التنويريتربية وتعليمسلايدر

النزعة الروحيّة للتربية في مواجهة الحضارة الماديَّة

ستخسر الحضارة المادّيّة كلّ شيء إذا فقدت روحها، وستصبح البشريّة مهدّدة بالفناء في ظلّ جسد بلا روح، ويقيناً أنّه عندما تصبح الحضارة بلا قلب، فإنّها ستفقد أهمّ مقوّمات الحياة” الفيلسوف الهنديّ طاغور

**************

1- مقدمة:

قديمة هي قدم الزمن الإنسانيّ نفسه فكرة الرؤية الروحيّة للعالم التي تجلت صورتها الأبهى في العهد الإغريقيّ القديم، في فلسفة أفلاطون، واحتلت مكانتها السامقة في البوذية وسائر الفلسفات المثالية والديانات الروحية الشرقيّة القديمة كالطاوية والبوذيّة والزرادشتيّة. ويعدّ الاتّجاه الروحيّ في التربية من أقدم الاتّجاهات التربويّة في تاريخ الفكر التربويّ منذ أقدم العصور حتّى اليوم. وقد شهدت النظريّات الروحيّة في التربية غياباً كبيراً منذ بداية القرن السادس عشر ولاسيّما في مرحلة الحداثة والنهضة الأوروبّيّة الغربيّة بمختلف معانيها وتجلّياتها.

وبعد غفوة طويلة في أحضان الزمن الحداثيّ، بدأت النـزعة الروحيّة في التربية تسجّل حضورها المظفّر، ولاسيّما في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وقد قوبلت هذه العودة المظفّرة بدرجة عالية من الحفاوة والتكريم الّذي يبديه عدد كبير من الباحثين والمفكّرين لمرحلة ما بعد الحداثة. وهناك تنبّؤات تربويّة ترى بأنّ النـزعة الروحيّة في التربية ستكون إحدى أهمّ سمات الألفيّة الثالثة.

والسؤال الّذي يطرح نفسه بقوّة في هذا المستوى، هو: ما مبرّرات هذا الحضور المميّز للاتّجاه الروحيّ في التربية، وفي مجال الحياة الفكريّة بصفة عامّة؟ والإجابة عن هذا السؤال ليس على هذا القدر من الصعوبة والتعقيد، لأنّ هذا الحضور المكثّف والطقوسيّ للنزعة الروحيّة يأتي استجابة للحاجات الإنسانيّة المتنامية إلى إحياء الجوانب الذاتيّة والأخلاقيّة الّتي دمّرتها الحضارة المادّيّة، عبر تسويق الإنسان واختزاله إلى أبعاده المادّيّة المبتذلة، وحرمانه من الطابع الإنسانيّ الغائيّ لوجوده وكينونته. إنّها مسألة البحث الفلسفيّ الخلّاق عن معاني الحياة الإنسانيّة وعن جوهرها وغاياتها.

فالكائن الإنسانيّ ما زال يطرح تساؤلاته الوجوديّة الأبديّة الأزليّة وهي: هل للحياة معنى؟ ما الغاية من الحياة؟ ما مآل الإنسان بعد الموت؟ هل الإنسان مجرّد كينونة مادّيّة؟ أم أنّه كيان روحيّ في جوهره؟ هل هناك من قوى كونيّة عليا تحدّد مصيرنا والغاية من وجودنا؟

وهذه هي الأسئلة الجوهريّة الّتي تشكّل منطلق النظريّات الروحيّة في الفلسفة والتربية. وعن هذه الأسئلة تسعى الروحانيّة الجديدة لتقديم إجابات تتّسم بالوضوح والأصالة. ومن هنا تنطلق الحركات الروحيّة لتبدّد الغموض الّذي يلفّ هذا السؤال الوجوديّ. وهنا يكمن هدف التربية الروحيّة في تكييف الإنسان مع هذه الحقيقة الروحيّة الّتي تقيم على أنّها حقيقة صوفيّة وميتافيزيائيّة.

تنطلق النظريّات الروحيّة في التربية من فكرة مركزيّة قوامها أنّ الحياة تمتلك بالإضافة إلى بعدها المادّيّ بعداً غير مادّيّ يسمّى غالباً الروح والوعي الكونيّ. وتركّز على مفهوم الوجود المتسامي Transcendance، أي على وجود عالم آخر علويّ قدسيّ آخر يتجاوز حدود إمكانيّات البشر وطاقاتهم، وهو عالم يجب أن ندركه ونؤصّله في أعماقنا ووجودنا. وتؤكّد هذه النظريّات بالمطلق على حالة الوحدة بين عالم الإنسان والعالم المتسامي، فالحقيقيّة تشتمل في ذاتهما على خصوصيّتها الروحيّة، وهذه الخصوصيّة لا يمكنها أن تكون خارجيّة أو متعالية كما هو الحال في كثير من الأديان.

وتركّز الروحانيّة المعاصرة اليوم على مركزيّة الوعي الكونيّ بوصفه الشكل الأكثر سموّاً وأهمّيّة في مجال الوعي، وهو يتميّز بشعور الانتماء إلى الكون بواسطة مشاعر الفرح والسعادة وإحساس الخلود والسموّ الأخلاقيّ، إنّه حالة من النشوة الّتي تحدث للإنسان على نحو مفاجئ ووقتيّ، وهي تنتهي بالإنسان إلى حالة وعي وعرفان تبعث فيه إرادة التغيير المستمرّ.

2- النزعة الروحيّة ضدّ الحضارة الاستهلاكيّة:

 لعبت النـزعة الروحيّة دوراً كبيراً في نشر وتعميم فكرة الثقافة الروحيّة في مواجهة مجتمع مسحور بقيّمه الاستهلاكيّة، وذلك من أجل رؤية جديدة سامية، ومن أجل تصوّر جديد للعالم، يستند إلى قيم روحيّة سامية على مرّ العصور.

