التنويريدراسات دينية

القرآن والذائقة اللغويّة؛ سحر الدلالات السياقيَّة

تعد اللغة من أهم الظواهر الاجتماعية التي لا فكاك منها في تمكين التواصل، وبخاصة اللغة المنطوقة التي ميزت الإنسان عن شتى المخلوقات، فهي أداته الرئيسة التي تعينه على الاتصال بالآخرين، فاللغة تمثل ضرورة حيوية ومطلبا أساسيا على كافة المستويات الإقليمية والاجتماعية والفردية، وهي سجلٌ لتاريخ الإنسانية وحاملة لثقافتها التي هي منطق تقدمها وكُنْه تطورها، وهي الرابط القوي بين شعوب الأمة الواحدة، الموحدة لاتجاهاتها، فضلا عن كونها رمز عزَّة ومناط كرامةٍ وقوةٍ للوطن. ولهذه العوامل مجتمعة، استحالت إجادة استخدام اللغة مطلبا مهما من متطلبات الشخصية المتكاملة القادرة على تحقيق الفهم وتمكين الإفهام، لاسيما وأن تعَامَلَ بها الفرد باعتبارها مسارات ذهنية يتفاعل بموجبها كل ما هو لساني صوتي، وعصبي، ومعلوماتي، وهذه المسارات تنطلق من حقيقةٍ مفادها أنَّ اللغةَ وظيفة متطورة للمخ الإنساني، وأنها الوسيلة الناجزة لاستدعاء كل ما هو متخيل في الذهن.

فضلا عن أن اكتساب الفرد للمفردات اللغوية بصورة وظيفية يؤثر بطيعة الحال على كافة مناطق المخ الإنساني ؛ حيث تؤثر المفردات الجديدة التداولية في عمل الذاكرة، وفي مستوى الارتباط بين أجزائها، وكذلك قدرة الفرد على تصنيف المعلومات وتبويبها وتخزينها، علاوة على دورها الإيجابي في تنمية الطلاقة الفهمية لحديث الآخرين وكتاباتهم والتواصل معهم بفاعلية.

كما تمثل المفردات الجزء المهم والركيزة الأساسية لأية لغة في العالم، ويعد تعرُّف معانيها من العوامل الرئيسة الأكثر تأثيرًا في عملية التقاط المعنى من الأفكار التي ترد صراحةً أو ضمنًا، لذلك يؤكد كثير من اللغويين على أنها ـ المفردات ـ إحدى المقومات المهمة في تعلُّمِ اللغة وتعليمها، إن لم تكن المقوِّم الرئيس في هذه العملية، وأن استيعاب المتعلم للكثير من المفردات ومعانيها يسهل من تعلم اللغة.

ولم يخرج تعريف الدلالة السياقية عن المفهوم العام لمعنى دلالة الكلمة من حيث فهمها وتفسيرها والمعنى المعجمي لها، إلا أن التعريفات المختلفة للمفهوم أضافت دور السياق اللغوي في إدراك معان جديدة للكلمة، فهي الأجزاء التي تسبق أو تتلو مباشرة فقرة أو كلمة معينة ويتحدد من خلالها المعنى المقصود،  ويرى كل من Escribano, 2017) ) أن الدلالة السياقية هي إحدى فروع الفلسفة السيميائية التي تدرس العلامات والرموز وما يمكن أن تلعبه الكلمة داخل السياق للتأثير، بينما يشير (Neil , 2019) إلى المفهوم كونه قدرة القارئ على إدراك المعاني التداولية للكلمة داخل السياق المقروء والعبارات المناسبة للمعنى وتبصًّر الموقف الانفعالي للكلام، أما  ( Kelly, 2021) فيعرفها بأنها معنى الكلمة والعبارة داخل السياق.

وباستقراء معظم المواضعات الخاصة بالدلالة السياقية يمكن الإشارة إليها بأنها البيئة المحيطة والظروف والخلفية التي تحدد وتوضح معنى الحدث اللغوي في العبارة أو الفقرة، وأنها تحدد جهة السياق من حيث كونه عاطفيا أو مجازيا أو تقريرا صادقا لحالة معينة. كما أنها تلك التصورات والمشاعر التي تنقلها الكلمة داخل النص، وبذلك يوفر السياق معلومات قيمية لفهم سبب وكيفية اختلاف الكلمة في المعنى والدلالة عند استخدامها في أي جزء من النص عنها كما جاء مدلولها في المعجم. 

وتُمَثِّلُ اللغة مصدرًا للاستمتاع بالجمال، وقد يُسَر الإنسان من سماعه، أو قراءته لأشكال من التعبير تجسد ما في نفسه من رغبات أو أفكار أو انفعالات، وهي ـ اللغة ـ برموزها وأساليبها وتراكيبها ومن ثم عباراتها تعكس الجمال المتمثل في الطبيعة من حوله ؛ فيستشعر بما في هذه الطبيعة من حركة دائمة وحياة مستمرة، وما فيها من إشراق وفيض وسحر بيان في توصيفها، ولذلك تعد اللغة أداة رئيسة وأساسية للتعبير عن انفعالات الإنسان وعواطفه من خلال تشكيلات جمالية لاسيما الأدب الذي ينقل تلك الانفعالات والأحاسيس ؛ فتجعل القارئ مدركًا لألوان البيان والتعبيرات الراقية.

ومن المنطقي أن وظيفة اللغة الاتصال الناجح بين الفرد والمجتمع، والتعامل مع إحداثياته المختلفة، وتيسير عملية نقل الأفكار بين الأفراد، وإعادة إنتاجها وتوليدها بصور شتى، وما يتبع ذلك من قضاء لمصالح الأفراد ومطامحهم، وسهولة أمور المعيشة وتدبيرها، فضلا عن وظيفتها الراسخة في القدم ؛ حفظ التراث والاعتناء به وتداوله، وانتقال الثقافات من جيل لجيلٍ، ومن بيئة لبيئات أخرى.

وتعتبر اللغة وسيلة لتصوير المشاعر الإنسانية والعواطف البشرية التي لا تتغير بتغير الأزمان، وعن طريق اللغة استطاعت الآثار الأدبية الإنسانية أن تنتقل من جيل إلى آخر، وأن تنمو نموا مستمرا بما يضيفه الأدباء إليها في العصور اللاحقة من لوحات إنسانية لغوية خالدة، وهذه الآثار تمثل صوامع شعور وهياكل تطهير يلجأ إليها كل ذوي الإحساس والشعور، وفي أفنانها وأروقتها يطلقون العنان لهذه المشاعر المتشابهة فيفرغون شحناتهم السالبة، حيث عجزوا عن أن يعبروا عنها بالطريقة التي عبر بها هؤلاء الأدباء.

ولكن للغة جانبا آخر يبدو موازيا في الأهمية ؛ هذا الجانب يتجاوز وظيفتها الطبيعية وهي التواصل والاتصال إلى الاستمتاع بها، والشعور بالمتعة الفنية لتعبيراتها وأساليبها، وهذا الجانب الموازي ينعكس في لون من التعبير الجميل تتوافر فيه ألوان من الصنعة والجمال اللغوي المثير للذهن والقلب معا، ويقصد فيه إلى التأنق في العبارة، والسمو في المعنى، ويتمثل في المأثور من الشعر والنثر الفني على مر العصور، وهذا يُسمى الأدب. والأدب هو صورة الحياة ؛ واقعها وفنها، وجمالها وبهجتها، وإحساس الأفراد وعواطفهم،والأدب الحي يمنح القدرة على الانفعال بالمقروء، ويضيف إلى أعمارنا وأرصدة خبراتنا المعرفية والاجتماعية آفاقا أرحب وأوسع ؛ لأنه يتجاوز سمة التقرير والتوصيف للواقع إلى مراحل التفكر والتأمل والتبصر، ولذلك تكمن مهمة الأدب في توسيع نظرة الناشئة للحياة، وزيادة فهمهم للعلاقات بين ظواهرها المختلفة، وإرشادهم إلى قيم المجتمع وعاداته وبعض مشكلاته ؛ بغية السعي إلى حلها وتطوير المجتمع نفسه، فضلا عن تهذيب ميولهم وصقل أذواقهم.

ودرس الأدب له من الأهمية بمكان في إعداد النفس، وتكوين الشخصية، وتوجيه السلوك الإنساني ؛ لأن النصوص الأدبية من شعر ونثر من شأنها تعمل على تهذيب الوجدان وصقله بأبرز الخبرات والتجارب الإنسانية المفيدة والإيجابية، كما أنها تسهم في تدريب المتعلمين على حسن الأداء وتنمية الإحساس الجمالي في نفوسهم. كما أن دراسة النصوص الأدبية تنمي لدى المتعلم القدرة على التحليل والفهم والاستنتاج، كذلك الدور الذي تقوم به دراسة النصوص الأدبية وتعلمها في إعانة المتعلمين على إثارة التفكير والتواصل لديهم، مع حسن التعبير عما يريدون. وربما ترجع هذه الأهمية لا لكون اللغة وسيلة للتخاطب أو التواصل بين الأفراد فحسب ؛ بل لكونها تُمثِّل رمزًا وسمتًا للهوية التي تميز شعبًا عن شعبٍ، وتدمغ حضارته بطابع مختلفٍ يؤكد شهوده الحضاري.

وهكذا تتمثل الوظيفة النفسية والجمالية للغة في قدرتها الفائقة على الوفاء بالتعبير الدقيق والحي عن الحاجات النفسية والشعورية، فتسعف بذلك من يقدر على التعبير عنها من خلال الصور والألفاظ والتراكيب الأدبية ؛ فيضيف إلى هذه الأعمال الأدبية بقدر لا يقل عن جودتها ودقتها في تصوير المشاعر والعواطف.

ويكاد يتفق معظم خبراء التربية اللغوية على أن للأدب دورًا كبيرا ورئيسًا في تنمية التذوق الأدبي لدى المتعلمين، وفي إدراكهم لنواحي الجمال في الإنتاج اللغوي المكتوب والمنطوق على السواء، ولهذا فهم يشيرون إلى أن تذوق النصوص الأدبية وتقديرها ومن ثم الحكم على جودتها هو الحصيلة النهائية لدراسة تلك النصوص، حيث إن التذوق الأدبي هو نزوع إلى الجمال، ووقوف على أسرار البلاغة في الأدب، ووسيلة للتأثير والإيحاء، وهو الملكة التي تمنح العمل الأدبي روحًا، كما أنه يعد الغاية الكبرى لتعليم الأدب في جميع المراحل الدراسية والحصيلة النهائية لتعلم الآثار الأدبية وقراءتها؛  حتى يتجلى ذلك في تعبير المتعلمين ويكون قرينة على استدامتهم للقراءة في أوقات فراغهم، وتقويم ألسنتهم، وتعويدهم حسن الإلقاء وجودة الكتابة.

وتؤكد أدبيات التربية اللغوية على أن التذوق الأدبي يساعد في تمكين المتعلم من الوقوف على ما في الأعمال الأدبية من افكار ومعلومات ومعارف وقيم واتجاهات شتى نحو الكون والحياة والمجتمع ؛ مما يؤثر طوعًا في قدرته على تقييم هذه الأعمال من حيث الجودة والرصانة والالتزام  بالقيم الفنية الإبداعية  من ناحية، وشعوره بالمتعة والجمال الذي يدفعه إلى محاكاة هذه الأفكار والمعاني المتضمنة بالأعمال الأدبية من ناحية أخرى.

ومن هنا تبرز أهمية درس الأدب كونه استراحة للعقل، ونسمات تحرر الرأي، وانطلاقة نحو الوعي والفهم العميق وتمكين الذهن في إظهار مكنونات النفس بانطباعات متوازنة عن طريق دراسة القصائد والنصوص النثرية التي تؤثر في النفس، ويعد بذلك التذوق الأدبي نوعا من أنواع السلوك الي ينشأ من فهم المتعلم للمعاني العميقة المتضمنة بالنصوص الأدبية، والإحساس بجمالها، وهذا السلوك من شأنه قيام القارئ بنشاط إيجابي كرد فعل واستجابة فطرية لتأثره بنواحي الجمال في المقروء، وذلك بعد تركيز الانتباه وتحمل المسئولية العقلية والوجدانية في التفاعل مع مضامينه، الأمر الذي يتيح للقارئ تقدير العمل الأدبي والحكم عليه. فضلا عن كون النصوص الأدبية تمثل ثقافات متنوعة متفقة حينا ومختلفة حينا آخر، وهذه الثقافات تاريخية واجتماعية ونفسية تعد مجالات رئيسة للإثراء اللغوي، وروافد مهمة لتحقيق المتعة والسرور، لذا عُدَّت النصوص الأدبية وسيلة لتهذيب النفس وإرهاف الحس وترقيق الذوق وتوجيه السلوك، مما يتطلب من الفرد تذوق النص وتفاعله معه بصورة إيجابية تمكن له تحقيق تلك النواتج التعليمية.

والتذوق الأدبي رغم كونه عملية ترتبط بالوجدان ومدى تفاعل القارئ بالمقروء انفعاليا ونفسيا، إلا أن ثمة علاقة واضحة بينه والتفكير ؛ حيث إن في مواقف تعلم التذوق الأدبي تتعدد العمليات العقلية التي يمكن أن يقوم بها المتعلم، فإذا كان الاتصال شفهيا فإن عقله يعمل وهو يستقبل ذلك بصورة تتابعية بحيث يمكن للمستلقي أن يكوِّن موقفًا جيدا للتدرب على التفكير الإبداعي الذي يصل به إلى المستوى الإبداعي، حيث يمضي المتعلم في عمليات وإجراءات التفكير الموصلة إلى المستوى الإبداعي عندما يستوعب ما قرأه أو سمعه في حدود المفردات والتراكيب والأساليب التي تعلمها، وبتوجيهه لالتقاط الأفكار الرئيسة والأخرى الفرعية وتمييزه بين الأساسي والفرعي والثانوي منها، كذلك توقعه لمعاني ودلالات المفردات الجديدة من خلال ربطها بالسياق اللغوي واستنتاجه لغرض الأديب.  

وتبرز أهمية التذوق الأدبي كونه لا يقل أهمية عن التفكير العلمي ؛ فالقدرة على تذوق الجمال اللغوي والاستمتاع به وإدراك ما بالنصوص الأدبية من بيان ومعانٍ ذات قيمة تمكنهم من فهم هذه النصوص فهما جيدا ومعرفة مقاصد الأديب أمر أساسي في حياة كل فرد، وشأن ضروري لتحقيق تكامل الشخصية، لذا حرص الكثير ممن اكترث بدراسة التذوق الأدبي على تبيين أنه من الخطأ الظن بأن الحضارات الحديثة شُيِّدت فقط من خلال العلم والتقنيات التكنولوجية فحسب، أو تقاس بهما فقط، بل إن الحضارات الحديثة والمعاصرة  تُقاس بمدى تذوق شعوبها باللغة وفنونها والتأثر بألوانها الإبداعية المختلفة، وهذا ما دفعهم إلى اعتبار التذوق الأدبي المهارة الخامسة من مهارات اللغة.

لذا فنحن بحاجة إلى تنمية التذوق الأدبي بصورة أكبر من أي وقت مضى ؛ حيث إننا في حاجة إلى تنشئة جيل ذواق يقدر القيم الإنسانية، ويعمل بها، ويتذوق الجمال، ويستمتع به، ويكسبه في كل شئ فإن لم يجده أوجده” كما أن للتذوق الأدبي أهمية كبرى بالنسبة للمبدع والمتلقي على حد سواء ؛ أما عن أهميته للمبدع ” فتتجلى في أنه أول متذوق لعمله، وتتضح هذه الأهمية عندما يقف المبدع من نفسه موقف المتأمل لما أبدعه خياله وما حققه من روائع “، بينما تتمثل الأهمية للمتعلم في تقديره للآثار الفنية والأدبية وإدراك ما في العالم من جمال وتناسب، والقدرة على الاستمتاع بهذا الجمال ومحاكاته في الأعمال والأفكار.

وقد أكد علماء النفس على قدرة الفرد الذي يتمتع  بالتذوق السليم في تقدير الأعمال الفنية والأدبية، وإدراك ما فيها من جمال وتناسب وانسجام، والاستمتاع بهذا الجمال والشعور بالسعادة، وهذه القدرة من شأنها مساعدة القارئ على إعادة تشكيل النص وتقدير قيمته الفنية ؛ لأنها تربي لديه الإحساس بقيمة اللفظ وجمال المعنى ومبناه، فضلا عن سعة الخيال، وهذه القدرة كفيلة بمساعدة المتعلم على محاكاة الأساليب والتراكيب اللغوية الجميلة في حديثه وكتابته، وتعوده الحرص على تحقيق الصحة اللغوية في استعمالاته اللغوية.

ولا شك أن امتلاك الأفراد لمهارات التذوق الأدبي واستخدامها يجعلهم يستشعرون قيمة الأعمال الأدبية، ويرتبطون بها وجدانيا مما يجعل لهذا الامتلاك أعظم الأثر في النفس وأطول بقاء وأكبر تأثيرا، لأن التذوق الأدبي يعد وسيلة مهمة تجعل المتعلمين يفهمون تراثهم اللغوي، ومن خلاله يستطيعون التعبير فيما بعد عن أفكارهم ورؤاهم بدقة ودلالة، وهذا ما جعل كل رواد النقد الأدبي يشيرون إلى أن التذوق الأدبي مرتبط بالذوق العام، مما يضفي على المتعلم معايير ذوقية جمالية تنعكس بالضرورة على سلوكياته وتصرفاته الحياتية والمهنية، وأن دراسة اللغة لا تكتمل إلا بالتطرق إلى بلاغتها، لأنها ـ اللغة ـ ليست مجرد أداة تفاهم وتواصل فحسب ؛ بل هي لغة ذات دلالة دينية أيضا يفهم بها كلام الله، لذا جاءت الحاجة ملحة لفهم وتذوق المفردات والجمل والعبارات لأنه من المنطقي لا فهم للنص دون تذوق مفرداته. وهذا يتطلب من الفرد أن يكون قادرا على تناول النص الأدبي بالتحليل والتدقيق وتفكيكه من خلال إدراك نواحي الجمال ودقة المعاني وفهم التراكيب اللغوية ودلالاتها، وتحديد قيمة التشكيلات البيانية والتفطن إلى العبارات المبتكرة. 

لذلك وباستقراء كافة الكتابات النقدية المعاصرة نجد جميعها تؤكد على أن التذوق الأدبي وسيلة المتعلم الناجزة لتهذيب أفكاره وتنسيقها من خلال الارتقاء بذوق المتلقي، وتمكينه من تمييز جيد الأفكار من رديئها، ويؤدي التدريب على اكتساب مهارات التذوق الأدبي واستخدامها إلى تكوين معيار تذوقي لدى المتعلمين، ثم سرعان ما يصبح هذا المعيار ملكة تصاحب الأعمال الأدبية فتهدي القارئ إلى نقد النصوص بموضوعية، كما أشارت نتائج تلك الدراسات إلى أن التذوق الأدبي باعتباره خبرة تزداد عمقا واتساعًا بقراءة النصوص والأعمال الأدبية وتناولها بالتحليل والفهم حتى يصبح آلية تقترب من آلية الإبداع أيضا.

واهتم المفكرون، وخبراء التربية اللغوية، والباحثون في مجال تعليم اللغة العربية بتحديد مفهوم التذوق الأدبي كخطوة رئيسة في استقراء مكوناته وجوانبه ومهاراته الأساسية، وهناك مصطلحان متشابهان في مجال الدراسات الأدبية هما الذوق والتذوق، ويلاحظ أن الدراسات التراثية أكثر ميلا لاستخدام مصطلح الذوق الأدبي والذي يعني النزوع إلى الجمال والوقوف على أسرار البلاغة في الأدب ووسيلة للتأثير والإيحاء، وهو ” الملكة التي تمنح العمل الأدبي روحًا وهو مهم للأدب فهو القدرة التي تؤثر في تشكيل عناصر العمل الأدبي ومهم للمتذوق ؛ إذ هو القوة التي يقدر بها الأثر الفني، ويصقل بالدراسة، ويعمق بالثقافة، ويرقى بكثرة الاطلاع، والاتصال بالأعمال الأدبية ، بينما الدراسات الحديثة أكثر ميلا لاستخدام مصطلح التذوق الأدبي الذي يرتبط بأحكام موضوعية له ضوابطه ومعاييره ومستوياته التي تفوق الذوق في بعض جوانبه.

وعرف (ابن منظور ) الذوق بأنه: ” الذوق مصدر ذاق الشئ  يذوقه ومذاقا، فالذواق والمذاق يكونان مصدرين ويكونان طعما، والمذاق: طعم الشئ، والذواق هو المأكول والمشروب”. ويرى (ابن خلدون)  التذوق الأدبي أنه ” لفظة يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان، وهذه الملكة إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تركيبه “.

وباستقراء التعريفات المختلفة لمفهوم التذوق الأدبي يمكن توصيفه بأنه استجابة تأملية وجدانية جمالية يصدرها المتعلم في أثناء تفاعله مع النص الأدبي الذي يقوم بقراءته قراءة واعية، وهذه الاستجابة تمثل حاسة فنية يحكم المتعلم من خلالها على النص الأدبي من خلال دقة التعامل معه، وشدة التعاطف والانفعال به ومعايشته تجربة الكاتب، فيقف بذلك على نقاط الضعف والقوة والتميز بالنص، ويدرك العلاقات بين عناصر النص ومكوناته الإبداعية. فضلا عن أن التعريفات السابقة أشارت إلى أن التذوق الأدبي عملية لا تقتصر على الجانب الجمالي فحسب، بل تتضمن الجانب الذهني المتمثل في أفكار النص ومضامينه الاجتماعية المتضمنة قيم وأعراف المجتمع، كما أنه من خلال تحليل التعريفات السابقة لمفهوم التذوق الأدبي يتبين أنه يبدأ من النص الأدبي، ولا يتحقق إلا عبر ما يحمله هذا النص من مقومات وركائز لغوية وفنية وجمالية تمثل أسس التذوق الأدبي.

وباستقراء المكونات الرئيسة للتذوق الأدبي والتي اهتم الباحثون بتحديدها، يمكن الوقوف على ثمة ملامح رئيسة تصنف تلك المكونات ؛ منها أن التذوق الأدبي عملية يجريها القارئ على النص الأدبي بحيث يتفاعل معه، كما أن التذوق الأدبي لا يقتصر على الجوانب الجمالية فحسب، بل يتضمن الجانب الذهني العقلي، وهو عملية تتصل بالتفكير ومهاراته، والتذوق الأدبي وفقا لمكوناته يتطلب جهدًا عقليا وانفعاليا من المتلقي ؛ من أجل الوقوف على جماليات النص الأدبي والسعي إلى إظهار ما به من مثالب أو مزايا، ومن ثم الحكم على جودته. ويمكن الإشارة إلى أن التذوق الأدبي كعملية يعتمد جانبين ؛ الأول عقلي.

وإذا كانت للتذوق الأدبي مكونات وجوانب، فإنها تعد بذلك منطلقا أساسيا للمهارات التي تندرج تحت مظلة المفهوم العام للتذوق الأدبي باعتبارها ـ المهارات ـ أداءات سلوكية للمتعلم تعكس خبرته التأملية بعد قراءة أو استماع نص أدبي، ومدى تمكنه من التفاعل مع جوانبه العقلية، والجمالية، والوجدانية، فمنهم من حدد مهارات التذوق الأدبي وفق مكوناته الثلاثة له  وهي التجربة الفكرية، والتجربة اللفظية، والتجربة الشعورية، ومنهم من حددها بناء على عناصر التذوق الأدبي المتمثلة في الألفاظ، والأفكار، والأسلوب، والعاطفة، والخيال، ومنهم من قام بتحديدها وفق مجال معالجة البنية الخاصة بالنص ( سطحية ـ عميقة ) حسب أداءات التحليل أو التركيب.

وتساعد ممارسة التذوق الأدبي على ترسيخ المفاهيم والأفكار والمعاني بل والخيال في الذهن، وهذا ما جعل الأدباء الأوائل يعتقدون أن المرء إذا نسي قضية ما أو موقفا بعينه ويريد تثبيتها أو إثباتها تدعيما لرأيه، فإن جماليات اللغة بروعة ما فيها من بيان وتصوير وبديع ألفاظ وتراكيب تبقيها شاخصة في الذاكرة وباقية على اللسان. وتتجلى أهمية التذوق الأدبي في أنه يمكن المتعلم من الوقوف على ما في الآثار الأدبية من أفكار وقيم واتجاهات صوب الحياة، وتدريب المتعلم المستمر على تذوق جمال النصوص الأدبية وبلاغة التعبيرات والتراكيب اللغوية المتضمنة بها، الأمر الذي يدفعه إلى الإحساس الإيجابي بالجمال وشعوره المستدام بقوة الأعمال الأدبية ومدى تأثيرها في القارئ، ومن ثم محاكاة الأفكار المتضمنة في تلك الأعمال الفنية.

النظم القرآني معجز ليس له نظير، وكثيراً ما يمكن الوصول الى معانيه من خلاله، فينظر إلى السياق وما به من قرائن تدل على المعنى بدقة، فيكون الإستدلال بها على الحقائق في التفسير. ويقسم السياق اللفظي على أساس  قرب او بعدها فيه على قسمين: سياق لفظي متصل وهو (البسيط). وسياق لفظي منفصل، وهو (المركب).

أولاً ـ السِّياقُ اللَّفظِي المُتّصِل (البسيط):

إن القَرينةَ الدَّلاليّةَ السِّياقيّةَ، هي التي تكون في مجرى الكلام ونسقهِ، ويُراد بها ما يُصاحِب النص من دلالاتٍ وإشاراتٍ كاشفةٍ عن معناه، إذ إن هذه القرائن هي السبيل الرَّئيس للوصول إلى المعنى الحقيقي المراد للنص – أي نص – ولا سيما إذا كان هذا النص على مستوى عال من البلاغة كنص القرآن الكريم، فيكون الاحتكام إلى النص القرآني نفسه من خلال سياقه للكشف عن المعنى المراد في الآيات الكريمة كالإيجاز بالحذف، والتقديم والتأخير والتكرار. فصارت هذه القرائن منارَ المفسرين للوصول إلى المراد وحجتهم في خلافاتهم، ومناظراتهم في إثبات ما يعتقدون.

وقد نبَّه الإمام علي (رضي الله عنه) على هذا النوع من القرائن في (نهج البلاغة)، في ضوء وصفه القرآن الكريم، إذ يقول: (( كتاب الله، تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض)، فهو (رضي الله عنه) يتحدث عن تفسير القرآن بالقرآن، في ضوء قول الله : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ  فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة: 17-19)، وهو أسلُوبٌ تبنَّاه كثيرٌ من المفسرين، من القدماء والمحدثين، ويحصل بالقرائن السياقيّة للكشف باللَّفظ المفردِ أو المركبِ عن معنى لفظ مفرد أو مركب، قريب منه في الكلام غير بعيد عنه، وهو فيما تبيّن بعد البحث أنه ثلاثة أنواع: متقدم، ومتأخر، ومكتنف.

ويُعَد هذا الأسْلُوبُ أفضل أسَاليب تفسيرِ القرآن ؛لأنه ينبع من داخلِ النَّص المعجز الكريم لا من خارجه، إذ إن كلام الله – تعالى – إذا كان شَاهداً لكلامِ الله، فهو خيرُ شَاهدٍ، ودونه كل الشَّواهد. والقَرينة الدَّلاليّة السِّياقيَّة في القُرآنِ الكَريم لها ثلاثة رتبٍ أو مواضع: متقدمة على اللَّفظة التي تفسرها، أو متأخرة عنها، أو مكتنفة لها من جانبيها السّابق لها واللاحق بها، وجميعها من داخل النص القرآني.

( أ ) القَريْنَةُ المُتَقدّمةُ:

وهي القرينة اللفظية السياقية التي تسبق ما تفسره وتدل عليه، إذ تتقدم في صورة من الصور، بأن تكون قريبة منه، وغير تالية له. ومن أمثلة هذه القرينة السياقية، ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى، يصف المشركين حين يُدعون إلى الإيمان وسماع القرآن:  كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (المدثر: 50-51)، فشُبِّه المشركون من حيث حالهم في الإعراض عن سماع القرآن بالحُمر الوحشية المستنفرة، وهي التي فرت خوفاً وهلعاً من شيء يطاردها.

ومثال القرينة المتقدمة أيضاً قوله تعالى:ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (فصلت: 34)، فقد فُسِّرت الآية تفسيرات عِدّة، منها: أن الله  أمر المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم والعفو عند الإساءة. وقيل: إنه خطاب للنبي محمد r في أن يدفع بحقهِ باطلهم وبحلمه جهلهم وبعفوه إساءتهم. فإذا دفع خصومه بلين ورفق ومداراة صار، عدوه في الدين كأنه وليه القريب في دينه وحميمه في النسب.  وقيل معناه: لا تستوي الملة الحسنة التي هي الإسلام، والملة السيئة التي هي الكفر، وفُسّرت أيضاً بأن شعارها: ادفع بالسلام على من أساء إليك.

ومن القرائن السياقية المتقدمة أيضاً، قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (الكهف:12).  ففي الآية الكريمة وردت لفظة (البعث)، والبعثُ لغةً، هو: الإرسالُ، كبعثِ الله  من في القُبورِ . ولفظُ البعثِ تختلف دلالته بحسبِ اختلاف ما عُلِّق به، ففي الآية السابقة البعث يعني: إحياء الموتى الذي خصّ به الله  بعض أوليائه .

وفُسِّر البعث في الآية الكريمةِ بالإيقاظِ من النَّوم، بالقرينة المتقدمة، وهي قوله تعالى:  فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (الكهف: 11)، أي: أنمناهم سنين ذات عدد وسددنا آذانهم بالنوم الغالب على نفوذ الأصوات إليها سنين كثيرة ؛ لأن القائم إنما ينتبه بسماع الصوت ودل سبحانه بذلك على أنهم لم يموتوا وكانوا نياماً في أمن وراحة، وجمام نفس، وهذا من فصيح لغات القرآن التي لايمكن أن يترجم بمعنىً يوافق اللفظ، فبذلك أثبتت القرينة المتقدمة كون البعث كان الإيقاظ من النوم لا الإحياء، والدليل على أنهم كانوا نياماً، قوله تعالى في موضع آخر: وَتَحْسَبهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ (الكهف: 18)، أي تظنهم يقظين، مع أنهم في واقع الحال نيام بقدرة الله.

( ب)  القرينة السياقية المتأخرة:

وهي القَرينَة التي تأتي بعد اللفظة المبهمة، مفسرة وموضحة لها، فتحدد معناها في السياق اللفظي. وهناك كثير من القرائن المتأخرة في التعبير القرآني، منها ما ورد في قوله تعالى:  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ (الزمر: 32).

ومن القرائن السياقية المتأخرة أيضاً، حمل (التين والزيتون)، في قسم الله  بهما في قوله تعالى:  وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ  (التين: 1)، على أنهما منابت التين والزيتون، وهي بلاد الشام، وليس الفاكهتين المعروفتين أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواص النافعة ، بل قيل: إن المراد بالتين، الجبل الذي عليه مدينة دمشق، وبالزيتون، الجبل الذي عليه بيت المقدس. ولعل اطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما مننبتيهما، ولكونهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء. وهذا هو الرأي الراجح، بقرينة السياق بعدها، في قوله تعالى:وَطُورِ سِينِينَ   وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ  (التين: 2-3)، وهما أيضاً أماكن مهبط للأنبياء والرسل، و(طور سينين) أيضاً جبل، وهو الذي كلم الله  فيه موسى بن عمران  ويسمى طور سيناء. وقد ورد في سياق آخر بهذه الصيغة  وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (المؤمنون: 20). والمراد بـ(البلد الأمين)، مكة المشرفة، وهي مكان مقدس، ومبعث الأنبياء ومهبطهم من أمثال: إبراهيم واسماعيل (عليهما السلام) ، ومحمدr  .

فبذلك تكون القرينة السياقية من المحاور الأساسية التي اعتمدها المفسرون في الوصول إلى الدلالة الصحيحة للنصوص القرآنية، فضلاً عن معنى المفردة، وقرينة الحال، والقرينة العقلية، وتكون القرينة الفيصل فيه، في ترجيح دلالة دون أخرى من خلال النظر إلى القرائن التي فيه، سواء أكانت محيطة بالنص مكتنفة إياه، أم كانت متقدمة عليه، أو متأخرة عنه. ولولا وجود القرائن السياقية لم نتوصل إلى المقصود في كثير من النصوص القرآنية.

(ج ) القَرائِنُ السِّياقيَّةُ المُكْتَنفة:

وهي القَرائِنُ التي تَكون محيطةً بالنص من جانبيه، مفسرة له وموضحة  إيَّاه، ومؤكدة لمعناه، وهي كثيرة في القرآن الكريم، منها: قوله تعالى في آية التطهير:  إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (الأحزاب: 33).

فقد نزلت هذه الآية خاصة برسول الله محمد r وأهل بيته وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)،، عندما ألقى النبي محمد r عليهم الكساء، وقال: هؤلاء أهل بيتي . واختلف المفسرون في كون هذه الآية نزلت بهم (أهل البيت) الخمسة فقط، أم يُقصد بـ(أهل البيت) أزواج النبي، وحجتهم في ذلك أن آية التطهير كان يكتنفها آيات نزلت في نساء النبي r، فالآية بذلك تكون لأجلهن أيضاً، وهذا ما ذهب إليه عدد من المفسرين مثل  البيضاوي، إذ يقول: “الاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون اجماعهم حجة ضعيفة لأن التخصيص بهم لايناسب ما قبل الآية وما بعدها. والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم” .

ثانياً ـ  القرائن المنفصلة (المركبة):

وهي قرائن لفظية غير سياقية منفصلة عن النص بعيدة عنه، متقدمة عليه أو متأخرة عنه، أو مكتنفة له من جانبيه، إلا أنها في غير مجرى الكلام، بل هي في كثير من الأحيان في موضع آخر من النص الكريم، أو سورة أخرى، لكنها مرتبطة به دَلالياً.

وكان هذا اللون من القرائن معروفاً ومتداولاً في بيت النُّبوةِ والرِّسَالةِ، وكانت هذه الطريقة هي المستأثرة لديهم في تفسير القرآن، وتأويله. فالنَّبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أول من اتخذ القرآن قرينة دلالية للقرآن، منها قوله حين فسَّر (الظُّلم)، في قوله تعالى:  الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (الأنعام: 82) ، فظنَّ فريق من الصحابة  أن الظلم هنا “بخس الحق، وهضم حقوق الناس، فقالوا: يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه”؟، فبيّن (صلى الله عليه وسلم)  أن الظلم هنا ليس الذي يذهبون إليه، بل هو الشرك، واحتج له بقوله تعالى في وصية لقمان لابنه وهو يعظه:  إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: 13). ففسر القرآن بالقرآن – وهو أبلغ وأقوى – فهو أول مفسر في الإسلام للقرآن بالقرآن.

وقد أطلق على هذا النوع من التفسير، اسم تفسير القرآن بالقرآن ، وهو أحسن الطرق، فقد ذكر العلماء: أنه  من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولاً من القرآن ؛ فما أجمل منه في مكان فقد فُسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بُسط في موضع آخر منه، والقرينة على ذلك قوله تعالى:إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُفَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(القيامة:17-19).

ومن القرائن المنفصلة في القرآن الكريم، الواردة لتفسير قوله تعالى، في حديثه عن وجوب أو جواز قصر الصلاة في حالة السفر أو الخوف:  وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (النساء: 101)، فكان التشريع لهذه الحالة في هذه الاية وجوب التقصير في السفر، لقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ   بقرينة قوله تعالى في الصفا والمروة:  فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا  (البقرة: 158)، فنلحظ أن الطواف بهما واجب مفروض ؛ لأن الله تعالى ذكره في كتابه ، و(الجناح): هو الميل عن الحق، فكانت القرينة اللفظية المنفصلة متقدمة على الآية المذكورة.

ومن القرينة اللفظية المنفصلة، قوله تعالى:  لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ  (الأنبياء: 103)، فالفزع الأكبر، هو الخوف الأعظم، وقد فسّر على أربعة أقول:

الأول: إنه عذاب النار إذا طبقت على أهلها. والثاني: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، وينادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت. ويا أهل النار خلود ولا موت. والثالث: حين يؤمر بالعبد إلى النار. أما الرابع: وهو مروي عن ابن عباس، أنه النفخة الأخيرة، واحتج لذلك بالقرينة المنفصلة المتأخرة، في قوله تعالى:  وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ  (النمل: 87).

واللفظة الواحدة قد تخرج عن دلالتها المعجمية الحرفية إلى دلالات ومعان أخرى بحسب ورودها داخل سياق لغوي متصل، وللسياق بذلك أثره في فهم الالفاظ بدلالتها التي يقصدها المرسل.  إذ لا يمكن  فهم أية كلمة على نحو تام بمعزل عن الكلمات الأخرى ذات الصلة بها التي تحدد معناها، وفي التعبير القرآني تفردت طائفة من الألفاظ بقرينة السياق بدلالة خاصة، جاوزت حدود معناها المعجمي إلى معانٍ جديدة ذات إيحاءات خاصة، والقرآن الكريم كنص لغوي معجز وفريد اتسم بالدلائل اللغوية الشاهدة على إعجازه، فمثلاً نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:  وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 42)، فكلمة (اصطفاك ) الأولى بمعنى اختارك، والثانية بمعنى فضلك، وهذا النوع من التكرير للكلمات والأصوات يثير في النفس إحساساً بجمال التعبير، من خلال تجاوب الأصوات وتناغم الأصوات.

ومن أسباب جمال الجناس في التعبير القرآني، تلاؤم الحروف وتناسب الألفاظ، فيحدث التجاوب الموسيقي الصادر من تماثل الكلمات تماثلاً كاملاً أو ناقصاً، ويلخص الفيروز أبادي هذه الفائدة بقوله: ” وأما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال، وكمال الكلام”، نحو قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (البقرة: 24).

وفي هذا الفصل نورد عدداً من الأمثلة بغير إخلال أو تفريط إن استطعنا ذلك التي توضح وتشير إلى اختلاف دلالة اللفظ الواحد باختلاف وروده وذكره في سياق لغوي معين.

1 ـ البَغْتَةُ والفَجْأةُ:

اكتسبت لفظة البغتة  من السياق القرآني إيحاءً خاصاً بها، فهي في أصل اللغة: مشتقة من باغَتَه مباغتةً: أي فاجأه بَغْتَةً . والبغت: مُفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب. إذن (البغتة) في اللغة تعني (المفاجأة)،فهما لدى غير المدقق في المعنى اللغوي بمعنى واحد. أما في الاستعمال القرآني فهما متباينان ؛  إذ احتملت (البغتة) عنصراً دلالياً إضافياً على الفجأة؛ لأن هذه اللفظة لم يستعملها السياق القرآني نهائياً، ولو تتبعنا سياق البغتة في القرآن كله، بورودها ثلاث عشرة مرة، لوجدنا فيها عنصراً دلالياً إضافياً، وهو (التخويف بالعذاب).

واستقراء الآيات يؤدينا إلى أنها لا تستعمل إلا في سياقين لا ثالث لهما، أحدهما: الوعيد بوقوع القيامة. والآخر: الوعيد بوقوع عذاب في الدنيا وشيك، كما في قوله تعالى يؤكد فيه وقوع العذاب على الكافرين، بموعد ثابت قادم هو يوم القيامة، إذ قال تعالى:  وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ  (العنكبوت: 53)، وفي قوله تعالى يبين فيها طريقة مجيء العذاب للكافرين يوم القيامة، حين يأتي مفاجئاً:  قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا (الأنعام: 31).

وقد اكتسبت البغتة في السياق القرآني إيحاءً خاصاً بها، هو العذاب، فضلاً عن المعنى اللغوي الذي تحمله وهو (الفجأة)، وعند مجيء الساعة والعذاب للكافرين دون توقع لوقته مع الايذاء لمن لم يُعدّ لتلك الساعة العدّة، من الهداية والإيمان. ولا يعلم أحد متى مجيء هذه الساعة.

وقد تنبه بعض المحدثين  إلى أن السر في استعمال السياق القرآني لفظة (البغتة) فقط دون لفظة ( الفجأة)، مع أن لهما المعنى اللغوي نفسه، وهوأن في البغتة عنصراً دلالياً إضافياً غير موجود في الفجأة، بل هو زائد عليها، وهو (التلبس بالعقاب) دنيوياً كان أو آخروياً  ؛ وبذلك فإن لفظة (الفجأة) لا تمنح السياق الإيحاء الكامل المعبّر عن الحدث القرآني بشكل دقيق وكامل كما تمنحه لفظة ( البغتة) ؛ لأن الثانية اكتسبت من السياق القرآني معنىً إضافياً، هو الإشعار بالأذى والعقوبة.

2 ـ القَدَرُ:

من الألفاظ التي تباينت دلالتها أيضاً في القرآن الكريم باختلاف ورودها داخل سياق النص القرآني المطهر لفظة ( القدر ) ومشتقات حروفها الأصلية الثلاثة وهي: ق د ر، فغالباً ما نجد معنى القضاء مرادفاً مماثلاً لكلمة القدر كما في قوله تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (الأحزاب: 38) أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة  وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.، وأيضاً قوله تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( الواقعة:60) أي صرفناه بينكم، وقال الضحاك:ساوى فيه بين أهل السماء وأهل الأرض.

ولكن تعددت دلالات كلمة (القدر ) في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فمن تلك الدلالات ورودها بمعنى (التمكن) كما في قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (إبراهيم:18) أي فلم يقدروا على شئ من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24) وفي هذه الآية الكريمة ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً لزهرة الحياة وزينتها، وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام، ومعنى قادرون عليها أي على جذاذها وحصادها فبينما هم كذلك إذا جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها.

وجاءت لفظة( القدر) بمعنى ( التدبير ) في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى في سورة طه:  فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (طه:40) يقول الله تعالى مخاطباً لموسى (عليه السلام): إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملأه يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل،ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ولهذا قال تعالى:  ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، أي على موعد وهذا رأي مجاهد، وقال قتادة: على قدر الرسالة والنبوة. وقوله تعالى:  إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ  (المدثر:18ـ20) أي إنما أرهقناه صعوداً لبعده عن الإيمان لأنه فكَّر، و قَدَّرَ أي تروَّى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ماذا يختلق من المقال.

وجاءت لفظة ( القدر ) بمعنى التوقير والتعظيم مثل قوله تعالى:  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ(الأنعام:91) أي وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في قريش، واختاره ابن جرير، وقيل نزلت في طائفة من اليهود، وقيل في فنحاص وهو رجل منهم، وقيل في مالك بن الصيف، والأول أصح ؛ لأن الأية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد (صلى الله عليه وسلم) لأنه من البشر، ومثل قوله تعالى:  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الزمر:67).

وأتت مُشتقات كلمة (القَدَر ) في القرآن الكريم بدَلالاتٍ مختلفةٍ، فمنها ما أشارت إلى معنى (التحديد) كقوله تعالى:  وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون:18)، وفي هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر، ويقال لها الأرض الجرزيسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر، فيسقي أرض مصر، ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه ؛ لأن أرضهم سباخ يغلب عليهم الرمال.

وقوله تعالى في سورة الزخرف:  وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(سورة الزخرف:11).أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم، وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم.

وجاءت لفظة القدر بمعنى (التضييق والابتلاء) مثل قوله تعالى:  اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ(سورة الرعد:26)، يذكر الله تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء، لما في ذلك من الحكمة والعدل، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً.

وقوله تعالى:  وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ(سورة القصص:82) أي ليس المال دليلاً على رضا الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: ” إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب”، وقوله تعالى في سورة القلم:  وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(سورة القلم:25)، أي قوة وشدة، وقال مجاهد: على جد، وقال عكرمة: على غيظ، و قَادِرِينَ أي عليها فيما يزعمون ويرومون.

3 ـ السَّغب والجُوعُ:

جاءت لفظتا ( السغب ) و ( الجوع) بإيحاء خاصٍ بهما في التعبير القرآني. فالسغب لغة: مشتق من سَغَبَ يَسْغب سُغُوباً ومسغبةً. والساغِب: الجائع، والسَغبُ: الجوع من التعب. وقد قيل هو في العطش مع التعب . وهي مرادفة للجوع. و(السغب) و(الجوع) لفظتان، أكسبهما التعبير القرآني، إيحاء خاصاً بهما، فضلاً عن معناهما الأساس ( المعجمي). فإذا ذكر الجوع في النص القرآني، فلا يكون  إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، بقرينة السياق.

وقد وردت لفظة (الجوع) في التعبير القرآني خمس مرات، كانت في ثلاثة مواضع منها مقترنة بلفظة (الخوف)، فيكون السياق بهذه القرينة، سياق ابتلاء وامتحان، أو عقوبة لأصحاب النار، كما في قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ  (البقرة 155) ، أخبرنا الله عز وجل أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى:  فأذاقها الله لباس الجوع والخوف فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ، فقد ذكر الجوع في موضعين منفرداً، ولكن قرينة السياق كانت واضحة في أنه عقاب وبلاء، وذلك في قوله تعالى يخاطب فيها نبي الله آدم  بأنه محفوظ في الجنة من بلاء الجوع والعُري،وذلك قبل نزوله إلى الأرض:إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (طه: 118). فيكون عدم الجوع فيها نعمة من نعم الله تعالى عليه وعلى زوجه.

أما لفظة (السغب) فتذكر مع الرحمة و (( في حالة القدرة والسلامة))، نحو قوله تعالى يحث المؤمنين على إطعام الناس في يوم الجوع:  أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (البلد: 14)، بقرينة السياق المتأخرة في قوله تعالى: يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ  (البلد: 15-16). فبذلك تكون لفظة (الجوع)، قد اكتسبت من التعبير القرآني هنا معنى العقوبة والبلاء من السياق القرآني، أما لفظة (السغب)، فقد اكتسبت معنى الرحمة، والضعف. 

4 ـ المَطَرُ والغَيْثُ:

تُعد لفظة المطر من الألفاظ التي اكتسبت إيحاء خاصاً في التعبير القرآني أيضاً، فالمطر لغةً يعني: الماء المنسكب من السحاب ، أما في التعبير القرآني،فقد اكتسبت لفظته إلى جانب معناها المعجمي معنىً آخر، هو العقاب، بقرينة السياق اللفظي. فالمطر لم يرد في التعبير القرآني كما يقول الجاحظ في كتابه ” البيان والتبين “: ” إلا في موضع الانتقام، والعامة واكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث “.

وقد وهِمَ الراغب الأصفهاني حين عدّ لفظ (المطر) من ألفاظ الخير، وأن هناك صيغة مشتقة منها هي التي وردت للتعبير عن العذاب، وهي (أمطر)،فقد ذكر أن مطر: ” يُقال في الخير، و(أمطر) في العذاب “، وإذا رجعنا إلى النص القرآني نجده يعبّر بهذه اللفظة عن الشر والعقاب، بكل اشتقاقاتها، وبقرينة السياق، ومنه قوله تعالى:  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطرُ الْمُنْذَرِينَ  (الشعراء: 173) أي أنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود.

والمطر يوحي بالتدفق القوي والغزارة، أكثر من أية لفظة أخرى تعبّر عن نزول الماء من السماء. والذي ساعد على هذا الايحاء، صوت (الطاء) المطبق كما أشار الدكتور كمال بشر في كتابه ” علم اللغة العام”، الذي يصور نزول العذاب من السماء فنشعر بإطباقه عليهم. فبذلك تكون هذه اللفظة قد ناسبت غضب الله  وشدة انتقامه بنزول ذلك العقاب الشديد عليهم من حجارة وغيرها. كالذي في قوله تعالى يتحدث عن قوم لوط : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الْمُجْرِمِينَ (الأعراف: 84). فنلحظ أن لفظتي (مطر) و( أمطرنا) في النص القرآني قد دلّتا معاً على نزول العذاب الشديد، لا نزول الغيث الذي هو نعمة ورحمة للعباد.

ويشمل نزول المطر في التعبير القرآني، فضلاً عن الماء، الحجارة، نحو قوله تعالى، في إمطار الحجارة:  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ  (هود: 82)، أي أنه مطر يوحي بالعقم والخراب. والسجيل في اللغة: حجارة كالمدر، وهو حجر وطين مختلط، ويفسر أنه فارسي مُعرب دخيل. ويقال: هذا الشيء مسجل للعامة، أي مرسل من شاء أخذه أو أخذ منه.

أما الغيث فهو الماء النافع النازل من السماء، المنبت للكلأ ، نحو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ  (الشورى: 28)، وهذا يعني أنه الماء المثمر الذي يحمل الخير معه، وذلك بقرينة السياق اللفظي المتأخر. والذي قوى هذا الإيحاء هو صوتا (الغين والثاء) فرخاوتهما كما يذكر الدكتور بسام بركة في كتابه ” أصوات اللغة العربية “، قد ناسبت نزول الماء الخفيف الذي أنعش ما نزل عليه، فأنبت به.

5 ـ الفتح:

أيضاً من الألفاظ التي اكتسبت إيحاء خاصاً في التعبير القرآني لفظة الفتح، من الفعل الثلاثي فَتَحَ) ومشتقاته، فلقد اختلفت دلالة الكلمة باختلاف السياق الي وردت فيه، ودلت على عدة معاني منها الصد، والضد، والعطاء، والنصر، والقضاء، والحكم.

فمن معنى الصد والضد قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( الأنعام:44)، أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم ففتح الله عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم.

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( الأعراف:40)، وقيل في تفسير هذه الآية الكريمة أن المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء وقال بهذا مجاهد وسعيد بن جبير، وقيل لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ورى ذلك الضحاك عن ابن عباس وبه قال السدي. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: ” خرجنا مع رسول الله r  في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله  r،وجلسنا حوله كأن على رؤسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ”  استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثاً ـ ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال: فتخرج تسيل كما يسيل القطر في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، هذا بخلاف العبد الكافر.

وجاءت لفظة (الفتح) بمعنى ( القضاء ) أو ( الحكم)  كما في قوله تعالى:  رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( الأعراف:89)، أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم وأنت يا الله خير الحاكمين فإنك العادل الذي لا يجور أبداً. وقوله تعالى:  فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:118).

ومن أمثلة ورود كلمة (الفتح) بمعنى أعطى قوله تعالى:  قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( البقرة:76)، أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به.

وأيضاً  ما أفادت الكلمة معنى أعطى قول الله تعالى:  وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( الأعراف:96)، ويخبر الله تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس آي آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا العذاب، وقوله تعالى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ  أي قطر السماء ونبات الأرض.

وجاءت لفظة ( الفتح ) بمعنى ( النصر ) كما في قوله تعالى:  فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( المائدة:52)، يعني فتح مكة، وقيل: يعني القضاء والفصل، وقوله تعالى:  إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال:19)، يقول الله للكفار إن تستفحوا أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم؛ كما قال أبو جهل، حين التقى القوم: اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة؛ فكان المستفتح، وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال تعالى:  إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ  يقول: لقد نصرت ما قلتم وهو محمد r.

6 ـ الهوى:

تعني لفظة ( الهوى)، لغةً: الموت، والحب، أما في التعبير القرآني فقد اكتسبت هذه اللفظة دلالة أخرى، وهي كما عرفها الراغب في المفردات: ” ميل النفس إلى الشهوةِ… لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهيةٍ، وفي الآخرة إلى الهاوية ” ، أي اتباع ما لا يحمد من الرغبات،ولا يحسن فعله من ذوي المكرمات، أي الرغبات النفسية الضعيفة ، نحو قوله تعالى :  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى  (النازعات: 40).أي خاف القيام بين يدي الله عز وجل.

ففي الآية الكريمة ورد النَّهي عَن (الهوى)، الذي هو اتباعِ الشَّهوات، والمَحَارم التي تشتهيها النفس وتهواها . فهو شيء مكروه، غير مرغوب فيه في الاسلام، بقرينة السياق المتأخر، في قوله تعالى:  فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات:41) ؛ لأن من ينهى نفسه عن الهوى ينال الجنة التي تكون مأواه، فبذلك يكون (الهوى) غير مرغوب فيه.

7 ـ أثر:

وردت كلمة ” أثر ” مرّتان فـي القـرآن الكريم، ووردت مشتقاتها 19 مرة، ومنها ” يؤثر، آثر، تؤثرون، أثرى، آثار، يؤثرون، أثارة “،، وكلمة ” أثر ” ومشتقاتها جاءت علـى ستة أوجـه في المعنى، فجاءت بمعنى الاختيار والتفضيل كما في قوله تعالى:  قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ  (يوسف:91)، يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخَلْق والخُلُق والسعة والملك وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه.

وقد تأتي لفظة (أثر) بمعنى الدليل كما في قوله تعالى:  فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  (الروم:50)، والأثر هنا المقصود به المطر قال بذلك ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم.

8 ـ  سَلامٌ و السَّلام:

وردت كلمة سلام والسلام في القرآن الكريم بدلالتين فالأولى جاءت لفظة (سلام) على يحيى ( عليه السلام ) والثانية جاءت لفظة (السلام )على عيسى (عليه السلام)، قال تعالى في سورة مريم: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا  .

أما عيسى (عليه السلام  ) يقول تعالى:  قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلَامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)َ.

وحِكمة مجيء ( سلام ) نكرة في سياق قصة سيدنا يحيى (عليه السلام ) أن ذلك جاء في سياق تعداد نعم الله تعالى على سيدنا عيسى وإخبار من الله جل جلاله بأنه قد منح سيدنا يحيى ( سلاما ) كريما في مواطن ثلاثة: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.

أما ( السلام ) في قصة عيسى (عليه السلام ) جاء معرفة: لأن لفظ ( السلام) هو كلام من سيدنا عيسى حيث دعا ربه أن يمنحه السلام في ثلاثة مواطن: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.

فبِما أنَّ سَيدنا عِيسى هو الذّي دَعا، فمن المؤكد أنه سيُلح في الدعاء كما هي السُنة فيطلب المعالي. فلذلك عرّف (السلام) دلالة على أنه يريد السلام الكثير العام الشامل. الغزير.  وهنا إشارة إلى أن السلام الذي حصل عليه سيدنا عيسى كان أخص من (السلام) الذي حصل عليه سيدنا يحيى، وأن سيدنا عيسى أفضل درجة في النبوة من سيدنا يحيى فهو من أولي العزم.

9 ـ ضَعْفٌ  و قُوَّةٌ:

جاءت كلمة ضعف نكرة مكررة ثلاث مرات في آية واحدة في سورة الروم  وجاءت كلمة قوة نكرة مكررة مرتين أيضاً بنفس الآية، يقول تعالى:  اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ  (سورة الروم:54).

وهنا يجب التذكير بالقاعدةِ البيانيّة التي تفيد  بأن النكرة إذا تكررت فإنها في كل مرة تفيد معنى جديداً. ولفظة ( ضعف ) نكرة تكرارها في نفس الموضع يفيد أن الضعف الأول غير الثاني وغير الثالث. فالمراد بالضعف الأول هو النطفة ( ضعيفة فهي ماء مهين )، والمقصود بالضعف الثاني  الطفولة ؛ لأنه بحاجة إلى رعاية أمه في مرحلة الرِّضَاع وعناية خَاصة حتى يجتاز مرحلة المُراهقة ويصل البُلوغ، أما  الضَّعف الثالث فيراد به  الشيخوخة ؛  لأنه يعود في مرحلة الشيخوخة ضعيفا عاجزا؛ يعاني المرء فيها  ضَعف الفِكر، و ضَعيف الحرَكةِ وقلة وقُصُور السَّعي والنشاط.

أما كلمة ( قوة ) وردت نكرة وكررت مرتين، والكَلمَة جَاءت مَرتين بدلالتين أيضاً ؛ القوة الأولى: قوة فترة الصبا ( الصبي قوي مندفع كثير الحركة أما القوة الثانية: قوة الشباب، قوة الجسم والمشاعر والأحاسيس والهمة والعزيمة والانطلاق في الفكر والأحلام والطموح.

10 ـ الكافر والزارع:

من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم لفظة الكفار في قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (سورة الروم:54). ولكن خرجت اللفظة عن دلالتها المعتادة وهي الخروج من الملة والعقيدة. فالمراد بالكفار هنا الزراع، وهذا ما أشار إليه ابن قتيبه في كتابه ” تأويل مشكل القرآن ” حيث قال: ” إنما يريد بالكفار هنا: الزراع، واحدهم كافر. وإنما سمي كافراً لأنه إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي غطاه، وكل شئ غطيته فقد كفرته، ومنه قيل: تكفّر فلان في السلاح إذا تغطى،ومنه قيل الليل: كافر ؛ لأنه يستر بظلمته كل شئ، وهذا مثل قوله تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ (سورة الفتح:29).

11 ـ الظن واليقين:

من الألفاظ التي ترد قي القرآن بمعنيين لفظة الظن التي تفيد نعناها الحقيقي والتداولي ألا وهو الشك والتشكيك، ومعنى آخر وهو ضده أي اليقين، وهذا مثل الصبح الذي يقال له: صريم، ولليل أيضا صريم، يقول تعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (سورة القلم:20)، أي سوداء كالليل، لأن الليل ينصرم عن النهار، والنهار ينصرم عن الليل.

ومن هذا يقال لليقين ظن وللشك ظن ؛ لأن في الظن طرفاً من اليقين، يقول تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (سورة البقرة:249)، أي يستيقنون، وكذلك قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (سورة الحاقة:20)، وقوله تعالى:  وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (سورة الكهف:53). وكل هذا يقع في باب اليقين لا الشك.

12 ـ الأبصار:

من الألفاظ القرآنية التي جاءت في كتاب الله بمعنيين مختلفين لفظة ( الأبصار ) في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (سورة النور:43 ـ 44) إذ الأبصار الأولى جاءت بمعنى النظر، بينما الثانية جاءت بمعنى العقول.
__________

*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل: أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية/ كلية التربية ـ جامعة المنيا.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة