مُقدِّمة
لَطَالَما راهنَ الغربُ المُتحيِّز للكيانِ الصهيونيِّ على ترسانتهِ الثَقافيَّة النَّاعمةِ في سبيلِ تلفيقِ الحقائق التاريخيَّة وطمسِ معالمِ هويَّةِ الشعبِ الفلسطينيِّ، بمقابلِ تسويغِ التَّواجدِ الصهيونيِّ في الأراضيِّ المقدَّسة بالاتكاءِ على سردياتٍ لاهوتيَّة غامِضة المصدر، وتجويزِ المذابح والاضطهاداتِ الجماعيَّة التي يَتعرضُّ لها المواطنِ الفلسطينيِّ، بدعوىَ مُجابهةِ الإرهابِ العربيِّ بجذورهِ الأصوليَّة، عدَا عَن تهويلِ الماضيِّ واستحضارَ نظريَة اليهوديِّ المقموع عبرَ الحقب التَّاريخِيَة، والتزيُّدِ في المروياتِ التَّاريخيَّةِ التيِّ نقلَت حادثةِ المحرقةِ النازيَّةِ وفقَ منظارٍ سياسيِّ غوغائيِّ يخلو من النزاهةِ.
وفي ظلِّ هذا المناخ الفكريِّ السَّائِد المتَّسِمِ بالهيمنةِ الإمبرياليِّةِ وخِذلانِ المفكرينِ لقضَايَا الشعُّوبِ المقهورةِ، أطلَّ على العالمِ، الفيلسوف الفرنسيِّ “روجيه غاروديِّ” ليصدحَ بصوتِ الحقِ، ويعلنَ تطليقَهُ للأنساقِ الفلسفيَّة الرَّائجةِ المتيّمةِ بحبِّ إسرائيلِ، ويغتديِّ بذلكَ عبرَ سلسلةِ من المنشوراتِ الصُّحفيَّةِ والكتبِ النَّفيسةِ غصةَّ في حلقِ المؤسساتِ السياسيَّة الأمريكيَّة وأجنِحتِها الاقتصاديَّة والعسكريَّة التيِّ خربت المنطقةِ العربيَّة بغيةَ ضَمانِ استتبابِ أَمنِ إسرائيلِ.
وفي هذهِ الورقةِ البحثَّيَة سنحاول تشريحَ النَّصِ الغاروديِّ وتفكيككِ استعاراتهِ اللغويَّة وشيفراتهِ الثقافيَّةِ لبيانِ التَّحريفِ التاريخيِّ الذي طالَ الشعبَ الفلسطينيِّ، وكشفِ الألاعيبِ الغربيَّةِ التيِّ ما فتئت تقَامرُ مِن أَجلِ إرضاء عيونِ الصَّهاينةِ وإِدامةِ زمنِ النَّكبةِ، وكذلكَ مكاشفةِ الأساطيرَ المختلقةِ التي طعَّمت بها إسرائيلَ سياسَتَها الخارجيَّةِ.
روجيهِ غاروديِّ وصَحوةِ الضَّميرِ، تَمثُّلات ُسيرةٍ تَلهجُ بعَداءِ إسرائيلِ.
لا تُراهن على قمعيِّ فكريًا، فوجدانيِّ نظيف، وعدالةُ ضميريِّ تأبى الانحلالِ في وديانِ الظلمِ والخنوعِ، هكذا كانَ شعارُ روجيهِ غاروديِّ يومَ أن تواصلَ روحيًا مع الشَّرق، وتفاعلَ مع مكنوناتِهِ الروحيَّةِ وتجاربهِ الصوفيَّة، وعاينَ يومياتهِ وهو يرزحُ تحتَ نير الاستعمارِ، “وقد رأى غاروديِّ النور في مرسيليَا إحدى مُدنِ الجنوبِ الفرنسيِّ سنة 1913، ولم يلبثَ في صغرهِ أن اعتنقَ العقيدةَ البروتستانتيَّة، لكنَّ ريَاحَ الشيوعيَّةِ كانَ لهَا أثرٌ في تطليقهِ لحياةِ الزهدِ والفكرِ الكنَسيِّ، أينَ انضمَّ للحزبِ الشُّيوعيِّ الفرنسيِّ ثمَّ انخرطَ في صفوف المقاومةِ المناهضةِ لحكومةِ فيشي المواليَة للنازيَّة، ليتمَّ اعتقالهُ ويزج بهِ في أحد المعتقلاتِ المظلمةِ بالصحراء الجزائريَّة ما بين سنتيِّ 1940/ 1942”[1]
وبِداخلِ المعتقلِ انقلبت حياتهُ رَأسًا على عقبَ، فقد رفضَ شبَّانٌ جزائريُّون يرتدونَ البزَّة العسكريَّة الفرنسيَّة إطلاق النَار عليه غَداةَ الشُّروعِ في تنفيذِ حكمِ الإعدامِ ، مُنطلقين من فكرةِ ساميَّة مفادها أنَّ ليسَ من شرفِ المقاتلِ العربيِّ ذي التربيَّةِ الدِّينيَّةِ السِّمحةِ اغتيالَ إنسانِ أعزلَ وهوَ مُقيَّدٌ بالأصفادِ والأغلالِ، وبعيدَ هذهِ الواقعةِ اِزدادَ حبُّ غارودي للعربِ، وصمَّمَ على نُصرتهم، ومُشايعةِ قضاياهم فيمَا يتعلَّقُ بأرضهم المغتصبَةِ، ومحاربةِ سَرطانِ إسرائيل الذي تمَّ حشوه في قلبِ فلسطينِ بفِعلِ وعدِ بلفور اللَّعين سنة .1917.
قَام روجيهِ غارودي بالعديدِ من الرحلاتِ المكوكيَّة إلى الدول العربيَّة فزار مصر في عهد الرئيسِ الراحلِ عبد الناصر وألقى سلسلةً من المحاضَرات في جامعةِ القاهرةِ التي حاولت تشخيص أَسبابِ نكسةِ حزيرانِ 1967، وكانَ كثير الاستشهادِ بمقولةِ الأديب الفرنسيِّ أناتول فرانس: “إنَّ أشأم يوم في التَّاريخ هو يومُ معركةِ بواتيه، إذ تَقَهقَرَ علمُ العربِ وفنِّهم وحضارتهم”[2].
في إشارةٍ منه إلى هزيمةِ عبد الرحمنِ الغافقي في معركةِ بلاطِ الشُّهداءِ في أطرافِ الجنوبِ الفرنسيِّ أمام شارل مارتِل في القرن الثامن ميلاديِّ.
أشهر المفكرُ الفرنسيِّ إسلامهُ في أيلول1982، ليشرعَ في نقدِ الأصولياتِ اليهوديَّةِ المتطرفةِ، والدفاع عن مشروعيَّة الفلسطيني المهجَّر في العودةِ إلى أرضهِ.
معتبرا في كتابهِ “فلسطين أرض الرِّسالاتِ” أنَّ طردَ العربِ من فَلسطين، والعملِ عَلَى إحلالِ التفسخةِ والتَّجزئَةِ في البلاد العربيَّة هما قوام المَشروع الصهيونيِّ”[3]
هكذَا امتَلك غاروديٍّ رؤيةَ استشرافيَّة خوَّلتهُ معرفةَ الخطوات التقدميَّة التي كانَ المشروع الصهيونيِّ ينوي المعاجلةَ بِها من العبثِ بأمنِ الدولِ العربيَّةِ امتدادا لنبوءةِ مزعومةِ تتوقُ لتأسيسِ مملكةِ يهوذَا من النيلِ إلى الفُراتِ، إلَى تهجير الأُسر والعوائلِ الفلسطينيَّة عبر تشجيع التَّوسعِ في بناء المستوطناتِ، وارتكابِ المذابِح الجماعيَّة.
لاقَى روجيهِ غاروديِّ الكثيرَ من المتاعب جرَّاء موقفهِ الشجاع الرَّاميِّ لطردِ جحافلِ اليهودِ من أرضِ فلسطينِ فهم محضٌ شتات غجريِّ من أروبَا الشرقيَّة، استثمروا حادثةَ المحرقةِ النازيَّة وهوَّلوا أرقامَها للاستيطانِ في أرضِ فِلسطينِ، فقد أُحيلَ إلى القضاء الأوربيِّ، ومنِعَ من السَّفرِ، بل وتعرض إلى محاولاتِ تصفيَّة نَتيجَةَ آرائِه الجريئةِ إذ لطالما نُعت بأنه رجل بربريِّ يُعاديِّ السَّاميةَ.
