كيف حطَّم طوفان الأقصى الافتراضات حول الصراع الفلسطيني الصهيوني؟

حظيت تطوّرات الحرب في قطاع غزّة باهتمام كبرى الصحف والمواقع العالمية، حيث نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالا لفتَت فيه إلى أنّ طوفان الأقصى وهو الهجوم الذي شنَّته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على الإحتلال كان صدمة غير متوقّعة، أدَّت إلى تحطيم العديد من الافتراضات المسلَّم بصحّتها والتي ميَّزت الصراع الفلسطيني الصهيوني لسنوات عديدة.

وعلى الرغم من المغالطات التي تضمّنها المقال بخصوص وصف المقاومة الفلسطينيَّة بأنّها منظّمة إرهابيَّة، وغيرها من المغالطات، إلا أنّهُ قدَّم وجهات نظر مهمَّة حول القضيَّة الفلسطينيَّة بعد عمليَّة طوفان الأقصى، معترفًا بانهيار الافتراضات التي كرَّستها إسرائيل خلال العقد الماضي، وشكَّلت من خلالها سياسات المنطقة.

إذ قال كبير المراسلين الديبلوماسيين في أوروبا لصحيفة نيويورك تايمز، ستيفن إرلانغر -صحفي أمريكي قدَّم تقارير من أكثر من 120 دولة، وتقاسم جائزتي بوليتزر لعمله على تنظيم القاعدة وروسيا- إنَّ “الإسرائيليّين يقارنون طوفان الأقصى ومقتل حوالي 1400 إسرائيلي، بعدد ضحايا 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتَّحدة، كما يقارنون المفاجأة الصادمة لهجوم حماس بأحداث 11 سبتمبر، وبحرب أكتوبر 1973 عندما كانت القوات الإسرائيليَّة غير مستعدِّة لهجوم عربي، والذي نسف، كذلك، افتراضات كانت سائدة على نطاق واسع”.

وأشار إرلانغر في المقال الذي نُشِر بتاريخ 23 أكتوبر 2023، إلى أربعة افتراضات رئيسة تمكّن “طوفان الأقصى” من دحضها هي: إمكانيَّة احتواء حماس وإدارة الصراع، وأسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهَر، وقابليَّة نجاح التطبيع بين الدول العربيَّة والكيان الصهيوني، وأنَّ أميركا قادرة على تجاهل الشرق الأوسط.

الفرضيَّة الأولى: من الممكن احتواء حماس وإدارة الصراع:

قال الصحفي الأمريكي، إنَّ بنيامين نتنياهو نفَّذ لسنوات عديدة استراتيجيَّة تهدف إلى تقسيم الفلسطينيَّين بين الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزة، مخطِّطًا لإضعاف نفوذ السلطة الفلسطينيَّة التي يقودها محمود عباس، وذلك عبر السماح لحماس بالسيطرة على غزَّة.

وكانت النظريَّة هي أنَّ حماس، سوف تركِّز أكثر على حكم قطاع غزَّة، وقد تصبح أكثر اعتدالا من خلال تلك المسؤوليَّة، مع ضمان عدم ضرب الاحتلال الإسرائيلي بشدَّة بحيث يولِّد ردًّا عسكريًّا ضخمًا من شأنه أن يقوِّض قدراتها. وكان المفهوم، كما يحلو للصهاينة أن يصوّروه، يتلخَّص في السماح لسكَّان غزَّة بالعيش بشكل أفضل، وبالتالي تحفيز حماس للحفاظ على الهدوء النسبي.

وأضاف، أنّ ذلك كان يعني من الناحية العمليَّة، السماح لحماس بحكم غزّة، مع توفير الكهرباء وما يكفي من الماء والغذاء والدواء للناس، والسَّماح لعدد قليل من سكَّان غزة بالعمل في إسرائيل، ولكنَّها، أبقت أغلب السكَّان محبوسين داخل ما أسماه كثيرون “سجناً في الهواء الطلق”.

واستشهدَ بقول (نوا شوسترمان دفير) التي تدرس الساحة الفلسطينيَّة لصالح منظَّمة مايند إسرائيل، التي تصف نفسها بأنها شركة استشاريَّة غير ربحيَّة لمؤسَّسات الأمن القومي الإسرائيليَّة: “إنَّ هذه الاستراتيجيَّة برمّتها لها هدف واحد؛ إضعاف السلطة الفلسطينيَّة، أمّا تعزيز حماس فيهدف إلى عرقلة جهود السلام، ومنع إقامة دولة فلسطينيَّة.. والآن، لقد تحطَّم مفهوم إدارة الصراع”.

الفرضيَّة الثانية: إسرائيل لا تُقهَر وتحافظ على التفوُّق العسكري.

أوضَحَ ستيفن إرلانغر، أنَّ إسرائيل تمتلك -ما يُعدُّ على نطاقٍ واسع- الجيش الأفضل والأكثر تطوّرًا في الشرق الأوسط، مع التزام أميركي بإبقائه أكثر تقدُّمًا من الناحية التكنولوجيَّة من أيٍّ من خصومها. ومع اهتمامهم الرئيس بحرب محتملة مع إيران، كان الكيان الصهيوني على قناعة بأنَّ لديهم معلومات استخباراتيَّة جيِّدة عن حماس في مختلف أنحاء قطاع غزَّة الصغير، وبمساعدة أميركيَّة، لديهم معلومات استخباراتيَّة جيِّدة عن إيران وحزب الله.

ولكن كما حدث مع الولايات المتَّحدة في 11 سبتمبر/أيلول، نفَّذَ خصم ذو موارد أقلّ بكثير هجومًا لم يكن من الممكن تصوّره على الإطلاق، وبالتالي حقَّق مفاجأة استراتيجيَّة كبرى.

وأضاف: “رغم أن معدَّات حماس منخفضة التكنولوجيا نسبيًّا، فقد استخدمت طائرات بدون طيَّار واستخباراتها الخاصَّة لهزيمة حدود إسرائيل التي يفترض أنَّها لا تقهر، والتي كانت مليئة بالكاميرات وأجهزة الاستشعار والبنادق الآليَّة المتطوَّرة. إنَّ ثقة إسرائيل المفرطة، ورضاها عن النفس، واعتمادها المفرط على التكنولوجيا، فضلاً عن حقيقة أنَّ يوم 7 أكتوبر كان عطلة يهوديَّة، كلها عوامل ساهمت في هزيمتها في ذلك اليوم”.

لافتًا إلى أنَّ قدرة حماس في الحفاظ على سريَّة خططها، على الرغم من وجود مئات من المقاتلين الذين لا بد أنَّهم على علم بها، ضربة قويَّة لاعتزاز إسرائيل بقدراتها الاستخباراتيَّة البشريَّة على الأرض في غزَّة.

واقتبسَ عن غيرشوم جورنبرج، وهو مؤرِّخ إسرائيلي، قوله: “بعد الانهيار المذهل للجيوش العربيَّة عام 1967، طوَّرت إسرائيل تصوّرًا مفاده أنَّ العرب لا يستطيعون القتال، دون أن يتخيَّلوا أنَّهم قد يتحسَّنون، وهكذا فوجِئت إسرائيل بهجوم عام 1973، تمامًا كما فوجئت في 7 أكتوبر بهجوم حماس”. وبحسب جورنبرج:”كان هناك تصوُّر مسبق بأنَّنا نستطيع إغلاق غزَّة، وأنَّ الإجراءات التي اتّخذناها ستمنع بشكل كافٍ دخول الأسلحة، لكن المشكلة في الحلِّ الفنّي لمشكلة عسكريَّة كبرى، هي أنَّ الجانب الآخر يتكيَّف. وعندما كانت حماس تطلق الصواريخ، تعلَّمت إسرائيل كيفيَّة إسقاط معظمها. وعندما ركَّزت حماس على بناء الأنفاق، طوَّرت إسرائيل وسائل اكتشافها وتدميرها، لكنَّنا لم نفكِّر في قيام حماس بمهاجمة الكاميرات أو استخدام الطائرات الشراعيَّة”. 

وخلُص الصحفي الأمريكي إلى أنَّه مع التشكيك المفاجئ في المصداقيَّة العسكريَّة الإسرائيليَّة، برزت المخاوف بشأن القدرات التي قدَّمتها إيران لحزب الله في جنوب لبنان، والتي فشل الإسرائيليُّون في تصوّرها.

الفرضيَّة الثالثة: العالم العربي يمضي قُدُمًا، على الرغم من الفلسطينيِّين.

أشار ستيفن إرلانغر في مقالته إلى اتّفاقيّات تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربيَّة، بدعم ووساطة من الولايات المتَّحدة، حيث وقَّع نتنياهو في عام 2020 اتفاقيَّات مع البحرين والإمارات العربيَّة المتحدة،. ووقع المغرب والسودان في وقت لاحق أيضًا. وعلى نحو أكثر طموحاً، تتفاوض إسرائيل والولايات المتحدة مع المملكة العربيَّة السعوديَّة، من أجل التطبيع مع إسرائيل مقابل معاهدة دفاع مشترك مع واشنطن وبعض المساعدة في مجال التكنولوجيا النوويَّة المدنيَّة.

لكن ما سيحصل عليه الفلسطينيون في المقابل لم يكن واضحا على الإطلاق. وكان هناك افتراض في إسرائيل بأنَّ هذه الدول العربيَّة تعترف الآن بإسرائيل كحقيقة لا يمكن إزالتها من المنطقة، ومصدر للأعمال والتكنولوجيا والتجارة، وأنَّها لم تعد تعتبر محنة الفلسطينيِّين عقبة رئيسة.

وبحسب إرلانغر: “لكن ردّ الفعل الشعبي العربي على قتل الفلسطينيّين في غزَّة والضفة الغربيَّة من شأنه أن يؤدِّي إلى تعليق أي مزيد من التطبيع لبعض الوقت. كان هناك دائماً توتّر بين الدعم الشعبي للقضيَّة الفلسطينيَّة، والذي يستخدمه الزعماء العرب أحياناً لصرف الانتقادات الداخليَّة، وبين الحكم البارد لهؤلاء الزعماء بأنَّ المتشدِّدين الإسلاميِّين الفلسطينيِّين الذين تدعمهم إيران، مثل حماس، يشكِّلون تهديدًا لحكوماتهم، وأنَّ تحسين العلاقات مع إسرائيل هو الأهمّ”. 

مؤكِّدًا على أنَّ حماس أرادت إعادة القضيَّة الفلسطينيَّة إلى الطاولة، وقد فعلت ذلك بكل قوَّة، الأمر الذي أدَّى إلى اندلاع مظاهرات ضخمة مؤيِّدة للفلسطينيين في العالم العربي لم تشهدها المدن العربيَّة منذ عقد من الزمان.

الفرضيَّة الرَّابعة: يمكن لأميركا أن تتجاهل الشرق الأوسط.

قال كبير المراسلين الدبلوماسيِّين في أوروبا لصحيفة نيويورك تايمز، ستيفن إرلانغر، إنَّ الولايات المتَّحدة ظلَّت تتحدَّث عن التزامها بحلِّ الدولتين وإدانة نموّ المستوطنات الإسرائيليَّة في الضفة الغربيَّة المحتلَّة لسنوات عديدة حتَّى الآن، وكثَّفت جهودها للتوسّط في  إبرام اتِّفاقيات لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربيَّة، وركَّزت على المملكة العربيَّة السعوديَّة والخليج، وهمّشت -في المقابل- القضيَّة الفلسطينيَّة، وتجاهلت حقوق الفلسطينيّين. 

وأشار إلى أنَّ الأهم من ذلك بكثير، بالنسبة لواشنطن، هو الصين ومنطقة المحيط الهادئ والهندي، وعلى مدار عامين حتَّى الآن، الغزو الروسي لأوكرانيا والحاجة إلى حشد الناتو ضدّ موسكو. مستشهدًا بمقولة للمؤرِّخ الإسرائيلي جورنبرج: “إحدى تلك الروايات المحطمة هي أنَّ أمريكا يمكنها تحويل اهتمامها إلى القضايا الحقيقيَّة في أماكن أخرى والتخلِّي عن الشرق الأوسط. أنا آسف يا أمريكا، لكن الشرق الأوسط لم ينتهِ بعد، إذ لا يمكن تجاهل الحقائق الجيوسياسيَّة”.

وختم مقالته على لسان برنارد أفيشاي، وهو أميركي إسرائيلي قام بالتدريس في كليَّة دارتموث والجامعة العبريَّة: “إنَّ التصريحات الأمريكيَّة حول حلِّ الدولتين والمستوطنات، يُنظر إليها على أنَّها تفاهات. لكن للقيام بشيء ملموس الآن، لم يفت الأوان بعد”.