مهنا الحبيل مفكِّر إسلامي سعودي ولد عام 1963م في الظهران هاجر إلى كندا، واستقرَّ فيها منذ 2017م، انفرد باستقلاليته الفكريَّة، جابت مؤلّفاته أهمّ الهموم الفكريَّة للمسلم المعاصر وللإنسان المعاصر حيث كان شغله الشاغل أن يذود عن رسالة الإسلام الأخلاقيَّة التي صنعت فلسفته الحضاريَّة وأسَّست لنموذجه القيمي.
يتحرَّك مهنا الحبيل بين الشريعة الإسلاميَّة والفلسفة الغربيَّة كاتباً الوصفة الأخلاقيَّة المناسبة للشفاء من أمراض الحداثة التي أصابت الإنسان المعاصر وأذهبت روحه التي هي ملاذه الأسمى للتعرُّف على نفسه الأخلاقيَّة المغيَّبة بفعل إعياء الحداثة الأخلاقي الذي أمات الإنسان روحيّاً وأخلاقيّاً.
حاورنا مهنا الحبيل لنتعرَّف على فكره، فطرحنا عليه الأسئلة التالية فكانت إجابته عليها كالتالي:
السؤال الأوَّل: تبنَّى مهنا الحبيل منذ تحريرات مادته الفلسفيَّة مفاهيم الجدل الثالث وبرز ذلك في كتابه” إدوارد سعيد ووائل حلاق.. جدل ثالث” هل لك أن تعرِّف لنا مركزيات هذا المسار؟
-أولاً دعني أبارك لكم انطلاقة المجلة الموريتانيَّة للدراسات الفلسفيَّة المعاصرة، وأتمنَّى لكم التوفيق وأشكركم على هذا الحوار.
لعلَّ أهمّ وسيلة لشرح مسار الجدل الثالث أو التعريف به على الأقل، هو توجيه الرؤية إلى الواقع ..نعم واقع الحياة الإنسانيَّة اليوم، وعلاقتها بالفلسفة وأي فلسفة نعني، هذا ايضاً يحدِّد لنا المساحة المقصودة.
إن القرية الكونيَّة اليوم تعاني ممَّا يشبه مقدّمات انفجار كبرى، وهي حالة تشظي أو احتقان مختلفة عن مستويات التوتُّر والخسائر البشعة التي عاشها العالم في ضوء الحروب المتعدِّدة، وعلاقة الفلسفة هنا بأن جزءًا من ماكينة هذه الحروب وقاعدة تبريرها، كانت لها أرضيَّة فلسفيَّة.
نحن نستشهد هنا بدور الفلاسفة الألمان في تبرير الصعود النازي، كما أننا في نبأ رحيل الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، كما أن اليمين الغربي الحديث الذي وصل للبيت الأبيض، كان له سنداً فلسفياً، وحين نراجع حصيلة الحروب الغربيَّة والسوفيتيَّة على العالم واحتلال أقطار عديدة، في كلا الحالتين كانت هناك عمليَّات إبادة لمناطق الغزو.
هذا الغزو كان مبرَّراً في اتجاهات فلسفيَّة غربيَّة، وفي منظورنا المشرقي، لا نرى تبايناً يذكر بين الجغرافيا الروسيَّة وبقيَّة الغرب، سواء في أمريكا الشماليَّة او أروبا القديمة.
وحتى الصعود الأخير لروسيا الجديدة كان أيضاً له رصيف فلسفي نستحضر فيه الكسندر دوغين، ومن المفارقات الغريبة أننا شاهدنا وعاصرنا عمليات تبرير سياسي واجتماعي لحصار روسيا، بعد اعتدائها على أوكرانيا، حيث شملت حرب الحصار عقوبات على المواطنين الروس الأبرياء، وحرمانهم من أي سوق اقتصادي يعبر في أرضهم أو يعبرون منه، في نطاقات إنسانيَّة محضة، وهذا بالطبع له ما يقابله في الحرب الروسيَّة على أوكرانيا( كممثل للغرب الآخر).
هذه المقدمة في عودة الحرب الباردة، تشير لنا على الأقل لجهة فشل النظام العالمي الجديد، الذي شكَّلته هذه القوى الدوليَّة، وهي ذاتها التي خرجت منتصرة من الحرب العالميَّة الثانية، فضلاً عن حروبها على الشرق وخاصَّة احتلال العراق 2003 والموقف من فلسطين المحتلَّة، والذي تشارك فيه الروس وبقيَّة الغرب، فهي اليوم تعيد العالم إلى نقطة الصفر العاجزة عن ضمان السلام العالمي، سلامٌ يفترض أنه يشمل كل الأعراق والقوميات، وهذا غير منفذ على الواقع، فالتطفيف الدولي يخترق مجلس الأمن بل هو قاعدة المعادلة فيه.
وأمام كل هذا الواقع، نحن لا نزال نتعامل مع أطروحات العالم الغربي الفلسفيَّة، ونحدِّدها بالشراكة في التأسيس والتمهيد لقوانين التفاوت أو التقدم (الإبادي)، بين العالم الحديث المصنوع بإرادة القوة، وبين التأثير أو الحياد الأكاديمي الفلسفي السلبي في نقده، ونفرز تيار النقد الاخلاقي من داخل مدارس الفلسفة الغربيَّة المعاصرة.
هذا النقد له تقدير خاص وهو يشمل فلاسفة متعدِّدين، غير أن كل هذا النقد لم يحقِّق معادلة ردع لتطرُّف العالم الحديث، ولم يخلق طاولة حوار متوازنة مع العالم الآخر، ولا حتى جسور منتظمة، تسعى لفهم نظريات الوجود الإنساني، وأفكارها التي تسعى لتحرير طريق مختلف للشريعة الفلسفيَّة الجديدة، والتي لم تفكِّك مصادرها ولم تشرّح كما ينبغي، في مقابل كم هائل من تدوير الفلسفة الحديثة.
الجدل ثالث الذي توقَّف مع مذهب وائل حلاق، في مسار مختلف عن مركزيته في نقد إدوارد سعيد، ركّز على هذا المفهوم وحصيلة ما قدمه حلاق ومن استشهد بهم، في هذا الفشل، والأهم هو حصيلة الفراغ الضخمة الذي صنعه انحياز الغرب ضدّ فلسفة الآخر.
من هنا آمل أن يكون المسار مشاركاً في تحرير فلسفة الجدل الثالث، التي تقوم على مركزيَّة مختلفة كليَّة في تحرير رؤيتها الكونيَّة عن العالم، وهي تنطلق من فلسفة المعرفة الإسلاميَّة، التي لا أزال أرى مساحة ضخمة منها، لم يتم تحرير أصولها، ولا استنباط مساراتها في ثلاثيَّة الإنسان والروح – والمجتمع والأخلاق – والعمران الاجتماعي.
ولذلك اعتبرته مسارًا ثالثًا لأنَّه لا يدعو للالتزام بمعايير التراث الديني، وهو هنا ما هو خارج النص القطعي الذي ورد للعالم عن طريق النبوات، كما أن تفاعل الفلسفة الإسلاميَّة القديمة بين تياري ابن رشد والغزالي، لا تغطي في ظني المساحة المطلوبة لإنشاء أرضيَّة صلبة لفلسفة الطريق الثالث.
بقي هنا أن أشير إلى أننا لا نواجه نتيجة الحروب وعجز الفلسفة والقوة الأكاديميَّة الضخمة عن ردع مؤسِسَاتها الفكريَّة، أو التخفيف من مآلاتها وحسب، ولكن هذه الفلسفة أيضاً، متورِّطة في دفع الإنسانيَّة نحو مصير أسوأ من خلال سيولة الحداثة الجديدة، والتي تركِّز على (مادويَّة) الإنسان الخرساء، التي يشكِّلها اليوم بمزاجيَّة حمقاء وعنيفة اليسار الاجتماعي المتطرِّف، والذي نشأت أصول فكرته من ذات الفلسفة.
ومن ثم تعويم الفرد وإسقاط الأسرة، ووضع البشريَّة أمام لا أدريَّة قاسية لا تصارع الدين والروح وحسب، ولكنها ترفض معياريَّة الطبيعة الأصليَّة في الخليقة الإنسانيَّة، وتدمير خليتها الأخلاقيَّة الفطريَّة في الأسرة الصغيرة، التي لم تعد معترف بها كما ورثت من أول العالم القديم، رجال ونساء يرعون أطفالهم.
وإنما بتنا نخوض نقاشات عن جندر الإنسان ذاته، ثم تحوَّل الأمر إلى شرائع ملزمة يقودها العالم الغربي، ويفرضها على الشرق وغيره، هي في الحقيقة دوامة من عبث لا قعر له، حُرّر باسم فلسفة ما بعد الحداثة، ثم حُصّن بقوانين تمنع أي حقّ لنقضه العلمي، وتنشر رؤاه بقوة رأسماليَّة ضخمة، وكل ذلك التدمير للفطرة الإنسانيَّة المشتركة، لا صوت أمامها يذكر لمنبر أخلاقي عالمي يتوقَّف أمام هذا الجنون لإنقاذ العالم في الزمن الأخير.
السؤال الثاني: يراك البعض ناقداً شرساً للفلسفة الغربيَّة وناقداً عميقاً للتراث ،كيف يُحدد القارئ رؤيتك بين هذين المنهجين؟
– حددنا جزءًا من صورة مآلات العالم بسبب هذه الفلسفة الغربيَّة، وخاصَّة بأنَّها الأقرب والألصق للقوى الماديَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة الرأسماليَّة، وهي التي تحوَّلت بعض أفكارها إلى مشاريع تنفيذيَّة دوليَّة، ولكن هذا لم يدفعني مطلقاً لرفض العطاء الفلسفي الغربي بالجملة، ونظرياته النقديَّة، فهناك مشترك إنساني وحضاري مهم، يجب أن يتواصل ويمدّ جسوره بين الأمم، وهذا ما أعتمدُه في منطق البحث الفكري.
وقد ركَّزت مؤخراً على قراءة العقد الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي جاك روسو، كمثال لما أعنيه في المفاهيم المشتركة، ونقد المؤسِسَات الاجتهاديَّة لنظرياته المهمَّة في العمران الاجتماعي، دون أن يكون ذلك محلّ توافق مطلق أو معارضة حتميَّة.
ورغم إدانتي التي أتمسَّك بها لمآل فلسفة ميشيل فوكو الجنسانيَّة، وسلوكه الذي ارتبط به آخر حياته ضدّ الطفولة، إلا أنَّهُ لا يزال يمثل الطليعة الأساسيَّة في التشكيك المنهجي، في شرعيَّة الفكرة التي تفرضها القوة، وهو ما شجع كثيرين لتجاوز القداسة التي هيمنت على دراسات الاستشراق، وكان أبرز المستثمرين لنظريته إدوارد سعيد.
ويجب أن أؤكِّد هنا أنَّ المدار الذي أكثِّف القراءة فيه، وأتداول البحث ومحاولة الفهم والتحرير، يظلّ مسارًا من مسارات الفلسفة الواسعة، التي لن احتويها بالطبع ولا أزال في ميدان التعلُّم والإفادة من الغير.
أمَّا الموقف من نقد التراث: فهذا المصطلح في ذاته يحتاج إلى تحرير، فعلى سبيل المثال لا نعتبر النصّ القطعي في تاريخ التشريع الإسلامي جزءًا من التراث، ولا نفسِّره بحسب المرجعيَّة اللائكيَّة، ولكنَّنا نوسّع الاستدلال الذي يشمل قراءات متقدِّمة للنصّ في مسار الفلسفة أو الحكمة، كما يسمِّيها علماء الإسلام المتقدّمين، ونُركّز على مهمَّة تحرير المنهج الكوني الذي قرَّره النص، وعلاقة الطبيعة الإنسانيَّة بالحياة الأرضيَّة والمحيط العام لها.
وتمثِّل اجتهادات علماء المسلمين مرجعاً حيوياً لتحرير المفاهيم الفلسفيَّة المعاصرة، أو الأفق الحضاري حين نحدِّد زمنه وما يقابله من حضارات أخرى، غير أن هناك مسلكيَّات استدلال واجتهادات فتاوى ومنهجيَّات أصول، فيها ممَّا لا يرتضيه المنهج الأخلاقي الإسلامي ذاته، ولا الرؤية العقليَّة الرشيدة، وليست نصًّا قطعيًّا من الكتاب والسنَّة، فنرفض حتمياتها التي تسيء الى التصوُّر الإسلامي وتفرض على النصّ ما ليس فيه.
السؤال الثالث: في مقالات عديدة تعرَّضت لنقد الفلسفة الأخلاقيَّة اليساريَّة والفلسفة الأخلاقيَّة الليبراليَّة ،ما هو الجامع المشترك في نقدك؟
-الجامع المشترك هو الركن الغائب في مسارات هذه الفلسفة، وربما كل مذاهبها إلا ما ندر.
وبسؤال بسيط أين تذهب رحلة هذا الفلسفة في عمق التصوُّر الشامل، لحياة الإنسان والكون، إنَّه العدميَّة أليس كذلك؟ولكن هذا يُتعقب عليه بمذاهب حديثة ورؤى بدأت تصعد في مسارات الفلسفة الأخلاقيَّة لكل من المنهجين، الماركسي أو اليساري العام، أو الليبرالي الغربي تعيد القراءة والنقد، بحسب هذا المفقود الكبير ..
ما هو هذا المفقود إنَّه المركز الأخلاقي للحياة البشريَّة، حيث ساء موقعه في الذات الإنسانيَّة وفي القرية الكونيَّة، لأنَّ العقل التجريبي لكلا المدرستين اعتقل العقل الآخر، ولم يصل إليه كانط وإن قاربه، وشعر روسو ألا معنى لعقد اجتماعي أخلاقي يسرق يقين الشعور.
هذه دلالات جيدة لكنها ليست كافية، وحتى اليسار يحمل مراجعات تسعى لتفسير مختلف لأركان معتقد إنجلز وماركس، وهناك محاولات يساريَّة عربيَّة جيِّدة، لكن الجذر المؤسِّس لا يزال مفقودًا.
دعني أقول بوضوح، أننا نلتقي في منتصف الطريق مع هذه المحاولات الأخلاقيَّة، لتصحيح مفهوم الجذر العميق لنشأة العالم، حينما قرَّرت الفلسفة بشقيها انتخاب الإنسان الإله قهراً على العالم، ولكنه سقط مراراً وتلاعبت به الرأسماليَّة التي كرَّرت ما فعله العرب الأقدمون، حيث صنعوا رباً من تمر، يأكلونه إذا جاعوا، هنا قلب الفلسفة الاقتصاديَّة للحداثة، حاول صنع هذا الإله ليدير به الكون، لكنَّه غصَّ به واختنق وخنق عبره العالم الكوني.
إذن التخفيف من العدميَّة بالاعتراف بالروح حقيقة جيدة، تساعد على نقض هذا التدوير المتكرِّر في طاحونة الفلسفة الغربيَّة، لكنه يعجز عن تتمة النقض ومن ثم فلسفة البناء، فالروح هنا ليست وجهة نظر، ولكنَّها حقيقة مطلقة يدركها العقل البشري، أين هو هذا العقل أي عقل؟
العقل التجريبي أم العقل الإلهامي! العقل في المقصود في الرؤية الثالثة هو العقل المعرفي، يقيني الدلالة أخلاقي الشعور، لا يسعنا شرح فلسفته اليوم، لكنه هو المفقود اليوم في الفلسفتين، وبالتالي لا سبيل لتحرير جديد لمفهوم الوجود، ثم تنظيم الأرض وعمرانها للإنسانيَّة دونه.
السؤال الرابع: هل يرفض الحبيل مسيرة الحضارة الغربيَّة، وكيف تراها من منظورك، وما الذي تقصده في تسميتك للعمران الاجتماعي؟
– كلا لا أرفض..ولا أنزع منها مفهوم البعد الحضاري، الذي آراه يشمل تجارب المجتمعات الإنسانيَّة، وانتقاء ما هو صالح مستدام البعث والإثمار في حياة الشعوب.
ومن هنا أدخل على مصطلح العمران الاجتماعي ودعني اختصر في شرحي.
العمران الاجتماعي هو المتعلِّق، بتأسيس الروابط الإنسانيَّة، بين الفرد والفرد الآخر، والمجتمع والسلطة، والدولة والطبيعة ومن هذا التكامل تنهض أوطان مختلفة عن تاريخ الدولة المدنيَّة الحديثة، وإن أفادت من تجربتها.
إنَّ العلمانيَّة المتطرِّفة سعت مبكّراً لنزع القيم الروحيَّة، وأثر الدين في الفرد ثم في تقعيد العدالة الاجتماعيَّة، ثم في تحويل المجتمع إلى سلوك أخلاقي رائد يتعامل مع الطبيعة، وهو ما خلق نظريات النزاع والحروب.
أمَّا في معادلة المعرفة الإسلاميَّة، الحرب جزء من معادلة السوء المشؤومة، لكنَّها أداة للعدالة التي تستخدم بقدرها، دون أن تسقط في أي لحظة مرجعيَّة الروح والقانون الأخلاقي.
الجدل هنا عن شبكات من تزوير الدين، وتحويله لسوط للمستبدّ أو حجَّة للظلم، أو سياسة لنزع الحريَّة، أي حريَّة نعني؟
هذا مرتبط بالمنهج المتكامل للثلاثيَّة التي ذكرناها، الفرد والآخر .. ولذلك نرفض إدانة حضور الدين الحقيقي غير المزوَّر، والذي يبرز في رحلة النبوات المتّفقة في توحيد الإسلام وفي تكامل الرواية الشاملة عن نشأة العالم، وعن وحدة النبوات، وعن طبيعة الفرد والنظام الكوني، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، هناك منظومة مذهلة للغاية في الرسالة الإسلاميَّة محجوبة عن هذا العالم، وهي هنا معادلة التأسيس للعمران الاجتماعي المختلف.
السؤال الخامس: عودًا إلى الشرق، تعرَّض الحبيل لهجوم من الحركيِّين الإسلاميِّين (الإسلام السياسي) بسبب نقده لتجربتهم، ولكنَّه مُتابَع ومقروء في المساحة الإسلاميَّة هل لك أن تشرح لنا هذا التناقض؟
– بالنسبة لي، لا أحدِّد مطلقاً دائرة خصومة مع أحد في جدل الفكر، لا من الإسلاميِّين الحزبيِّين ولا غيرهم، وجسوري ممتدَّة مع الأطياف العلمانيَّة أيضًا.
الشاهد هنا، هو أنَّ نقدي يتخصَّص في رفض اعتبار مرجعيَّات الإسلام السياسي، نموذج حتمي تفهم به الرسالة الإسلاميَّة، وأن يُخاصَم من يخاصمونه ويُصَالح من يصالحونه، وأرى ضرورة أن نفكِّك ما لحق بالأمَّة من اجتهادات لهم، أضرَّت بهم أيضا، ولا تبرِّر المظالم التي تعرَّضوا لها.
وهنا مساحة أعتز بها من المتابعين الشباب لأطروحات مهنا الحبيل ضمن منظومة تيَّارات الإسلام السياسي، وهذا يسعدني جداً، وهنا لا بد من التوضيح بأنَّ تكتُّل الناس في مذاهب أو تيارات أو طرق صوفيَّة، أو مدارس فقهيَّة أو أحزاب، جزء من الطبيعة البشريَّة ويمكن لكل جماعة أن تتحوَّل إلى رافعة نهضة أو مساهمة فيها، وتشارك السواعد الأخرى، كما أنها ممكن أن تتحوَّل إلى معاول هدم تشارك بعلم أو دون علم في هدم وطنها عليها وعلى الآخرين.
فهنا حين يدرك الشباب أين الخلل في تجربة أسلافهم، يحملهم هذا إلى البحث عن الطريق المتمِّم لتربيتهم الروحيَّة، أو السلوكيَّة وبالنسبة لي أرحِّب بهم، كما أرحِّب بالشباب الذي له رؤيته المدنيَّة الخاصَّة ولكنَّه يبحث عن سؤال الروح الذي يجمع إلى المدنيَّة سكينة أخلاقيَّة ويقين شعوري.
السؤال السادس: أعلنت مبكّرًا أنَّك تؤمن بضرورة نهضة الشرق من علله وعودة خطابه الإنساني ،كيف تُقيّم هذا الفشل المتتالي في حاضر العالم الإسلامي وأين مكمن الخلل؟
-هذا سؤال موجع للغاية، وخاصَّة حين أتامَّل خلاصات المرحلة السابقة لما بعد (الربيع العربي) ويحضرني هنا أن د. مالك بن نبي غادر هذا العالم، وهو يحمل في قلبه غصَّة كبيرة، حيث كان يشعر أن مشكلات النهضة، لا تزال بعيدة عن الحل ومنظور التأسيس التطبيقي لحلها بعيدة جداً عن عمره، لكن ما سخر له الله لفكره كان أفضل من سقف تفاؤله بأنَّ أفكاره ستصل بعد 30 عاماً من رحيله رحمه الله، ففكره وصل قبل ذلك.
الأزمة هنا أحاول أن الخِّصها بأنَّ تخلُّف حاضر العالم الإسلامي في ثلاثيَّة الجهل ولنسميه اليوم الجهل العلمي والمعرفي، والانحطاط الأخلاقي، والعجز العمراني، سببها انقطاع حبل التنوير الرشيد، الذي يصنع الفارق للمسلمين والذي لا يتحقَّق بملاعنة الغرب فقط، ولكن بحفز العقل واحترام مساعي الفكر، وردّ الاعتبار له كمنظومة تؤسِّس للعمل السياسي وثقافة المجتمع المدني.
ودون تحوّل طليعة من النخبة المثقَّفة وهي هنا مهمَّة الشاب، إلى استئناف مهمّة النهضة بعد إدراك عمقها وتأسيس قواعدها، والانطلاق بها إلى تبشير فكري، سنظل نراوح في مقاعد الفشل، ربما هنا يبرز أمل كبير وهو ما أراه من عزيمة شباب من تيَّارات مختلفة تسعى للبناء النهضوي من جديد، بناء أقوى من معاول الهدم والكراهية.
________
المصدر: المجلة الموريتانيَّة للدراسات الفلسفيَّة/ العدد الثاني.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.