التنويريفنون

الإحساس وتأويل الصّورة في الفنّ أو في “أسس مشروعية تأويليّة للصّورة في الفنّ” (1)

*جوهان ميشيل/ ترجمة: عبد الوهاب البراهمي.

” إذا لم يكن من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تدل على معنى ( منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا( منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص( أفلا يجعل هذا )، قيام  تأويلية للصورة في الفن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها؟

إن سطح المرئيّ  مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ”( م.بونتي)

“إنّ اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي( المؤوّل) مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة – أحجية يكبت صمُتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر الفنّي  بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت ( الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا “صامتين من فرط إعجابنا”. ( ج. ميشيل)

***********

يفترض تأويل  صورة في الفنّ على الأقلّ ثلاثة أشياء. الأوّل هو أنّ الصورة حاملة لمعنى أو عدّة معاني، وأنه يوجد فيها معنى بدل لا شيء، وأنه يوجد فيما وراء أو عبر المادية أو التشكيل الفني للعمل، أفق لمعقولية . والثاني، أنه، إذا ما وجد معنى، فإنّه يتعذّر الوصول إليه مباشرة، وأنه في جانب منه أو في كليته مخفيّ، غير شفّاف، معتّم وغامض وأنه يحتاج بالتالي عملا تأمليا وبحثا عن المعنى تسمّيه نتالي هاينيش  Nathalie Heinich ” عملية ألغزة” mise en énigme، ” كما لو كان من المنطقي أن يطرح العمل الفني سؤالا، ويشكّل لغزا، ويخفي معنى خارجا و حتّى قبل أن نبحث عنه ” (1). والشيء الثالث هو أنه يمكن التعبير عن معنى الصورة في خطاب، وأنه يمكن أن نجعل الصّور تتكلّم.

إنّ هذه الأشياء الثلاث ليست بالمرّة بَدَهَّية، إلى حدّ إرباك إمكانية قيام تأويلية أو هارمونيطيقا للصورة. وهي ليست بدهية إذا ما اعتبرنا أنّه  ليس من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تعني signifier( منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا d’affecter  ( منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص . إنّ تأويلية للصورة في الفن ستكون إذن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها.

إنّ رهان هذه المساهمة هو تبرير إسهام تأويلية للصورة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاعتراضات الكثيرة التي واجهتها. إن ّرهان هذه المساهمة هو البحث، لا الاعتراض، بل تجديل الانفعال والتأويل، المحسوس والذهني، الإحساس والكلام. إنّ رهان هذه المساهمة هو اللعب على تعدّد معاني ” sens” في اللغة الفرنسية التي تحيل إلى ما يولّد الإحساسات ( soma) بقدر ما تحيل إلى تأثيت المعنى  ( le sens- sèma)، حتى نستعيد التمييز الذي قوم به ديدي – هيبارمان .  

إنّ هكذا جدلية لا يمكنها أن تظهر إلاّ بشرط تفادي مزلقين، توجّهين متضادين، من جهة هرمونيطيقا تذهنّية خالصة وجافّة، تجعل من الصورة مجرّد تعلّة للخطاب، ومن جهة أخرى استيتيقا ما يتعذّر التعبير، والذي يجعل كلّ تأويل غير مسموع، باسم أولوية الانفعال على المفهوم. إنّ الرهان هذه الجدلية هو إذن معرفة وفق أي طريقة يمكن لتأويل الصّور أن يساهم في الآن نفسه في إثراء ميلها إلى التأثير فينا. وفق أية شروط يمكن لتأويلية أن تجعل الصور تتكلّم دون أن تسكت قوّتها الانفعالية؟

الفينومينولوجيا  وتأويليّة الصورة

تُطرح الصورة المرسومة لأول وهلة بوصفها ظاهرة محسوسة. وتقدّم الصورة للناظر صامتة.و يبدو أن فينومينولوجيا الإدراك، وبدل أن تكون تأويلية، هي معدّة أكثر لجعل الصورة تُرى في ظاهريتها بالذات. إن الفينومينولوجيا، بالرغم من هيمنة المنهج الوصفيّ فيها، لا تعترض بالضرورة وفق جاك دارّيلا Darriulat، على فكرة التأويل ذاتها، لكن في نمط هارمونيطيقا تأويل شبيهة، في نظره، بمنهج تفكيك رموز أو أمثولة حيث يتعلّق الأمر بالبحث عن معنى خفيّ، مستتر ومشخّص، من خلال إظهار معنى أوليا أو حرفيّا.  تؤوّل الهارمونيطيقا الصورة- اللوحة مثلما نفعل لنص استعاري allégorique . ولأنّ الصورة لا تفصح لأول وهلة عن امتلاءها الدلالي، فهي تتطلّب عملا حقيقيّا لتفكيك الشفرات حتى نكشف فيها عن اللغز الحقيقيّ.  وسيكون الخطاب الفينومينولوجي شيئا آخر وهو الذي لن يطمح إلى كشف معنى خفيّ، بل إظهار معنى الصورة في حركة تجلّيها و ظهورها، وفي ” حضورها الخالص”، في ” مرئيّتها” الخالصة. 

