رؤية سوسيولوجية نقدية
” جسد الإنسان هو المكان الوحيد الذي تتقاطع فيه وحوله علومه وممارساته كلها ” ([1])…. ” كلما تصور الكتّاب عوالم إنسانية بديلة – طوباوية، أو بائسة أو مختلفة نسبياً – يقومون حتماً بتأهيلها بأجساد بشرية بديلة، الأمر الذي يخبرنا بحد ذاته عن مدى عمق الحياة الاجتماعية وتجذرها في الجسد. كل مجتمع يفهم جسد الإنسان على طريقته الخاصة، وفعلياً يعتقد كل مجتمع بأن أجسادهم هي ” الأجساد الحقيقة “ هذا الجسد الذي خُلق على الهيئة التي يجب أن تكون عليها الأجساد. من هنا تظهر أزمة الجسد وهي جزء من حكايتنا التاريخية عن الجسد “([2]). وفي سياق الشكل الفيزيقي للجسد ودوره في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، يقول فرانز فانون (1925-1961) بمرارة معاناته من التمييز العنصري (بسبب لون بشرته) ” عندما أتحدث إلى من يحبونني يقولون إنهم يحبونني على الرغم من لوني، وحينما أتحدث إلى من يكرهوني يعتذرون بأنهم لا يكرهوني بسبب لوني. وفي كلتا الحالتين أجد نفسي حبيس الحلقة اللعينة إياها “([3]).
شكل الجسد على مرّ التاريخ الإنساني مادة خصبة للنظر والتأويل الفلسفي والاجتماعي والأخلاقي في معظم الفلسفات القديمة والحديثة وبالأخص المثالية منها لما له من قدسية وطهارة في النظر إليه، إلا أنه أصبح فيما بعد مع تقدم وتطور العلم والمعرفة وتعقد الحياة الاجتماعية محوراً لتخصصات وسجالات عديدة، تتراوح ما بين العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، فكان ذلك حافزاً على تثوير وتطوير مناهج البحث في هذا المجال على مستوى التحليل والتفسير والتنظير([4]). ليكون هذا الموضوع (الغريب) أصيلاً في الأكاديميات ومراكز البحوث وما تتطلبه الرسائل العلمية العالية من دقة وتوثيق في المُدخلات النظرية التي عالجت موضوع الجسد.
وفي العصر الراهن، لم يعد الجسد قالباً أنطولوجيا ثابتاً([5])، بل أصبح يتداخل في شتى مجالات التفاعل التي تلف الإنسان من كل جهة واتجاه، حيث يتداخل في عالم الدين والإيمان، وفي المجالات الطبية وعلم الاجتماع، وفي عالم الرموز والمسالك اليومية بين البشر. وهذا يعني أن الجسد مرآة لشخص صاحبه، يشير إلى عالم مملوء بالمعاني والرموز([6]).
يتميز موضوع الجسد بما أنه معطى بيولوجي فيزيقي أولاً، وسوسيو أنثروبولوجي ثانياً، بنوع من الجدّة والدينامية ضمن هذه الحقول العلمية، على الرغم من كون المقاربة الطبية الفيزيولوجية كانت ولا زالت سباقة إلى الاهتمام بالجسد والاعتناء بصحته ووظيفته البيولوجية، كمكون حيوي وضروري لاستمرارية النوع البشري. كما أن المقاربات السوسيولوجية التي اهتمت بالبعد الاجتماعي والثقافي للوجود البشري، وفق رؤية اختزالية للجسد باعتباره واجهة مادية لهذا الوجود الإنساني فقط. سعت فيما بعد إلى تجاوز هذه النظرة القاصرة والمحدودة للجسد، من خلال التركيز على خصائصه وفاعليته في العالم المعاصر، ودوره في التأسيس والتأثير في العلاقات والظواهر الاجتماعية والثقافية. ضمن سياقات ميكرو سوسيولوجية، حيث يحتل من خلالها الجسد مكانة محورية، وينسج ضمنها تفاعلات الإنسان الاجتماعية داخل محيطه السوسيو- اقتصادي، كما يلعب الجسد دوراً مفصلياً في التعبير عما يدور داخل الإنسان من مشاعر، وما يستوقفه من مواقف وتوجهات تجاه الذات والغير([7]).
تعتبر سوسيولوجيا الجسد فصلاً من السوسيولوجيا المتخصصة تسعى إلى فهم الجسدية الإنسانية كظاهرة مجتمعية وثقافية، مادة للرمز، وموضوعاً للتمثلات والمتخيل، ولكن قبل أن نناقش موضوع سوسيولوجيا الجسد وجب علينا توضيح مفهوم الجسد، من خلال وضعه في إطار مرجعيته الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والمادية.
– مفهوم الجسد: لغوياً، يضع التعريف اللغوي لمفهوم الجسد بين أيدينا مفاتيح وتمايزات متعددة في الوعي اللغوي للجسد وتجلياته. ورد في لسان العرب (مفهوم الجسد) أي جسم الإنسان، ولا يقال لغيره من الأجسام المتغذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض، والجسد: البدن تقول منه: تجسد كما تقال من الجسم: تجسم…. وإن تكون راجعة إلى الجسد وجمعه أجساد وقال بعضهم في قوله عِجْلاً جَسَداً، قال: أحمر من ذهب؛ وقال أبو إسحق في تفسير الآية الكريمة: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة([8])، وفي المعجم الفلسفي يقول الجرجاني ” الجسم قابل للأبعاد الثلاثة “([9])، وقيل: ” الجسم هو المركب المؤلف من الجوهر “. وقد عرفه عبد الرحمن بدوي فقال ” هو الموجود ذو الأبعاد الثلاثة الطول، العرض، العمق للجسم مقدار حجم، وشكل، وثقل، وكثافة، وهو إما في حركة وإما في سكون، له خصائص كهربائية، ومغناطيسي، وكيميائية، وضوئية، وسمعية، وحرارية “([10]). وننتهي برأي أندريه لالاند الذي عرفه على أنه ” كل غرض مادي يكونّه إدراكنا، أي كل مجموعة كيفيات نتمثلها مستقرة، مستقلة عنا، وواقعة في المكان، من خواصها الأساسية المدى الثلاثي الأبعاد، والكتلة، بنحو خاص الجسم البشري مقابل الروح. وحول الجسم مع اللغة، والفكر العفوي، يجب تمييز الظواهر المدركة للأجسام بالمعنى الحقيقي من هذه الزاوية يجري تصور الجسم كأنه مجموعة طبيعية من ظواهر متكافلة كمجموعة مترابطة، أو مستقرة على الأقل مجمع أشياء يوفرها الإدراك “([11]).
أما الجسد فلسفياً، فقد شكل اندماج الجسد في التجربة الوجودية، والفكرية، والتعبيرية المعاصرة منعطفاً فكرياً، وفلسفياً تجاوز من خلاله حدود الثنائية، ليتحول فيه الجسد إلى موضوع فكري وفلسفي في مجال الذاتية بوصفها مقولة من حدود الثنائية، ليتحول فيه الجسد إلى موضوع فكري وفلسفي في مجال الذاتية بوصفها مقولة محددة للذات، والأنا والشخص في الوجود ما يعني حق الجسد في الوجود باعتباره ظاهرة تتحدد بذاتها لا بغيرها، لكن لم يرقى الجسد إلى مستوى الموضوع الفكري مع ظهور فلسفات الذات سواء كانت عقلانية، أو من خلال التصور الفينومينولوجي للجسد كما تبلور مع هوسرل، وميرلوبونتي، وبول ريكور، بهذا المعنى ترتبط فكرة الجسد ارتباطاً وثيقاً، بل حتمياً بضرورة الحداثة الفكرية والثقافية وبالأخص بجوانبها الأكثر ابتعاداً عن العقلانية سواء كانت ديكارتية أو منطقية تحليلية، أي أن التفكير في الجسد مرادفه هو التفكير حول الذات والهوية([12]).وفي هذا السياق سوف نعتمد على الآراء الفلسفية موريس ميرلوبونتي باعتبارها من أهم ما كتب في هذا السياق.
يقول فيلسوف الجسد الفرنسي موريس ميرلوبونتي (1908-1961)، فالمرء يوجد كشيء ويوجد كشعور، أما وجود الجسم بالذات يكشف لنا على العكس صيغة وجود غامضة، إن مهمة الفلسفة تقريباً لم تكن لتوجد جواباً سهلاً مستهلكاً أو تفسيراً كلياً قبل الاعتقاد بالقدر الذي توجه فيه الفكر وتركز مهمتها عبر السؤال والتساؤل وتوسعة وعاء الإشكالية ورفع حجب البداهة عن العقل الإنساني، في الواقع الجسم البشري سمته غير قابلة للإمساك ظاهرياً من وجهة نظر تصورية أو أيضاً رفض بعض اعتباره موضوعاً جديراً لاهتمام الفلسفي.
يعتقد ميرلوبونتي أن الجسم الإنساني هو الخليط الناظم المتصل في الزمان والمكان وهو يشغل الصورة والمادة، مرئي/ غير مرئي، نحاول إمساكه صورياً لكنه يتدرج مادياً لحد التصلب، وهذا ما يزيد من رغبتنا في الفهم والوعي به وتجنب إقصائه أو إغفال الفكر عنه، يرى ميرلوبونتي أن الجسم مركز التفكير الفلسفي، القلب من الكائن ذاته ومن الكائن ذاته لكل فرد في العالم مؤثر ومتأثر، رائي ومرئي، لذلك فإن مفهوم الجسد يشكل موضوعاً كبيراً لطالما أن الجسد يحدد كيفية الوجود الإنساني([13]).
كما يعتبر ميرلوبونتي أن الجسد بمثابة وسيط بين الأنا والآخر وبين الأنا والعالم، فالإنسان لا يعي ذاته إلا من خلال الاعتماد على التجربة الحسية، لذا يدعو ميرلوبونتي إلى أن ينفتح الإنسان على عالم الأشياء اعتماداً على وساطة الجسد، أي أن حضور الإنسان داخل العالم هو حضور متجسد، وبالتالي لم يعد الجسد مجرد شيء من الأشياء أو هو كتلة فيزيو – كيمائية، كما أكدت مناهج علم التشريح وليس مجرد آلة كما ذهب إلى ذلك ديكارت بل إنه قوام الوجود أو ما به ندرك العالم، إنه كيان ووجود قادر على الفعل. يقيم ميرلوبونتي تمييزاً بين بين الجسد الخاص والجسد الموضوعي، فالجسد الخاص هو الجسد المعيش أي كل ما ندركه من الداخل ونعيش من خلاله علاقتنا بالعالم. أما الجسد الموضوعي فهو الجسد كما يدرك ويدرس من الخارج أس كجسم.
إن قيمة الجسد عند ميرلوبونتي تتحدد كأداة لإدراك العالم حيث يصبح الجسد قواماً لوجودنا. أي أن كل العالم يقوم على أساس الجسد، فالوجود ندركه ونحسه ونفكر فيه من خلال الجسد. وبذلك نتبين من خلال تجربة الجسد استحالة الفصل بين الوعي والجسد. أي أن الجسد هو دائم الحضور بالنسبة إلينا فهو قوام وجودنا وشرط إدراك العالم، حيث لا يظهر العالم لإنسان إلا لأنه يتميز بالوعي ولكنه وعي لا يتعالى عن الجسد. إن هذا التصور من شأنه أن يسمح لنا بالمرور من مفهوم الذات المفكرة إلى مفهوم الذات المتجسدة. وهو ما عبر عنه ميرلوبونتي بقوله: ” جسدي هو المحور الذي يدور حوله العالم “.
هكذا ينظر إلى ميرلوبونتي على اعتباره فيلسوفاً أصيلاً لأنه أعاد للجسد مكانته الحقيقية، فهو كما يصرح في كتابه العين والعقل ذلك الحارس الذي يقف صامتاً من وراء كلماتي ومن وراء أفعالي([14])، بواسطته أستطيع أن أكتشف العالم المرئي وأغوص في العالم اللا مرئي، وبه أستطيع أن ألتقي بالآخر وأتفاعل معه بالجسد الخاص لا الجسد الموضوعي، وبالتالي ينبغي عند دراسة الجسد أن نفرق بين الدراسة الوضعية أو العلمية وله وبين الدراسة الإنسانية الفينومينولوجية له([15]).
وأخير نصل إلى استعراض المراحل مر بها الجسد أنطولوجياً حتى وصل إلى صورته الراهنة، وهي كالآتي:
– الجسد مخلوق (سلطة اللاهوت): وهي مرحلة السلطة اللاهوتية المهيمنة على الجسد من الخارج، باعتباره إحدى بصمات الإله في الإنسان، ظاهرة ” الحس – الإيمان ” من وجهة نظر دينية. حيث مثل أثراً لاكتشاف آثار الخالق من جهة التكوين والوظائف والغاية التي يجسدها. إن الإله وهب الإنسان جسداً معجزاً في حياته التي يحملها كنعمة ميتافيزيقية.
– الجسد كائناً (سلطة الموجود الإنساني): هو جسد كما هو متعارف عليه في الحياة والطبيعة، وفكرته هي نتاج اتجاهات الحداثة الغربية باعتباره شيئاً مبدئياً من حيث الوجود والإحساس، وما يتبع ذلك من تنوع واختلاف وفهم ذاتي ووعي وكل العمليات الحسية المصاحبة. فالجسد حسب هذه الرؤية ليس مسكون بالأساطير ولا بالأسرار ولا تحركه قوى ميتافيزيقية مفارقة، لكنه جسم مادي بيولوجي له سياقه ورغباته.
– الجسد الشفاف (سلطة الروحانيات): تحاول اتجاهات روحانية بث أنفاس إنسانية على إيقاع لاهوتي قديم في الجسد. الأمر يجري باعتبار الجسد في الحقيقة أقل أهمية من الروح. وتلك الفكرة تؤكد الثنائيات مثل (جسد / روح)، (عقل / حس)، (جوهر / مظهر). والجسد هنا بديل ظاهري لممارسة السلطة المادية. فالروح هي السلم لمعراج الإنسان بالجسد نحو الأعلى. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الجسد ستحول من كتلة غرائزية إلى مستوى شفاف. أي سيحاول التطهر من الإحساس الداخلي بالخطيئة على افتراض كون الجسد مستودعاً لآثام قديمة([16]).
– نظريات الجسد في الفكر الغربي المعاصر: لم يكن الجسد كموضوع معرفة سوسيولوجية يحظى بمكانة محورية حتى عقد الستينيات من القرن الماضي بل على العكس من ذلك فقد كان حضوره لا يتجاوز الحضور المضمر الافتراضي، أو كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي جون ميشيل بيرتيلوت (1945-2006)كان الجسد مادة سوسيولوجية خافتة وبالرغم من أن الجسد كان يطرح إشكاليات كبرى في اليومي والواقعي وكذلك الطبي، لكن ظل مسكوتاً عنه ولم يلق حقه من البحث والتحليل في السوسيولوجيا الكلاسيكية فالجسد كان الحاضر الغائب في تلك الفترة([17]).أما مفهوم الجسد في السوسيولوجيا المعاصرة أصبح يتحدد انطلاقاً من واقعتين أساسيتين: الأولى واقعة اجتماعية بمعنى أن الجسد هو منتوج اجتماعي بامتياز، أي أن ” علم الاجتماع ينظر إلى الجسد على أنه منتج اجتماعي يتشكل بالقيم والمعايير الاجتماعية السائدة عن الجسد “([18]). أما الثانية فهي واقعة انثروبولوجية على اعتبار أن الجسد يتعلق بحياة الإنسان بشكل عام. إذن، الجسد يتحدد انطلاقاً من الأمور البيولوجية والعضوية والفيزيائية، ولكنه بالرغم من ذلك منتوج اجتماعي. ولكن كيف يتحدد الجسد بوصفه منتوجاً اجتماعياً؟
إن الجسد منذ ميلاده في التاريخ لم يسبق له أن وُجِدَ مجرداً من النظام الثقافي والاجتماعي في اللحظة التي أعلن فيه عن نفسه أنه مختلف عن الحيوانات كان دائماً مرتبط بخلفية ثقافية أي لا وجود لجسد طبيعي حر، فحرية الجسد هي خرافة. وبذلك ننظر إلى الجسد باعتباره حاملاً للثقافة بشكل ملموس. بمعنى أن الوجود التاريخي للجسد هو كان دائماً وجوداً ثقافياً ولا وجود لجسد بريء براءة ثقافية([19]).
تخصص التصورات الاجتماعية للجسد وضعاً محدداً في داخل الرمزية العامة للمجتمع. فهي تُسمي الأجزاء المختلفة التي تؤلفه والوظائف التي تقوم بها، كما توضح علاقاتها، وتنفذ إلى الداخل غير المرئي للجسد لتودع فيه صوراً دقيقة، وتحدد موقعه وسط الكون أو بيئة الجماعة البشرية. إن هذه المعرفة المطبقة على الجسد هي على الفور معرفة ثقافية. فحتى لو امتلكها الشخص ثانيةً بناءً على نمط بدائي، فإنها تسمح له بإعطاء معنى لعمق لحمه، وبمعرفة مما صُنع، وبربط أمراضه أو أوجاعه بأسباب دقيقة ومتفقة مع رؤية مجتمعه للعالم. كما تسمح أخيراً بمعرفة موقعه تجاه الطبيعة والناس الآخرين، عبر نظام قيم ما([20]).
إن تصورات الجسد، والمعارف التي تبلغها تخضع لحالة اجتماعية، ولرؤية للعالم، ولتعريف محدد للشخص في داخل هذه الرؤية. فالجسد بناء رمزي، وليس حقيقة في ذاتها. ومن هنا منشأ عدد لا يحصى من التصورات التي تسعى لإعطائه معنى، وسبب طابعها الغريب والمتناقض، من مجتمع لآخر. ويبدو أن الجسد أمراً مسلماً به، لكن لا شيء في النهاية لا يمكن إدراكه أكثر منه. إنه ليس مطلقاً معلوماً، غير قابل للنقاش، وإنما هو نتيجة بناء اجتماعي وثقافي([21]).
وهكذا يتم النظر إلى الجسد باعتباره نتاج السياق الاجتماعي والثقافي الذي يخوض فيه الإنسان الفاعل، من خلال علاقته بالعالم الخارجي والأنشطة الإدراكية والتعبير عن المشاعر، والخضوع لطقوس التفاعل مع الآخر، على مستوى الحركات والإيماءات، والاعتناء بالمظهر، والتفاعلات الحميمية، والتقنيات الجسدية، وصحة الجسم، والعلاقة بالألم… إلخ. إذن فالتواجد هو أولاً جسدي([22]).
إن الإنسان بدون الجسد الذي يعطيه وجهاً، لن يكون الإنسان على ما هو عليه. وستكون حياته اختزالاً مستمراً للعالم في جسده، عبر الرمز الذي يجسده. إن وجود الإنسان وجود جسدي. والمعالجة الاجتماعية والثقافية التي يعد موضوعاً لها، والصور التي تتكلم عن عمقه المخبأ، والقيم التي تميزه، تحدثنا أيضاً عن الشخص، وعن المتغيرات التي يمر بها تعريفه وأنماط وجوده، من بنية اجتماعية لأخرى. وبنا أن الجسد يوجد في قلب العمل الفردي والجماعي، وفي قلب الرمزية الاجتماعية، فإنه يعد مُحلّلاً له أهمية كبيرة في فهم أفضل للحاضر. بذلك يصبح الشرط الإنساني جسدي، حيث الجسد مادة الهوية علة المستوى الفردي والجماعي، والفضاء الذي يمنح نفسه للنظر والقراءة وتقدير الاخرين. فبفضله نحن معينون، معترف بنا، ومحددون بانتماء اجتماعي، بجنس، بسن، بلون الجلد، وبخصلة فريدة من الإغراء([23]).
أدت هذه النظرة الجديدة غير المسبوقة للجسد إلى تراكم أبحاث كثيرة في الساحة الأكاديمية المعاصرة عن موضوع الجسد وبالأخص في العقود الأخيرة، إذ لم يعد من المواضيع الغريبة والمستهجنة، وذلك في ظل تصاعد اهتمام الجمهور بالجسد مع تزايد دور وسائل الإعلام التي تعج بمواد عن صور الجسد، وعمليات التجميل، وإشهاريات الرشاقة واللياقة، وطرق تحقيق الإثارة، حتى أصبح الجسد ضمن الثقافة المعاصرة يعكس فردانية غير مسبوقة.
بناءًعلى ما سبق يمكننا تعريف سوسيولوجيا الجسد بأنها العلم الذي يهتم بالطرق التي تشكل بها الحياة الاجتماعية أجساد الأفراد وتتشكل بها على اعتبار أن الجسد منتج اجتماعي يتشكل بالقيم والمعايير الاجتماعية السائدة عنه باختصار شديد يمكننا اعتبار سوسيولوجيا الجسد بأنها ” التجذر البدني للفاعل في عالمه الاجتماعي والثقافي “([24]).
إن الجسد هو التوتر الهوياتي للإنسان، للمكان والزمن، حيث العالم يتخذ جسماً. للفكر جسدانية مثلما للجسد ذكاء. وإذا كانت السوسيولوجيا تهتم بالعلاقات الاجتماعية، والفعل المتبادل بين الرجل والمرأة، فإن الجسد دائماً حاضر هنا في قلب كل التجارب([25]). أما عن موقف البنائية الاجتماعية فهي ترى بأن الجسد عبارة عن بناء اجتماعي بشكل كبير ما يعني أنه يتنوع عبر الزمان والمكان وكيف أن العوالم الاجتماعية المتباينة تعطي معناً وتنتج الجسد([26]).
يعتبر إرفنج جوفمان Erving Goffman (1922-1982) أحد أهم المنظرين في النظرية السوسيولوجية المعاصرة التي قدمت أفكاراً بالغة الأهمية حول مفهوم الجسد من خلال توظيف المدخل المسرحي في النظرية التفاعلية الرمزية، حيث يعتبر الجسد البشري ناقلاً للمعلومات التي نود إيصالها للآخرين عن أنفسنا. إضافة إلى ذلك يعتبر كتابه وصمة العار: ملاحظات حول إدارة الهوية الفاسدة · Stigma: Notes on the Management of Spoiled Identity 1963 من أهم المساهمات في تحليل رموز الجسد التفاعلية.
سعى جوفمان إلى ” تقديم الذات في الحياة اليومية “، من خلال تحليل وصمة العار لمشاعر الشخص تجاه نفسه وعلاقته بالأشخاص الذين يسميهم المجتمع ” طبيعيين “. وصمة العار هي نقطة سوداء في حياة الأشخاص غير القادرين على الامتثال للمعايير التي يسميها المجتمع طبيعية، حيث يُحرمون من القبول الاجتماعي الكامل، لأنهم موصومون. كما يجب على الأشخاص المشوهين جسدياً، أو مرضى الأمراض العقلية، أو مدمني المخدرات، أو البغايا، أو المنبوذين لأسباب أخرى … إلخ، السعي باستمرار للتكيف مع هوياتهم الاجتماعية (تعديل هوياتهم الاجتماعية) غير المستقرة. كما يجب عليهم أيضاً أن يواجهوا صورتهم عن أنفسهم يومياً وهي تتعرض للإهانة بالصورة التي يعكسها الآخرون لهم([27]).
لقد تحدد وضع الجسد في التفاعل الاجتماعي([28]) عبر أعماله في السلوك في الأماكن العامة والخاصة وفي عرض الذات. وأكد على أن ترويض الجسد أساسي في الحفاظ على المواجهات. ويتوسط الجسد أيضاً علاقة هوية الفرد الذاتية بالهوية الاجتماعية.
يعد الجسد مركزياً بالنسبة إلى أكثر وحدات نظام التفاعل الأساسية في أعمال جوفمان. كما تبدو أعماله أكثر تأكيداً على الجسد كمكمل للفاعلية البشرية. وجوفمان مهتم أساساً بكيف يمكّن الجسد من التدخل وإحداث فرق في سير الحياة اليومية. غير أن الأفراد المتجسدون ليسوا مستقلين في أعماله وتحليله للمفردات المشتركة في التعبيرات الجسدية (أو الصور المتعارف عليها للغة غير لفظية) التي ترشد إدراك الناس للمظاهر والأداءات الجسدية، وتوضح القيود الاجتماعية التي يتم ترويض الجسد في سياقها، وفق أنماط التنشئة الاجتماعية.
بذلك تتركز مقاربة جوفمان للجسد على جانبين أساسيين([29]): الأول ثمة رؤية في الجسد كخاصية يختص بها الأفراد. حيث يجادل جوفمان بأن الأفراد قادرون على التحكم ومقاربة أداءاتهم الجسدية على نحو يسهل عملية التفاعل الاجتماعي. وهو يظهر في أعمال جوفمان كمصدر يشترط ويمكن من ترويض سلوكياتهم ومظاهرهم. وهنا نشير إلى هامش الحرية الذي يمتلكه الفرد في ظل التنشئة الذاتية، الذي يستطيع من خلاله تحسين مظهرية ملابسه وفقاً للموضة ومتطلبات الحياة العصرية.
فالجسد ليس منتجاً تماماً من قبل القوى الاجتماعية، كما في أعمال فوكو فإن دلالات الجسد لا تخضع لتحكم الأفراد المباشر. والتعبيرات الجسدية شكل متعارف عليه من أشكال الاتصال غير اللفظي وشكل أهم مكونات السلوك العلني. إنه يستخدم من قبل جوفمان بمعنى عام للإشارة إلى اللباس، الحركة، مستوى الصوت، الإيماءات الجسمية، من قبيل التلويح والتحية، ملامح الوجه، والتعبيرات العاطفية العامة.
أما الثاني يقوم الجسد عند جوفمان بدور مهم في توسط العلاقة بين الهوية الذاتية والهوية الاجتماعية. فالدلالة الاجتماعية التي تعزى لأشكال وأداءات جسدية بعينها والتي يتم استيعابها تؤثر كثيراً في إدراك الفرد لنفسه ومشاعره بخصوص قيمته الداخلية – الجسد القابل للترويض – غير أنه تجدر الإشارة إلى أن جوفمان يميل إلى افتراض وجود رابط أوثق مما يجب بين هوية المرء الاجتماعية الافتراضية وهويته الاجتماعية الواقعية. ويحوز تحليل جوفمان لنظام التفاعل أهميةً كبيرة نسبة إلى فهم الجسد القابل للترويض بسبب الرؤى التي يعرضها في كيفية تحكم الأفراد في أجسادهم ومراقبتها. أيضا لديه الكثير من الأفكار القيمة فيما يرتبط بالعلاقة بين الجسد، والهوية الذاتية والهوية الاجتماعية. وعند جوفمان يقوم الجسد بدور في توسط العلاقة بين الهوية الذاتية والهوية الاجتماعية التي تعزى لأشكال سلوكيات جسدية بعينها يتم استيعابها وتؤثر كثيراً في إدراك الفرد نفسه ومشاعره بخصوص قيمته الداخلية([30]).
أما ميشيل فوكو Michel Foucault (1926- 1984)، في سياق الفلسفة المعاصرة نجد أنها حاولت أن تبحث في قيمة الجسد ومكانته، بقدر ما ستهتم بالتأمل والتنظير للجسد في علاقته بالمؤسسات الاجتماعية، خاصة في علاقة الجسد بالسلطة في إطار المجتمع الرأسمالي([31]).
فقد اهتم فوكو بالجسد وبالمؤسسات التي تتحكم فيه، حيث يرى أن الجسد في الحياة المعاصرة أصبح موقع مراقب وخاضع للتصحيح المضني المستمر من خلال الضبط، التنظيم وتطبيق المعرفة. قدم فوكو نظرة جديدة للجسد من خلال طرحه مجموعة من الأفكار المعاصرة حوله، وعلى العكس من ميرلوبونتي لم يعرض فوكو جسداً واحداً بل أجساداً متنوعة: مريضة وصحية، جسداً برجوازياً، وجسد الطبقة العاملة، جسداً مفرداً، وعدة أجساد، إنها أجساد الساكنة، كل هذه الأجساد ستدخل في علاقات سلطوية، وستنغرس ضمن مجال سياسي([32]). صحيح أن الجسد قد تحرر خلال فترة الحداثة من وصاية الروح والمسحية، إلا أنه أصبح اليوم مسخراً لخدمة الليبرالية، ومستغلاً ومستلباً من طرف المجتمع الرأسمالي البرجوازي، لقد أضحى أداة طبيعية للعمل والزيادة القصوى في الإنتاج والاستهلاك بإيعاز من المؤسسات الرأسمالية([33]).
يذهب فوكو إلى قناعة مفادها أنه تم توظيف الجسد في لعبة السلطة أي ” كموضوع وهدف للسلطة “([34])، وعندها تساءل كيف يرتبط الجسد البيولوجي بالسياسة كتقنية لتنظيم الواقع الإنساني؟ بناءً عليه حاول فوكو إيجاد تصور وقراءة جديدة لمفهوم الجسد، وهو تصور يستند على تنزيل الجسد تنزيلاً مباشراً في المجال السياسي.
بين فوكو في كتابه “ المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن ” 1975 إلى أي مدى يتم توظيف الجسد في لعبة السلطة، حيث بحث في الأسباب التي جعلت من الجسد ممنوعاً، ومجبراً على أن يكون صامتاً، وذلك من خلال رفع القناع عن مختلف الممارسات التي تفرضها لسلطة على الجسد واستعباده سياسياً.
تمحور التصور الذي قدمه فوكو حول الكشف عن آليات تطويع السلطة للجسد سواء كانت عملية التطويع هذه مادية أو رمزية تجاه الجسد، ويعبر فوكو عن هذا الوضع بقوله: ” بيد إن الجسد يتنزل أيضاً تنزيلاً مباشراً في مجال سياسي، وعلاقات السلطة تمارس عليه هيمنة مباشرة، إنها تستثمره وتقومه وتنكل به وترغمه على ضروب من الأعمال وتكرهه على الشعائر بضروب من الإشارات “. (….) ” إن الانضباط يصنع هكذا أجساد خاضعة ومتمرسة، أجساداً ” طيعة “. فالانضباط يزيد من في قوى الجسد ( بالمعنى الاقتصادي للمنفعة) ويقلص من هذه القوى بالذات (بالمعنى السياسي للطاعة) “([35]). مثل هذه الممارسات التي يخضع لها الجسد تعبر بشكل صريح عن الاستثمار السياسي للجسد واستخدامه الاقتصادي بوصفه قوة إنتاج.
بذلك يعتقد فوكو أن خطاب السلطة يقيد الجسد ويعتقله، والبحث في الخطاب هو بحث في الجسد، لأن الجسد موطن ظهور نظام الخطاب وفعل السلطة في الجسد، فالسلطة تؤدي مهامها عبر ما ينطق به خطابها المؤسس لها، وتمتلك السلطة الجسد من خلال منطوق الخطاب، إن كان في الخطاب من لذة فإن الجسد يتفنن بها، وإن كان به إقصاء ونفي فإن الجسد يُعاقب ويُحاسب([36])، ويُعذب ” فالتعذيب يلعب وظيفة سياسية إنه احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعد جرحها لحظة “([37]). وذلك من خلال الدفع به نحو مؤسسات قهرية (المعزل، السجن، الجيش، المستشفى، المدرسة…)، خُوِّلت لها مهمة إقصاء الجسد المختلف، من أجل عزله عن باقي الأجساد السوية والسليمة والمندمجة في الحياة العامة، في ظل المسموح به والسائد([38]). وهكذا تسعى هذه المؤسسات إلى مراقبة الجسد وضبطه وتوجيهه بطريقة تجعل الأفراد يقبلون بشروط التحكم، كما تسعى إلى تحويل الجسد إلى طاقة إنتاج، وتعمل على إعدام كل إمكانياته ومؤهلاته التي من شأنها التشويش على هذه المهمة([39]).
لاحظ فوكو أن البرجوازية التي حملت شعار التغيير، وتصدت بأفكارها التنويرية للتقاليد الإقطاعية والسياسية، قد حررت الجسد بالفعل من وصاية الروح واللاهوت والمسيحيين، وأزاحت عنه غبن القرون الوسطى، لكنها بالمقابل سخرته بشكل لا يقل استبعاداً في خدمة ليبيرالية متوحشة عمياء، لم تدخر جهداً في ابتكار أساليب متقدمة لاستغلال الجسد واستثمار قواه داخل المعمل وخارجه، في سبيل استتباب نمط معين من الإنتاج والاستهلاك، واعتماد أسلوب حياة يعمّق اغتراب الجسد واستلابه. وفيما يتعلق بالجسد والتحولات الاجتماعية نجد أن فوكو فطن منذ مؤلفاته الأولى – وإن لم يشر إلى ذلك صراحة – بأن الجسد كان دائماً وما يزال واجهة تسميها مختلف التحولات الاجتماعية، وصحيفة ينعكس عليها نمط علاقة الأفراد فيما بينهم، ورؤيتهم للعالم والأشياء. فالانشغال بالسلوك الفردي، كان ذريعة لتعرية الوجوه الخفية لأخطبوط السلطة، والكشف عن الاستراتيجية المتبعة للسيطرة على الجسد وفق نظام من الحقائق المجردة، الضابطة لحالته أثناء المرض والصحة، العقل والجنون، اللذة والألم، الجريمة والعقاب. وإن كانت ” أنسنة منظومة العقاب” تُعد فتحاً حضارياً جديداً بسبب كونها نوعاً من أنواع السيطرة الناعمة التي ترتكز على مراعاة ” علم النفس ” في إجراءات العقاب لفهم الفعل وفاعله، وكذلك تهذيب الإجراءات العقابية نفسها، إلا أن هدف السلطة يظل هو السيطرة على الجسد وضبطه وإخضاعه للمقاييس والمعايير في إطار تطويع الجسد ومراقبته دون تعذيبه مادياً. وهذه العمليات تتحقق على نحو نموذجي في تنظيم مؤسسات السجن والجيش والمدرسة، وفيها تعمل مؤسسات وأجهزة الدولة كلاً في مجالها وتخصصها من خلال ” ميكروفيزياء السلطة ” على إخضاع الجسد والسيطرة عليه سياسياً([40])، وفي هذا الصدد يقول فوكو: ” إن الأمر يتعلق، نوعاً ما، بمكيروفيزياء السلطة تستعمله الأجهزة والمؤسسات، ولكن حقل صلاحه يقع، نوعاً ما، بين سير الأعمال هذه وبين الأجسام بذاتها بما فيها من مادية ومن قوى “([41]).
بالمقابل، يتحدث بيير بورديو Pierre Bourdieu (1930-2002) في هذا الإطار عن رأس المال الفيزيقيPhysical Capital الذي يشمل أشياء مثل لون البشرة، شكل الجسد، العمر، والكفاءات الفيزيقية مثل البراعة في الألعاب الرياضية والجمال.
وقد أسهم بورديو إسهاماً فعالاً في ظهور سوسيولوجيا الجسد وذلك في سياق تحليلاته للمفاهيم الجديدة التي قدمها لعلم الاجتماع، مثل الممارسة، الهابيتوس، والأشكال المختلفة لرأس المال، وعلاقة كل ذلك بالسلطة الرمزية للجسد([42]). بمعنى أدق، يشير مفهوم بورديو للجسد بوصفه نوعاً من رأس المال الفيزيقي إلى شيوع عملية تسليع الجسد، وهو موقف يربط هويات البشر بالقيم الاجتماعية التي يحصلون عليها بسبب حجم وشكل ومظهر أجسادهم. إنه يجمع بين هذا وتحليله لكيف أن كثيراً من الصراعات التي كانت تحدث بين الأجساد أصبحت تحدث الآن داخل الفرد الجسدي بسبب متطلبات التحكم في العواطف. إن هذه العمليات تجعلنا نعيش وحيدين مع أجسادنا، بحيث نبذل المزيد من الجهود في مراقبتها وترويض أمرها والعناية بمظهرها، مع فقد الرضا الذي كنا نتمتع به بسبب الانغماس في الملذات وإشباع حاجات الجسد([43]).
وفي علاقة الجسد بالطبقة يرى بورديو أن الجسد يمثل أحد الأبعاد المهمة في تحليل الطبقة، إذ إنه موقع أو فضاء تدون عليه الممارسات الثقافية لمختلف الطبقات الاجتماعية، فكل طبقة- وكل طبقة فرعية تمتلك نشاطاً مميزاً خاصة في المجال الرياضي يعرض سماتها الثقافية والاقتصادية. إن الجسد، كما يرى بورديو يمكن اعتباره حاملاً للتمايزات الطبقية. ومن المهم أن يكون واضحاً أن بورديو لا يتجاهل الجسد العضوي وإنما يؤكد أن هذا الجسد العضوي الذي يسميه المادة الخام تقوم القوى الطبقية بتشكيله وإعادة صياغته، بحيث يصبح الجسد جزءاً من رأس المال الثقافي للفرد، ويصبح مصدر من مصادر للقوة أيضاً([44]).
وهكذا تصبح – حسب بورديو- الأجساد وحدات تكتمل وتتشكل من خلال تفاعلها في الحياة الاجتماعية وتطبع عليها سمات الطبقة الاجتماعية، فهي تتطور الأجساد عبر التفاعل بين موضع الفرد الاجتماعي وبيئته وذوقه، وتعمل هذه العوامل على تطبيع وتثبيت العلاقات المختلفة التي تربط الجماعات داخل المجتمع بأجسادهم كما أنها تعتبر أساسية للاختيارات التي يتبناها الأفراد في مجال الحياة الاجتماعية كافة([45]).
خلاصة القول، إن الجسد الإنساني لیس معناه المادة والشكل وحسب فهذا التسطیح المعرفي لیس یوصلنا إلى شيء، إلا أن نفهم كیف تقوم تلك الإیدیولوجیات والسیاسة والثقافة والمجتمع والتقنیة مجتمعة بترك نقوشها علیه أو كشف تلك الأسالیب السلطوية الإكراهية المتدخلة فیه وبه، فالجسد لیس كیاناً مجرداً أو بنیة ساكنة فهو مجال نشط دینامي یختبرنا من خلال تحولاته وتغیراته، فالجسد لم یكن یوماً صامتاً فبلغة علوم اللسان هو نص یحمل معاني ثقافیة واجتماعية تستدعي استقراءه دائماً وتفكيكه. علینا أن نهتم بهذا المنظور التحليلي الدلالي والسوسيولوجي والانثروبولوجي لنقترب أكثر من فهم الظواهر الإنسانیة المعقدة، فهويتنا الفردية والجنسية والجندریة لها علاقة وثیقة بحقل تشابك العلاقات السلطوية حوله، فالذكورة والأنوثة لعبة في علامة الجسد وهذا ما یكون مهماً في الدراسات الثقافية الجسدية([46])، وبالأخص في الآونة الأخيرة مع انتشار ظاهرة التحول الجنسي في العالم الغربي تعبيراً عن رفض السياق الفطري للجسد كموقف احتجاجي موغل بتقديس قيم الحرية الفردية المتطرفة إلى حد الأنانية والتفنن في بالبحث عن اللذة والمتعة مما ينذر بتدمير استمرار الجنس البشري.
وهكذا تكمن أهمية الجسد كمعطى أمام الملاحظة السوسيولوجية بغرض فهم وتفسير ظواهره في بعدها الاجتماعي، في كونه (الجسد)، مادة أولية تفصح عما يعتمل في الذات الإنسانية، باعتبارها ذات اجتماعية أولاً وأخيراً وهذا ما أعطى للسوسيولوجيا كمبحث علمي يتوخى الموضوعية في رصده للظواهر الاجتماعية، مشروعية التفكير في الجسد كمعطى وموضوع للبحث السوسيولوجي، إذ تُعد سوسيولوجيا الجسد فرعاً من فروع السوسيولوجيا التي اختصت بفهم الجسدية الإنسانية كظاهرة مجتمعية وثقافية، باعتبار الجسد مادة للرمز، وموضوعاً للتمثل والمتخيّل، فكل إشارات الإنسان البدنية خاضعة لعدد من الأنظمة الرمزية، فمن الجسد تنبثق وتتناثر العلامات والمعاني التي تؤسس للتواجد الفردي والجماعي([47]).
وفي الدين الإسلامي يعتبر جسد الإنسان أمانة عنده، يجب المحافظة عليه، فالمسلم منهي عن كل ما يؤدي به إلى الضرر والهلاك قال تعالى: ] وَلا تُلقوا بِأَيديكُم إِلَى التَّهلُكَةِ وَأَحسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ [ {البقرة:195}، كما يجب عليه المحافظة على نظافته والعناية به، وتحري أسباب الوقاية من الأمراض التي قد تُصيبه إن أهمل جسده، ولم يعتنِ به، وبنظافته قال تعالى: ] إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [ {البقرة:222}، بالإضافة إلى ذلك يجب عليه عدم إرضاء النفس وإشباع الرغبات بالملذات على حساب الجسد وصحته قال تعالى: ] وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [ {الأعراف:31}، كما يجب عليه عدم إهدار قوته، بالإفراط في الملذات المحرمة، وإرهاق الجسد بكثرة السهر بالأعمال الشاقة، لإشباع رغبة جمع المال وتوفيره، فهذا حق من أهم الحقوق للجسد قال تعالى:] وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [ {النساء:29}، ومن حق الجسد على المسلم أيضاً فعل ما يقويه ويساعده على توفير الطاقة له، كممارسة الرياضة بأنواعها، ومراعاة أنواع الرياضة التي تناسب كل شخص، ليحافظ المسلم على جسده، ويكون بعيداً عن الأمراض والهُزال. ومعنى ذلك أن الإسلام سعى إلى تحقيق التوازن بين الجانب الجسدي والروحي للإنسان.
د. حسام الدين فياض
([1]) ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن، مركز الانماء القومي، بيروت، ط1، 1990، ص(34).
([2]) جون روب وأوليفر ج. ت. هاريس: تاريخ الجسد – أوروبا من العصر الحجري القديم إلى المستقبل، ترجمة: جمال شرف، الرافدين، بيروت، ط1، 2018، ص(16).
([3]) Frantz Fanon: Black Skin, White Masks, Translated by: Charles Lam Markmann, Forewords by: Ziauddin Sardar and Homi K. Bhabha, London, Pluto Press, new edition, 2008, p.(88).
([4]) محمد الحامدي: مقدمة في سوسيولوجيا الجسد: تقاطع الثقافات وتنازع الهويـات، مجلة إضافات، العدد: 40، لخريف 2017، (بتصرف).
([5]) سامي محمد عبد العال: فلسفة الجسد الافتراضي – تحولات العلاقة بين الجسد والسلطة، كلية الآداب، قسم الفلسفة، شعبة الدراسات النفسية والاجتماعية، جامعة الزقازيق، ط1، 2014، ص(1).
([6]) فؤاد إسحق الخوري: إيديولوجيا الجسد – رموزية الطهارة والنجاسة، دار الساقي، بيروت، ط1، 1997، ص(1).
([7]) المهدي أكزول: الجسد رأسمالاً احتجاجياً: تأملات سوسيولوجية في الدوافع الذاتية للاحتجاج، مجلة المقدمة للدراسات الإنسانية والاجتماعية، المجلد: 05، العدد: 02، 2020، ص(37).
([8]) ابن المنظور: لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، ص(622).
([9]) إبراهيم مدكور: المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983، ص(61).
([10]) عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الأول، ط1، 1984، ص(439).
([11]) أندريه لالاند: موسوعة لالاند A-G، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1993، ص(231).
([12]) فريد الزاهي: الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، أفريقيا الشرق، بيروت، ط1، 1999، ص(24-26).
([13]) خطاب خطاب ومولاي مراد الحاج: الجسد موضوعاً للدراسات الثقافية: استقراء لأهم الإشكالات والمنجزات، مجلة آفاق علمية، المجلد: 13، العدد: 05، الجزائر، 2021، ص(520-521).
([14]) موريس ميرلوبونتي: العين والعقل، ترجمة: حبيب الشاروني، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط1، بدون تاريخ، ص(13).
([15]) لاتي حاج أحمد: مكانة الجسد في الفلسفة الغربية (موريس ميرلوبونتي)، سلسلة الأنوار، المجلد: 12، العدد: 01، جامعة وهران، 2022، ص(353).
([16]) سامي محمد عبد العال: فلسفة الجسد الافتراضي – تحولات العلاقة بين الجسد والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(27-29-31).
([17]) خديجة تباني: سوسيولوجيا الجسد عند بيير بورديو – الجسد والرياضة وسلطة الهابيتوس، سلسلة الأنوار، الجزائر، المجلد:13، العدد: 01، 2023، ص(162).
([18]) انظر عمر عبد الجبار محمد أحمد: دراسات في علم اجتماع الجسد، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، ط1، 2020.
([19]) عبد العزيز احربيل: سوسيولوجيا الجسد (1) قراءة دلالية في مفهوم الجسد، الحوار المتمدن، العدد:4687، 10/01/ 2015. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=450008
([20]) دافيد لوبروتون: انثروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة: محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1997، ص(11).
([21]) المرجع السابق نفسه، ص(12).
([22]) دافيد لو بروتون: سوسيولوجيا الجسد، ترجمة: عياد أبلال وإدريس المحمدي، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2013، ص(15).
([23]) المرجع السابق نفسه، ص(7).
([24]) المرجع السابق نفسه، ص(176).
([25]) المرجع السابق نفسه، ص(8).
([26]) جون روب وأوليفر ج. ت. هاريس: تاريخ الجسد – أوروبا من العصر الحجري القديم إلى المستقبل، مرجع سبق ذكره، ص(53).
· Erving Goffman: Stigma. Notes On The Management Of Spoiled Identity, Simon & Schuster Inc, New York, First Touchstone edition, 1986.
([27]) https://www.perlego.com/book/779051/stigma-notes-on-the-management-of-spoiled-identity-pdf
([28]) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: دومينيك بيكار: طقوس التفاعل عند إرفنغ غوفمان، ترجمة: إبراهيم أمغار، مركز أفكار للدراسات والأبحاث، المغرب، 2020.
([29]) عبد الرحمان جنيدي: سوسيولوجيا الجسد والحجاب، المجلة العرية للدراسات الانثروبولوجية المعاصرة، المجلد: 2، العدد:01، 2016، ص(162).
([30]) المرجع السابق نفسه، ص(163).
([31]) إدريس الدعيفي: إشكالية الجسد: قراءة تاريخية في الخطاب الفلسفي، مجلة تنمية الموارد البشرية للدراسات والأبحاث، العدد:16، المركز الديمقراطي العربي، برلين (ألمانيا)، 2022، ص(105).
([32]) يحياوي عبد القادر: الجسد كسلطة عند ميشال فوكو، مجلة الكلمة، 06/06/2019. http://kalema.net/home/article/print/1451
([33]) إدريس الدعيفي: إشكالية الجسد: قراءة تاريخية في الخطاب الفلسفي، مرجع سبق ذكره، ص(105).
([34]) ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن، مرجع سبق ذكره، ص(158).
([35]) انظر المرجع السابق نفسه، القسم الثالث: الانضباط، الفصل الأول الأجساد الطيعة، ص(157-181)، ص(159).
([36]) يحياوي عبد القادر: الجسد كسلطة عند ميشال فوكو، مرجع سبق ذكره.
([37]) ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن، مرجع سبق ذكره، ص(82).
([38]) يحياوي عبد القادر: الجسد كسلطة عند ميشال فوكو، مرجع سبق ذكره.
([39]) إدريس الدعيفي: إشكالية الجسد: قراءة تاريخية في الخطاب الفلسفي، مرجع سبق ذكره، ص(106).
([40]) يحياوي عبد القادر: الجسد كسلطة عند ميشال فوكو، مرجع سبق ذكره.
([41]) ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن، مرجع سبق ذكره، ص(64).
([42]) حسني إبراهيم عبد العظيم: الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي،: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو، مجلة إضافات، مركز دراسات الوحدة العربية، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، بيروت، العدد: 15، صيف 2011، ص(67).
([43]) كرس شلنج: الجسد والنظرية الاجتماعية، ترجمة: منى البحر ونجيب الحصادي، دار العين، القاهرة، ط1، 2009، ص(35).
([44]) حسني إبراهيم عبد العظيم: الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي،: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو، مرجع سبق ذكره، ص(67).
([45]) عبد الرحمان جنيدي: سوسيولوجيا الجسد والحجاب، مرجع سبق ذكره، ص(161).
([46]) خطاب خطاب ومولاي مراد الحاج: الجسد موضوعاً للدراسات الثقافية: استقراء لأهم الإشكالات والمنجزات، مرجع سبق ذكره، ص(529-530).
([47]) دافيد لو بروتون: سوسيولوجيا الجسد، مرجع سبق ذكره ، ص(15-16).
______
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.