وفي هذا السياق يمكن استحضارَ شهادةَ عميد الصحافيين العرب “الراَّحل محمد حسنين هيكل” الذي انبهر بشجاعةِ غاروديِّ واستماتتهِ في الدفاعِ عن القضيَّة الفلسطينيَّةِ رغم أنَّه تجاوزَ آنذَاك الثمانينَ سنة ونيف: “مِن الغريبِ أنِّي رأيتُ هذا الرجل الذي تَجاوزَ الخامسةَ والثمانينَ، فهوَ ليسَ فقط مُستعدًّا للخطر، وإنَّمَا مستمتِعًا بهِ وذلكَ من صفاتِ الشَّجاعةِ، فَعندَما تقع مواجَهةَ الخطَر معَ المعرفَةِ بهِ، فإنَّ الأمر يختلفُ بتَاتًا عندَ الوقوعِ فيهِ بالغفلةِ”[4].
وحينَ نستلُّ كلمة الاستمتاع من تِلكَ الشهادةَ، ونبحثُ عن دلالاتِها في المشهدِ الصاخب الذي رافقَ سيرةَ روجيه غاروديِّ سنرى تهكُّمهُ على جريدةِ لوموند الفرنسية التي آثَرت الطعنَ في شخصيةِ روجيهِ غارودي عوضَ الاهتِمامَ بمَا يقَعُ في الساحةِ الإعلاميَّة الغربيَّة وطغيان اللوبيِّ اليهوديِّ ،وتحكُّمهِ في دواليبِ السَاسةِ، مُشيرًا بوضوح إلَى أنَّ الصهيونيَّة “تعتبرُ الشُعوبَ قطعانًا مسخَّرة لأجلها وهذَا ما ستفعلهُ لا حِقًا مَعَ الشعوبِ الأمريكيَّةِ والأوروبية حينَ تَنتهيِّ مصالِحُهَا مَعَها، فهيَ ولوعةُ بنظريَةِ التصفيةِ والتَّطهير”[5].
روجيهِ غاروديِّ وبراعةِ الاِستقصاءِ، إسرائيل كيانٌ إجراميِّ بشهادةِ أبنائِه.
تتميَّزُ كتاباتُ روجيه غاروديِّ بالواقعيَّةِ في الطَّرحِ، والثبَاتِ على الحجَّةِ، واستِتباعِ الموقفِ التاريخيِّ بمخرجاتهِ الآنيَةِ، بالإضافةِ إلى اعتِمادهِ على أسلوبٍ شفَّاف لا يرضَى التزلُّف لأيِّ جهةٍ كانَت، ففي كتابهِ الأساطير المؤسِّسةِ لسياسة إسرائيلِ لا يتوانى الباحثُ في تقديمِ لفيف من الشَّهاداتِ الصَّادمةِ التي تُعريِّ حقيقة هذَا الكيانِ المُغتصبِ، والأعجب أن تُساقَ هذهِ الشَّهاداتِ من طرفِ شخصياتِ دينيَّة وسياسيَّة وثقافيَّة تمثُّلُ الواجهةَ التجميليَّة لكيانٍ شوهتُهُ اعتداءاتهُ المتواصلةِ عَلَى الشعبِ الفلسطينيِّ.
من بينِ الشَّهاداتِ التي أوردها روجيه غارودي في ثَنايَا كتابِهِ، اعترافاتُ الصحفيِّ الإسرائيليِّ “جَاكوب وايزمان”، بأنَّ دولتهُ قد تحوَّلَت لتجمُّعٍ من البشرِ القساةِ قلوبهم، الذين يتَّخذونَ من النِّظام الثيوقراطيِّ البائدِ منهجًا لاقتلاعِ أصحابِ الأرضِ وتهجيرهم غصبًا فقداسةُ التنكيلِ بالجثثِ، وشرب دماء الأبرياء هي أسفارهم الموحشةِ التي دأبوا عَلَى ترتيلها زُرفًا وجماعاتٍ ، وهذهِ هيَ شهادتهُ كالآتيِّ: “كلُّ شيءٍ تَغيَّرَ سَريعًا بعدَ ثلاثينَ عَامًا من الاحتِلالِ للضِّفةِ الغربيَّة وغزَّة والجولان، تحولنَا إلى حروبٍ للغزوِ ولانطلاقِ دولةِ واحدةِ يهوديَّة جوهرُهَا ثيوقراطيِّ”[6]
ثم لا يلبَثُ الصحفيُّ عن مطارحةِ الأسئلةِ الباعثةِ للارتيابِ، فهل يعقل أن تشيَّد دولة تتغنى بمبادئِ الحريَّة والديموقراطيّةِ نصبًا تذكاريةً لمجرمين وقتلة؟: أصبحتُ أتقزَّزُ من النصبِ التذكاريِّ الذي وضع لباروخ جولد شتاين السَّفاح الذي قتل ثلاثين مسلِمًا بدمٍ بارد“[7]
نعم إنّها دولة الكيانِ التي لن تستنكفُ عنِ تعظيمِ الإجرامِ فهيَ تتنفسُ الحقدَ والضغينةِ، في تلمودِها المحرَّف، ودستورهَا الأفاكَ الذي لا يلهج بالديموقراطيَةِ إلا من خِلالِ حروفهِ المزخرفَةِ التي تسرُّ أعينَ المنبطحينِ.
لو أنصتَنا سويًّا إلى مقولةِ الجاحظِ: إذا رأيتَ حالِ الناسِ لوجدَت أكثرهم عيوبًا، أشدُّهم تَعييبًا، لانكشفَ الغطاءُ الزَّائفُ الذيِّ يتستَّر خلفهُ هذا الكيانِ الصهيونيِّ، الذي طالَما تأسَّست مرجعيتهُ الإيديولوجيَّة على تعريةِ عيوبِ النازيينِ والفاشيين والتنديدِ بالعار الذي ألحقوهُ بالعالمِ ، بيدَ أنَّ هذَا الكيانِ قد صارَ أسوء نسخةٍ منهم علَى مرِّ التَّاريخ، وفي ذلكَ يستحضرُ روجيه غارودي شهادةَ البروفيسور زيرمان من الجامِعةِ العبريةِ بالقدسِ الذي جنح إلى إذاعةِ الحقيقةِ الصادمةِ، وهو تحوُّلُ هذا الشعبِ إلى مرآةٍ عاكسةِ لأفعالِ للنازيينِ الألمانِ، ويمكن أن نرصدَ أوجه التماهيِّ والتلاقي بينهمَا فيما يليِّ:
1/ سلوكياتُ أطفالُ اليهودِ بالخليلِ المحتلة تشبهِ أطفال النازيين، إذ يلقِّنونهم منذُ نُعومةِ أظافرهم معارف تربويَّة مَسمومةٍ وسنداتٍ بيداغوجيَّة عنصريَة توهمهم بأنَّ كلَّ العربِ أنجاسُ وأشرار.
2 / أغلب الشباب اليهوديِّ مصاب بمرضِ البارانويَا، كالشبابِ النازيِّ فهم يعتبرون أنفسهم عرقًا نقيًا وطاهرًا ومتعاليًا عن العرقياتِ الأخرى، لاحظ: شعار نَقاء الجنس الآري عند هتلر، وتكرار أسطوانةِ معاداةِ العرق الساميِّ عند اليهود التي يطلقونَها جزافًا على خُصومهم.
3 / سياسةِ ريهفان زئير الوزير في حكومةِ شاميرِ من سنة 1990 إلى 1992 والقاضيةِ بتهجيرِ كلِّ الفلسطينيينِ هو في الواقعِ مشروعٌ مستلٌ من الحزبِ النازيِّ آنذاكَ، والذي لم يجد بُدًّا من استئصالِ كلِّ الأقليَّاتِ والإثنياتِ، وإن كانَ المجتمع الفلسطينيِّ في النُّسخةِ الصهيونيَّة يمثل الأغلبيَّةِ السَّاحقة فَهو صاحب الأرضِ ومالكُ الحضارةِ والتَّاريخِ.
ولئن كانت العمليَّةُ الاستشهادية التي كانَ يقوم بها الفدائيُّون في قلبِ الكيانِ الصهيوني محلَّ شجبٍ وتنديدٍ من قبلِ المنظماتٍ الدوليَّة والجمعياتِ الحقوقيَّة التي تسبِّحُ بحمدِ أمريكَا في آناءِ الليلِ وأطرافِ النَّهارِ، فإن ذلكَ لا يلغيِّ إقرار اليهودِ أنفسهم بأن العملياتِ الفدائيَّة كانت ردَّةَ فعلٍ طبيعيَّة تجاه الظلمِ الجارفِ والعدوانِ المتعاظِمِ الذي باتَ الفلسطينيِّ يعاني ويلاتهِ اليوميَّة دونَما أن يُساندهُ أحد ولو بكلمةٍ رمزيَّةِ.
فقد وجَّهت ابنةُ الجنرالُ بيلد أحد قادةِ حربِ الأيامِ الستة خطابًا لاذع اللَّهجةِ إلى نتنياهو بعد هلاكِ ابنتِها في هجومٍ انتحاريِّ، محملَةً إيَّاه مسؤوليَةَ تناميِّ العمياتِ الاستشهاديَّةِ نتيجةِ سياستِهِ الجائرةِ، وتماديهِ في إذلالِ الشَّعب الفلسطينيِّ، فلكلِّ حادثةٍ وحشيَّةٍ ردَّة فعل عنيفةِ أشدُّ إيلامًا منها ،هذَا ما لهجَ بهِ أحدُ المواطنينِ اليهود ساخرًا من هشاشةِ التَدابيرِ الأمنيَةِ لبلدهِ، عقبَ تناميِّ عملياتِ فيلقِ الموتِ وتكبيدهِ الخسائر تلوى الخسائرِ للكيانِ الغاصبِ “هل من المعقولِ أن نتوقع من ثورٍ هائج وهو مرشوقٍ بسيوفِ المصارعينِ أن يتريَّث في الظلِّ لشمِّ زهورِ الرَّبيع”[8]
وقياسًا على الأدوات اللغويَّة التحليليَّةِ التي تذرَّع بها روجي غاروديِّ في تفكيكهِ لهذهِ المقولاتِ تظهرُ لنا نتيجة حتميَّة وهي القلق والاضطراب الذي يتماوجُ داخل المجتمع اليهوديِّ، فهم يدركونَ أيَّما إدراك أنَّ مكوثهم في أرضِ فلسطينِ محلَّ تهديدِ لذلكَ تجدهم في الغالب يركنون إلى القوَّةِ العمياء، البطشُ العشوائيِّ في سبيلِ كبحِ أهلِ الحقِ من المطالبةِ بأوليَّةِ الرجوع لمناطقهم التي سلبَت مِنهم في عكا ويَافَا وبيسان والناصرة، واللَّد والخليل والرملةِ.
النَّكبةُ وآلياتُ التَّمكين، غَاروديِّ مُسائِلًا
في جردٍ تاريخيِّ شاملٍ ودارسةٍ آنيةٍ عميقة تتوخَّى الموضوعيةِ العلميةِ والسلامةَ المنهجيَة توصَّلَ روجيهِ غاروديِّ إلى أنَّ الشعب الفلسطينيِّ راح ضحية مؤامرةِ غربيَّة مقيتة وتحالفاتٍ استعمارية دنيئة راهنَت عَلَى استخدامِ آلياتِ هدامةٍ ساهمت في حشوِ الوباءِ الصهيونيِّ في الجسدِ الفلسطينيِّ:
1 / آليةِ التَّهجير القسريِّ:
يتمأسَسُ المشروعُ الصهيونيِّ على تحقيقِ تشويهِ ديموغرافيِّ في النسيجِ السكانيِّ عبرَ التَّعديِّ على الأراضي الفلاحيَّة المملوكةِ للفلسطينيينِ، وإجبارهم على توقيعِ الأوراقِ الإداريَّةِ قصد الإخلاء، والطردِ التعسفيِّ للسُّكانِ، وترحيلهم بقوةِ السلاحِ، وجبروتِ القوةِ، وقد لاحظَ روجيه غاروديِّ تزايد النفوذ السكانيِّ اليهودي بعيد نكبةِ 1948 إذ تمَّ إجلاء أكثر من 770 ألف فلسطيني من ديارهم.
ليصبحوا لاجئينِ في دولِ الجوار، بينَما يتمُّ تسهيلُ الهجراتِ اليهودية القادمة من أوروبا وأمريكا اللاتينية ليخلفوا السُّكان الأصليين ذوي العرق المتجذر في الأرضِ.
وهو ما أثار حفيظةَ الوسيطِ الأمميِّ “الكُونت برنادوت”، الذي حمل تقريرهُ مساءلاتٍ حادَّة حول الهيمنةِ الإسرائيليَّة على الأملاكِ الفلسطينية، فهل يُعقلُ أن تتمَّ عملياتُ السَّلبِ والنهبِ وتدمير القرى وإفسادِ الحقولِ الزراعيَّة دون مُبرراتٍ عسكريَّة أو حججِ أمنيةٍ كافيةِ.
ولأنَّ كلَّ من يُجاهرَ بصوت الحق فإنَّ مآلهُ الذبح، فقد قدَّم الكونت تقريرهُ الوافيِّ عن الانتهاكاتِ الصهيُونيةِ في السادِسِ عشر من أيلول سنةِ 1948 وفي اليومِ الموالي قَضى الكونت نحبَهُ رفقةَ معاونهِ الفرنسيِّ في إحدى مناطقِ القدسِ الشَّريفِ التي تخضع للوصايةِ اليهوديةِ”[9].
وتفطَّن روجيهِ غاروديِّ بناء على دراسةٍ مؤسَّسةِ وموثوقةِ أنَّ إسرائيلِ ترعبها الأراضيِّ المخضرةِ والسُّهول المنبسطةِ لأنَّ ذلكَ يتعارضُ مع خرافتِها الدينيةِ التي تزعم أنَّ فلسطين هي الأرض الخلاء، والصَّحراء العاريةِ التي وعدها بها الربُّ لليهودِ، ولذلكَ سلَّطوا الجراراتِ، والكاسحاتِ لطمرِ القرى، وتهديمِ مقابرها وأضرحتِها، وتخريبِ زرعها، “وفي هذا السياقِ يعضدُ روجيه غاروديِّ موقفهُ بأبحاثِ الأستاذ اليهوديِّ إسرائيل شَاحَاك سنة 1975 الذي جاء في تقريرهِ أنَّ ما يقل عن 385 قرية تمَّ تهديمها من مجموعِ 475 كانت عامرةً سنة[10]1948.
لعلَّ فلسفةَ التَّقويض والهدم التي ترعاها دولةِ الاحتلالِ تنمُّ عن علل أخلاقيةِ، وحضاريةِ، عويصةَ تجتاح المخيال الجماعيِّ للشعب اليهوديِّ، فَما يُبهجُهم إلا الخراب، السَّواد، إلغاءِ الآخر، الكذِب والتَّلفيق في سبيلِ استثارةِ عواطف الغربِ، والادِّعاء بالقهرِ التاريخيِّ، وتزايد معدَّلاتِ الضغينةِ والكراهيةِ التي يبادلها لهم العرب، وهذَا في سبيلِ إثارةِ الشفقةِ العالميةِ، وتجنيدِ الحلفاءِ كي يقفوا في صفِّها.
2/ آليةِ الذَّبح الجماعيِّ، واقترافِ المَجازرِ الدمويَّة:
لولا المجازر المروعةِ، وعملياتِ الاستئصالِ الجماعيَّةِ التي اقترفتها عصاباتُ الأرغون والهاغانا في حقِ الأهالي العُزَّل، ما كانَ لليهودِ موطئَ قدمٍ في الأرضِ الفلسطينيةِ المباركةِ، هذَا ما يؤكده روجيه غاروديِّ مليًّا بالتطرقِ إلى حيثياتِ المجزرةِ المروعةِ في دِير ياسينِ، ففي التَّاسِعِ من نيسانِ، سنةِ 1948 تولَّت عصابة الأرغون تَطويقِ القريةِ ومن ثمَّ الإجهازِ على سكانِها، فلم يتركوا لا رَضيعًا يلتقم حليب أمهِ، ولا شيخًا يناجيِّ ربَّه في الخلواتِ، ولا نساءً يَسهَرن على شؤونِ البيتِ إلَّا وحزوا رؤوسَهم، ونكَّلوا بجثثهم، وهشَّموا جَماجِمهم ليناهز عدد الشَّهداء الثلاثمئةِ.