لا قيمة  للصورة بالنسبة إلى شيء آخر، مثل ظهور حسيّ لحقيقة ذهنية، ذلك أن لها قوّتها التشكيلية والتصويرية الخاصّة، بوصفها حضورا خالصا. سوف يحضر العَوْدُ إلى الصورة ذاتها، المماثل للعود إلى الأشياء ذاتها الذي تدعو إليه الفينومينولوجيا،  التأويل الهرمونيطيقي للمعنى الخفيّ. إنّ ” اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة – أحجية يكبت صمتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت ( الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا “صامتين من فرط إعجابنا”.(3)

يستحقّ التعارض الذي أقامه داريولا بين هرمونيطيقا وفينومينولوجيا الصورة، عناء التوضيح. مع ذلك فهو يخطأ بطابعه الجد ّ تبسيطي.  دون حتى أن تثير المنعرج الذي أحدثه هيدجر الذي يفتح إذن الطريق إلى فينومينولوجيا تأويلية للكائن بوصفها حجب – انكشاف، والفينومينولوجيا الهوسرلية ذاتها، إذا ما تحمّست لوصف ظاهرية كلّ ظاهرة في مرئيتها، فهي لا تستبعد قطّ إمكانية تأويل ما لا يفصح عن ذاته مباشرة في الحضور المحض للشيء.

وما هو حقيقيّ بالنسبة إلى كلّ شيء هو كذلك بالنسبة إلى صورة- لوحة. فلا تظهر الصورة المرسومة إلاّ من مقطع جانبي معيّن بالنسبة إلى مُشَاهد يتموقع هو ذاته في وضعية معينة بالنسبة إلى اللوحة. وينفصل المشاهد،  بحسب هذا المقطع الجانبي، وبحسب تغيّر الوضعية التي يمكن أن نتبنّاها، وبحسب الإضاءة والوسط الخارجي الذي ينفصل عنه، فلا يرى الشيء نفسه فحسب بل لن يستطيع الإحاطة بالصورة بنظرة واحدة كي يُطلق الظاهرية الخالصة. فهو ملزم، ودون حتى أن يكون له افتراض معنى مجازي بالمعنى الرمزي للكلمة، بالاعتراف بأنّ الجوانب البارزة لصورة تظلّل ( تقلي بظلالها) على جوانب خفيّة  تتطلّب تأويلا. لا يمكن لمعنى صورة أن يتجلّى تماما بواسطة مقطع جانبي واحد، بل بفضل جهد تأليفيّي لرسومات ليست هي ذاتها قابلة للتشميل. وحتى نقول ذلك مع مارلوبونتي ,” إن سطح المرئيّ هو مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ”.(4) . إنّه ” المخزون اللامرئيّ الذي يجعل من الضروريّ، وهذا منذ مرحلة الإدراكيّ، وجود عمل تأويلي لمعنى الصورة( فيما يمكن أن نسمّيه مع مارلوبونتي ” تفسيرا مُلهم”«  exégèse inspirée  ») لا يَمْثُلُ في الشفافية المباشرة لوجودها ( الصورة) الحسيّ. لأجل هذا تسمّى الفينومينولوجيا بعدُ تأويلية أو هارمونوطيقا، دون أن تتطابق معها. ليست المعاني الخفيّة لصورة  قابلة للاختزال بالمرّة في وظيفتها الرمزية أو المجازية، لكنها مكوّنة لنمط ظهورها بوصفها كائنا تشكيليا. إنّ التغيّرات التخيّلية حول الصورة، وحول وجوهها اللامرئية أو التي ليست بعدُ مرئية، والتغيرات الموضعية للذات لإبراز الجانبية أو البروفايل الجديد، هي  كثير من التغيّرات التأويلية.

إنّ خداع المرئيّة الخالصة للصورة، وللأثر بوجه عام، دون ملحق تأويلي، موجود في بعض التيارات المعاصرة، مثل الحدنوية ( أو التبسيطية) minimalisme.  من الواضح أنّ الطموح هو تنقية كل وظيفة رمزية في أثر فني ما: فلا يوجد ما نراه غير ما نراه   (what you see is what you see)    حتى نستعيد تعبيرا لأحد رواد هذا التوجّه ( فرانك ستيلاّ (Franck Stella. ما من معنى خفيّ، ولا شيء للتأويل من وراء ما يمكننا ببساطة رؤيته في إدراك مباشر. إنّ الأثر الفنّي الحدنويّ ( مثل مكعب بلوري شفّاف) ليس له أيّ إلغاز. فهذا الأثر صغير الحجم يطمح إلى أن يهب نفسه في حضور ماديّ خالص وأن يعرقل عملية التلغيز، أي أن نقول أكثر ممّا نراه.  إنّ الطابع الطوطولوجي أو الحشوي للأثر الحدنويّ، مثلما يلاحظ ديدي – هيبرمان Didi-Hubermann  يقوّي طوطولوجيا  كلمة السرّ («  what you see is what you see  »)  ما تراه هو ما تراه” : ما من جوّانية intériorité إذن. وما من كُمون. لا شيء من هذا ” الاستعادة”retrait أو هذا ” المخزون” réserve الذي يتحدّث عنه هيدجر مساءلا معنى العمل الفنيّ. لا وقت، إذن لا وجود لموضوع فحسب، موضوع ” خصوصيّ”. لا تراجع، إذن ما من لغز. ما من هالة. ولاشيء هنا “لا يعبّر عن نفسه”، بما أنه لا شيء يخرج وبما أنه لا يوجد حيّز أو كمون – مستودع مفترض للمعنى – حيث يمكن لشيء ما أن يختفي كي يخرج من جديد، لينبثق من جديد في أيّ لحظة.(5).