فالنـزعة الروحيّة بصورتها الفلسفيّة العامّة تضع الإنسان في مواجهة التحدّي الحضاري الّذي يسحق وجوده ويمزق كيانه الروحي. فالحضارة الإنسانيّة الأخلاقية تتهاوى وتتساقط تحت مطارق عالم مادي متوحش أناني فقد حسه الأخلاقي وانغمس في التيارات الأنانية الاستهلاكية الماجنة، وبدأ يتحول إلى عالم سحاقي مفتون بقيم الابتذال التي تتمثل اليوم في أبشع مظاهرها الوحشية المخلة بالأخلاق والقيم كالمثيلة الجنسية التي يروج لها بقوة أكثر المؤسسات العالمية فتكاً وبطشاً.

وفي مواجهة هذا العالم المسحور بالنفاق والسادية والعنف والتوحش الأخلاقي انبرى عددا من المفكرين لتأصيل رؤية روحيّة للعالم يمكنها أن تعالج المشكلات الوجودية الّتي تعانيها الإنسانيّة. فالرأسمالية الليبرالية المتوحشة التي تعتمد على استغلال الإنسان وتدميره أخلاقيا ووجوديا، هي الّتي توجد في أصل المشكلات الكبرى للمجتمعات الإنسانيّة. لقد اعتقد الناس ردحا من الزمن أنّ التقدّم التقنيّ والصناعيّ هو الحلّ الأمثل والوحيد لمشكلات الحياة. وكان الجميع مسحوراً بالتقدّم الصناعيّ ومنوّما بسحر هذا التقدّم التقانيّ الّذي تشهده الإنسانيّة المعاصرة. وكانت الصدمة في النهاية موجعة ومخيفة ومؤلمة، لأن هذه التقدم ذاته وضع الإنسانية في أكثر دوائر الوجود اغتراباً وسلباً وقهراً وتدميراً. وقد أدرك الجميع في النهاية أن التطور الصناعيّ يعكس ثقافة الهيمنة؛ هيمنة الإنسان على الإنسان والعالم، ويفرض على الإنسانية نسقا من التحديات الوجودية التي يتمثل بعضها في الآتي: – النظريّة الوضعيّة للمعرفة.

– الانحدار الأخلاقي الهائل في المجتمعات الإنساني: المثلية الجنسية مثالا.

-السيطرة على الطبيعة وتدميرها دون أي رادع أخلاقي.

-انتشار الحروب واستمرارها والتهديد بالفناء البشري ( حروب نووية).

– تدمير البيئة والمناخ الذي يهدد بفناء البشرية.

– التزاوج الرهيب بين التقدّم العلميّ والتقدّم التكنولوجيّ ضد إنسانية الإنسان (الإنسان أصبح حقل تجارب)

– هيمنة مجتمع الاستهلاك وانحدار الأخلاق في مختلف المستويات.

-إيمان المفجع بلا حدود بأهمّيّة التقدّم المادّيّ.

-فردانيّة المجتمع وتنامي أهمّيّة المصالح الشخصيّة.

– هيمنة المصالح الفرديّة على المصالح الجماعيّة والعامّة.

وتلك هي المشكلات الّتي تسعى النـزعة الروحيّة إلى إيجاد الحلول المناسبة لها.

3- المبادئ الأساسيّة للتربية الروحيّة:

تأخذ التربية الروحيّة طابعا روحياً عرفانياً صوفيّاً وجدانياً. وهي تطرح ثقافة تقوم على أساس رؤية روحيّة للعلاقة بين الإنسان والطبيعة والعالم. فالعالم هو حالة علويّة مقدّسة ونحن نشكّل جزءاً من هذا العالم ومن قيمه الروحيّة السامية. ولأنّ الإنسان يمتلك وعياً كونيّاً فإنّ هذا يعطيه إمكانيّة التواصل مع الحقيقة الروحيّة غير المرئيّة، ويستطيع أن يمارس تجربة تأملية صوفيّة عرفانية. ويمكن أن نحدّد بعض السمات الأساسيّة لنظريّات التربية الروحيّة:

التأكيد على أهمّيّة التكامل بين مختلف تجلّيات الوجود الفيزيائيّة، والعاطفيّة، والعقليّة، والروحيّة.

التأكيد على الأبعاد الروحيّة للحياة الإنسانيّة بمختلف معانيها وتجلّياتها وأسبابها.

– تأكيد القيم المعنويّة الأساسيّة الّتي تتمثّل في الحبّ واحترام الحياة، ومن ثمّ تأصيل هذه القيم في عمق التجربة الداخليّة للإنسان وفي أعمق طبقات الوعي ومستوياته لديه.

-تؤكّد هذه النظريّات على نسق من الأهداف الحياتيّة والّتي تتمثّل في المشاركة الواعية في تحقيق نماء الفرد وفي عمليّة تطوّر الجميع، أي على نموّ الفرد من خلال المجتمع، وتحقيق التكامل بين مختلف هذه القيم.

-كما أنّها تؤكّد على أهمّيّة الأهداف المجتمعيّة الّتي تتّجه نحو دعم وتعزيز القدرات الكامنة والملازمة للفرد.

وهذا يعني أنّ التربية الروحيّة تنطلق على أساس رؤية فلسفيّة للعالم متكاملة في مختلف مستوياتها وهي تعمل على تجاوز حدود المفارقات والتناقضات.