مكنت الدَّولةُ الصهيونية لتلكَ العصاباتِ المال والسِّلاح، ووفرت لهم الغطاء الأمني والقانونيِّ للاستمرارِ في سيَاسة القتلِ الوحشيةِ، لأنَّها على درايةِ بأنَّ الترهيبِ الدمويِّ هو من أفضلِ المسالكِ الدنيئةِ في تثبيتِ دعائمِ الكيانِ المغتصبِ لتحييِّ بذلكَ أساليبِ نيرون، وهولاكو، وهتلر، وتعيدَ تطبيقِهَا على الشَّعبِ الفلسطينيِّ.
ويتساءلُ غاروديِّ عن الصمتِ الدوليِّ حيالَ مذبحةِ دير ياسين، وعن هذَا القذر زعيم منظمةِ الأرغون “مناحيمِ بيغن” الذي تشدَّق أمام منابرِ الإعلامِ العالميةِ، واعتبرَ دونما حياء أن المذبحةَ هي انتصار لدولةِ إسرائيلِ، ولولاها ما قامت لها قائمةُ في أرضِ فلسطينِ، بل إنَّه لما سرد مذكرتهُ لم يتوقف عن التهكمِ والازدراءِ من الضحايَا، ولكأنَهُ قَتل مجموعةً من الجرذانِ المخربةِ للحقولِ، وهذا ما أغاظَ روجيهِ غاروديِّ، كهذهِ العبارةِ الذي ستَبقَى وصمةِ عار في جبينِ الإنسانيةِ جمعاء: “كانت الهَجَانَا تَقومُ بهجوماتٍ مظفرةٍ على سائرِ الجبهاتِ ..وكانَ العربُ الذينَ استولَى عليهم الذُّعر يَهربُون وهم يَصرخون، دير يَاسين، دير ياسين”[11].
إنَّ تحليل هذا الخطابِ برأيِ روجيهِ غاروديِّ نَفسيًا وفلسفيًّا يوحيِّ جليًا بأنَّ فلسطينِ قد اكتوت بجنسٍ بشريِّ تعتورُ دواخلهُ كلُّ الأمراضِ النفسيةِ الخطيرةِ، فهو للبهيميةِ أقرب، وللسَّاديةِ أطبع، إذ أنَّهُ لا ينفكُ في التلذذُ بقتلاهِ ولطعِ دمائهم كما تَلطعُ الضباعُ دماءَ طرائِدهَا، جنسٌ تتملَّكهُ سعارُ النرجسيَّةِ، والتعاليِّ الوهميِّ، والعقيدة التوراتيَّةَ التي تعتقدُ أن الله خلقَ شعوب العالمِ لخدمةِ بني إسرائيلِ، رغمَ أن بيغن وأقرانهِ هم محضُ أمشاجٍ وخليط مهجَّن من سلالاتٍ أوروبية لا يعرفُ مِفرقُ أصلها من فصلها.
علاوةً على ذلكَ استنبط غاروديِّ مفارقةً خطيرة تتَّبعُها السِّياسةُ الإسرائيليَّة، وهي القيامُ بعملياتِ اغتيال مدروسةِ داخلِ الدولِ الأوربيَّة وبواسطةِ جناحها المخابراتيِّ الموساد ومن ثم يتمُّ تلفيقِ التّهم ونسبِهَا زورًا باسمِ المقاومةِ الفلسطينيَّة، وهذَا لتبريرِ مذابحهِا، ومنحِ الغطاءِ الأخضر للجيشِ الصهيونيِّ للتوغلِ أكثر في منطقةِ الشَّرقِ الأوسط ولذلكَ نراهُ يتساءلُ عن سلسلةِ تلكَ الأحداثِ المتتابعةِ التي وقعت في النِصفِ الثانيِّ من القرنِ الماضيِّ، هل وقعت بمحضِ الصدفةِ، أم بفعلِ فاعل: “ألم تُنفَّذ عمليَةُ تفجيرُ السيارةِ الملغومةِ بشارعِ كارديني بباريسِ، ثم أعقبَها في اليومِ المواليِّ إطلاقُ نار عشوائيِّ على كنيسةِ بروُكسل، وفي الوقتِ نفسهِ كانَ الكيانُ الصهيونيِّ يقترفُ مذابح شَنيعةِ في حقِّ اللَّاجئين الفلسطينييِّن بمخيماتِ صَبرَا وشتيلا”[12].
لا جرمَ أن يقومُ المشروعِ الصهيونيِّ على اجتراحِ المناوراتِ، وافتعالِ الأحداثِ الإرهابيَّةِ لشغلِ العالمِ وإلهائهِ، ريثمَا تنهي العصاباتِ من تطهير اللَّاجئين الفِلسطينيين، لإجهاضِ حلمِ العودةِ، إلى أرَاضيهِم، فقد دأبَ هذا الكيانِ على استخدامِ نفسِ الأساليبِ غداةِ تنفيذهِ لهجماتهِ الدمويَّةِ، حتَّى صارَ اقترافُ تلكَ المجازرِ علامةً دامِغة خاصةٍ بالصهاينةِ وحدهم، “من مجزرةِ دير ياسينِ، إلى كفر قاسم، إلى مخيمِ الوحدةِ التي خطَّط لها موشي ديانِ وأشرفَ عليها أربيلِ شارون.
وسطِ خنوع عربيِّ لا مثيلَ له، وتواطُئ غربيِّ تقومُ سياستُهُ على إبدالِ الحقائقِ وتشويهِ المواطنِ الفلسطينيِّ، حيثُ درجَ الإعلام الغربيِّ على توصيفهِ أي المواطن الفلسطيني، في ثوبِ الإرهابيِّ البدويِّ الفاقد للحضارةِ، والذي يهدِّد المتنوِّر الإسرائيليِّ المسالم في سربهِ الآمن، ولذلكَ يقيم الإعلام الغربيِّ الدنيَا صياحًا وعويلًا لمجرد أن يقعَ جنديٌّ إسرائيليِّ في الأسرِ من قبلِ المقاومةِ، بينَما يُحاولُ تبرير المحارقِ الفظيعةِ التي تُرتكبُ في حق الشَّعب الفلسطيني بِحجَّةِ أنَّ هؤلاء يشكِّلون خطرًا على الأمنِ القوميِّ الإسرائيليِّ.
وبالعودةِ إلى كتاب روجيهِ غارودي “الولاياتُ المتحدة طليعَةُ الانحطاطُ”، نرَى بوضوح كيف يتلاعبُ الإعلام الغربي بصناعةِ المصطلحاتِ ومن ثمَّ إلصاقِها بالمقاومةِ الفلسطينيَّةِ كيدًا وتشويهًا للحقائقِ مع، حجبِ هذا المصطلحِ أي الإرهابِ كلما حرروا التقاريرِ الصحفيَّةِ المتعلقةِ بالتواجدِ الأمريكي في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ، وكذا العملياتِ العسكريَّة الوحشيةِ التي يقوم بها الصهاينةِ في القُرى الفلسطينيَةِ، بدعوى أنَّها عملية استباقيَّة مردُّها تجفيفِ منابع الإرهابِ العربيِّ، “وكأنهم بذلكَ يجترُّون صفحاتِ التاريخ النازيِّ، ويعيدون إحياءهُ كواقعةِ تصفيةِ النازيينِ لأربعين مقاومًا فرنسيًا ثأرًا لمقتِلِ ضابط نازيِّ بباريس”[13].
بل إنّ هذا الكيان لم يتورَّع من إهدارِ دمِ قريةٍ برمَّتِها بِمجرَّدِ أن أعلنَ الأهاليِّ نيَّتهم في صدِّ العدوانِ، ودفعِ الخطر المحدِّقِ بأراضيهم وممتلكَاتهِم، كمجزرةِ أبو شوشةِ في مايو من سنةِ 1948 التي أودَت بحياةِ ستينِ شهيدًا، ومن الموحشِ في معادلةِ الموتِ الصهيونيَّةِ، أنهم استخدموا كل وسائلِ القتلِ المُتاحةِ للإبادةِ، قذائف الهاون، الرَّشَاشات، البندقياتِ، الخناجر البيضاء، الحصار، وإتلافِ المؤونةِ الغذائيَّةِ حتَّى يَهلِكَ الجوعُ الباقين مَمَّن سلموا مِن الموتِ ذبحًا.
3/ آليةِ الهيمنةِ على المنظماتِ الأمميَّةِ، والدول الليبيراليَّة الكُبرى:
اِرتهنَ روجيهِ غاروديِّ إلى مكاشفةِ الملابَساتِ التاريخيَّةِ الخفيَّة التي تزَامنَت معَ تأسيسِ دولةِ الكيانِ الصهيونيِّ بالتَنقيبِ عن مئاتِ الوثائق السريَّة الصادرةِ من الهيئاتِ الأمميَّةِ والملفاتِ الدبلوماسيَةِ الغربيَّةِ التي أوضحت بجلاءِ ضلوعِ هذهِ الجهاتِ في غدرِ الشعب الفلسطينيِّ، لكن الآلية الأكيدةِ التي أوفَت لتخندقِ العالمِ الغربيِّ في صفوفِ الكيانِ المغتصبِ، وإيلائهِ الحق في مشروعيةِ الاِستيطانِ بأرضِ فلسطينِ دونَ الاحتكامِ للوائحِ الأمميَّة التي تَكفل تصفيةَ الاستعمارِ ومبدَأ حريةِ الشعوبِ المقهورةِ في تقريرِ مَصِيرهَا، هُو توغل اللوبيِّ الصهيوني في أجهزةِ الدولةِ الحساسةِ.
وبناءً على دراسةٍ ميدانيَّةِ خصَّصها روجيهِ غاروديِّ في كتابهِ الولايات المتحدَّة طليعةُ الانحطاط، توصَّل المفكر الفرنسيِّ إلى استنتاجات صادمةٍ منها أنَّ السياسةَ الأمريكيَّة أضحت تدار بواسطةِ اللوبيِّ الصهيونيِّ، الذي وصفتهُ صحيفَةُ النيوركَ تَايمز بالقوَّة الخفيَّةِ التي تحرك سياسةَ أمريكا في منطقةِ الشَّرق الأوسط، كما تُحرّك عرائسُ القراقوز على ركحِ المسرحِ، “فقد تنامَى نفوذَهم في المجالس النيابيَّة حيثُ قُدِّر عددُهم آنذاك ما بين أربعين إلى خمسة وأربعين سِنَاتورا، أمَّا عددُ النوابُ فقد تجاوزَ الأربعمائةٍ، علاوة على ذلكَ فإنَّهم يمثِّلون نسبة عِشرين بالمائةِ من أصحابِ المالِ والنفوذِ الاقتصادي من إجماليِّ رجالاتِ الأعمال والاستثمار في أمريكا بحسبِ تقرير أعدَّته مجلة فوريس الأمريكية المختصةِ بقواعد المال والتِّجارةِ في سنةِ 1987”[14].
بدأت الفصولُ الغراميَّة بينَ المنظماتِ الصهيونيَّة والولاياتٍ المتحدة في سنةِ 1942 حينَ صمَّم ثلَّةٌ من غلاةِ الصهيونيَّة إقامةِ مؤتمر سريِّ بفندق بَلتيمور بنيورك للمباشرةِ في رفعِ سقفِ المطالبِ “من تأسيسِ وطنٍ قوميِّ بالتساندِ إلى وعدِ بلفور، إلى تضمين فكرةِ إنشاء دولةٍ يهوديَّة بطموحاتٍ توسعيَّة”[15]
لعلَّ هذا الفجور السياسيِّ الذي يمارسهُ اللوبيِّ اليهوديِّ في أمريكا قد أتى أُكلهُ في الحين، إذ تضاعفت ميزانية إسرائيلِ في أيامِ التأسيسِ الأولى، بفضلِ السخاء الأمريكيِّ، علاوة على الهباتِ الأوربيَّة، ولم يخفِ بن غوريون في كتابهِ “إسرائيلِ بعثُ قدرها” الصَّادر سنةِ 1954 من استقواءِ شوكةِ اللوبيِّ الصهيونيِّ، “فحينَ يتَحدَّثُ يهوديٌّ في أمريكا أو في جنوبِ إفريقيَا مع أصحابهِ اليهود عن حكومتِنا فإنَّه بالطبعِ حكومةَ إسرائيل”[16].
تُعزِّز هذهِ المقولةِ التي استشهد بها روجيه غارودي في كتابهِ الأساطير المؤسسةِ لدولةِ إسرائيلِ عقيدةِ اليهودي المهاجر الذي يُمارسُ التقيَّةَ في معاملاتهِ فهو يدَّعي الصَّلاح والمواطنةِ في الدولةِ التي يقيم بها، لكنَّ قلبَهُ معلَّقٌ بخدمةِ إسرائيلِ، لذلك صارت الدُّول الغربيةِ تَحتَرسُ من مكرهم عبر مُلاينتِهم واستعطافهم، وتبنيِّ أطروحاتِهم فيما يخصُّ تمويلِ مشاريعِ تشييدِ المستوطناتِ على أرضِ المرحلينِ عسفًا من ديارهم في فلسطين المحتلَّةِ.
وعود على بدء فقد فضح المؤتمر الثالث والعشرون للمنظمةِ الصهيونيَةِّ سنةَ 1942 خُنوع الدُّولِ الغربيةِ وتماهيها المطلقِ مع وصاياهَا التنفيذية، إذ ألزم المؤتمر كلُّ الجمعياتِ اليهودية القائمةِ في الدولِ الغربيَّة، بدفعِ الشراكاتِ السنويَّة، لدولةِ إسرائيلِ حتى وإن تطلب الأمر “أن تتعارضَ هذهِ السياسةَ التموينيَّةِ مع الموقف الداخليِّ للدُّول التي تتواجدُ بها تلك الجمعيَاتِ”[17].
اِحتذى روجيه غارودي أسلوبًا علميًا رصينًا في إدانتهِ لآلياتِ التمكينِ الصهيونيِّ، وميكانيزماتهِ السِّياسيَّةِ والعسكريَّةِ التي من خلالِها تمَّ نهش أراضيِّ الفلسطيني الأعزل، لعلَّ أفدَحَها هو التأثير على المسارِ الأمميِّ الذي أخذ مجراهُ السَّليمِ في قضيةِ التسويةِ، فدولةُ إسرائيلِ هي الدولة الوحيدةِ التي كان انضمَامُها إلى الأممِ المتحدةِ سنةِ 1949 مَرهونًا بمدى تلبيَتِها للشُّروطِ التاليةِ:
1/السَّماحُ للفلسطينييِّن بالعودةِ لديارهم.
2 / الانصياعُ للحدودِ التي أوضَحهَا قرارُ التَّقسيمِ.
3/ عدمِ الإخلالِ باتفاقيةِ القدسِ الرَّاهنةِ.
كلُّ ذلك تمَّ نكثُهُ من قِبلِ الساسةِ الصهاينةِ في تصرفٍ جريء عكسَ هشاشةَ منظمةِ الأُممِ المتحدَةِ، وعدمِ قدرتِها على التأثيرِ في مجرياتِ النزاعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليِّ، فهيَ تتصرَّفُ كالعجوزِ الكفيفةِ التي تتعَامَى عن تصرفاتِ اللوبي اليهوديِّ، ومروقهِ عن التعاليمِ الصادرةِ من منابرِها، فوظيفتِها تتمحورُ في تدبيجُ الخطبِ التي تُندِّدُ تارة، وتشجُبُ تارةً أُخرَى، حتَى “إنَّ بن غورين استقبلَ القرار الأمميِّ القاضيِّ بقرار التقسيمِ في تشرين الثانيِّ من سنةِ 1947 بمزيدٍ من العبثيَّةِ إذ أبدى رفضه التام لكل ما يصدر عن تلكَ المنظمةِ فأقولها باطلة، وقراراتُها غيرُ مجدية، مشيرًا أن دولة إسرائيل ماضيةُ في التوسُّعِ واكتِساح الأوامرِ الأمميَّةِ ورميها عرضَ الحائِطِ.
الظاهرُ أنَّ روجيهِ غاروديِّ ضليع في الإبانةِ عن مساوئ اللوبيِّ الصهيونيِّ وسياستهِ النفعيةِ التي تُنابِذُ النَّسق الأخلاقيِّ العالميِّ ومدِّهِ الإنسانيِّ، من خلالِ التِجائهِ إلى فعلِ التوثيقِ التاريخيِّ، والجردِ الإحصائيِّ، الذي لا يبرحُ في مقاضاةِ سياسةِ الاحتلالِ والتشهير بتطرفِها الدينيِّ، وتزمُّتِها الإيديولوجيِّ، ما أدَّى إلى قمعِ صوتهِ المناهضِ وجرِّهِ بالقوةِ للمحاكمِ بتهمةِ إنهاكِ التَّاريخِ اليهودي السَّاميِّ، وتجريدِ إرثِ إسرائيلِ من قداستِهِ.
في سياقٍ ذي صلةٍ فقَد أبدى روجيه غاروديِّ امتعاضَهُ من سطوةِ اللوبيِّ اليهوديِّ في بلدهِ الأصليِّ أي فرنسا، إذ صارَ الآمرَ والناهيِّ داخل محيطَ التأثير السياسيِّ في قصر الإليزيهِ، عدَا عن ذلكَ فقد أضحت دور السنيما، المؤسسات الإعلاميةِ بمختلفِ أَلوانِهَا، المراكز الثقافيَّةِ تخضع بدورها لتأثيرِ النفوذِ اليهوديِّ، فهي تبرمجُ أنشطتها وتجسِّدُ أعمالها، وتتَخيَّرُ نصوصَها تبعًا لما يتجاوبُ مع ذوقِ اليهوديِّ، ولعلَّ خيرُ دليلُ استوثقَ بهِ روجيهِ غاروديِّ لكشفِ المستورِ وفضح هذهِ العلاقةِ المريبةِ، الشهادةُ التي أدلَى بِهَا الرئيس السابق للجمهوريةِ الفرنسيَةِ الخامسَةِ شارل ديغول في الحقبةِ الزمنيَّةِ الممتدَّةِ ما بين : 1959/ 1969، والتيِّ تَفضح خُنوع فرنسَا وركوعِهَا التام أمامَ اللُّوبيِّ الصهيونيِّ: “في فَرنسَا هُنَاك جَماعة ضغط قويَّة لإسرائيل، وهي تُمارسُ نفُوذَها في وسائِلِ الإعلام على وجهِ الخصُوص“[18]
يُعقِّبُ روجيه غاروديِّ على هذا الإدلاء الخطير الصادرِ من لدن أكبر شخصيةٍ سياسيَّة في فرنسَا بأنَّه إقرارٌ يَنسفُ بأسطورةَ فرنسا الكولونياليَّة، ولو أنَّه جاء متأخرًا كون ديغول آثر التصريح بعد انتهاءِ عهدتهِ الرئاسيَّة، لأنَّه كان على درايةِ بأنَّ منصبه الرئاسيِّ لا يسمحُ له البتَّةَ الطعنَ في اللوبيِّ اليهوديِّ، ذلكَ أن كلِّ الرؤساء الذين اقتدروا على الوصولِ لسدَّةِ الحكمِ بواسطةِ مشروعهم الانتخابيِّ الذي يُغازِلُ عيونَ إسرائيل، لم يتخلفوا يومًا عن زيارةِ الكيانِ واستدرار البركةِ والاستمرار من الحاخام الأكبرِ، من ميشال روكار، إلى جاك شيراك، مرورا بميتران وصولًا إلى آخر حبَّة من العنقودِ وهو مانويل ماكرون.
ويسوقُ روجيهِ غاروديِّ بكثير من المرارةِ والحسرةِ عديدَ التجاربِ الإعلاميَّة والفكريَّة التي خاضَها في بلدهِ الأم فرنسَا بغيةِ ردعِ إسرائيلِ وثَنيِهَا عن مخطِّطها الإجراميِّ بفلسطين، إذ كانَ عرضةِ للكثيرِ مِن محاولاتِ التَّصفيةِ والاغتيالِ، علاوةِ على مُصادرةِ كتبهِ من قبلِ لجنةِ الرَّقابةِ التي تخضع لإملاءاتِ اللُّوبي الصهيونيِّ في بلد يتغنى بالمساواةِ والحريَّة والعدالةِ، وسبقَ للمفكر الفرنسيِّ القيامَ بمساهمةِ صحفيَّة بمعيَّةِ الأب “ميشيل لُولوُن” والقسِّ “مَاثيو“ بيوميةِ لوموند الفرنسيَّةِ الصادرةِ في شهر حزيرانِ من سنةِ 1982 للتَّطرقِ إلى تداعياتِ العدوانِ الصهيونيِّ على لبنانِ، ومَا أعقبهُ من مَجازر وحشيَّةٍ واستهدافِ صارخٍ للَّاجِئينِ الفلسطينييِّنِ، “مؤكدين أنَّ هذا العدوان ليس مجرَّد هفوةٍ عابرة ولكنَّه جزءٌ لا يتجزَّأُ من نهجِ الصهيونيَّة السياسيَّةِ ومنهجِها التدميريِّ الذي قامَت عَلى أسَاسهِ دولةَ إسرائيل”[19].
لم تَكن هذهِ الإطلالةِ الصحفيَّةِ بردًا وسلامًا على الرفاقِ الثلاثةِ كمَا توهموا سَلَفًا، فقَد أحيلوا إلى المحكمةِ الفرنسيِّة لدعوى قضائيَّة رفعتها الرابطةُ الدوليَّةِ لمناهضةِ العنصريَّةِ ومعاداةِ السَّاميَّةِ، والتهمة كالعادةِ جاهزة، وبمقاساتٍ مناسبةِ، التحريضُ على معاداةِ الساميَّة، ونشر الكراهيَّةِ، وعداوةِ اليهودِ.
وتولَّى محاميِّ مدير جريدة لوموند “جاك فوفيهِ” الدِّفاع عنِ روجيهِ غروديِّ ورفقتهِ، منوِّهًا على ضرورةِ التفريقِ بين اليهودِ ومعتَقداتِهم وبينَ دولةِ إسرائيلِ وسياستِها الإجراميَّة في المنطقةِ العربيَّة.
وتأسَّست مُرافَعةُ المحاميِّ عبرَ استحضارهِ لسيرةِ شخصياتٍ يهوديَّة عظيمةِ دافعت عن قضايَا الفلسطينيين، وحلم العودةِ لأراضيهم على غرار “ناحوم غلودمَان” و “مَنديس فرانس”[20]
وبناءً على تسريدِ هذهِ الوقائعِ تتجلى لَنا عن كثَبٍ صورة الصهيونيَّةِ بأدواتِها السياسيَّة القمعيَّةِ، ومداراتِها الإعلاميَّةِ والثقافيَّة المهيمنَةِ بِما يفضيِّ إلى ابتِناء جسدِ متشابك بأياديِّ أخطبوطيَّةِ لا تنفك في محاصرةِ الأصواتِ الناشزةِ عن النسقِ السياسيِّ الصهيونيِّ وتخريجهِ الملفَّق للصراعِ الفلسطينيِّ، ومن ثمَّ محاولةُ تكبيلهِ إمَّا عن طريقِ تدبير الاغتيالاتِ أو الضغط القضائيِّ وجرِّهِ لأسوار المحاكمِ كما حدثَ معَ روجيه غاروديِّ، وهذهِ ولاريب آلية من آلياتِ التَّمكين والسَّطوةِ على ملفِ القضيَةِ الفلسطينيَّةِ وبعثرةِ أوراقهَا وإجهاضِ موئلاتهِا الرَّاميَةِ إلى إرجاعِ الفلسطينيِّ المهجر لأرضهِ التي تمَّ اغتصابُها منه، وتفكيك المُخطَّطِ الاستيطانيِّ المتوثِّبِ للمزيدِ من قضمِ الأراضيِّ وتنكيبِ أَهلِهَا.
دَولةٌ تَسوسُها الخُرافَةُ، غاروديِّ متنبِّئًا بزوالِ إسرائيل
لَا جرمَ أن يَلوذَ الكيانُ الصهيونيِّ بالخرافةِ، ومنطقِها الأعرجِ، ونصِّها السَّقيم، الذي ينابِذُ العقل والعلم، فهي آخرُ الحلولِ الترقيعيَّةِ التي يَتسانَدُ إليها السَّاسةُ بغيَةَ افتعال ببروغندا إعلاميَّة صَاخِبَة توجِّهُ الرأي العالميِّ، وتسوِّغُ الجرائمَ التي اُقتِفرت في حقِّ العرب الفلسطينيين غداةَ إعلانِ تأسيسَ دولةِ الكيانِ، وإيجادِ سردياتِ تَخييليَّةِ يَتِمُّ توضِيبُهَا في قِبابِ الحاخاماتِ المغالين، ومن ثمَّ تهيَّؤُ كدستور ثيوقراطيِّ مقدَّس يخوِّلُ للجنديِّ الصهيونيِّ اغتصابَ ما يحلو لَهُ من أملاكِ الفلسطينيِّ، بِدعوى أنَّهم خدم للربِّ، وأوصياءٌ على إيفاءِ نُذرهِ، وتنفيذِ وعودهِ المتمثلةِ في إخلاء اليبوسيين والكنعانيين من أرضِ فلسطين، وطفقَت هذهِ الشِّعاراتُ الكهنوتيَّةِ تسقطٌ تِباعًا أمامَ حداثةِ المساءلةِ، واحتِدادِ المجابَهاتِ الفكريَّة والفلسفيَّة التي أيقَنت بعيدَ شروعِها في قراءةِ المظانِ الأصوليَّة التي قام عليها هذَا الكيان، بأنَّه محضُ فقاعةِ ضخَّمها النَّص الأسطوريٍّ، لذلكَ فَأخوف ما يتخوَّفُ منهُ المستوطنون هوَ أن تؤول دولتهم للزَّوالِ والخرابِ في أيَّةِ لحظةِ.
وممَّا يجدرُ التنويهُ أنَّ كتاب روجيه غاروديِّ المعنون “بالأساطير المؤسَّسةِ للسِّياسةِ الإسرائيليَّةِ”، كانَ غصَّة حقيقيَّة في حلقِ هذا الكيانِ، والقشَّة التي قصمَت كبرياؤهم الزَّائف، فهو يَعضُدُ بالمنهج الاستنباطيِّ والأسلوبِ العلميِّ الرَّصين الذي يواشجُ بينَ التحليلِ البيانيِّ والتأريخِ المفصليِّ لنقضِ الجذور الأسطوريَّة التي يتشبَّث بها هذا الكيان في ِسبيلِ توطيدِ بقائِهِ عَلى أرضِ فلسطين.
وتتمظهرُ الخرافة في شكلِ صور ثقافيَّة ودينيَّة وحضارية وسياسيَّة مصطنعة، ووفق كليشيهات لغويَّة جذابة، حاول الباحثُ تفكيكَها والتوصُّلِ إلى مكمنِ زيفِها:
1 / خرافَةُ الشَّعبُ المُختار:
تندرجُ مشاريعُ المنظمةِ الصهيونيَّة ضمن مكوَّن لاهوتيِّ عام، يُحاول تمرير أسطورةِ اليهوديِّ المقدَّس إلى العالمِ بأسرهِ، فهو صنيعةُ الربِّ المُفضَّل الذي خُلقَهُ من أجلِ أن تَخدمَهُ باقيِّ الشُّعوب، وقِيَاسًا على هذهِ المعادلةِ المغاليَّة والمسكونةِ بهاجِسِ إعلاء الذاتِ اليهوديَّة، فقد تزايدَت حملاتُ التطرفِ الدِّينيِّ واقتحامِ بيتِ المقدس وتدنيسِ معالِمهِ بالحفريَاتِ المتواصلةِ، والأنكَى من ذلِكَ أن يتمَّ توريد هذهِ العقائدِ في المتونِ التعليميَّةِ، وترسيخِهَا في البُنَى الشعوريَّةِ العميقة للطفلِ الإسرائيليِّ، والنتيجة شيوع الكراهيةِ والحقد في أوصالهِ الدَّاخليَّة، حيثُ صَاروا يتلذَّذون بإبادةِ الشعبِ الفلسطينيِّ دونَما أن يتحرَّكَ ضميرهم أو تتهيَّج إنسانيتِهم تجاهِ تلكَ الصور الدمويَّةِ، ويرى غاروديِّ أن هذهِ الخرافة المصطنعةِ التي روَّجها الحاخام كوهين في كتابِهِ التلمودِ والقائلةِ : “بالإمكانِ تقسيمُ العالمِ إلى قسمين: إسرائيل من جهة، والأمم مُجتمعةٌ من جهة أُخرى، فإسرائيل هي الشَّعب المُختارُ وهي عقيدةٌ أساسيَّة“[21].
وهي في الحقيقةٌ عبارةٌ عن خرافاتِ بالية، ورثتهَا العقيدة اليهوديَّة عن حضاراتٍ بائدةِ كالحضارةِ البابليَّة، التي تَنشُدُ تقسيمَ الطوائِف زمرًا زمرًا بناء على نوعِ الإلهِ المعبودِ، وهكذَا يسودُ بعضُهَا على بعض، وهو ما نستشفُّهُ في أسطورةِ الخلقِ البابليَّة أينَ يظهر مَدى انسحاقِ الإنسانِ داخليَّا ورغبتهِ في الفداءِ وسكبِ الدمِّ حتى يرضى عنهُ الإله، خاصة بعد انتصارَ الإله الذكوريِّ “مردوخ” على الإلهةِ تيمات والتَّضحية بالإلهِ المتمرِّد كنجو الذي كانَ تابعًا للإلهةِ تيمات:
قُتِلَ كنجو….”
وقُطِعَت شرايينُهُ…
سالَ الدَّمُ.
ومنَ الدمِّ خلقَ الإنسان”[22].
لن تستغربَ المجتمعاتُ البشريَّة قاطبةً السُّلوك الصهيونيِّ الملوَّث بالدَّم، فبقاءُ هذا الصنفِ البشريِّ وفق وتيرةٍ فكريَّة مشوَّهة تعتورُ أنساقَه الإيديولوجيَّة الخرافة وعقيدةُ الإفناء والهلاكِ هو في غير صالحِ السِّلمِ العالميِّ، وعليهِ فإنَّ دولة إسرائيل تحملُ بذورَ فنائها في ذاتِها كونهَا آثرت الردَّة عن القوانينِ الإنسانيَّة والنظم الأخلاقيَّة والشرائع الدينيَّة السَّمحةِ، فالبشرُ كلُّهم سواسيَّة، والدم الإنسانيِّ متشابهِ، والشُّعوب تتفاضل بالتَّقوى والمعرفة والفضيلة لا بإحداثِ شلَّالاتِ الدِّماء كما في النَّموذجِ الصهيونيِّ.
2/ خُرافَةُ الأرضِ الموعُودة.
لطَالَمَا انزاحَ الصهاينةِ عن جادةِ الصواب، وخرقوا العقل المنطقيِّ بلفيفٍ من النُّصوص المعتاصةِ عن التفسير لكونِها مجتزأة السِّياق، غامضة المصدر، متشظيَّة الدِّلالةِ، وهذَا مَا جاء في سِفرِ التَّكوين: {سَأعطِيكَ نسلَكَ هَذهِ الأرضَ مِن واديِّ العريشِ إلى النَّهرِ الكَبير، نهرُ الفرات} الإصحاح: 15.
اِلتحدَ الصَّهاينةُ إلى هذهِ الآيةِ لتبرير تواجدهم في فلسطين، وإجلاءِ سكانِها عسفًا، كالقائد العسكريِّ السَّابق موشيِّ ديَّان الذي حمَّلَ النص تأويلات ذاتية تتجاوبُ مع غريزتهِ الدمويَّة، فادَّعى زورًا وبهتانً أنَّ النَّص التوراتيِّ باعتبارهِ صَوتًا إلهيِّا يُفارقُ الصوت الإنسانيِّ المدنسَّ قد أوكلَ لنا تملُّك الأرض بدوابِها وشَجرها ومائِها، وقد عمد روجيه غاروديِّ إلى القراءة التفكيكيَّة لهدمِ مركزيَّة النص التوراتيِّ، وتقويضِ دلالتهِ الظاهرةِ التي تتقنَّعُ بها الإيديولوجيَّة الصهيونيَّةِ في سبيلِ الاستقواء في المنطقةِ سياسيًا، والامتدادِ جُغرافيًا، ليتأتى لهُ في النهايةِ تَفنيدَ تلكَ المزاعم بواسِطةِ مجموعةِ من الاستدلالاتِ التيِّ أجملنَاها من خلالِ أسلوبِنا الخَاص :
1/النَّص التوراتي وإن سَلمنَا جدَلًا بأنَّه غيرُ محرَّف إلا أنَّه سيقَ في إطارِ تثبيتِ عقيدةِ التَّمكين، وإضفاء شرعيَّة الامتداد لمملكةِ داوود عليهِ السَّلام، وهي حقبةِ ضاربة في التاريخ انتهت بحكم السننَّ التاريخيِّ: كلُّ زمنٍ يمحيِّ زمن، وكلُّ نصِّ ينسخ نصًّا آخر يليق بالمقام الثقافيِّ والدينيِّ المحايث، فَما دخلُ الصهيونية المعاصرة إذن بالمسألةِ، كما أنَّ هذا الشتات القادم من أروبَا الذي استوطنَ فلسطين لا يمتُ بأيِّ الصلةِ لقصة الوعدِ الأبويِّ القديم.
2/الوعد بالأرضِ هو مقصدٌ خطابيِّ يَخصُّ جماعةً من البدوِ الذين كانوا يأملون بالاستقرار والمكوثِ في أرضِ آهلة بالاخضرار والماء، قبل أن يتسرَّبَ النص بفعلِ محتَّماتِ تاريخيَّة إلى الأسفارِ التوراتيَّة ويتداولهُ اليهود في شكل قصص وسردياتِ مقدَّسة تأبى الطعنِ والنَّقد.
3/لا يمكنُ أن يتوافقَ الوعد بمسلكهِ الإنسانيِّ، ودافعيتهِ التاريخيَّة، مع الأساليب الصهيونيَّة التي شوهت نصَّه، ونكثت خِطابهُ المؤسَّس على فعلِ الاستقرار، إذ من المستحيل لأيِّ إنسان راشد أن يؤمن بأن تأسيس دولةِ إسرائيل هو تحقيق لوعد إلهيٍّ، مادام سياسةَ الإجرام قائمةِ بمدلولاتِها السلبيَّة منذُ قِيامِ هذا الكيانِ: اغتيال، مذابح، نقض العهود، خيانة.
4/يُصرُّ المنهج التأويليِّ على مقاطعتهِ لتلك النُّصوص التي تعمدُ إلى المخايلةِ والزيغِ لتسويغِ مقاصد آنيَّة نظرًا للتَّدليس اللغويِّ الذي يَطالُ العمليَّة، فالوعد على قدامتِهِ وصعوبةِ تجسيدهِ مازال يُتَّخذ كصكوك ملكيَّة تضمنُ لدولةِ الكيانِ العبثُ بمصيرِ من هم أحقُّ بالأرضِ، فالبراهين والإثباتاتِ الواقعيَّة التي تتأطَّر في هيئَةِ معاينات بصريَّة ترفض رفضا قاطعًا الانصياع لفرضيةِ الأرض الموعودةِ الذي يتبجَّحُ بها الكيان.
خاتِمَة
وقيَاسًا علَى ما سبَق ذكرهُ، نستنتِجُ أنَّ مَا يُرعبُ هذَا الكيان المغتصبُ هو القلم الحرُّ، العقلية الفلسفيَّة النَّاضجة التي تلوذُ بمقرَّراتِ التَّاريخِ، الحجاج الخطابيِّ، التنقيب العلميِّ العميق، الاستدلالِ المنطقيِّ السَّليم، وهي كلُّها أدوات ابستيميَّة فتاكة تهدِّدُ بقاءهُ، لأن الباطل يرتعبُ من رياح الحق ولو كانت خفيفةِ، كما في نموذج “روجيه غارودي” وسيرتهِ المشرِّفةِ التي حاولنَا استعراض مناخِهَا الفكريِّ والحقوقيِّ لبيانِ رؤيتهِ النضاليَّة وسردياتهِ المقاومةِ للأنساق الصُّهيونيَّة المهيمنةِ وذلكَ حتَّى يَتيقَّن العالم بأسرهِ بالدعاماتِ الدلاليَّة المركزيَّة المودعةِ في كتبِ غاروديِّ ومطالبِها الشفَّافةِ من إلزاميَّة عودةِ المهجرين لأراضيهم، إلى إدانةِ الضَّالعين في النكبةِ، وصولًا لنقضِ الخرافةِ اليهوديَّة.
مراجع البحث
-روجيه غارودي، الأساطير المؤسِّسة للسياسةِ الإسرائيليَّة، تر: محمد هشام، تق: محمد حسين هيكل، دار الشروق، 3ط، 1999
-روجيه غاروديِّ، الولاياتُ المُتَّحدة طليعةُ الانحطاط، دار الكاتب للنشر، دمشق، ط1، 1998
-روجيه غارودي، محاكمة الصهيونيَّة الإسرائيليَّة، تر: محمد هشام، دار الشروق، ط3، 2002.
-روجيه غروديِّ، فلسطين أرض الرِّسالات السَّماويَّة، تر: قُصيِّ أتاسي، الدِّراسات للنشر والترجمة، دمشق، ط1، 1991
-سليم بركات، روجيه غاروديِّ في الذَّاكرة، مجلة الموقف الأدبي، سوريا، عدد:500، ديسمبر2012.
-عبد الكريم الحسنيِّ، الصهيونية الغرب والمقدس، والسياسةِ، شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2010
-عبد الكريم النقب، آباء الحركة الصهيونيَّة، دار الجليل، الأردن، ط1، 2015.
-محمد مفلح البكر، العرس الشعبيِّ التَّرويدة، دار بيسان للنَّشر والتوزيع، ط1، 1996
-نصر الدين البحرة، القصَّة الكاملة روجيه غاروديِّ والحضارة العربيَّة والإسلاميَّة، مجلة المعرفة، العدد:476، ماي 2003.
[1] سليم بركات، روجيه غاروديِّ في الذَّاكرة، مجلة الموقف الأدبي، سوريا، عدد:500، ديسمبر2012 ،ص174.
[2] نصر الدين البحرة، القصَّة الكاملة روجيه غاروديِّ والحضارة العربيَّة والإسلاميَّة، مجلة المعرفة، العدد:476، ماي 2003 ،ص238.
[3] روجيه غروديِّ، فلسطين أرض الرِّسالات السَّماويَّة، تر: قُصيِّ أتاسي، الدِّراسات للنشر والترجمة، دمشق، ط1، 1991، ص312.
[4] روجيه غارودي، الأساطير المؤسِّسة للسياسةِ الإسرائيليَّة، تر: محمد هشام، تق: محمد حسين هيكل، دار الشروق، 3ط،1999، ص 11.
[5] ينظر: سليم بركات، المرجع السَّابق، ص176.
[6] روجيه غارودي، محاكمة غارودي، تر: عزة صبحي: دار الشروق، ط 2، 2002، ص 53.
[8] غاروديِّ، المرجع السَّابق ص54.
[9] روجيه غارودي، محاكمة الصهيونيَّة الإسرائيليَّة، تر: محمد هشام، دار الشروق، ط3، 2002، صفحة 92.
روجيه غارودي، الأساطير المؤسِّسة للسِّياسةِ الإسرائيليَّة، المرجع السَّابق ص 240. )[10]
[11] غارودي، فلسطين أرض الرسالات، المرجع السابق، ص264.
[13] روجيه غاروديِّ، الولاياتُ المُتَّحدة طليعةُ الانحطاط، دار الكاتب للنشر، دمشق، ط1، 1998، ص9.
[14] غارودي، الولاياتُ المتحدة طليعة الانحطاط، المرجع السَّابق، ص49.
[15] عبد الكريم النقب، آباء الحركة الصهيونيَّة، دار الجليل، الأردن، ط1، 2015، ص 182.
[16] غارودي، الأساطير المؤسِّسة للسياسةِ الإسرائيليَّة، المرجع السَّابق، ص 275.
[17] عبد الكريم الحسنيِّ، الصهيونية الغرب والمقدس، والسياسةِ، شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2010 ص54.
[18] غارودي، محاكمة غاروديٍّ، المرجع السَّابق، ص 63.
[19] غاروديِّ، الأساطير المؤسِّسة للسِّياسةِ الإسرائيليَّة، المرجع السَّابق ص285.
[21] غارودي، الأساطير المؤسِّسة للسياسةِ الإسرائيليَّة، المرجع السَّابق، صفحة 54.
[22] محمد مفلح البكر، العرس الشعبيِّ التَّرويدة، دار بيسان للنَّشر والتوزيع، ط1، 1996 ،ص53 .
___________
*د. معطى الله محمد الأمين من الجزائر.