ودون أن يكون لنا أن نفترض حتّى وجود ” مستودع للمعنى”، يجعل الأثر الفني يتكلّم، وأيّ كانت “حدنوية” المعنى، فهو لا يمنح نفسه  في ظهوره حضورا خالصا. لنشاهد إذن المكعبات الشفافة لروبار موريس. فهي لا تظهر للمتفرّج إلاّ من جانبية ( بروفايل) خاصّة ولا قطّ في كليّتها  (totalité) ؛ فليست وجوه كلّ مكعّب قابلة للإدراك في نفس الوقت. فترتيب المكعبات يحمل المتفرّج على التجوّل بينها، محوّرا إذن إدراك كلّ مكعّب. إنّ نمط الظهور له قابلية التحوّل أيضا في علاقة بالضوء، وفي علاقة بالألوان و مكوّنات الأرض  وجدران وسقف قاعة العرض، وأجزاء أجسام المتفرّجين المنعكسة على المكعبات. يشفط انعكاس المكعبات خارجا متعدّدا يمنح نفسه في المرآة. كل شيء يحدث كما لو أن المكعبات تمتصّ قطع محطّمة من الواقع: هنا وجه، وهناك كعب، وهنالك يد…تصبح المكعبات مرايا لعالم محيط بـ، ومتحوّل، مانحة الفرصة لتطواف شعريّ وتيهيّ لصور متلاشية. ويُحمل المتفرّج ذاته، بفعل انعكاسه على المكعبات، على متابعة أثر الإبداع، وإعادة تشكيل معنى الصورة، وحتى لو كان ذلك من أجل أن يرى نفسه، على الأقلّ  مجزأ . ما من حاجة للجوء هنا إلى استعارة أو مجاز لفهم أنّه يوجد شيء ما للرؤية، من وراء مجرّد مكعبات شفّافة، لكن من خلالها بعدُ. ولو تحدّثنا تداوليا، فإنّ التجربة الكلبية للمكعبات تنقض كلمة السرّ للحدنويين minimalistes.   وإذا ما وجدت معاني خفيّة، فهي ليست رمزية  أو مجازية ؛  إنما تستخدم في تجربة جمالية ذاتها للموضوعات التي يترك ظهورها مخزونا للامرئيات invisibilités، وأفاقا متحوّلة للإدراك  تستدعي مسارا تأويليا للمعنى.

CREATOR: gd-jpeg v1.0 (using IJG JPEG v62), quality = 100

                                  المرايا المكعبة  روبار مورّيس(1965/1971)

التأويلية الحَرْفِية والتأويلية المجازية للصورة

ليست التأويلية منحصرة، في مقابل ما يقترحه دارييلا Darriulat، في المجازية l’allégorèse وبوجه عام في تأويل معنى خفيّ، مقابل لرؤية جدّ عنيدة. يتعلّق الأمر دون شكّ بإحدى التشعّبات التي تعود إلى الإغريق … إنّ هذا المتحوّل للهارمونيطيقا الذي جعله الحديثيون دنيويّا sécularisée  أو مُعَلْمَنٌا، هو بالخصوص مسلّح وملائم لتأويل كلّ جزء من تاريخ الفنّ التصويري الذي يستقي مباشرة منابعه الأدبية من الأساطير والرموز والاستعارات أو المجازات allégories المتأتّية من التقاليد اليهودية المسيحية من جهة، والإغريقية اللاتينية من جهة أخرى. هو صحيح لاسيما بالنسبة لفن رسم تاريخ النهضة الإيطالية ( وأقلّ صحّة عن فن رسم منظر النهضة الهولندية) حيث قد يكون نقل المناهج الموروثة للتأويلية النصية في خدمة  تأويل اللوحات الفنية.  يسلك المؤرخ وناقد الفنّ إذن  طريقة ليست بعيدة عن طريقة الفيلولوجي أو المفسّر . فتكون مهمته، بوصفه مالكا لرسوخ في العلم متين،  ردّ المعنى الظاهر للصورة إلى معاني ثانوية أو مجازية ، ورسم جينيالوجيا العمل الفني وإعادة وضعه في سياقه التاريخي، واستنباط المصادر الأدبية التي أثّرت فيه. والمدرسة السجليّة في تاريخ الفنّ لهذا المنهج في التأويل هو البراديغم الايقونولوجي الذي وضعه في البداية واربورغ Warburg وتابعه فيما بعد بانوفسكي Panofsky خاصّة .  ومن دون هذا الإسهام الإيقونولوجي سنمرّ بالتأكيد بجانب ناحية جوهرية لمعنى أثر فنّي. يغنم المتفرّج بفضل التقنيات المتينة للتأويل في فهمه الصورة:” هكذا يوضّح المعنى الإيقونولوجي البعد التخيّلي للأثر الفني ويرجعه إلى سياق ثقافيّ وليس تاريخيا فحسب. نفهم إذن بشكل أفضل طموح التأويل الإيقونولوجي : فهم العمل الفني، هو العثور على النظرة التي ولّدته، هو اعتبارها بالعينين التي وقع تصوّره من أجلهما. تباشر الإيقونولوجيا بهذا المعنى أريكيولوجيا حقيقية للنظرة”. (6)( جاك داريلا 2007) ” تأملات في المنهج الإيقونولوجي لتأويل العمل الفني” ).

تصلح هذه الإركيولوجيا للنظرة بالخصوص، لرفع الالتباس أو التأكيد على تناقضات المشاهد والشخصيات والأشكال.  يقوم بانوفسكي بالبرهنة البارعة على هذا في محاولته عن “مشكل وصف الأعمال”، فيما يخصّ تأويل لوحة رسام البندقية فراشسكو مافاي Francesco Maffei ( انظر اللوحة)

“أيوديث” أو “سالومي” فرانشسكو مافاّي1650

حيث يظلّ الشكّ قائما حول معرفة هل الشخصية المحورية هي، إمّا سالومي Salomé ( براس بابتيتست،  Baptiste)، أويوديث Judith ( برأس هولوفارنو d’Holopherne). وبانتباه شديد لتفاصيل العمل  ولمصادره من الكتاب المقدّس التي أمكن لها أن تلهمه، يشير بانوفسكي إلى قرائن  متباينة يمكن لها أن تميل بالتأويل صوب جهة أو أخرى . فالقرائن التي تميل نحو  سالومي بالفعل، في تطابق مع إنجيل متّى، هي كون الرأس المقطوع لإنسان يوجد في طبق ( يتعلق الأمر إذن بباتيست   Baptiste ). يمكن لهذا التأويل مع ذلك أن يوضع موضع التساؤل بموجب أنّ المرأة تمسك في يدها بسيف ( منبهة إلى أنها صاحبة التنكيل)، بينما لم تكن هي، في رواية متّى، من نفّذ بيديه القتل. من هنا كان افتراض  أن الأمر يتعلّق إذن لا بسالومي، بل بيوديث التي، في رواية الكتاب المقدّس،  هي من قامت فعلا بقتل هولوفارنو. Holopherne  .غير أنّ هذا التأويل الجديد يصطدم بواقع أنّه لم يكن يتعلّق الأمر قطّ في هذه القصّة بطبق حيث وضع فيه رأس هولوفارنو، بما أنّ يوديث يقدّمه مباشرة إلى خادمته: ” إنه لأمر غريب إذن، لنا للوحة واحدة، مقطعين من الكتاب المقدّس مختلفين كليا وكلاهما مناسب أيضا، وعلى نحو سيء أيضا، بما أنّ الطبق ولا السيف يناسب سالومي، بينما يناسب يوديث السيف لا الطبق. إلاّ أنّ نقص القرائن الإضافية يمنعنا عن الحسم لصالح أحدهما دون الآخر.” (7).

إذا كانت الإيقونولوجيا لا تسمح بالحكم القاطع في شأن هذه التأويلات، فإن لها في المقابل فضل الزيادة في فهم الأثر، والشهادة  فيم لا يمكننا أن نبقى في مستوى الحضور المباشر الخالص للصورة  لإدراك تامّ للمعاني، وبيان بواسطة تاريخ”الأنماط”، مثلما يقترح بانوفسكي، بأنّ  ازدواجية الصورة في لوحة مافاي ليست سوى حالة معزولة في الفنّ الناشئ لإيطاليا الشمالية حيث يمكن ملاحظة نقلة رأت في طبق جان باتيست وقد صار أحد لوازم تمثّل يوديث. سينبثق من جديد إذن الاعتراض الفينومينولوجي الذي وفقه تمرّ المقاربة الهارمونيطيقة، في صيغتها الإيقونولوجية ( صيغة لا تغطّي كل التوجهات الهارمونيطيقية، خاصّة توجه هيدجر وغادامير)، تمرّ بجانب الظهور الحسّي للعمل الفنّي، وميله إلى التأثير فينا بحضوره الخالص. إنّ الصورة باختزالها في منزلة وثيقة تاريخية، لن تكون لها قيمة في ذاتها، بل بوصفها توحي بموضوع، بنمط وبأسلوب، أي بوصفها ” رؤية للعالم”، بوصفها ” شكلا رمزيا” :” إنّ الأثر الفني إذن هو ” عارض” symptôme” لنسق كامل من القيم، لعالم ثقافي يتعلق الأمر بإحيائه، إذ في لعبة الجمع هذه تأخذ الصورة كامل معناها. (8) وستكون الصورة، بموجب جعلها تتكلّم ودفعها إلى الاعتراف، وإرجاعها إلى منابعها الأدبية، إلى شكلها الرمزي، في نهاية الأمر مختفية عن الأنظار أو فاقدة للأثر. وسيتفوّق الكلام على النظر..وسيلوّث الخطابُ الإدراكَ الحسّي للأشكال، والألوان والرسوم.

هل هذا هو الحال حقّا؟ ألا يمكن، على العكس، أن ننتصر لكون الهارمونيطيقا الإيقونولوجية  تسمح بالنظر إلى الصورة على نحو آخر، بالنظر بشكل أفضل، على الصعيد القيمي أو الأكسيولوجي، والإحساس بأكثر قوّة، على الصعيد الوجداني؛ نظرا وإحساسا لا يكون ممكنا إلاّ إذا وثقنا فحسب بالحضور الحسّي لتمظهر الصورة؟  ألا يمكننا أن نسند القول بأنّ الخطاب التأويلي لا يأتي ليعتّم obscurcir  بل على العكس ليكشفrévéler   القوّة العاطفية التي تثيرها اللوحة؟  هل يمكن حقّا أن نُتَّهم بالفكرانية أو بنزعة تعقلّية، إيقونولوجيا سعت إلى إزالة الانتشار المؤقّت لـ” أشكال الباتوس” ( التفخيم الدرامي)  في تاريخ الفنّ، من حيث أن الصورة تحمل بصورة متينة شحنة عاطفية وتمثّلا إيقونولوجيا؟ يمكن أن نعترض عليها بالاستناد إلى الدراسة التي أضحت نموذجا من نوع واربورغ بخصوص لوحة الربيع  Printemps    لبوتشللي، واستعادتها المتميّزة من ديدي هيبرمان. Didi-Huberman .

CREATOR: gd-jpeg v1.0 (using IJG JPEG v62), quality = 100

 ” الربيع ” لساندرو  بوتشللي.

فيم يتمثّل المنهج التأويلي هنا؟

يفترض الوصف الذي يقترحه واربورغ للشخصيات وللمشهد والحركات معرفة بالخلفية التي تغوص بنا في العالم القديم، لا بل المسيحي ( بحكم غموض الشخصية المركزية، تحت بعض سمات العذراء) . تمسح إذن المصادر الأدبية للعصر القديم والمصادر التاريخية أربعة قرون، بتعيين الديكور ( حديقة فينوس بما فيها من أشجار البرتقال). وفي أقصى اليسار، يمدّ عُطارد  ( مبعوث الإله، صائد النجوم التي قد تُخفي الحقيقة) نحو برتقالة، النعم الثلاث المُغطّاة كليا ( الجمال والفضيلة  والوفاء) تشكّل دائرة وترمز إلى الانسجام في الحبّ. وفي المركز، فينوس، بطنها مكوّرة، في وضع الولادة، تقوم بحركة باليد في اتجاه النّعم، رأسها مائلة قليلا نحو اليمين، فوقها كيوبيد مُجانبا إياها ( رمز الحبّ الأعمى)، وسهم متجه صوب النِّعم . وعلى اليمين، آلهة الربيع، التي تحمل فرعا من شجيرة الورد كحزام لفستانها وإكليل من أوراق الشجر على رقبتها، تزرع الزهور وهي تمشي في اتجاه المشاهد.. وفي أقصى اليمين، يطلق زفير نفخة صوب كلوريس، قابضا في ذات الوقت على جزء من جسده. وكلوريس، بنظرة حائرة متوسّلا إله الريح، وبحركة دفاع عن النفس ضدّ من يتبعه، يتقيأ زهورا، رمزا لوحدتهما الجسدية وإعلانا بقدوم الربيع.

يلجأ واربورغ،  قبالة صورة مكثفة بالرموز وشخصيات أسطورية، إلى مجاز حقيقيّ، بالكشف خلف المعنى الحرفي للصورة  عن معنى مخفيّ مجازي للربيع تحديدا . وللتأكيد على ذلك قام مؤرخ عصر النهضة بتقصيّ حقيقيّ عن المصادر الأدبية، والتأثيرات  والدوائر الثقافية التي حامت حول بوتشللي. تصوّر لوحة الربيع إذن الأحداث والتوصيفات والشخصيات الآتية بالخصوص من قصيدة لبوليتيا ( “مستشار خبير لبوتشللي”، مثلما يصفه واربورغ)، والمستوحاة بدورها من” الأبهة” لأوفيدوس Ovide وكتاب “في الطبيعة ” للوكريتس Lucrèce  .  هكذا يلحظ  واربورغ في “أورفيو”l’Orféo   فقرة من  الروزنامة Fastes   يروي فيها “فلور Flore كيف لاحقها ” زفير “؛ وأنها حصلت إذن كهدية زواج، القدرة على تحويل كلّ ما تلمسه إلى زهور”( 10). إلاّ أنّه توصيف مثيل لما نجده، في يمين لوحة بوتشللي، بين كلوريس وزفير والتي يصفها واربورغ بـ” مشهد ملاحقة إيروسية” . هل أن هذا التأويل العَاِلمَ savante للربيع الذي اختزلتاه في سمات كبرى، يُلحق ضررا بإدراك الصورة في ظهورها الخالص؟ هل يتعلّق الأمر بإفراط تأويل surinterprétation، لا بل بـ” إسراف تأويلي” حتى نتحدّث مثل إيكو، الذي يطبق اصطناعيا الخطاب على الصورة، إلى حدّ جعلنا لا نبصر حضورها الحسّي؟ إنّ الوفرة المفصّلة للتحليلات الإيقونوغرافية يمكن بالتأكيد أن تُتَوٍّه المشاهد، إلى حدّ صرفه في النهاية عن الصورة ذاتها. لكن يسمح هذا التَّتْيِيه الثمين في المقابل بالرفع إلى حدّ كبير من فهم الأثر. ودون هذا التيه، سيظهر التقبّل العفوي للصورة مفقّرا كثيرا، لا من حيث المعاني فحسب، بل أيضا من حيث الأحاسيس. يساهم التيه الإيقونغرافي إلى النظر على نحو آخر، بعمق أكثر، وبكثافة أكثر فيما يجري في هذه الملاحقة الإيروسية . ولا يعني هذا إذن أن نقول بأنّ ” الحسيّ” سيكون مجرّد تعلّة لكشف  “الذهني” «  l’intelligible  » في الصورة ( حقيقته المجازية). بل هو القول، بطريقة جدلية، بأنّ الانعطاف détour بالذهني ( التأويل الإيقونغرافي والإيقوني ) يسمح بجعل الحسيّ المباشر وسيطا  بفعل العودة نحوه لإثرائه، ولتغييره إلى ” حسيّ” وسيط. إنّ النظرة الإيقونغرافية لا تجعلنا نفهم بشكل أفضل فحسب، بل تجعلنا نحسّ بصورة أفضل أيضا بالمشاعر التي تتناقل بين الشخصيات وأفعالها. رغبة بالتأكيد ولكن عنف أيضا يرتّد صداه إلى عالم الطبيعة مثلما فكّر فيه لوكريتس. يبيّن ديدي- هيبرمان بوضوح فيما توسّع هذه الهارمونيطيقا الإيقونولوجية في الجملة، والتي هي أبعد من أن  تكون مفقّرة، كلّ طيف الانفعالات والمشاعر على الأثر في ” الربيع“:

ماذا نرى فعلا في هذا المشهد الذي لا يصدّق، غير كونه لعبة معقّدة ونزاع  تجاذبات و تدافع، وجمال وعنف، ورأفة ووحشية؟ أليس من الوحشية مثلا، أن تبصق فتاة مِسْبَحَة من الأزهار أو يكون محبّ شبه معلّق في الهواء بلونه الخاص المخضرّ؟ أليس من الغريب أن تمثل صورة أمام نظرنا، على نفس مستوى، ملاحقة تؤدّي إلى الممارسة الجنسية ونتيجتها، ( ولادة الزهور، أي الربيع)؟ أليس من الفريد أن نلاحظ بأنّ هذه الصورة، وهي أبعد من أن تمثّل الكائنات” الواقعيةّ “والقابلة للمشاهدة، تتمسّك بالأحرى بتمثيل شيء ما مثل فوضى الكائن، أي اختراقا للحدود- الجدّ منحرفة في الظاهر، مثلما هو الحال غالبا لدى بوتشللي – بين اللذة والرعب، بين هبة الحبّ والعذاب المنزّل؟” (11).

لا تردّ الهارمونيطيقا بالمرّة إلى  الاستعارة  وبوجه أعمّ إلى مجرّد البحث عن معنى خفيّ، ثانوي وكامن، وإلى البحث عن ” منجم للمعنى”. لقد قلنا ذلك، إنّ هذا المنهج التأويلي ليس إلاّ تشعّبا، مهما كان جدّ مهمّ، فإنه يجد أصداء قويّة مع المنهج الإيقونولوجي  والإيقونغرافي الذي روّجت له  مدرسة واربورغ وبانوفسكي، إلى حدّ يمكننا أن نأخذ فيه الإيقونولوجي على كونه فيلولوجيا للصورة l’iconologue comme un philologue de l’image . يوجد مع ذلك تاريخ للهارمونيطيقا يركّز على المعنى الحرفي، دون أن يحيل بالضرورة إلى معنى خفيّ؛ تاريخ يعود إلى النحويين الإغريق، إلى تفسير الكتاب المقدّس لآباء الكنيسة، إلى فيلولوجيا الإسكندرية، كي يتجدّد  عصر النهضة، ثم في عصر الأنوار. يمكن للمعنى الحرفي أن يطبّق على كلمة، على جملة أو على خطاب ويشير إلى ” المعنى الأولي لعلامة أو علامات، من حيث أن هذا المعنى تتقاسمه جماعة ألسنية”. (12) إنّ المعنى الحرفيّ (sensus litteralis)   يمكن أن ينزاح بذاته إلى معنى نحوي sensus grammaticus ومعنى تاريخيّ sensus historialis  حينما يروي النصّ أحداثا متضمنة في حكاية (السرد في الكتاب المقدس).

فيم يمكن أن يطرح المعنى الحرفيّ لكلمة أو لخطاب مشكلاتِ تأويلٍ ويستلزم بالتالي هارمونيطيقا؟

أن نقول بأنّ المعنى الحرفي يشير إلى المعنى الأوّلي فذاك لا يعني بأنّ فهمه سيكون مباشرا. هذه النقطة مركزيّة تماما. وبعبارة أخرى، يمكن للمعنى الحرفيّ أن يتأثّر بما نسمّيه البعد الإشكالي للمعنى problématicités du sens. هو الحال مثلا بالنسبة لـغموض l’obscurité  كلمة، ( لغريب الكلام) لمعجمية جعلها تطوّر اللغة قديمة ومعانيها تغيّرت بحكم الاستعمال. يصبح التفسير، كالذي تمارسه مدرسة الإسكندرية، ضروريا إذن لمعرفة أيّ معنى كان في الأصل، لتلك الكلمة أو ذاك التعبير. يمكن للمعنى الحرفي أن يتأثّر أيضا بـلُبسambiguïté حينما يُنسب مؤلّف خطاب معنىً لا يناسب المعنى المعتاد للعلامة، بالخلط بينها وعلامة أخرى( يمكن أن يعني هذا الخلط نفسه القارئ أيضا). يمكن للمعنى الحرفيّ أن يربكه لَبْسُ عندما يمنع غياب النظائر d’isotopes من تحديد المعنى الحقيقيّ للفظ متعدّد الدلالات polysémique . وهذا حقيقيّ أيضا بالنسبة إلى الضمنيات implicites  واللّميات sous-tendus  عندما  لا يسمح سياق الجملة كفاية بتثبيت المعنى. يمكن أن نعدّد إذن قائمة مشكليات المعنى المتعلق بالمعنى الحرفي: تناقض، معاني مضادّة…(13). والمهمّ أنها تستدعي تقنيات تأويل ( نسمّيها تأويلات ( تخوّل لنا، في حدود الإمكان، بناء معقولية : توضيح، تفسير، التأطير السياقي ( التسييق) contextualisation…

