التنويريسلايدرفكر وفلسفة

الجابري: من تراثٍ يحتوينا إلى تراثٍ نحتويه

قراءة جديدة في التراث

مقدمة:

يمكن أن نقسم التاريخ إلى قسمين: تاريخ كوني عام، وتاريخ قومي خاص. الأول هو الذي نجده عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، ويقصد به الميدان الذي نستطيع بموجبه استشراف غد أفضل لحياة إنسانية عادلة تغمرها القيم الإنسانية الفاضلة كالسلام والعدل والحرية والتسامح، وهذا يعني أن التاريخ الكوني هو تاريخ إنساني، لا يعير أهمية للاختلافات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. والثاني هو الذي نجده مثلا عند نخبة من المفكرين العرب، ومحمد عابد الجابري يعتبر أبرزهم، ويقصد به الميدان الذي بموجبه نستطيع استشراف غد أفضل لحياة قومية عربية تنضب بحيوية القيم المستمدة من التراث العربي الاسلامي، ويرتكز هذا التاريخ أساسا من ناحية التحديد على مرجعية اللغة الواحدة أولا باعتبارها وسيلة للتخاطب والتفاهم، وعلى مرجعية التاريخ الواحد ثانيا باعتباره ذاكرة الأمة [1]، فكل أمة من الأمم تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص، أي تاريخها القومي.

ومن هذه الزاوية من التحليل نقول إن كانط أبدع الثلاثية النقدية وقدمها للإنسان كيفما كان جنسه أو لونه أو عرقه أو ثقافته أو دينه. وأن الجابري سطر بأحرف من ذهب نقد العقل العربي، ودشن لمشروع قل نظيره في العالم العربي، مشروع تشريحي حفري نبش في أعماق هذا العقل الذي يعج بالتناقضات الصارخة، ويمكن أن نقسم مشروعه هذا إلى قسمين أساسيين: القسم الأول نسميه بنقد العقل العربي النظري، ويتضمن كتابين أساسيين هما: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي. ثم القسم الثاني نسميه بنقد العقل العربي العملي ويحتوي على كتابين مهمين هما: العقل العربي السياسي والعقل العربي الأخلاقي. إن ما يهمنا هنا، ليس متن المشروع في حد ذاته، بل ما سبق هذا المتن، بمعنى لن نسلط الضوء على قراءة الجابري للتراث ولن نحاول جرد مختلف التصورات والأفكار التي جاد بها في كتبه، وإنما على الطريقة والأداة التي اعتمدها على قراءة هذا التراث، فسؤالنا إذن هنا هو سؤال “كيف فعل “، وليس “ماذا فعل “.

كان سؤال ” كيف نقرأ تراثنا؟ ” سؤالا محوريا في فلسفة محمد عابد الجابري، وجاء إملاء من أحد طلابه، وأوحى له عمق السؤال أن قراءة التراث لا يمكن أن تتم إلا على النحو الذي قرأ به فوكو التراث الفكري الفرنسي والأوروبي، فهل بالإمكان تحقيق ذلك؟ هل يمكن أن تنجح أداة الحفر الأجنبية في اكتشاف ما تخبئه أرض التاريخ العربي؟ أو بصيغة أخرى كيف نقرأ تراثنا بمنهج عقلاني وبمنأى عن المناهج الأخرى التي كانت سائدة في تداولها لهذه القضية؟ وما الذي يجعل المنهج العقلاني هذا مختلفا عن المناهج التي انتقدها الجابري في قراءتها للتراث؟

1. المناهج المنبوذة في قراءة التراث:

تهافتت الكثير من المناهج في قراءة التراث، اختلفت وتعارضت وتناطحت فيما بينها، بيد أنها تشابهت وتشاركت في نفس العيب الذي أصابها، أي أنها اختلفت في ظاهرها وتشابهت في عمقها، وهذا العمق هو الذي وجه إليه الجابري سهام النقد، ويحصر هذه المناهج في ثلاثة:

. المنهج السلفي: وهو منهج انتقائي يسعى إلى تأكيد الرأي أكثر من سعيه إلى تأكيد أي شيء آخر، ويقضي أساسا بإبطال التراث المعرفي والمنهجي المنحدر إلينا من عصر الانحطاط، والاحتراس في نفس الوقت من الوقوع فريسة للفكر الغربي (…) والسؤال يراودنا هنا هو: ما السبيل لتحقيق التجديد إذا ما نحن جففنا منابع التجديد أساسا؟ يقترح هذا المنهج كإجابة عن هذا السؤال بناء فهم جديد للدين، عقيدة وشريعة، انطلاقا من الأصول مباشرة والعمل على تحيينه، أي جعله معاصرا لنا وأساسا لنهضتنا وانطلاقتنا[2]، وقد اعتمد على هذا المنهج جمال الدين الأفغاني الذي كان يرى أن سر الإصلاح والنهضة يكمن في القرآن الكريم باعتباره كتاب الهداية والحكمة والرشد والاستقامة، والتخلي عنه، أو بالأحرى تحريف مضمونه كفيل بأن يقذف بنا في متاهات التخلف والتحنط والجمود، فالعودة إلى القرآن إذن وفق هذا المنهج ضروري، بل هو حاجة ماسة للأمة. وبما أن القرآن يندرج ضمن التراث العربي الإسلامي، والعودة إليه هي عودة للتراث أي محاولة بلوغ فهم له، فإن قراءة المنهج السلفي للتراث هي كما يقول الجابري قراءة لا تاريخية، لكونها لا تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو: الفهم التراثي للتراث. التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه.

. المنهج اللبرالي الاستشراقي: تؤطره رؤى تمليها نزعة التمركز حول أوروبا، وتقوم الرؤية الاستشراقية من الناحية المنهجية على معارضة الثقافات، على قراءة تراث لتراث، ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد كل شيء إلى أصله، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الاسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده إلى أصوله اليهودية والفارسية والهندية واليونانية ( الفلسفة العربية ما هي إلا فلسفة يونانية مكتوبة بأحرف عربية ) [3].

. المنهج الجدلي في الفكر اليساري العربي: فهذا الفكر حسب الجابري لا يتبنى المنهج الجدلي كمنهج لـ(( التطبيق)) بل يتبناه كمنهج مطبق، أي الاسترشاد به كمقولات وقوالب جاهزة وجامدة، ولا ننسى هنا ما قاله ألتوسير عن الماركسية كفكر جدلي حين شبهها بسمكة في الماء، أي أنها ستتوقف عن التنفس في أي مكان آخر خارج المعرفة الغربية[4].

يرى الجابري أن هذه القراءات المنهجية التي تناولت مسألة التراث تعتريها – من الناحية الابستيمولوجية أي من ناحية طريقة التفكير التي تعتمدها كل منها – آفتين: آفة في المنهج وآفة في الرؤية. فمن ناحية المنهج تفتقد هذه القراءات إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ومن ناحية الرؤية تعاني كلها من غياب الرؤية التاريخية [5]. وكلا الناحتين تشكلان الحجر الأساس في كل دراسة ابستيمولوجية تراعي شروط سلامة التفكير والمنطق، وإلا ستهوي في مزالق الذاتية والتفكير الجامد والراكد، الأمر الذي ينتج فهما تراثيا للتراث ويفصمه عن سياقاته التاريخية التي أوجبت وجوده، وهذا الفهم السلبي يزج بنا في قفص التراث، فنكون محكومين به دون أن نتحكم فيه، والسبيل لتجاوز هذا الفهم يتمثل في إضفاء الموضوعية على الموضوع الذي نتعاطى معه.

2. آفة المنهج: كيف نبني لأنفسنا فهما موضوعيا لتراثنا؟

تعد هذه القضية الأساسية في مشكلة المنهج التي تواجه الفكر العربي المعاصر، في محاولاته الرامية إلى إيجاد طريقة علمية ملائمة للتعامل مع تراثه، ويتعلق الأمر هنا بالعلاقة القائمة بين الذات العربية وتراثها، وإذا افترضنا أن التراث هو الذي يكون هويتنا كذوات، فإن الذات تخترق بواطن الموضوع، والموضوع يتغلغل إلى دواخل الذات، وتستلزم هنا العلاقة بين الذات والموضوع طرح قضية الموضوعية على مستويين[6]: الأول هو فصل الموضوع عن الذات، والثاني هو فصل الذات عن الموضوع.

أما بالنسبة للمستوى الأول، فتجرى فيه مجموعة من العمليات التي تفصل الموضوع عن الذات، أي تفصل النص عن القارئ، ويتوجب على الأخير أن يتقيد بهذه العمليات، فإذا ابتغى أن يحصل فكرة النص ككل أي أن يمحور فكر صاحب النص بمختلف الثوابت التي تتحكم فيه والتحولات التي يغتني بها حول إشكالية واضحة، فإنه سيسلك سبيل المعالجة البنيوية، وإذا أراد أن يربط فكر صاحب النص بأبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية بمعنى وضعه ضمن مجال تاريخي محدد، فإنه سيعتمد على التحليل التاريخي، والذي يساعدنا على التعرف على ما كان في إمكان الكاتب أن يقوله ولكنه سكت عنه. والأهم من هذا كله، هو محاولة خلع الحجاب الذي يتلحف به المضمون الأيديولوجي للنص، بالاستناد إلى الطرح الأيديولوجي الذي يتوجه إلى الوظيفة الأيديولوجية سواء الاجتماعية أو السياسية التي أداها الفكر المعني الذي ينتمي اليه النص، إن الكشف عن المضمون الأيديولوجي لفكر ما هو الوسيلة الوحيدة لجعله فعلا معاصرا لنفسه، مرتبطا بعالمه [7]. وقد اهتم الجابري بهذا الطرح إزاء عرض موقفه من الفلسفة الاسلامية، إذ يقول: ” لم تكن الفلسفة الاسلامية قراءة متواصلة ومجددة لتاريخها الخاص، تاريخها المعرفي – الميتافيزيقي، بل كانت قراءات لفلسفة أخرى هي الفلسفة اليونانية، وعليه فإن الجديد فيها يجب البحث عنه –لا في جملة المعارف التي استثمرتها وروجتها – بل في الوظيفة الأيديولوجية التي أعطاها كل فيلسوف لهذه المعارف (…) ففي هذه الوظائف يجب أن نبحث للفلسفة الاسلامية عن معنى… عن تاريخ” [8].

أما بالنسبة للمستوى الثاني، فتتوقف فيه الموضوعية ليس على النص أو التراث كموضوع بل على القارئ الذي يقرأ هذا النص بعين تفتقر للبعد النقدي، فالقارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله وحريته، لقد تلقى ويتلقى تراثه منذ ميلاده ككلمات ومفاهيم، كلغة وتفكير، كحكايات وخرافات وخيال، كطريقة في التعامل مع الأشياء، كأسلوب في التفكير، كمعارف وحقائق، كل ذلك بدون نقد أو تمحيص: فهو عندما يفكر، يفكر بواسطة التراث ومن خلاله، فيستمد منه رؤاه واستشرافاته، مما يجعل التفكير هنا مجرد تذكر، يخلو من بصمة إبداع وتعوزه لمسة الخلق والابتكار. ولذلك فعندما يقرأ القارئ العربي نصا من نصوص تراثه يقرأه متذكرا لا مكتشفا ولا مستفهما [9]. والحقيقة أن فصل الذات عن التراث هو الخطوة الأساسية لتحقيق الموضوعية وتلافي الوقوع في شراك الذاتية، ويدعونا الجابري هنا إلى العمل بالقاعدة الذهبية التي قدمتها لنا المكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة للتعامل بحنكة موضوعية مع النصوص، وتقول هذه القاعدة: يجب قراءة الألفاظ قبل قراءة المعنى، لأن تسبيق المعنى يؤدي إلى تمزيق وحدة النص وتحريف دلالته وتجميد الخيوط العديدة التي تحول الكلمة العربية لدى القارئ العربي إلى نغم، أو إلى صورة حسية، أو مجموعة أحاسيس وأشجان، بل وزحزحة البنية المتماسكة التي يتأسس عليها النص كاملا في شكله الكلي. وقد انتهج الجابري منهج التشريح والتفكيك من أجل تحرير الذات من هيمنة النص التراثي، وبحسبه هو المنهج الوحيد الذي يمكن أن يفضي إلى الإمساك بالنص وجعله مادة للقراءة والنقد، لا مادة للتقديس والتوثين. ونفهم هنا أن الإمساك بالنص يعني امتلاكه، لا أن يملكنا، فنحن نطمح إلى أن نعي به، لا أن يعي ذاته من خلالنا، والواقع يشي بأننا لا نتكلم في التراث، وإنما التراث يتكلم فينا، وذلك بمقتضى الفهم السلبي له، أي الفهم التراثي للتراث والذي يجسم آفة الرؤية.

3. آفة الرؤية: القطيعة هي الحل

وصف الجابري الفكر الذي لا يستطيع الاستقلال بنفسه بالسلفية، لأن هذا الفكر كلما عالج موضوعا من الموضوعات إلا ونجده يتحصن بالسلف، وقد اتهم الفكر العربي المعاصر بأنه سلفي النزعة والميول، وهذا ما تجسده القراءات المنهجية الثلاث التي ذكرناها سابقا، ويضيف قائلا بخصوصها: ” القراءات الثلاث التي تحدثنا عنها قراءات سلفية، وبالتالي فهي لا تختلف جوهريا عن بعضها البعض، لأنها مؤسسة فعلا على طريقة واحدة للتفكير، سماها الباحثون العرب القدماء((قياس الغائب على الشاهد ))…الغائب هنا هو المستقبل كما ينشده أو يتصوره كل من هذه القراءات ” [10]. ونخلص من هذا القول أن المناهج والقراءات التي تعاطت مع مسألة التراث تشترك في كونها لا تاريخية لأنها تلغي الزمان والتطور، فالحاضر كل حاضر يقاس على الماضي، وكأن الماضي والحاضر والمستقبل عبارة عن بساط ممتد لا يتحرك ولا يتموج، عبارة عن زمان راكد، ويدعونا الجابري بغية تجاوز هذا الركود إلى التخلي عن الفهم التراثي للتراث عن طريق سن القطيعة الابستيمولوجية، بمعنى الانعتاق من الرواسب التراثية من عصر الانحطاط في عملية فهم التراث وعلى رأسها القياس النحوي والفقهي والكلامي في صورته الآلية اللاعلمية التي تقوم على ربط جزء بجزء ميكانيكيا، والتي تعمل بالتالي على تفكيك الكل وفصل أجزاءه عن إطارها الزماني والمعرفي الأيديولوجي.و في هذا يقول الجابري: ” اندماج الذات في التراث شيء، واندماج التراث في الذات شيء آخر، أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر، إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة بالتراث، القطيعة التي تحولنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، المقوم الجامع بينها في شخصية أعم، هي شخصية الأمة صاحبة التراث [11] “.

نتبين فيما سبق أن مشكلة الجابري مع التراث ليست مشكلة معرفية، بل مشكلة منهجية، أي أنها لا تتعلق بالمحتوى والمضمون بقدر ما تتعلق بالكيفية والطريقة، وقد سعى إلى بث الوعي في العقل العربي بغية إيجاد حل لهذه المشكلة، كون أن الفهم العربي المعاصر للتراث إما يقع داخل التراث نفسه ويتقوقع فيه فيصبح فهما تراثيا للتراث، وإما يقع خارج التراث، أي مرتبط بإطار مرجعي بعيد عن هذا التراث، وبالتالي فهو ينظر اليه نظرة إثنوغرافية كما ينظر الباحث في حياة الشعوب البدائية، والحل هنا يتجلى في خلق قراءة جديدة تنطوي على فهم معاصر للتراث، أي جعل التراث، ليس معاصرا لنفسه فحسب، بل معاصرا لنا ايضا في نفس الوقت، فما معنى ذلك؟

4. عصرنة التراث: نحو حوار نقدي وعقلاني

يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: ” إن المقروء هو تراثنا نحن، فهو جزء منا أخرجناه من ذواتنا لا لنلقي به بعيدا هناك بعيدا عنا، لا أن نتفرج فيه تفرج الأنثروبولوجي في منشآته الحضارية أو البنيوية، ولا لنتأمله تأمل الفيلسوف لصروحه الفكرية المجردة… بل فصلناه عنا من أجل أن نعيده إلينا في صورة جديدة، وبعلاقات جديدة، من أجل أن نجعله معاصرا لنا [12]“. ويقصد الجابري بهذا القول أن ننظر إلى التراث نظرة تاريخية تعتمد على إضفاء المعقولية على الشيء المقروء، وبالتالي البحث فيه عما يمكن أن يساهم في إعادة بناء الذات العربية بما يتوافق ويتناسب مع الشروط الحالية والظروف الراهنة، فعندما نعود إلى التراث، لا نعود اليه عودة ممجد مقدس، بل عودة منتقد وباحث، ونحن إنما نفعل ذلك من أجل أن نبني ذواتنا على أسس جديدة تجد مرتكزاتها في بعض نقاط الماضي، لأن هذا الماضي حاضر فينا كما يقول ريمون آرون على شكل آثار[13] بدون أن نشعر، سواء قبلنا بذلك أو رفضناه، نفعل ذلك لكي نطور وعينا، لكي نرسم لأنفسنا نظرة عن العالم، وفي الأخير لكي نفهم، إسوة بالقولة الأثيرة للفيلسوف الهولندي اسبينزا: لا دعي للضحك، لا دعي للبكاء، فقط افهم “.

ويميز الجابري بين النظرة العقلانية للتراث والنظرة الأيديولوجية للتراث، فالأولى يعتبرها أيديولوجيا يتطابق فيها الفكر مع واقعه مطابقة علمية صرفة، تقوم على الترابط السببي أو تطمح إلى تحقيق هذا النوع من المطابقة، فالفكر الذي لا يتصل بواقعه وينسجم معه، أي لا يفهمه فهما سببيا، لا يمكن أن يكون عقلانيا، فالأيديولوجيا التي تلفها العقلانية أي تحكمها هي أيديولوجيا إيجابية تبناها الجابري أشد التبني، ونادى إلى قراءة التراث وفقها، أي قراءته على ضوء الأحداث والسياقات التاريخية التي أضفت إلى إنتاجه، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك. أما الثانية فهي أيديولوجية سلبية مفصولة تماما عن الواقع، والتي تحددها الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت في كونها خطاب منطقي – منطق فكرة من الأفكار – يعمل على حماية الواقع ولا يهدف بتاتا إلى تغييره أو الكشف عن أسراره أو تعرية بنياته، إن الأيديولوجية إذن ” تقوم على اتساق لا وجود له في الواقع [14]“.  وقد وصف الجابري الفكر العربي المعاصر ككل بأنه فكر مفصول عن واقعه، وقد يظهر لنا تمويها بأنه الخطاب العربي المعاصر خطاب واقعي، لكن في الحقيقة لا يعدو أن يكون إلا فكرا إما مطابقا لواقع مضى فيكون بذلك فكرا تراثيا، وإما لواقع غير واقعه بمعنى لم ينتجه وهو الواقع الغربي. ولأنه كذلك، فهو خطاب أيديولوجي سلبي لا يطابق واقعه، وهذا حال الفرد العربي الذي يعيش وضعية الانفصام والانشطار، فذاته دوما هي خارج ذاته، البعض منا يجد ذاته متحققة في التراث العربي الاسلامي، فيتخذ منها أيديولوجيا الحاضر والمستقبل، والبعض الآخر منا يجد ذاته متحققة في فكر الغير، فيتخذ منه أيديولوجيا لحاضره ومستقبله. وقد قسم الجابري الخطابات العربية الأيديولوجية المعاصرة إلى ثلاثة أقسام: أولها الخطاب العصراني الذي يدعو إلى تبني النموذج الذي يفرض نفسه كنموذج تاريخي ذو صيغة حضارية للماضي والحاضر والمستقبل، ويندرج ضمن هذا الخطاب خطابات أخرى من قبيل الخطاب الاشتراكي والماركسي واللبرالي والتطوري [15]. وثانيها الخطاب السلفي والذي ينص على استعادة النموذج العربي الاسلامي كما كان قبل الانحراف والانحطاط، أو على الأقل الارتكاز عليه من أجل تشييد نموذج عربي إسلامي أصيل يحاكي النموذج القديم، ويتوزع هذا الخطاب على عدة اتجاهات منها السلفية الرافضة، والسلفية المعتدلة والسلفية المسؤولة [16]. وثالثها الخطاب الانتقائي الذي يدعو إلى الأخذ بأجود وأحسن ما في النموذجين معا والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر فيها الأصالة والمعاصرة معا، وجذير بالذكر أن مشروع الجابري لفقت له تهمة التوفيقية والانتقائية، ورد عن هذه التهمة بالقول بأنه دأب على تأسيس عقلانية جديدة للتراث مرفوق بطموح جامح على إعادة بناء الذات العربية، فموقف الجابري إذن ليس انتقائيا ولا توفيقيا، بل إنه موقف لإعادة تأسيس.

خاتمة:

انطلاقا مما سبق، يتضح جليا أن الجابري قد تعامل مع التراث بنوع  من الملاطفة والملاينة، فلم يسعى إلى خدش صورته أو إلى تحطيم أوثانه، فالنقد الذي مارسه الجابري للتراث ليس نقدا عنيفا كالذي حمل معوله في عصر التنوير فولتير، لأنه بالنسبة للمفكر المغربي لا يمكن للتراث العربي الاسلامي أن يتحمل هكذا نقد، ليس لأنه هش أو رخو، وإنما لأن له خصوصية محددة تفرض علينا نمطا من التعامل يقوم على العقلانية عوض التهكم والسخرية والازدراء، وبالتالي يكون الجابري قد ساهم في فتح جديد يغتني به الفكر العربي المعاصر، وأضاء دروب التفكير في العالم العربي بنبراس النقد العقلي والمنهج العلمي.خصوصا في كتبه النقدية الأولى، وبالتحديد كتاب تكوين العقل العربي لأنه يحمل مضامين تغييرية لا فحصية وتشخيصية فقط، وفيه يقول جورج طرابشي ” تكوين العقل العربي للجابري كتاب لا يثقف فقط بل يغير، ومن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه “، ونفهم من هذا الكلام أن الجابري لم يقتصر على تشريح العقل العربي كما يشرح الميت، بل حاول بعثه من جديد، أي إعادة تأسيسه كما يجب أن يكون، وإذابة الجمود الذي كان يكتنفه على المستوى الأيديولوجي، فالتشريح عند الجابري لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا بالأدوات الابستيمولوجية اللازمة، فقراءة التراث لا يجب أن تأتي إملاء لأيديولوجيا معينة، لأن هذه الأخيرة كما قلنا سابقا مستعينين بتعريف حنة آرنت تفعل فعل التحريف والتشويه، وإذا أردنا أن نشخص عطب وتلف العقل العربي اليوم لن نعير اهتماما للمضمون الذي أنتجه بقدر ما تسترعينا الطريقة التي أفضت إلى إنتاج المضمون، وهذه الطريقة لا توجد خارج هذا العقل، بل تمكث داخله وتقبع في صميمه، أي أن العطب بنيوي بالأساس، وبناء على هذا الأمر، نجد أن العقل العربي قدم استقالته في اللحظة التي قرر فيها أن ينقبض وينكمش، في اللحظة التي انزوى فيها إلى ركن ضيق، في اللحظة التي اعتقد فيها بأنه حقق انكفاء ذاتيا، ولم يعد بحاجة إلى دخيل أو إلى عنصر خارجي، إنه بذلك عقل متكابر ومتطاول، يفضل أن يبقى على حاله مخافة أن يجر على نفسه ويلات النقد والفحص، يقبل بوضعه لأنه يجد فيه الراحة، تجثم عليه شأفة الكسل، وتنخره مثالب الخوف، وفي ذلك اعتبر كانط الكسل والخوف عاملين أساسيين في وجود حالة من القصور أصاب العقل وأفقده حيوته ونشاطه، وهذا القصور إنما يصدر من صلب الإنسان يرضخ له دون أن يحس، الشيء الذي قوض الإبداع وخنق الفكر وأجهض كل محاولة للتحليق في أفق ينعدم فيه التأصيل وتحضر فيه الرؤية، فالفكر الذي يؤصل يبقى في مكانه، أما الفكر الذي ينتج رؤية متميزة للعالم وللأشياء هو فكر ينتج المعنى، في عالم يتبدد فيه كل أثر للمعنى ويشهد انفصالا بين الكلمات والأشياء، وإذا حضر المعنى، فإنه يحضر أولا انطلاقا من التراث، أي انطلاقا مما يسميه تشالز تايلور بمنابع الذات، ثم ثانيا من روح العصر وتطوراته، ويمكن أن نفهم من ذلك، أن العربي المعاصر لا يجب أن يكون ماضويا رجعيا، ولا حاملا لآمال مستقبلية قد لا تتحقق، وإنما أن يعيش حاضره كما هو، والحاضر هنا هو مجمل آثار ما مضى، وإذا كون موقفا عن حاضره، يكون حينئذ قد خلق لنفسه هوية في ما يسميه فوكو أنطولوجيا الحاضر.

بيبليوغرافيا

1. وجيه كوثراني، الديمقراطية ومشكلة الأقليات في الفكرين القومي والإسلامي: حوار من أجل نظرة جديدة، منبر الحوار، السنة التاسعة، ع34، 1994م

2. محمد عابد الجابري، نحن والتراث:قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 6، 1993

3. محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية،  ط 7،  بيروت، 2016

5. Louis Althusser , La révolution théorique de Marx

6. R. Aron , Dimensions de la conscience historique , Paris , Plon , 1861

7. Hannah Arendt , Les origines du totalitarisme , Trad , Jean louis Bourget et autres , Paris , Gallimard ,  2002


 وجيه كوثراني، الديمقراطية ومشكلة الأقليات في الفكرين القومي والإسلامي: حوار من أجل نظرة جديدة، منبر الحوار، السنة التاسعة، ع34، 1994م، ص35. [1]

 محمد عابد الجابري، نحن والتراث:قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 6، 1993، ص 12[2]

 نفس المرجع، ص 14[3]

[4] Louis Althusser , La révolution théorique de Marx

 نفس المرجع، ص 16[5]

 نفس المرجع، ص 22[6]

 المرجع نفسه، ص 24[7]

 المرجع نفسه، ص 33[8]

 المرجع نفسه، ص 22[9]

 المرجع نفسه، ص 17[10]

 المرجع نفسه، ص 21[11]

 المرجع نفسه، ص 24[12]

[13] R. Aron , Dimensions de la conscience historique , Paris , Plon , 1861 , pp , 110 

[14] Hannah Arendt , Les origines du totalitarisme , Trad , Jean louis Bourget et autres , Paris , Gallimard ,  2002 , p. 210

 محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية،  ط 7،  بيروت، 2016، ص 15 [15]

 المرجع نفسه، ص 16[16]
________
*ابراهيم ماين: طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب ، حاصل على شهادة الدراسات العامة في شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب و العلوم الإنسانية في جامعة ابن زهر أكادير .


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

إبراهيم ماين

طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب ، حاصل على شهادة الدراسات العامة في شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب و العلوم الإنسانية في جامعة ابن زهر أكادير .

مقالات ذات صلة