ومن المهم أن التربية الروحانية تأتي لتأكيد هوية الإنسان الروحية في مواجهة الابتذال الحضاري المعاصر.  وفي هذا السياق يرى المفكرون الروحانيون أنّ الحداثة الغربيّة تعاني من الضعف والانهيار والتصدع الأخلاقي وترفض مختلف المظاهر التي ترتبط بالروح والعمق الإنساني. فمن الصعوبة بمكان- من الوجهة الحداثيّة – الموافقة على معاني القداسة وتجليات الروح في الكون. وعلى خلاف هذه المفارقة الحداثيّة فإنّ الروحانيّين يرون أنّ المقدس يمكنه أن يعرب عن نفسه في مختلف مظاهر الوجود ، فالشيء يمكنه في دورته القدسيّة أن يتحوّل إلى شيء آخر دون أن يفقد هويّته، ويستطيع أن يستمرّ في ممارسة دوره داخل وسطه الكونيّ الشامل. إذ يمكن للطبيعة أن تتكشّف عن طابعها القدسيّ الكلّيّ، أي: يمكنها أن تكون قدسيّة بالكامل كما يعتقد أصحاب النزعة الروحيّة.

فالتربية الروحيّة تعود إلى فلسفات تاريخيّة اتّسمت بطابع الخلود والشمول. ويمكن أن نلاحظ خيوطها في الأساطير التقليديّة للمجتمعات البدائيّة، وذلك في مختلف الحضارات الإنسانية. ويمكن أن نجد هذه الأشكال المتطوّرة لهذه الفلسفات في داخل كلّ نسق من أنساق الأديان الكبرى. إنّ القاعدة الأساسيّة لهذه الفلسفات تشكّل قاسماً مشتركاً مع مختلف الأديان منذ بداية التفكير الفلسفيّ.

فالتطوّر يمتلك غاية بذاته وهي غاية تتأصّل في كلّ إنسان. ومن هذه النقطة ينطلق هارمان 1972 ليسجل ثلاث ملاحظات هامّة يمكنها أن تجعلنا نفهم بوضوح هذه النظرة السامية للكون.

كلّ فرد يمكنه – إذا شاء – أن يصل إلى مستوى الوعي الكونيّ. فالإنسان يمكنه أن يصل إلى وعي كونيّ وأن يمتلك معرفة أساسيّة للعالم والعقل الإلهيّ.

-إنّ إبداع شخص ما ونماءه ومشاركته في عمليّة التطوّر هي ردود فعل في النهاية تعود ما يسمّى بالروح العليا.

إنّ الفرضيّات الأساسيّة للعلوم الوضعيّة لها علاقة واحدة ومشتركة مع الفلسفات الخالدة مثل الميكانيك والفيزياء النسبيّة فهي تشكّل جزءاً من نظريّة أكثر عموميّة وشموليّة وكلّ منهما يكمّل الأخرى دون تناقضات أو مفارقات.

فالفلسفات القدسيّة قديمة وجديدة في آن واحد وقد ارتبطت بنظريّات مثل التسامي عند أميرسون والتطوّر الخلّاق عند برغسون. إذ أنّه يمكن اليوم تلقّي دروس في مجال الفلسفات الشرقيّة حول البوذيّة والزرادشتية والطاوية. وبالتّالي فإنّ هذه الفلسفات كانت محاصرة سابقاً ببعض الحواجز والحدود.

وباختصار فإنّ الكائن الإنسانيّ يتميّز بوعيه وبالتّالي فإنّ هذا الوعي الّذي نجهل كلّيّته وطاقاته يمكنه أن يصل إلى حدود الكشف والتسامي.

4- نظريّة ماوسلو Maslaw:

شهد تفكير ماوسلو ثلاث مراحل أساسيّة هي: المرحلة السلوكيّة ثمّ المرحلة الإنسانيّة وأخيراً المرحلة الميتافيزيقية. لقد أعلن ماوسلو عن نفسه سلوكيّاً في أبحاثه الأولى، ولكن مع ولادة طفله الأوّل انتقل من السلوكيّة إلى النزعة الإنسانيّة في التربية. وأدرك بعد ولادة طفله الأوّل أنّ التربية يتوجّب عليها أن تعزّز الحرّيّة الذاتيّة عند الإنسان، أي يجب عليها أن تمكّن الفرد من أن يصبح إنساناً، وأن تصل به إلى الحدود العليا لنموه وتطوّره. في هذه المرحلة من تفكيره يؤكّد ماوسلو أنّ التربية الداخليّة أكثر أهمّيّة من التربية الخارجيّة الّتي تؤكّد عمليّة استظهار الأشياء والنصوص والقوانين، وهذا ما يدفع ماوسلو إلى الحديث عن المدرسة المثاليّة. في هذه المدرسة لن تكون هناك شهادات أو دروس مسبقة. فالطفل يستطيع أن يتعلّم ما يحلو له، وكلّ شخص يستطيع أن يسجّل في هذه المدرسة حيث يمكن للجميع أن يتعلّموا فالتربية تصبح مستمرّة في هذه المدرسة حيث يستطيع كلّ شخص أن يجد حاجته، وأن يجد نفسه أيضاً، فأهداف هذه التربية تكون في الكشف عن الهويّة واكتشاف رسالتها.

في هذه المرحلة كان ماوسلو ناطقاً رسميّاً باسم علم النفس الإنسانيّ. ولكنّ أعماله اللاحقة بدأت تتّجه إلى تجاوز هذه المرحلة نحو رؤية أكثر صوفيّة. لقد أدّى اتّصال ماوسلو مع الفلسفة الصوفيّة إلى تغيير جديد تجاوز فيه علم النفس الإنسانيّ أو النزعة الإنسانيّة في التربية لينتقل إلى التربية الصوفيّة. وقد تأثّر ماوسلو بقراءة الآداب الزرداشتيّة، وقراءة أعمال بويك Buke، وهكسلي Huxley، وأتو Otto، وإيلياد Eliad، وقد ساعدت هذه القراءات ماوسلو إلى تطوير فكره نحو مرحلته الثالثة وهي مرحلة علم السموّ Transcendance، أو علم النفس الصوفيّ كما يحبّ أن يطلق عليه. لقد جعل في هذا السياق من تصوّره عن التجربة مطابقاً للمفهوم البوذيّ الخاصّ بالتأمّل والصفاء. وحاول أن يستبدل مفهوم الآنية بمفهوم الكمال الإنسانيّ وأن يرسخ مفهوم الوعي الكونيّ ويؤكده في سياق نظريته. وكان في سعيه هذا يصف التجربة الصوفيّة والدينيّة ويحلّلها على أساس سيكولوجيّ. وهو في هذا السياق يميّز بين نوعين من المعارف الإنسانيّة، المعرفة الكونيّة بوصفها إحساساً بالانتماء إلى الكون والعالم الكلّيّ من جهة، والمعرفة الوجدانيّة الصوفيّة الّتي تتعلّق بعنصر من عناصر الوجود والكون – مثل زهرة أو فراشة – وهي الحالة الّتي ينسى فيها العارف نفسه وينخرط في انفعالات تجربة صوفيّة مع هذا العنصر المعرفيّ أو مع موضوع معرفته. فالوعي الكونيّ يقضي حالة من الذوبان والانصهار بين العارف وموضوع المعرفة، بين الإنسان والعالم. إنّها معرفة حدسيّة، وهنا يؤكّد ماوسلو على أنّ هذه المعرفة الحدسيّة الصوفيّة إمكانيّة توجد عند كلّ إنسان بدون استثناء. إذ يمكن اكتشاف المعنى الإلهيّ للعالم عبر التجربة الصوفيّة. إنّه اكتشاف للذات نفسها، وهذا يعني اكتشاف الجوهر الإلهيّ في الإنسان، ويمثّل هذا الموضوع اليوم أهمّيّة كبيرة عند الصوفيّين الأمريكيّين المعاصرين ولاسيّما عند أميرسون.

فالتجربة الدينيّة السامية لا توجد في دائرة المؤسّسات الدينيّة، وذلك لأنّ هذه المؤسّسات تمتلك بعدها الدنيويّ الحياتيّ. فحياتنا اليوميّة مقدّسة وذلك عندما نشبع حاجاتنا العلويّة، وعندما توجد لدينا رؤية مقدّسة إلى الحياة. وهنا يؤكّد ماوسلو دائماً بأنّ التجربة الدينيّة الأصليّة تكون مختلفة نسبيّاً مع درجة التنظيم الّتي تتجسّد في المؤسّسات الدينيّة.

وهنا يحدّد ماوسلو عدداً من القيم الإنسانيّة التي تعلو على آنية الذات الإنسانيّة. وتتمثّل هذه القيم في جوهر الحقيقة، وهي ليست مجرّد أحاسيس أو عواطف أو انفعالات إنّها قيم تعلو على الحاجات الإنسانيّة، بمعنى أنّها قيم فوق الحاجات مثل قيم: الحقيقة والجمال والخير والوحدة والطاقة الحيويّة والجوهر الأصيل للإنسان إنّها الكمال والضرورة والتكامل والعدالة والنظام والبساطة والغنى والرحمة والاستقلال ومعنى الحياة. فالشخص الّذي يشعر السعادة في عمله والّذي يحقّق جوهره الحياتيّ لا يعيش ما يسمّى بالتناقض بين العمل والحياة. فهو لا يرى بأنّ عمله هو تحقيق وامتداد لمواهبه وقدراته، وبعبارة أخرى فإنّ التناقض بين السعادة والعمل تختفي لصالح وحدة عميقة بين الطرفين.

فالتربية يمكنها أن تبسط وتمهّد لمعرفة الذات في دائرة الانتماء إلى العالم. فهي تساعد الإنسان في الاستماع إلى النداء الداخليّ لوجوده، كما تساعده على اكتشاف معنى الحياة. واكتشاف الهويّة – وهي كما يرى ماوسلو- هي عمليّة اكتشاف القدر والمصير. والناس الّذين يعيشون هذه المعرفة الداخليّة يستطيعون أن يهتدّوا إلى زخم القيم الإنسانيّة الخلّاقة. ومع ذلك يمكن القول: إنّ هذه المعرفة الداخليّة لا تجانس بأيّ حال الوجوديّة السارتريّة. وبالتّالي فإنّ التربية يجب أن تركّز على اكتشاف هذا الوجود البيولوجيّ الذاتيّ، وتلبية احتياجاته. وهنا يجب أن تعمل التربية على تأكيد حقيقة أنّ الحياة ثمينة جدّاً، وأنّه يجب على الإنسان أن يشعر بمتعة الحياة. ولذلك فإنّ النظام التربويّ المدرسيّ بفنّيّيه وتنظيماته الحاليّة لا يساعد أبداً الطلّاب على تذوّق معنى الحياة وسعادتها. ولذلك يجب علينا أن نعمل على رفض هذه التجربة المدرسيّة كما يقول ماوسلو، وهذا يعني أنّ تقنيّة التوسّط والتأمّل الروحيّ يجب أن تأخذ حضورها في داخل التربية والتجربة المدرسيّة. فالمعلّم يجب أن يكون على درجة قصوى من الوداعة والانفتاح، ويجب عليه أن يمتلك رؤية إيجابيّة عن الطلّاب، عليه أن يساعد الطالب على أن يكتشف نفسه. وعليه أيضاً أن يساعد في إشباع احتياجات الطالب النفسيّة الأساسيّة وأن يحقّق له الأمن، ويعزّز لديه الإحساس بالانتماء والحبّ والاحترام والتقدير. أنّ الطريقة الأمثل لعمليّة التعليم هي أن نعمل على تنمية مواهب الطلّاب، ولاسيّما المعرفة الحدسيّة الّتي تمكّنهم من إدراك العالم. والطفل يجب أن يحظى بهذه التجربة التأمّليّة الّتي تمكّنه من معرفة حقيقيّة بالزمنيّ والخالد في أنّ واحد، وعليه أن يدرك الأشياء في أبعادها الدنيويّة والمقدّسة. باختصار يتوجّب على التربية أن تعزّز عند الأطفال والناشئة معرفة بالكائن الإنسانيّ عينه في علاقته مع الوجود الكونيّ بشموليّته وطلّيّته.

5- نظريّة هارمان Harman

يقدّم هارمان Harman تصوّراً للمعرفة الإنسانيّة بوصفها رؤية ميتافيزيائيّة للحياة. فالمعرفة داخليّة وليست خارجيّة، التجربة الذاتيّة تؤدي دوراً حاسماً في عمليّة المعرفة، كما تؤدّي إلى هدم الحدود التقليديّة الفاصلة بين العلم والدين. وهذا يعني أنّ هارمان ومن يذهب مذهبه يعطون أهمّيّة كبيرة للتجربة الذاتيّة قياساً إلى التجربة الموضوعيّة. فالعلم انتقائيّ بمناهجه، وبالتّالي فإنّ التجربة المضبوطة ليست هي الوسيلة الوحيدة من أجل الوصول إلى المعرفة، ولذا يجب اللجوء إلى الفلسفة التأمّليّة كوسيلة معرفيّة هامّة. والتأمّل يأخذ صورة نموذج جديد للمعرفة، يتميّز بانفتاحه على كلّ محاولة تنظيميّة للتجربة الذاتيّة. فالعلم لا يقوم على أساس التناقض بين الملاحِظ والملاحَظ، أو بين الباحث وموضوع بحثه، فهو يحاول دائماً أن يعزّز الثقة والتعاون ولاسيّما في حقل البحث الجماليّ. والعلم يبحث عن الحياديّة والموضوعيّة ويؤكّد معايير أخلاقيّة مرتبطة بالحياة الإنسانيّة. والعالم يحاول أن يحقّق المصالحة بين تناقضات تمثّل بين ازدواجيّات قيميّة: الحرّيّة في مواجهة الحتميّة، والمادّيّة في مواجهة المثاليّة، والعلم في مواجهة الدين.

ولكنّ النموذج المعرفيّ الجديد يؤكّد دور مختلف مستويات الوعي. وهذا النموذج الميتافيزيائيّ يعزّز رؤية كلّيّة شموليّة للتجارب الإنسانيّة المختلفة مثل الإبداع والحدس والتصوّف والتجربة الدينيّة والظواهر الفيزيائيّة.

6- التربية في منظور هارمان:

يرى هارمان أنّه يتوجّب على التربية الجديدة أن تركّز على الجانب الروحيّ، وهذا يعني أنّه يتوجّب عليها أن تبحث في المطلق وأن تعتمد أدوات ومناهج جديدة قادرة أن تعزّز مسيرة البحث عن المطلق، وأن تؤكّد على وجوه المعرفة المختلفة. فالتربية وفقاً لهارمان يجب أن تكون في خدمة الفرد وأن تسمح له في إدراك عميق لتجربته الداخليّة وأن تسمح له بالخروج من قوقعته.

ومن زاوية أخرى، يتوجّب على التربية أن تؤكّد على الشكل الأعلى للمعرفة الإنسانيّة. ويستند هارمان إلى معطيات ودراسات مفكّرين مثل ايكهارت وهكسلي وأفلاطون الّذين يتحدّثون عن البعد الواحد لحياتنا اليوميّة وتصوّراتها الخاصّة بالأشياء. ويصف لنا هارمان ثلاثة مستويات من المعرفة:

1- المعرفة الحسّيّة السمعيّة.

2- المعرفة عبر المفاهيم.

3- عالم ما فوق المفاهيم.

وكلّ مستوى من هذه المستويات يشتمل على سابقة. فالمستوى الثاني يستكمل عيوب المستوى الأوّل ويعطينا معنى ودلالة التنوّع العبثيّ للعالم الحسّيّ. وهذا الأمر نجده في المستوى الثالث الّذين يبيّن لنا أنّ الحدود الحسّيّة الحرفيّة للذات ليست غير خرافة خالصة كاملة.

وهنا أيضاً يعتمد هارمان على نظريّة بويك 1901 فيما يتعلّق بالوعي الكونيّ الّذي يشكّل أحد مستويات الوعي العليا. وهنا نجد بأنّ تصوّرات الحياة والنظام والعلم تتكامل في نسق ذكاء لا حدود له وذلك في إطار سموّ أخلاقيّ يفيض بإحساس لفرح لا حدود له. وهذا يعني دلالة الخلود واللافنائيّة أو وعي الحياة الخالدة.

وأخيراً، يرى هارمان أنّ النشاط التربويّ هو نوع من الفعاليّة الّتي تمكّن الإنسان من ممارسة وظيفته الفلسفيّة المثاليّة الوجوديّة. والجدول التالي يبرز بعض عناصر هذه الفعاليّة التربويّة الروحيّة ونتائجها.

فتنظيم النشاطات التربوية يجب أن يتمركز حول شخصية الطالب. وهدف هذه النشاطات هو تعزيز نمو وازدهار الفرد. وذلك لأن المحور الأساسي للتربية هو الطالب وهو وحده يمكنه أن يحدد اتجاه وغاية التربية المنشودة. فهو يختار التربية التي يعتقد بأنها تساعده على تطوير ذاته وإمكانياته. وهو وحده الذي يستطيع أيضاً أن يصحح سلوكه الخاطئ. أما المعلم فيجب عليه أن يكون في خدمة الطالب، وأن يساعده مهما تكن متطلبات ذلك على تحقيق نمائه المعرفي والعاطفي.