يكمن السؤال منذئذ في معرفة إذا ما كان بإمكاننا نقل نُظم مُشكليّة المعنى وتأويلاته إلى الصور أو العثور إذن على تقنيات مماثلة. ألا يمكن أيضا اعتبار صورة على كونها غامضة، قياسا بالنصّ، حينما لا يظهر معنى تصوّر شخصية أو فعل بوضوح أكثر، حينما لا يتوافق معنى رسم أو مشهد مع دلالته المعاصرة؟ إنّ عمل تأويل مؤرّخ الفنّ هو تماثليا  ذا قرابة بعمل الفيلولوجي أو المفسّر الذي يبحث عن إيجاد المعنى الأصلي لكلمة، وإلى تحيين مرجعيات الماضي لصالح توضيح أو تأطير سياقي تاريخي. ويمكن تعبئة التأويلات Interpretatio  أيضا عندما تتعلّق مُشْكِلية المعنى بالالتباس. ويمكن أن تتعلّق بنسبة لوحة حتّى، قياسيا مع نسبة نص ّ حينما يوجد شكّ( والتباس ممكن) حول المؤلف أو الفنان الذي أبدعه( في حالة النسخة مثلا).إنّ تأصيل L’authentification  الأثر تقنية نجدها في التأويلية النصية يقدر ما نجدها في تاريخ الفنّ، مثلا، عندما يعمل مورللي Morelli على الفصل فيما بين لوحات بالاستقصاء حول الجزئيات الخاصّة بأسلوب فنّان  ( بطريقة مماثلة لسبينوزا حينما يعمل على رفع الالتباس عن مؤلفي أسفار موسى الخمسة).  يمكن للتناقض أن يعاكس، قياسيا بالخطاب، معنى صورة. رأينا ذلك مع لوحة  مافي Maffei الذي قد يؤوّل ” نمطها” إمّا بوصفها جوديث Judith أو بوصفها صالومي Salomé. إنّ المماثلة بين الخطاب والصورة من وجهة نظر مُشكلية problématicités المعنى ( مثل التماثل البنيوي بين الهارمونيطيقا وتاريخ الفن من وجهة نظر التأويل interpretatio) تجد سندا خاصا إذا ما توجّهنا من جديد إلى بانوفسكي .  يؤكّد داريلا في تعليقه بكل تناسق على القرابة بين الهارمونيطيقا ( منظورا إليها بوصفها استعارية) والمنهج الإيقونغرافي والإيقونولوجي على نحو ما هو مستخدم لدى منظرّ الفنّ. قليل من الأشياء قيلت في المقابل فيما يتعلّق بما يسمّيه بانوفسكي الماقبل إيقونغرافي le pré-iconographique.. لكن، مثلُ هذا المنهج هو الذي تردّد صداه القويّ في هارمونيطيقا المعنى الحرفي. يتعلّق التأويل الماقبل- إيقونغرافي تحديدا بما يسمّى ” المعنى الأوّلي” لصورة يقسّمها هو ذاته إلى ” معنى فعلي”«  signification de fait  »  و ” معنى تعبيريّ”«  signification expressive  » : ” ندركها بتعيين صور خالصة ( أي : تكوينات معينة للخطّ واللون، أو كتل برنز أو حجر معينة، مشكّلة على نحو خاص) بمثل تصوّرات لموضوعات طبيعية ( مثل الكائنات البشرية  وحيوانات ونباتات ومنازل وأدوات الخ .)؛ وبتعيين علاقاتها المتبادلة بوصفها إحداثا ؛وبإدراك خصائص تعبيريّة معينة، مثلا، سمة الحِداد التي تنطوي على سلوك أو حركة، ومناخ حميميّ ومريح لمحيط داخلي” (15). إنّ تعيين هذه الأشكال وهذه التعبيرات ( التي تمثّل عالم “الأنماط” motifs في تاريخ الفن وفق معجمية بافنوفسكي) يمكن أن يحدث بطريقة سَلِسَة، دون جهد تأويلي ذي دلالة. إنه حينما يصبح التعيين في المقابل إشكاليا ( التباس ممكن بين الكائنات؛ تعارض حول معنى فعل…) وحينما يصبح الاشتغال على المعنى ضروريا ويتحرّك الماقبل – إيقونغرافي حقيقة بما هو هارمونيطيقا. أن تتعلّق بالمعنى الحرفيّ أو بالمعنى المجازي أو الرمزي، فإنّ الاعتراض الرئيسيّ الذي يمكن أن نقوم به تجاه  التقارب بين الهارمونيطيقا والايقونولوجيا  والذي يبدو أن جزءا فقط من تاريخ الفن يتبنّاه، خاصة رسم تاريخ النهضة، الذي ولع به واربورغ وبانوفسكي، أو أيضا الكلاسيكية التصويرية التي كان بوسان Poussin أحد روّادها. كان التطابق هو أقلّ صدفة بقدرٍ لم تلعب فيه النصوص الكلاسيكية للعصر القديم أو للكلاسيكية وظيفة الإلهام فحسب بالنسبة إلى رسامي عصر النهضة أو للمدرسة الكلاسيكية، بل أيضا وظيفة نفوذ أخلاقي حقيقي ووظيفة تشريع للفن التصويري الناشئ، في اللحظة ذاتها التي نشهد فيها ” تحرّرا” لمنزلة الفنّان وتقاربا مع عالم الأدباء الذي تمّ الترفيع من شأنه اجتماعيا. حقيقيّ أنه أثناء النهضة الايطالية حيث كان الرهان ” وضع الرسام- الذي هو إلى وقتئذ مجرد صانع مرتبط بالنماذج التقليدية لـفقه الممارسة ومطالب المُشْرِفين – في منزلة شاعر كبير، أي منزلة معرفة فكرية أصيلة مضاعفة بحريّة و”بسيادة” فنيّة”.(16) وهو حقيقيّ أيضا في عصر

الكلاسيكية الفرنسية : ” إنّ دور تراتبية الأنماط، التي تضع في القمّة الرسم المسمّى ” للتاريخ” – أي تحويل نص إلى صورة، سواء كان دينيا أو مدنّسا- كان جوهريا في تلك الأولوية للعقلي على الحسّي، ومرتبطا بشكل واسع بالبحث عن معنى أو تقدير دلالة ُأولى. ومنذ الجيل الأوّل الأكاديميّ، تشهد المحاضرات التي التحق بها نخبة الرسامين في حلقة واسعة من العارفين الأدباء للمطالبة بهذا الخضوع للصورة للنص، والإحساس للمعنى”. (17).

وبعبارة أخرى، فإنّ فليلوجية هارمونيطيقا ( تأويلية ) نظرية الفنّ، مثلما يمكن ترجمتها في مشروع إيقونولجي،  سيضمن ويولّد من جديد في نفس الوقت إبستيمية خاصة لتاريخ الفنّ  تتطابق  مع أوج نَصْنَصَة textualisation الرسم التصويري، حيث  تستمدّ الصورة معناها ومشروعية  النصوص الكلاسيكية للعصر القديم والوصايا اليهودية – المسيحية.

يمكننا الاعتراض على هذا الاعتراض بأنّ المنهج الماقبل- إيقونوغرافي يمكنه أن يطبّق تماما على عصور لاحقة للنهضة، وأيضا على المرحلة المعاصرة، بشرط أن نقدر على أن نستنبط منها معنى حرفيا أو معنى ثانويا، دون الإحالة مع ذلك إلى نصوص كلاسيكية. وهو أمر حقيقيّ ويسمح في نفس الوقت بتوسيع التأويلية الإيقونولوجية إلى ما بعد النهضة والمدرسة الكلاسيكية .

بيد أنه ينبغي الاعتراف، بأنّ عصورا أخرى وتيارات فنية أخرى تقاوم بوضوح المنهج الماقبل- إيقونوغرافي والإيقونولوجي، عندما لا يوجد تاريخ ولا شخصيات ولا معنى مخفي، حتى قبل الفنّ المجرّد أو المفهومي conceptuel، بدءا ببعض رسوم  المناظر الهولندية.  هل يؤدّي مع ذلك، وضع الإيقونولجيا خارج الدائرة، من طبقات كاملة من تاريخ الفنّ، بالتأويلية إلى الفشل؟ هل للتأويلية، بما هي في البدء وليدة النصوص، منابعَ لتأويل صورة متمرّدة على كلّ تاريخ، لا بل على كلّ مجاز، صورة لا يمكن أن تكون منصّصة  textualisée ؟ هل يمكن في نفس الوقت، لتأويلية، مُبرّرُ وجودها، البحث عن المعنى، وأن تساهم في التقاط القوى الحسيّة للصورة، دون أن تتعرّض لذمّ  الفكرانية l’intellectualisme؟            

( يتبع)
________

*المصدر:   https://doi.org/10.4000/methodos.10421

– هوامش:

* – جوهان ميشيل ( 1972): أستاذ في جامعة بواتييه وباحث في مركز دراسة الحركات الاجتماعية  للمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية  وعضو شرفي فيالمؤسسة الجامعية الفرنسية.

1– ناتالي هاينش (2008)”ما يحدثه التأويل. ثلاث وظائف للنشاط التاويلي”. سوسيولوجيا الفن  اوبيس 13، ص 20.

2-  جورج ديدي هيبرمان  (2008) التشابه بالاتصال, اركيولوجيا، اللاتزامنية وحداثة البصمة . باريس نشر مينوي ص 254.

3- جاك داريللا 2007 ” تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي”

4- موريس مارلو بونتي ” المرئي واللامرئي” باريس غاليمار ص 197.

5-  جورج ديدي-هيبرمان 1992ما نراه  ما يرنا، باريس نشر مينوي. ص 35.

6-  .جاك داريللا 2007, “” تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي”

7- إيروين بانوفسكي 1976، ” مشكلة وصف الأعمال”. نشر إيروين بانوفسكي , المنظورية بوصفها شكلا رمزيا، باريس نشر مينوي ص 244.

8- جاك داريللا 2007، “” تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي”

9-حيلة فونوس  يمكن ان تذكرنا إما بتماثيل الرومانية او مثلما يرحظ ذلك واربورغ  سلوك العذراء في الجمة .

10- واربورغ 2015 محاولات فلوزرنسية باريس هازان ص 73.

11-جورج ديدي هيبرمان 2015 محاولة حول  الرغبة- الغطاء باريس غاليمار ص84.

12- آدا ناشكوهانتشوكو Ada Neschke-Hentschke 2015″ المعنى الحرفي”، التاويل ن معجم الفلسفة باريس فران ص432.

13- جان ميشيل 2017، اومو  تأويل  باريس، هارمان

14- جاك داريللا 2007, “” تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي”

15- إريوين بانوفسكي 2021، ماحولات في الإيكونولوجيا باريس غاليمار ص23.

16- جورج ديدي هيبرمان  (2008) التشابه بالاتصال ص93.

ناتالي هانيش، سوسيولوجيا الفن  2008 ص 13


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة