتقال مؤقت للفرجة والترويح، واكتساب معرفة، وتجديد نشاط الروح.

* سفير سوداني، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي، الأردن

الخميس، 6 يوليو 2023

صقاريا، تركيا


[1] يعد كتاب “صيد الخاطر لابن الجوزي من الكتب الهامة، التي ألفت في الفكر التربوي الأخلاقي، وقد احتوى هذا الكتاب على عدد من المبادئ والقواعد الأخلاقية في موضوعات مختلفة، تتعلق بالتربية النفسية الذاتية والجوانب الأخلاقية في التعامل مع الآخرين، خاصة في حالات أسفاره، لاسيما ما يتعلق بأخلاقيات طلبة العلم والعلماء. كما عبر المؤلف في هذا الكتاب عن رأيه في مجموعة من المظاهر السلوكية والتعليمية والتعبدية، التي عاصرها.  

[2] الصادق الفقيه، “اسطنبول: مشاهد وشواهد”، صحيفة الراية، دولة قطر، المنتدى، الأربعاء 5 نوفمبر 2008. https://www.raya.com/2008/11/05/%D8%A7%D8%B3%D8%B7%D9%86%D8%A8%D9%88%D9%84-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D9%87%D8%AF-%D9%88%D8%B4%D9%88%D8%A7%D9%87%D8%AF/

[3] مات جونسون، “فلسفة السفر وتجربة الآخر”، نًظِرَ في نهار الثلاثاء 4 يوليو 2023. https://www.neuroscienceof.com/human-nature-blog/travel-philosophy-experience-otherness

[4] عفراء بكري، وتدقيق محمد عبد الغني، “شرح قصيدة سافر ففي الأسفار خمس فوائد”، موقع سطور الإلكتروني، 4 يونيو ٢٠٢١، ونُظِرَ في 5 يوليو 2023. https://sotor.com/%D8%B4%D8%B1%D8%AD_
%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9_%D8%B3%D8%A7%D9%81%D8%B1_%D9%81%D9%81%D9%8A_
%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1_
%D8%AE%D9%85%D8%B3_%D9%81%D9%88%D8%A7%D8%A6%D8%AF

[5] شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت ٧٤٨ هـ)، “سير أعلام النبلاء”، المجلد العاشر، الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، هـ – ١٩٨٥، الصفحة ٤٥.

[6] محمد صلاح قاسم، “فلسفة السفر في شعر الإمام الشافعي”، 11 ديسمبر 2016. https://www.ida2at.com/philosophy-of-travel-in-the-poetry-of-imam-shafii/

[7] روعة قفصي، “تعرف على المشاهير الذين فضلوا عدم التواصل مع العالم الخارجي”، عربي21، 19 يناير 2019. https://arabi21.com/story/1150794/%D8%

[8] مدونات، “أسباب السفر: ما هي الأسباب، التي تدفع الناس للسفر الى الخارج؟“، تاريخ النشر:21 أبريل، 2022. https://alprincetravel.com/why-do-people-travel.html

[9] أنظر، المرجع السابق.

[10] السيد هارث بيكو راغافان آير (من مواليد 11 فبراير 1957 في مدينة أكسفورد)، المعروف باسم بيكو إيير، كاتب مقالات وروائي بريطاني المولد معروف أساسًا بكتاباته عن السفر. وهو مؤلف العديد من الكتب حول عبور الثقافات، بما في ذلك Video Night in Kathmandu، وThe Lady and the Monk، وThe Global Soul، وكان مساهمًا في مجلة Time، ومجلة Harper’s، وThe New York Review of Books، وThe New York Times.

[11] أنظر، https://xn--sgb8bg.net/%D8%A3%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%84-

[12] أنظر بيكو، المصدر السابق.

[13] أنظر بيكو، مصدر سابق.

[14] ولد فرناندو بيسوا (1888-1935) في لشبونة ونشأ في ديربان بجنوب إفريقيا. عاد إلى لشبونة في عام 1905. كاتب غزير الإنتاج، ينسب عمله إلى مجموعة متنوعة من الشخصيات أو الأسماء غير المتجانسة، نشر بيسوا القليل في حياته ودعم نفسه من خلال العمل كمترجم تجاري. على الرغم من الاعتراف به كمفكر وشاعر، إلا أن عبقريته الأدبية لم يتم الاعتراف بها إلى حد كبير حتى وفاته.

[15]  فرناندو بيسوا، مؤلف، وريتشارد زينيث، محرر ومترجم، “كتاب القلق”، مطبعة بنغوين، تاريخ النشر في 30 مايو 2002، ص 23.

[16] أنظر، أغنس كالارد، مرجع سابق. https://www.newyorker.com/culture/the-weekend-essay/the-case-against-travel

[17] آدم جوبنيك، “رجل الأغلال”، مجلة نيويوركر، 30 نوفمبر 2008. https://www.newyorker.com/magazine/2008/12/08/man-of-fetters

[18] أنظر، آدم جوبنيك، المصدر السابق.

[19] أنظر أغنس لاكارد، مرجع سابق.

[20] فالين سميث، محرر، “المضيفون والضيوف: أنثروبولوجيا السياحة”، الناشر مطبعة جامعة بنسلفانيا، 1 فبراير 1989، صفحات 18-22.

[21] ولد “كارل إدوارد ساجان” في التاسع من نوفمبر عام 1934 في بروكلين- الولايات المتحدة الأمريكية. فلكي أمريكي من أبرز المساهمين في تبسيط علوم الفلك والفيزياء الفلكية، وغيرها من العلوم الطبيعية. كما لعب دورًا مهمًا في إنشاء وكالة الفضاء الأمريكية NASA. وكان له دور رائد في تعزيز البحث عن المخلوقات الذكية خارج الكرة الأرضية.

[22] سهل باتل، “الخيال هو الخلق”، 13 يونيو 2022، https://medium.com/hope-healing-and-humour/imagination-is-creation-da27e4ef912c

[23] أنظر المصدر السابق.

[24] كريستوفر لوك دين، “أعظم بناة العالم الخيالي”، المقالة الرابعة جي كي رولينغ، تاريخ النشر 2 مارس 2020. https://www.writerswrite.co.za/the-greatest-fictional-world-builders-j-k-rowling/

[25] جارث لين، راسل ستايف، “السفر والخيال”، مطبعة روتليدج، 19 أكتوبر 2016، صفحات 13=28.

[26] أنظر، المرجع السابق.

[27] أنظر، https://www.researchgate.net/publication/297514041_Travel_and_imagination

[28] أمينترو، “دع خيالك يكون دليلك للسفر”، ابريل 2022. https://amintro.com/travel/let-your-imagination-be-your-travel-guide/

[29] مراجعة كتب، “المعجم النقدي للأنثروبوسين: لحظة وعي”، باريس، صحيفة العربي الجديد، 4 يوليو 2020. https://www.alaraby.co.uk/%22%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%AC%D9%85

[30] ناصر الرباط، “الترحال عبر الزمن مع خيري شلبي”، صحيفة العربي الجديد، قسم آداب وفنون، 24 ديسمبر 2020. https://www.alaraby.co.uk/culture/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D9%84

[31] أنظر، ناصر الرباط، المرجع السابق.

[32] مايكل دي سابيو، “الخلق والتجسد والخيال”، 17 ديسمبر 2022. https://theimaginativeconservative.org/2022/12/creation-incarnation-imagination-michael-de-sapio.html

[33] دانيال جيه بورستين، “المبدعون: تاريخ أبطال الخيال”، الناشر: مطبعة فينتاج، 28 سبتمبر 1993، الجزء الخامس صفحة 601.

[34] محمد العجمي، “في فلسفة السفر”، نُشِرَ إلكترونيًا في 8 مايو 2020، ونُظِرَ في 21 يونيو 2023. https://graypraxis.net/?p=322

[35] أنظر، مات جونسون، مرجع سابق.

[36] هذا التلازُم، بين عمل روسو وأسفاره، هو ما أشارت إليه الباحثة الفرنسية نتالي فيرّان في كتابها “في مشْغَل جان جاك روسو”، الصادر حديثاً لدى منشورات “هيرمان” في باريس، 2022. https://www.alaraby.co.uk/culture/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B4%D8%BA%D9%84-%D8%AC%D8%A7%D9%86-%D8%AC%D8%A7%D9%83-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%88-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%83%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D9%88%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D9%87

[37] إميلي توماس، “معنى السفر”، مطبعة جامعة أكسفورد، نُشِرَ في عام 2020، ص 191.

[38] أنظر، إيمرسون، مرجع سابق.

[39] أنظر، فالين إسميث، مرجع سابق.

[40] أنظر، أغنس لاكارد، مرجع سابق.

[41] يحضرني مؤتمر شاركت فيه قبل عقدين تقريبًا، حول: “مناهج البحث في الأنثروبولوجيا في عصر العولمة”، نظمه معهد الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع التنموي بجامعة لايدن في هولندا، ولم أجد تصديقًا للكيفية، التي يغير بها الضيوف المضيفون أكثر مما ذكرته أستاذة أنثروبولوجيا في جامعة شيكاغو، غاب عني اسمها الآن، والتي أشارت إلى حقيقة أن أفراد المجتمعات البدائية، الذين كانت تدرس عاداتهم، قد أعادوا تشكيل أحجام مصنوعاتها، وحتى ألوانها، وفقًا لطلبات السواح ووسائل سفرهم.

[42] مورين أوهير، ترجمة همسة عثمان، “ما سر استمرار انبهار العالم بـ“تيتانيك” بعد أكثر من مئة عام على غرقها؟” (سي إن إن –CNN)، تاريخ النشر 26 يونيو 2023. https://cnnbusinessarabic.com/transportation-travel/29853/%D8%B3%D8%B1-

[43] أنظر، المصدر السابق.

[44]سامانثا ديلويا، “من أعماق البحار إلى رحلات الفضاء: الغواصة المفقودة تُثير الجدل حول مخاطر سياحة المغامرات”، (سي إن إن –CNN)، ترجمة همسة عثمان، تاريخ النشر 22 يونيو 2023. / https://cnnbusinessarabic.com/transportation-travel/29423

[45] أنظر، المرجع السابق.

[46] أغنس كالارد، “قضية ضد السفر: إنه يحولنا إلى أسوأ نسخة من أنفسنا مع إقناعنا بأننا في أفضل حالاتنا”، مجلة “نيويوركر”، نُشِرَ في 24 يونيو 2023. https://www.newyorker.com/culture/the-weekend-essay/the-case-against-travel?

[47] أنظر، المرجع السابق.

[48] ولد غلبرت كيث تشيسترتون، في 29 مايو 1874، كنسينغتون، لندن، المملكة المتحدة، وهو كاتب وفيلسوف وشاعر وصحفي ومسرحي وخطيب وناقد وكاتب سير ولاهوتي دفاعي إنجليزي ولد في يوم 29 مايو 1874 في لندن في إنجلترا في المملكة المتحدة، لُقب بأمير المفارقة من قبل مجلة مجلة التايم، تشيسترتون هو مبتكر شخصية الأب براون، في كتاباته عن اللاهوت، ألف كتب عن الأرذثوكسية وكتاب الرجل الأبدي، وحضرته الوفاة في 14 يونيو 1936، في بيكونسفيلد، المملكة المتحدة.

[49] اشتهر الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون، الذي ولد 25 مايو 1803، في بوسطن، ماساتشوستس، باسمه الأوسط: والدو، وهو كاتبُ مقالاتٍ ومحاضرٌ وفيلسوفٌ وشاعرٌ أمريكيٌّ، قاد الحركة المتعالية في منتصف القرن التاسع عشر، وكان يُنظر إليه على أنه بطل للفردانية، نشر أفكاره من خلال عشرات المقالات وأكثر من 1500 محاضرة عامة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وتوفى في مدينة كونكورد بولاية ماساتشوستس، في 27 أبريل 1882.

[50] أنظر، إميلي توماس، “معنى السفر”، مصدر سابق، ص 183.

[51] بيلار لوبيز كانتيرو، “معنى السفر“، المجلة الفلسفية الفصلية، المجلد 71، العدد 3، يوليو 2021، الصفحات 655-658، https://doi.org/10.1093/pq/pqaa065

[52] أنظر، إميلي توماس، مصدر سابق، ص 3.

جديدنا