7- نظرية ليونارد Leonard

يرى ليونارد أن النظام التربوي الحالي يعيق عملية التربية الحقيقية. فالتربية السائدة تمارس التنويم المغناطيسي على الطلاب لغرس القيم الاجتماعية السائدة التي تقتل لديهم كل إمكانية للنقد والحرية. فلا يوجد عند الطلاب والأطفال اليوم، في ظل التربية السائدة، غير أوهام التعلم، وهم بجلوسهم في الفصل يتكون لديهم انطباع العمل وتعلم النظام والأدب الشخصي. فالتعلم الحالي يولد عند الطلاب الروح السلبية وروح اللامسؤولية والاتكال. وبالتالي فإن المعلم في هذا النظام ليس إلا عبدا يعمل على استمراريته وديمومته دون اعتراض. وهنا يطرح ليونارد نوعاً جديداً من التربية تعتمد مبدأ الحياة والإحساس بمتعة الحياة. وهو في هذا السياق يقدم نظرية تأخذ مكانها بين النظريات الروحية عند كل من ماوسلو، وواتس Watls، وكريشناموري Krishnamurti، وروان Rowan. وهنا يؤكد ليونارد على الشرط الطبيعي للإنسان والتكوين الداخلي الانفعالي الذي يتمثل في السعادة والفرح. فالإنسان في حالته الطبيعية يشعر بأنه يمتلك قوة نشوة داخلية، ولكن قوة خارجية تأخذه من ذاته تدفعه خارج هذه الذات وتحرمه من أجمل وأسمى شعور إنساني يتمثل بحالة الافتتان والنشوة والشعور العارم بعظمة الحياة ونشوتها وجمالها.

ونشوة الحياة هي الحالة التي يشعر فيها المرء بحالة من التواصل والتوحد مع الوعي الكوني أو الروح الكونية. وهو عندما يصل إلى هذه الحالة فإنه يتحرر من إكراه مركزية الذات والضياع الدنيوي، وينطلق نحو رؤية كونية، وهو في هذا المستوى ليس مركزاً للكون بل ينسى مشكلاته الصغيرة اليومية والمنزلية من أجل الوصول إلى حالة كونية متناهية الجمال، إلى بهجة روحية عظيمة تمتلك سحرها المتعاظم على أيقاع الجمال الكوني، إنها حالة الوجد التي يغذّيها الصوفيون في تجاربهم الروحية والصوفية.

هذه الرؤية الجديدة للحياة التي يقدمها هارمان تقود بالضرورة إلى تصورات روحية للعملية التربوية. فهو يبحث عن تربية فرحة خلاقة بعيدة كلياً عن صورة العنف التي تحيط بالمدرسة الحالية. فالتربية الروحية هذه تسمح لنا بإعطاء الأطفال أجمل لحظات وجودهم وحياتهم وهم في غمرة التعليم والتدريب، إنها تربية تحقق المصالحة الحقة بين العمل والانفعالات. وهذه التربية كما يؤكد ليونارد تستند إلى أسس صوفية وإلى مقدمات علم النفس الإنساني والروح الفلسفية الشرقية.

فالصوفية التي تشكل الأساس الروحي للتربية عند ليونارد هي عقيدة روحية تسعى إلى تحقيق الوحدة بين الله والعالم والإنسان. وهذا النوع من التفكير يأخذ أسماء شتى وفقاً لتعدد الفلسفات والأديان والعقائد. ولكن هذه المعرفة في النهاية تعتمد على تجربة واحدة هي التجربة الحدسية الميتافيزيائية والصوفية حيث النشوة الإنسانية التي يصعب تفسيرها أو شرحها لأنها حالة صميمية داخلية في عمق الشخصية الإنسانية.

يجب على التربية كما يرى ليونارد أن تنجز هدفين أساسين:

المهمة الأولى: وتتمثل في تحرير الأطفال من أعباء الحياة اليومية، التي يمكنها أن تضعف لديهم إمكانيات التعلم وتحقيق الازدهار، ثم إجراء تحويل جوهري في بنية النظام المدرسي وكيفياته وهذه المرحلة من التحرير صعبة ولكنها جوهرية. ومن ثم التحرر من روتين التفكير والعمل على تغذية التفكير المبدع وذلك يحتاج إلى جهود كبيرة.

المهمة الثانية: العمل على تمكين الطالب من تطوير إمكانياته الداخلية وتنظيم طاقاته الروحية باتجاه بناء معنى جديد لروح المسؤولية الكونية، وتكوين المعرفة الحدسية التي تسمى غالباً بالحكمة. يجب على الطالب هنا أن يتعلم كيف ينظم حياته على أساس المبادئ مثل: المشاركة والإبداع، والمحبة، والتعاون، والكرم، والانفتاح. وبالتالي فإنه في كل الأحوال يجب على الطالب نفسه أن ينظم عملية تعلمه وفعالية تربيته.

إن الأعمال الصوفية تمثل نوعاً من الاستراتيجية التربوية التي تعزز ما يسمى بتربية النشوة الروحية السامية. فالتأمل تجربة تساعد الإنسان على امتلاك وحدته الكونية بعد حالة انفصال بدأت مع ولادته، إنها حالة تتم فيها الوحدة بين جانبين، هما: الشعور واللاشعور. والشعور هو العنصر الذي يظهر حالة الاختلاف والتفرد والفردانية في الشخص.

أما اللاشعور فهو العنصر الذي يوحد الإنسان مع الكون. ولذا فإن الوحدة بين هذين الجانبين عبر عملية التأمل تشكل المبدأ الأساسي الذي تستند إليه التربية عند ليونارد. فالتكامل بين الشعور واللاشعور يغني الشخصية ويضع الفرد في نسق وعي جديد بالسمو والعظمة الروحية.

والتأمل في نهاية المطاف يقود إلى إلغاء الاختلاف والتناقض. وهذه المرحلة من التكامل والتفاعل تؤدي إلى حالة من التحرر من مختلف أشكال التناقضات التي يعيشها المرء في حياته اليومية أو في داخله وهنا في هذه الحالة تغيب هذه المفارقة بين الموضوع والذات وتنتهي حالة الانشطار في التفكير والعقل.

فالتربية المثالية تهدف إلى تحرير الإنسان من التمزق والتناقض والصراع، وهي الحالة التي توجد بين الإنسان والعالم وذلك من أجل تحقيق وحدة الكائن الإنساني. وهنا يجب علينا ألا ننسى أن هذه التناقضات والانشطارات توجد في أصل الجهل والمرض والقلق.

فالتربية يجب أن تكون صوفية هذا ما يؤكده ليونارد في فلسفته التربوية هذه. التربية يجب أن تكون محررة ( عامل تحرير ) يدفع الإنسان خارج تناقضاته الجوهرية. تربية مشبعة بالطاقة والفرح والنشوة وهي تربية تؤدي في نهاية المطاف إلى ولادة كائن إنساني جديد في داخل كل فرد وإنسان وإلى بناء علاقات إنسانية جديدة ذات طابع كوني مع العالم.

8- نظريّة فيرغسون Ferguson:

بقترح فيرغسون تربية سامية ضروريّة لعمليّة التجديد الروحيّ الإنسانيّ. هذه التربية كما يؤكّد تقوم على رفض التصوّر الحاليّ للتربية السائدة. فالتربية القائمة هي تربية بيروقراطيّة تسعى إلى أن تكون صحيحة أكثر منها تربية إنسانية. والمدارس القائمة ليست سوى أدوات رؤية خاطئة ومقطوعة عن الحقيقة. فهي تضع التجربة الإنسانيّة والمعرفة في قوالب الموادّ والمقرّرات وهي بذلك تحدث قطيعة مع المعرفة والعلم. هذه التربية تعيق عمليّة نماء الشباب والطلّاب وازدهارهم. فالشباب يعانون الاختناق في كلّ يوم، وإنه لمن المؤلم جدّاً حتّى مجرّد التفكير فيما يعانيه هؤلاء الشباب في دائرة نظامنا التعليميّ الّذي يمنع كلّ أشكال الإبداع والابتكار والنموّ. والناس كما يقال يختلفون عن الحشرات؛ لأنّهم يبدؤون فراشات، وينتهون إلى شرانق. والتربية المثاليّة الّتي تطرحها فيرغسون تتحدّد بالسمات التالية:

التربية المثاليّة يجب أن تعطي لكلّ من يرغب فيها، ولذا فهي لا ترتبط بالمدارس مع ذلك يمكن أن تقدّم في دائرة المدارس الحاليّة.

تنطلق هذه التربية من حاجات الطالب ورغباتهم، وهي تجعل التعليم مرحاً وممتعاً وعلى صورة تجربة ذاتيّة داخليّة تسمو بالنفس والإنسان، فهي تشجّع الطالب أن يكون يقظاً ومستقلّاً ومتسائلاً. وأن يكون مستشرفاً للواقع والتجارب الواعية، وباحثاً عن معنى الحياة وعن الحدود الخارجيّة، وقادراً على وضع الحدود وتأكيد عمق الذات الإنسانيّة.

فالتربية المثاليّة يجب أن تؤكّد الأبعاد المتنوّعة للمعرفة، وهي تختلف مع التنظير التقليديّ المعروف حول مضامين الموادّ التربويّة، وتقسيم الموادّ والبرامج وتوزيع الطلّاب وفقاً لأعمارهم. إنّها تؤكّد أهمّيّة الرحلات المدرسيّة في الطبيعة والأرياف، وعلى أهمّيّة الزيارات الخاصّة.

هذه التربية لا تؤكّد أهمّيّة اكتساب المعلومات، بل تؤكّد أهمّيّة التعلّم الذاتيّ والتدريب على ذلك، كما تؤكّد أهمّيّة القدرة على طرح الأسئلة، وقدرة الطالب على إيجاد المعلومات وتنظيمها وتنسيقها، ومن ثمّ أهمّيّة الاطّلاع على جوانب جديدة في مجال المعرفة. إنّها تؤكّد أهمّيّة التحليل والتفكير النقديّ والتفكير الاستراتيجيّ بعيد المدى، كما تؤكّد أهمّيّة العمليّات المعرفيّة في التبصّر والتحليل والحدس. فغياب المعرفة الحدسيّة يعني أنّنا نعيش في الكهوف المظلمة كما يقول فيرغسون.

إنّ أيّ فتح عقليّ وأيّ خطوة باتّجاه الأمام في التاريخ ارتبطت بمعرفة عقليّة ناجمة عن دماغ صحيح ومبدع، ومن هنا يتوجّب علينا أن يعتني بتنمية الدماغ وملكة التفكير عن طريق التركيز وتوجيه الحواسّ والمشاعر.

وهذه التربية لا تفرض على مريديها عمليّة التعليم والتدريب، إذ يجب على المعلّم أن يحترم استقلاليّة الطالب دون ضعف في الشخصيّة، وهنا تؤكّد فيرغسون 1978 بان التعليم المفتوح يساعد التلميذ على كشف بنيّة الأشياء وعلاقاتها. إنّها توقظ فيه إمكانيّات إبداعيّة جديدة إنّها مولّدة للأفكار، وتعمل على بناء أبناء أقوياء فاعلين في المجتمع. وتنتهي نظريّة فيرغسون إلى أنّ المدرسة لا يمكنها أن تحقّق نجاحاً بمفردها بل يجب أن تعزّز جهود المدرسة بجهود المجتمع والبيئة كما كان يحدث في عهد أفلاطون. إنّ القالب التربويّ الّذي يتشكّل ثقافيّاً يمكنه أن يكون مصدراً تربويّاً للإبداع وذلك من أجل الوصول إلى الروح السامية للذات.

9 – نظريّة فوتيناس Fotinas:

يقدّم لنا فوتيناس نظريّة تربويّة ميتافيزيائيّة في عدد من الوثائق التربويّة أهمّها طاو التربية leTao de l’éducation عام 1990. ومن منطلق تأثّره بالتقاليد الإسلاميّة والبوذيّة والهندوسيّة، عمل فوتيناس على بناء نظريّة تربويّة مثاليّة يعرفها بأنها: مجموعة من العوامل الّتي تعمل على تطوير الإنسان وتحقيق ازدهاره وتكامله على أساس إنسانيّ.

وباعتماد نمط الطاوية يحدّد نوع التربية المطلوبة، وهو في هذا الاتّجاه يهاجم التربية أحاديّة الجانب الّتي تجعلنا عارفين من حيث المظهر، ولكنّها تبعدنا عن المعرفة الحقيقيّة. وهو في مقابل ذلك يقترح هذه التربية الّتي تعنى بالإنسان وبالجانب الروحيّ فيه. فالتربية السائدة ليست بتربية بل تقف ضدّ التربية الصحيحة. إنّ التربية الحقيقيّة تنبع من داخل الفرد، وتولّد من أعماقه.

10- نظريّة كريشنامورتي (Krishnamurti):

تنطلق نظريّة كريشنامورتي من أهمّيّة نقد المجتمعات المعاصرة، حيث نجد زخماً من النقد الّذي يوجّهه كريشنامورتي إلى المجتمع والتكنولوجيا والسلطة والتطرّف الدينيّ. فالزعماء يكتفون بتحديد ما يجب تعليمه، وما يجب فعله، ولكن عندما يتعلّق الأمر بتحقيق ذلك فإنّهم يهربون من هذه المواجهة، إنّهم يعملون فحسب على تعزيز سلطاتهم؛ ولذلك فإنّهم يقضون وقتهم في تقدير قوّتهم وقوّة أتباعهم.

ويؤكّد كريشنامورتي- في جانب آخر من نظريّته – أهمّيّة الحرّيّة الداخليّة، كما أكد أهمية الحبّ والاحترام والجمال والرحمة. وهنا يؤكّد أنّ الخير المطلق يتمثّل في عدم الفصل بين الخير والشرّ. فالإنسان الجيّد هو إنسان بكلّيّته لا يمكن لنا تقسيمه. ويؤكّد أيضاً في هذا السياق على أهمّيّة الجمال والفطنة. إذا كنت فإذا كنت عاشقاً لشيء، فإنّك أبداً لا تحتاج إلى أن تثار أو أن يولد لديك الشوق إليه، فالعشق يحرق بذاته كالنار، وهو يتعلّق بشخصيّة الإنسان وإرادته لا بشيء آخر.

11- خلاصة:

تؤكد النظريّات الروحيّة المختلفة الّتي سطّرها كلّ من كريشنامورتي وفوتيناس وهارمان وليونارد، جميعها، على أهمّيّة ردم الهوّة الفاصلة بين الإنسان والعالم، وذلك لأنّهما – كلاهما الإنسان والعالم – يشكّلان وحدة لا يمكن الفصل بينهما. فالإنسان يشكّل قطباً وجوديّاً للعالم وجزءاً حيويّاً في بنية هذا الكون.

وهنا، فإنّ العلاقة بين الإنسان والعالم تأخذ بعدين أساسيّين:

يتمثّل الأوّل في أنّه لا وجود لحقيقة خارج نطاق العالم، ولا توجد حقيقة أبداً مستقلّة عن الإنسان، كما يرى كريشنامورتي (1970). ولا أهمّيّة هنا سوى للإنسان في دائرة علاقاته مع الآخر المطلق. فالعالم ليس إلا نحن كما يقول باريير.

ويتمثل البعد الثاني في عمق العلاقة بين الإنسان والعالم، التي تستجيب حدس الوحدة وحدة الوجود الّتي توجد في أعماق الروحانيّة. فالوعي الكونيّ يوجد في أعماق التجربة الإنسانية، الذي يتجلى في صورة الذاتانيّة الخالصة، وذلك عندما تنفصل هذه التجربة عن السمات الفرديّة للوعي. فالأنا في هذه الحالة يختفي في غمر التجربة الكلّيّة، وفي دائرة علاقة الإنسان بالعالم. ومن ثم فإنّ سموّ الأنا يكمن في المعرفة الذاتانيّة الروحيّة.

فالتربية المثاليّة تسعى إلى تحرير الإنسان من حالة الانشطار بين الموضوع والذات، بين الإنسان والعالم، وذلك من أجل تحقيق الوحدة إنّها تشمل عمليّات متعدّدة أهمّها: الإصغاء، الحدس، الحبّ، والانفعال وموهبة الذات والطاقة الروحيّة، هذه جميعها تقود الإنسان إلى حالة من النشوة والفرح، وإلى سعادة إنسانيّة كونيّة كبرى، كما يعلن ليوناردو واتس. فنشوة الحبّ والوجد والتوحّد هي سمات أصليّة ورائعة للحياة، وعلى الإنسان أن يتزوّد من العطاءات الخلّاقة لهذه الحياة في مسار نمائه وحركته الوجوديّة.

******************************************

مراجع الدراسة:

– Clermont Gauthier et Autres , Pour une théorie de la pédagogie , Université Laval , 1997.

– Yves Bertrand , Théorie contemporaines de l’éducation , Edition Nouvelles , Montréal , 1998.

– Morandi, Franc, Modèles et méthodes en pédagogie Paris: Nathan, 1997.

– Eliade Mircea , le Sacré et le profane , NRF , Paris , 1965.

– L. Laberthonnière , Théorie de l’éducation , Librairie Philosophique J. Varin, Paris , 1935.

– Jacques Ulmann , La pensée éducative , Librairie Philosophique J. Varin , Paris , 1982.

– Jean Beaté , Les courants de la pédagogie contemporaine , Erasme , Paris , 1998.

– Licien Morin – Louis Brrunet , Philosophie de l’éducation , Université Laval , 1992.
_________
*عليّ أسعد وطفة/ كلّيّة التربية – جامعة الكويت.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة