*بول ريــــــــكور/ ترجمة : عبد الوهاب البراهمي.
“يعبّر عنوان هذا المقال، وفي بعض كلمات، عن بعض المسلّمات الضمنية التي سأسعى إلى الإفصاح عنها. من الممكن، وفق المسلمة الأولى، وفي إطار بحث فلسفي، تحديدَ إيمانٍ ديني على أساس لغته، أو، بشكل أدقّ، بوصفه نمطًا خاصًّا من الخطاب. لا نريد أن نقول بهذا بأنّ اللغة أو الخطاب يمثّل البعد الوحيد للظاهرة الدينية. وبالفعل، لا تقول المسلّمة الأولى شيئا يتعلّق بمفهوم التجربة الدينيّة، كموضوع جدل واسع، والتي نفهمها سواء بمعنى عرفاني، عملي أو عاطفي. إنّنا نقرّ شيئا واحدا: مهما كانت الخصائص المفترضة لـ”تجربة دينيّة”، فإنّها تتشكّل أو يُعبّر عنها في لغة. (2) إنّ الطريقة الأكثر تلاؤما لتأويل هذه اللغة وفق طبيعتها الدّاخلية تتمثّل في تحليل أنماط تعبيرها.
إنّ المسلمة الثانية هي أنّ الخطاب الدينيّ ليس خالٍ من المعنى. بتعبير آخر، يستحقّ أن نفحصه، لأنّه قد قيل فيه شيء ما، لم يقل في أنماط الخطاب الأخرى: الخطابَ العادي، والخطاب العلمي والخطاب الشعريّ. وفي عبارات وضعيّة: اللغة الدينيّة منطقية، لها معنى، على الأقّل بالنسبة إلى فئة المؤمنين، حينما يستخدمها هؤلاء من أجل فهم ذواتهم أو لإفهام غيرهم لدى جمهور أجنبي.
تكون الفلسفة، وفق المسلّمة الثالثة، منخرطة في هذا البحث، لأنّها في مواجهة خطاب لا يزعم فحسب أنّه له معنى، بل حقيقيُّ أيضا. يجب أن يُفهم هذا الإدّعاء فهما صحيحا. إنّه يعني بأنّنا لا نفهم قيمة هذا الشكل من الخطاب طالما أنّنا لا نضع أيضا موضع السؤال معايير الحقيقة التي تستخدم في أشكال الخطاب الأخرى، وبالأساس في الخطاب العلميّ، الذي يَستدعي معيار التحقّق أو معيار التفنيد falsification. وبالنتيجة، فإنّ الفلسفة، وفق هذه المسلّمة الثالثة، في مواجهة خطاب يملك، لا الزعم فحسب بأنه ذو دلالة، بل أيضا إمكان ملئه دلالة بحيث، أنّه، يكشف بهذا عن أبعاد جديدة للواقع والحقيقة. على هذا النحو يُستدعى تحديد جديد للحقيقة. تلك هي المسلمات التي يتضمّنها عنوان هذا العرض: الفلسفة وخصوصية اللغة الدينيّة. إنّ قولي هو إيضاح هذه السمات واحدة بعد أخرى. وسأقوم بهذا من وجهة نظر خاصّة لنظرية التأويل أو، حتى استعمل مصطلحا تقنيا، للهارمونيطيقا أو التأويلية الفلسفية. وسأدمج هذا المنهج بواسطة مقارنة مع التحليل ألألسني للغة الانجليزية بإتباع ترتيب المسلمات الثلاث المعلن عنها من قبل. يمكن للتأويلية والتحليل ألألسني أن يتّفقا دون عناء حول المسلّمة الأولى، والتي وفقها يكون الإيمان الديني أو التجربة الدينية معترفا بها على أساس اللغة التي تعبّر عنها. ومع ذلك، فسنرى فيما بعد أنّ التأويلية أو الهارمونيطيقا توسّع هذه المسلمة بطريقة تميّزها بعدُ عن التحليل ألألسني. وعلى الأقلّ، يمكن أن يقوم بينهما حوار مثمر على أساس اتفاق واسع مبدئي.
ويبدو لي أنّ المسلّمة الثانية، هي الأخرى مشتركة بقدر واسع بين التأويلية والتحليل ألألسني، من حيث أنّها، وتبعا لفيجنشتين الثاني و أوستين (3)، تتخلّى عن تقدير كلّ أشكال اللغة بالمعيار الوحيد للغةٍ مصطنعة و قواعد المنطق الرمزي، بل تستخدم في تحليل مختلف ” ألعاب اللغة” وفق قواعدها الخاصّة. وسنرى هنا أيضا، كيف تفهم التأويلية هذا المبدأ للمنهج، أي اقتضاء أن يكون محتوى معنى خطاب يقاس كلّ مرّة بمعايير تمعين تخصّه. إنّ الاختلاف الرئيسيّ بين التحليل الألسني والتأويلية يتعلق دون شكّ بالمسلمة الثالثة. لقد هيمن على التحليل الألسني تاريخ مبدأ التحقّق والتفنيد إلى حدّ يستحيل معه صياغة مفهوم آخر للحقيقة غير المفهوم المصاغ تقليديا في لغة التطابق. إنّ فكرة أنّ كل نمط من الامتلاء يطوّر معاييره للحقيقة وأنّ ” حقيقة” لا تعني فحسب تطابقا بل أيضا ظهورا أو كشفا (4) تبدو غريبة عن أطروحة جوهرية للتحليل الألسني وتميّز تأويلية متأثرة تقريبا بفكر هيدجر. يمكننا، مع ذلك، أن نعثر في كتابات لان رامساي Ian Ramsey وفريديريك فيريه Frederick Ferré(5) بعض مؤشرات ضرورة إعادة توجيهٍ لمفهوم جوهري للحقيقة. ومهما كانت الاختلافات بين هذين الموقفين الفلسفيين، فأنا أعتقد مع ذلك بأنّه، حتى المسلمة الثالثة لا تستطيع أن تصبح مشكلا مشتركا، حتى لو ظلت مصاغة من الجانبين في عبارات مختلفة جذريّا. لكن، ليس هدفي دحض منهجية التحليل الألسني بل التعرّف، بواسطة منهج مختلف، على خصوصية التأويلية الفلسفية.
1– الخطاب الديني الأصلي
إنّ المسلمة الأولى، مثلما قد قيل، هي مشتركة بين التحليل الألسني والتأويلية. فكلاهما يتناول الإيمان الدينيّ من وجهة نظر التعبير عنها في اللغة. غير أنّ الاختلاف بين الموقفين يتبدّى بعدُ في هذا المستوى. يتّجه التحليل الألسني مباشرة إلى أقوال من قبيل:” الله موجود” أو،” الله ثابت، قهّار، الخ “، أي قضايا تتعلق بنمط خاص من الخطاب خطاب الدرجة الثانية من اللاهوت. هذا الخطاب من درجة ثانية لا يُدرك دون إدماج مفاهيم مستمدّة من فلسفة تأملّية . وعلى العكس، فإنّ التأويلية، تعمل على التوجّه، بقدر ما تستطيع من الأمانة، إلى الأنماط الأكثر أصلية للغةِ فئة المؤمنين، وبالتالي إلى التعبيرات التي بواسطتها يؤوّل أعضاء هذه الجماعة، على نحو أصلي، تجربتهم لذواتهم وللآخرين( 6). إنّ شهادات الإيمان هذه لا تتضمّن بدرجة أولى أقوالا لاهوتية، في معنى للاهوتٍ ميتافيزيقي- تأملي، بل عبارات تتعلق بخطاب جدّ متنوّع بمثل السرد والتنبؤات والنصوص التشريعية، والأمثال، والتراتيل والصلوات والصيغ الطقوسية المسمّاة أسفار الجامعة، الخ. إنّ هذه الأشكال من الخطاب تمثّل في مجملها التعبيرات الأصلية للإيمان الدينيّ. ويجب أن تكون المهمّة الأولى للتأويلية إذن هو تحديد ووصف هذه الأشكال من الخطاب التي بواسطتها أوّلا، يُحمل إيمان جماعة إلى اللغة. تستخدم التأويليّة لهذا الهدف منهجية خاصّة، تهدف إلى توضيح مفهوم ” شكل الخطاب”. ويجب عليها أوّلا وصف الخطاب بما هو كذلك، وفق خصائصه العامّة، بغرض القدرة لاحقا على معالجة السرد والتنبؤ والمَثَل والترتيل، الخ.، بوصفها أشكال خطاب وبالتالي بوصفها تغيّرات خاصّة للخطاب بوجه عام. وسنحتفظ بالخصوص من بين هذه السمات العامّة للخطاب، بالعلاقة بين فعل الخطاب ومحتواه، بقدر ما تحتوي هذه العلاقة الجدلية الأكثر بساطة لتخارج و موضعة الخطاب. تَتْبَعُ هذه الجدلية استقلاليةُ مختلف أشكال الخطاب المعروفة تحت مسمّى ” الأجناس الأدبية “. وباختصار: مهما قيل، فإنّ ذلك يقف بعدُ في مسافة معينة إزاء فعل الخطاب أو حدث الكلام. تتّسع مسافة مماثلة بين الخطاب والمتحدّث، بين البنية الداخلية والمرجعية الخارج – لسانية، وبين الخطاب ووضعيته الأصلية وفي النهاية بين المتحدّث والإنصات الأوليّ. هنا يبدأ مشكل التأويل. ولا ينحصر هذا المشكل في النصوص المكتوبة، بل يبدأ بالجدلية الدقيقة الحاضرة بعدُ في اللغة الشفهية، والتي بفضلها تتخارج هذه الجدلية، وتتمفصل وتُثُبّتُ في أشكال مختلفة من الخطاب. والأهمّ أيضا من هذا الاستنتاج الأول هو اعتبار هذه الأشكال ذاتها، أي الأشكال التي، تسمّى في النقد الأدبي” أجناسا”. غير أنّني أفضل الحديث عن أشكال من الخطاب للتأكيد على الدور الذي تلعبه هذه الأنماط الألسنية في إنتاج الخطابات. وبالفعل، يتضمن النقد الأدبي تحت عنوان ” الأجناس”، مقولات تساعد النقد على تبيّن السبيل داخل التنوّع اللامحدود للنصوص. بيد أن أشكال الخطاب هي أكثر من أدوات تصنيف؛ هي أدوات إنتاج. من هنا أفهم بأن أشكال الخطاب هي مصفوفات matrices بواسطتها يُنْتَج الخطاب بوصفه عملا. إلاّ أن هذه السمة للخطاب لم يلاحظها الفلاسفة إلاّ قليلا، لأنّها تستخدم مقولات لا تتعلق أوّلا بمجال اللغة، بل بمجال البراكسيس، بمجال الإنتاج والخلق. لكن، هذا هو الحال بالضبط: الخطاب عمل، منظّم وفق totalités وحدات أو كليات من الدرجة الثانية، مقارنة بالجملة بما هي وحدة دنيا للخطاب وبالتالي بما هي وحدة من درجة أولى. يسمّي أرسطو في الخطابة هذه المقولة الأساسية ” الوضع”- تاكسيس taxis ؛ ويضعها بين ” الإكتشاف” « découverte » ( الحجج) – – heurèsis وبين ” الإلقاء” « diction » – lexis. وبفضل هذا ” التاكسيس” ( الوضع)، يوفّر النص المنطوق أو المكتوب نسيجا يجب على بنيته أن تُؤَوّل. إنّ تأويل نصّ يعني دائما أكثر من ضمّ معاني جمل معزولة. يجب أن نمسك بالنص بما هو كليّة من وجهة نظر تراتبية الطوباي topoï أي الخطابات التي تكوّنه. يجب أن تردّ وظيفة الأجناس الأدبية إلى هذا المفهوم للنص بوصفه كليّة، وحدة كلية totalité – أو، مثلما سنقول من هنا فصاعدا، وظيفة مختلف أشكال الخطاب : سرد ومثل سائر أو حكمة، الخ. ومثلما تمارس القوانين النحوية وظيفة توليديّة وتنتج الخطاب بوصفه جملة، فإنّ للرموز الأدبية codes littéraires أيضا في مستواها، وظيفة توليديّة. فهي تولّد الخطاب بوصفه سردا أو بوصفه هذا الخطاب أو ذلك. وبهذا المعنى فهي محتاجة إلى شعرية توليديّة ستتوافق، على مستوى “التاكسيس” (“الوضع”) الأرسطي، مع ” النحو التوليدي ” للتشومسكي ( 7).
يجب أن يكون الانشغال الأساسيّ لهذه التأويلية، تحليل الأنماط الجديد والخاصّة للتماسف الذي يرافق إنتاج الخطاب بوصفه عملا. ويمثّل الخطاب كعمل، وفي ذات الوقت الذي هو فيه عملا فنيّا، موضوعا مستقلاّ يتخذ مسافة من مقصد المبدع، من منزلته في الحياة Sitz im Leben (8)، بالإضافة إلى إنصاته الأوّلي. لأجل هذا تحديدا يكون العمل الفنّي وفعل الخطاب مفتوحين على عدد لا محدود من التأويلات. ويفتح للتأويلات فضاء للّعب، لأنّ استرداد الحدث الأصلي للخطاب يتخذ شكل إعادة بناء تنتج تحديدا عن بنية داخلية لهذا الشكل من الخطاب الخاص أو ذلك. وبعبارة أخرى، إذا ما ظلت التأويلية محاولة تخطّي المسافة، وجب عليها اعتبار هذه المسافة بوصفها في الآن نفسه موضوع بحث، بما هي عائقا وبما هي أداة، حتى تعيد تحيين الحدث الأصلي للخطاب في حدث جديد. من هنا، لا يمكن أن يكون الحدث الجديد للخطاب وفيّا إلاّ إذا كان في الآن نفسه مبدعا. بهذه الطريقة يمكن أن تتميّز مسلمتنا الأولى، التي وفقها يُفهم الإيمان الدينيّ لجماعة في تعبيراته الألسنية. وبلغة تأويلية: إنّ أولى مهمة للتأويل، في الميدان الإنجيلي، هو تعيين مختلف أشكال الخطاب التي، منظورا إليه في كليتها، تضع حدودَ فضاء التأويل الذي يمكن أن تفهم داخله، اللغة الدينية. يسبق هذه المهمّة، البحث عن الأقوال اللاهوتية التي فقدت جذورها الأولى في أشكال تعبير عن الإيمان، من حيث أنها تعيد صياغة هذه العبارات الأولى في لغة مفهومية مشتقة من الفلسفة التأويلية.
2- البنية و ” الكاريغما ” التبليغ، الرسالة kérygme
باستنادنا إلى التطوّر التأويلي لمسلمتنا الأولى- والتي وفقها، تعبّر التجربة الدينيّة عن نفسها على صعيد اللغة في أشكال خاصّة للخطاب- نحن في وضع توضيح الأطروحة الثانية في امتداد للأولى. لا يكفي القول، بعبارات عامّة، بأنّ اللغة الدينيّة حاملة لمعنى. بل يجب أيضا الإقرار بأنّ معانيها تُنظّم كل مرّة بنمط التمفصل الخاص بأشكال مميّزة للخطاب. يبلغ عرضي هنا نقطته الحاسمة التي أودّ تحديدها على النحو التالي.
إنّ ” إقرار الإيمان” « confession de foi » الذي يعبّر عن نفسه في نصوص الإنجيل لا يمكنه ولا يجب عليه أن يكون مفصولا عن الأشكال الخاصّة للخطاب الذي تميّز أسفار موسى الخمسة والمزامير والنبوءات، الخ. لا يحيل كلّ شكل من الخطاب إلى أسلوب مخصوص لإقرار الإيمان، فحسب، بل إنّ تجاور أشكال الخطاب تنتج توتّرا، تباينا داخل إقرار الإيمان ذاته. إنّ التقابل إذن، بين الرواية والنبوءة، المميزة جدا للعهد القديم l’Ancien Testament ، من حيث هو كذلك، هو لاهوتيا تقابل ذي معنى. لكنه ( أي التقابل) ليس ربّما سوى إحدى أزواجٍ بنيوية يساهم تقابلها الداخلي في تكوين المعنى الإجمالي. وفي هذا الصدد، سيبيّن العرض المقبل أزواجا أخرى متباينة على صعيد الأجناس الأدبية. لكن، لعلّه من الواجب الذهاب بعيدا أيضا واعتبار الشكل الإجمالي الذي ينتج عن تكوين الأجناس الأدبية فيما بينها بوصفه خاصية بنيوية جوهرية يحدّد بموجبها فضاء اللعب الذي ينتشر داخله تنافس بين مختلف أشكال الخطاب.
ستكون هناك ثلاث مشكلات علينا اعتبارها تحت عنوان الخطاب الإنجيلي : أولا القرابة لفظ بلفظ بين شكل خطاب ونمط مخصوص لإقرار الإيمان؛ ثانيا العلاقة بين زوج بنيوي ( مثلا السرد والنبوءة) و الجهد المتّسق في الرسالة اللاهوتية؛ وأخيرا بين تهيئة عمل الخطاب، الذي يعتبر بوصفه كلاّ، وما يمكن أن نسمّيه، في المقابل، فضاء التأويل الذي يرسم حدوده مجموع أشكال الخطاب. ألحّ على القول بأنّي مدين بصورة خاصّة لجيرهار فون راد Gerhard von Rad بذكاء العلاقة بين أشكال الخطاب والمحتويات اللاهوتية. فطريقته في الدمج تجد توكيدها الخاص في التطبيق الذي حدث على “العهد الجديد”(nouveau testament) من قبل آموس ويلدر و ويليام بيرديسلي Amos Wilder،William Beardslee (9).
إنّ مثال السرد ملائم بالخصوص، من حيث أنّه يتعلّق بمجال اكتسب فيه التحليل البنيوي نتائجه الأكثر إقناعا. هذا المثال – المتطوّر نسقيا- يمنعنا من بناء لاهوتيات العهد القديم والجديد التي تُختزل لديها مقولة السرد أو الرواية في مهارةٍ خطابية، غريبةٍ عن المحتوى المنقول. يبدو بالأحرى أن شيئا ما خصوصيّ ومتفرّد قد قيل تحديدا في شكل سرد- سردٍ موضوعه تحرّر قد انقضى. يشهد مفهوم ” لاهوتيات التقاليد” « théologie des traditions » الذي تبناه جرهار فان راد Gerhard von Rad في المجلد الأوّل من كتابه لاهوت العهد القديم (10)، على الطريقة الأكثر ملائمة لهذه القرابة الوثيقة غير القابلة للتفكيك بين اعتراف الإيمان وشكل الخطاب . لا شيء يقال عن الإله، عن الإنسان أو عن علاقتهما لا يكون محمولا بملاحم معزولة أولا، ثم مجمّعة في مقاطع ذات دلالة، إلى حدّ تكوين حكاية متّصلة، ممركزة على حدث أو أحداث نواة . هذه الأحداث النواة تتضمنّ إحالة تاريخية إلى الماضي كما تتضمن بعدا رسالياّ. ينظّم إذن، جارهار فان راد إحدى أكبر الحكايات حول نواة سردية – رسالية لدوتيرونوم، لسفر التثنية Deutéronome 26, 5 :” كان أبي أرمينيا تائها حلّ بمصر وقد جاء إليها لاجئا بعدد قليل قبل أن يعود إليها وقد أصبحت أمة عظيمة، قوية وكثيرة العدد، الخ. ” إنّ الطريقة التي بها يدمج هذا ” الاعتقاد القديم ” البعد السردي والبعد الرسالي في بعضهما بعضا، هو بالنسبة إلى التأويلية ذو معنى واسع. فمن جهة، يسمح اعتبار بنية الحكاية باتساع المنهج البنيوي إلى ميدان التفسير. l’exégèse. ومن هذه الناحية، فإنّ مقارنة بين فان راد وبنيويّو les structuralistes مدرسة الشكلانية الروسية وبين بنيويّي structuralistesالمدرسة الفرنسية المابعد سوسيرية ستكون مفيدة. ومن جهة أخرى، فإنّ العلاقة بين البنية والرسالة تُقْلَب حالما نبدأ في اعتبار الوجه الآخر المقابل للحكاية، أي الاعتراف ذاته. غير أن هذا البعد الآخر ليس قابلا للفصل عن بنية السرد. فلا يمكن لأيّ لاهوت أن يرتبط بشكل الحكاية، سوى لاهوت يمجّد جافييه Jahvé بوصفه المحرّر العظيم. هذه النقطة تكفي للتأكيد على الاختلاف الحاسم بين إله إسرائيل وإله الإغريق. فمفاهيم من قبيل علّة وأساس وماهية الخ، مفاهيم غريبة تماما عن اللاهوت التقليدي . إذ يتحدّث هذا الأخير، بالأحرى عن إله في توافق مع الدراما التاريخية المؤسسة في قصّة التحرير.إنّ هذه الطريقة في الحديث عن الإله ليست بأقلّ امتلاء بالمعنى من حديث الإغريق عن الإله. يتعلّق الأمر بلاهوت متجانس مع بنية السرد، أي بلاهوت في شكل Heilsgeschichte تاريخ الخلاص (11).
لقد توسّعت هنا، وهو المفضل، في مثال بنية السرد والدلالة اللاهوتية التي تناسبه. يجب علينا تناول نفس البحث في شأن الأشكال الأدبية الأخرى، قصد توضيح التوترات الكامنة في الخطاب اللاهوتي الذي يوافق تعارضات البنية . إنّ التوتّر بين السرد والتنبوء في هذا الصدد مفيد جدّا، و يتّسع التعارض بين شكلين شعريين – الكتابة هنا، و وسيط الوحي l’oracle هناك – ليمتدّ إلى إدراك الزمن، هو مؤيّد في حالة، ومتداع في أخرى؛ وتتأثّر دلالة الإلهي حتّى بحكم أن تاريخ الشعب هو هنا مؤسّس ومعزّز وهو مهدّد بالموت هناك. لا يمكن أن يدرك البعد الخلاّق مع التنبؤ إلاّ إلى ما بعد فاصل من الظلّ والعدم: إله التّيه يجب أن يصبح إله النفي، إذا ما وجب أن يكون ناجعا في المستقبل وليس في الذاكرة فحسب. لابدّ من القدرة على فحص أزواج أخرى متباينة(12)، في المستوى المزدوج للشكل والمحتوى: مثلا، بين التشريع والحكمة، بين الحَمْد والمَثَلِ السائر، الخ. يبدو الإله كلّ مرّة في كل الخطابات، في شكل آخر : أحيانا بوصفه بطل التحرير، وأحيانا بوصفه رحيما، وأحيانا أخرى بوصفه مَنْ يسمح بأن يُقترب منه في وضعية الحوار، وأحيانا بوصفه من ينسحب إلى مجهوليّة النظام الكوني …قد يسمح تحليل لاحق ببيان أنّ كلّ أشكال الخطاب ترسم نظاما دائريا ؛ وأنه بالتالي، يستمدّ المحتوى اللاهوتي معناه من كوكبة مجموع هذه الخطابات. تبدو اللغة الدينية إذن مثل تعدّد أصوات ناجم عن هذه الدائريّة. وقد يكون من الصعب إثبات هذه الفرضية بشكل نهائي : قد يكون ختم الشريعة عرضيا جدّا للسير في التسلسل الوحيد للأشكال. غير أنّ ختم الشريعة ليس صدفيا جدّا ولا عرضيّا جدّا ولا عنيفا جدّا بحيث يُقصي الاعتراف، من قبل جماعة معينة، بتشبّع فضاء معين للمعنى. هذا العمل الذي ينغلق على نفسه، والذي يسمّى الإنجيل يرسم للتأويل فضاء حركة محدّد بدقّة، داخله تكون أشكال الخطاب والمعنى اللاهوتي في علاقة ترابط متبادل . فليس من الممكن، حينئذ، بلوغ دلالة الخطاب الدينيّ بالاستغناء عن المنعطف المضني لتفسير بنيويّ مطبّق على أشكال الخطاب.
3- عالم النصّ والكائن الجديد:
من الممكن الآن تناول الفرضية الثالثة لفلسفة هرمونوطيقية للّغة الدينيّة. وفق هذه الفرضية الثالثة، فإنّ ادعاء الحقيقة، الذي رفعه الخطاب الفلسفي، يُعيّر هو بذاته، بمقولات خاصة بهذا الخطاب. تفتح الفلسفة الهارمونيطيقية هنا أيضا، الطريق لتناولٍ مخصوص للعبارات والوثائق والنصوص الدينيّة تحديدا.
والمقولة التي يجب إدماجها هنا هي مقولة ” عالم النصّ” . هذا المفهوم يوسّع للأعمال المركّبة للخطاب ما نسمّيه بعدُ مَرْجَعًاréférence . نحن نعرف الفرق الذي أبانه جوتلوب فراج (13)، على مستوى الأقوال المعزولة، بين دلالة ومرجع. فدلالة عبارة هو موضوع مثالي مستهدف؛ وهذا المعنى أو الدلالة محايث للخطاب. يحيلنا المرجع إلى الخارج- ألسنيextra-linguistique ويمثّل قيمة الحقيقة بالنسبة إلى القضيّة، أي ادعاءها بلوغ الواقع. تميّز هذه الخاصية خطاب اللغة الذي لا يتضمن أي إحالة إلى الواقع: تحيل كلمة في النسق المعجمي، إلى كلمة أخرى فحسب، حسب علاقات تباين وتعارض. الخطاب وحده هو الذي يتعلّق بالأشياء، يتّجه إلى الواقع ويعبّر عن العالم. والسؤال الذي يُطرح هو إذن هذا : ما الذي يحدث للمرجع حينما يصبح الخطاب نصّا؟ أليس المرجع متغيّرا بفعل الكتابة و، قبل كلّ شيء، ببنية الأثر، إلى حدّ يصبح فيه إشكاليّا تماما؟ يجد المشكل حلّه بسهولة، في الخطاب الشفوي العادي، بفضل الوظيفة “الإظهارية”monstrative » أو « ostensiveأو الإشارية ” للغة. وبعبارة أخرى يحلّ مشكل المرجع بواسطة قدرة المتكلّم على إظهار الواقع ( أو الإشارة إليه ). وحينما لا يستطيع المتكلّم الإشارة إلى الشيء الذي يتكلّم عنه، يمكنه أيضا، من خلال توصيفات دقيقة، تحديد موضِعِه داخل نسق فريد مكاني- زمانيّ ينتمي إليه المتكلمون. يمثّل هذا النسق على أقصى حدّ فضاءَ مرجعِ لكلّ خطاب ممكن.
تصبح الأشياء أكثر صعوبة مع الكتابة. أولا تفتقر إلى وضعية مشتركة بين الكاتب والقارئ. ومن جهة أخرى، لا يمكن استيفاء الشروط العينية للإظهار. لكن الكتابة خاصّة تسمح بتكوّن أشكال أدبية تُستعمل موضوعيا في حذف كل ارتباط بالشبكة المكانية – الزمانية الوحيدة وبالتالي بإلغاء، على الأقلّ في تقريب أوليّ، الإحالة المرجعية إلى واقع معتاد. لقد تمّ دفع هذا التعليق لكلّ إحالة إلى واقع معطى مسبقا، إلى أقصى حدوده في بعض الأشكال الأدبية المعاصرة. ويبدو أنّ دور هذه الأخيرة إذن هو تدمير العالم. ويبدو أن اللسان لا يحتفي إلاّ بذاته، بتحرّره من الوظيفة المرجعية للغة العادية . بيد أنّه، إذا لم يتعلّق مثل هذا الخطاب المحكوم عليه بالتخيّل، بالواقع اليومي، فليس هو مع ذلك خال من كلّ قوّة مرجعيةّ. إنّه يتّجه إلى طبقة أكثر أساسية للواقع لا تصنعها اللغة المعتادة. إنّ أطروحتي هي أنّ تعليق مرجع من الدرجة الأولى، يشغّله التخيل والشعر، هو شرط تحرّر قوّة مرجعية من درجة ثانية، لا ترتبط بعالم الموضوعات القابلة للتلاعب، بل بما أشار إليه هوسرّل بوصفه ” « Lebenswelt » (حياة العالم ) وهيدجر بوصفه “« In-der-Welt-Sein ». ( كَوْنُه في العالم).
إنّ هذه الوظيفة المرجعية المعاصرة للتخيّل والشعر تحكم، في نظري، المشكل الأكثر جوهرية للهرمونيطيقا. وإذا صحّ أنّه لا يمكننا تعيين الهرمونيطيقا بجَهْدِ ( quête) ذات متخفيّة وراء النص وبالبحث البسيكولوجي عن نواياه، وإذا كنّا من جهة أخرى لا نريد أيضا اختزال التأويل في وصف لبنيات النصّ، فإن السؤال الذي يُطرح هو في معرفة ما يجب تأويله على وجه الخصوص. إنّ جوابي هو أن التأويل هو الاعتراف بنمط الوجود – في- العالم الذي يسقطه النصّ. وليُسْمح لي هنا بالتذكير بالمفهوم الهيدجري لـ Verstehen ( حياة العالم). من اللافت للنظر أنه في ” الكينونة والزمن” Sein und Zeit، ليست نظرية ” الفهم ” comprendre” متصّلة بمبحث البينذاتية – فهم آخر-، بل بالأحرى ببنية الكائن – في – العالم. وبالتحديد، فإنّ الفهم هو بنية فحصها يتبع بنية la Befindlichkeit- ” الوجود في وضعيّة”. إنّ لحظة ” الفهم” تستجيب جدليا للحظة التي ” أجد فيها نفسي” se trouver”، من حيث أنّي مشروع إمكانياتي الأكثر خصوصية في الوضعيات التي قُذفنا فيها. أودّ استعادة مقولة ” المشروع”، المنزوعة لدى هيدجر من كلّ دلالة إرادوية، وتطبيقها على نظرية النصّ. إنّ ما يسمح بالخصوص بتأويله في نصّ، هو مشروع عالم، عالم يمكنني الإقامة فيه، و يمكنني فيه أن أضطلع بإمكاناتي الأكثر خصوصية. هاهنا ما أسمّيه عالم النصّ – العالم الذي يملكه هذا النص الفريد. ليس عالم النصّ موضوع السؤال هنا هو عالم الخطاب المعتاد. في هذا المعنى، يوجد على مسافة من الواقع اليومي. يشتغل التخيّل على هذه المسافة في فهمنا للعالم. وتنفتح، بواسطة التخيّل وبالشعر إمكانيات جديدة للوجود في العالم، في صلب الواقع اليومي. هذه الإمكانيات هي فعلا إمكانيات موجود، لكن ّ هذا الموجود لا يمسك بوجوده الخاص إلاّ في نمط الممكن تحديدا لا في نمط المعطى. هكذا يقع تحوّل الواقع المعتاد، وذلك بواسطة تغيّرات تخيّلية تطبّقها الأعمال الشعريّة على الواقع. ومن بين كلّ أنماط التعبير ذات الطابع الشعريّ، فإنّ التخيّل هو الأداة المميّزة لإعادة وصف الواقع. إنّ اللغة الشعريّة هي اللغة التي، أكثر من أيّ شيء آخر، تساهم فيما يسمّيه أرسطو، في اعتباراته للتراجيديا، محاكاة la mimèsis الواقع. ذلك أن التراجيديا تحدّ الواقع من حيث أنّها، تعيد فحسب خلقه في ميثوس muthos ( الأسطوري). (14). لنطبّق الآن مفهوم عالم النصّ على نصوص دينية مخصوصة، مثلا على النصوص الإنجيلية. تمثّل النصوص الدينية في رأيي، بالنسبة إلى تأويلية فلسفية، صنفا من النصوص الشعريّة. وهي تهدف إلى إعادة وصف الوجود بطرق مختلفة. إنّ خصوصيتها هي البحث داخل هذه الخاصيّة المشتركة بين النصوص الشعريّة الأخرى.
لكن، قبل تدقيق هذا الاختلاف، لنستخلص كل النتائج من تطبيق بسيط لهارمونيطيقا النصوص الشعرية على نصوص إنجيلية. لا يُخضع هذا التطبيقُ التأويلَ لقانون غريب، بل يقوده إلى نواته الخاصّة ويحرّره من عدد من الأوهام. إنّ التطبيقات اللاهوتيّة ذات اعتبار. أولا، تحذّر التأويلية من لجوء متسرّع سابق لأوانه لمقولات وجوديّة نريد من خلالها خلق توازن للتحليل البنيوي. وتطلب التأويلية العامّة بالأحرى التفسير البنيويّ وفهم للذات مقحم، بعنوان وساطة ضروريّة، وانفتاح عالم النصّ. يشكّل ويغيّر هذا العالمُ فهم القارئ لذاته وفق مقصده الخاص. ولا تتمثّل المهمّة الخاصّة للتأويلية في إثارة قرار القارئ، بل في نشر العالم المتضمّن في النصوص الإنجيلية. وقبل كل انفعال، وقبل كلّ استعداد إيماني أو لا إيمانيّ، فإنّ عالما يُقترح، هذا العالم الذي يسمّى، في لغة الإنجيل، عالما جديدا، مملكة الربّ، وكائن جديد. تلك هي الوقائع المطبّقة في النصّ والتي تبدأ في الوجود مع النصّ. ويمكننا في هذا المعنى، الحديث عن ” موضوعية ” الكائن الجديد الذي أسقطه projeté النص.
– التطبيق الثاني : إذا منحنا أسبقية لمشروع العالم، فلا يمكن إذن لمشكل الإلهام أن يطرح من الجانب النفسي. لا يمكن أن يكون الإلهام حالة ذهنيّة سيسقطها القارئ بعد ذلك على النصّ. الإلهام سمة للوحي والوحي يعني بدرجة أولى مشروع الكائن الجديد المتضمن في النصّ. يجب إذن الذهاب إلى حدّ القول بأنّ نصّا يُوحى به من حيث أنه يُوحي بعالم. ( 15) إنّ الوحي، إذا ما كان على العبارة أن تحتفظ بمعنى، خاصّية العالم الإنجيلي. وهذا العالم ليس موضوع قصد بسيكولوجية مباشرة، بل تتوسّطه بنية أنماط الخطاب. وكلّ ما قيل أعلاه عن العلاقة بين شكل الخطاب والدلالة الرسالية ( التبليغيّة) kérygmatique، أو بين شكل التنبّؤ ومحتوى الوعد، يمثّل المَنْفَذَ الوحيد الممكن إلى ما يمكن أن نسمّيه الآن العالم الإنجيلي. يستمدّ الوحي كل قوّته من التباين والتقاطع بين كّل أشكال الخطاب الدينيّ .
– التطبيق اللاهوتي الثالث: بما أنّنا نتكلّم هنا عن عالم في معنى أفق جامع، فلن نعرف كيف نفضّل الطابع الشخصياتي personnaliste، العلاقة أنا – أنت، في مجموع العلاقات المسقطة بين الإنسان والإله. يتضمن العالم الإنجيلي جوانب كونية- هو خلق -، وجوانب مجتمعية- يتحدّث به شعب-، وجوانب تاريخية وثقافية- يتعلق الأمر بإسرائيل ومملكة الربّ-، وأخيرا، أيضا، جوانب شخصيّة – يتعلق الأمر بتضرّع وثناء. ويدعى الإنسان وفق تعدّد الأبعاد التي هي أيضا كوسمولوجية وتاريخيّة بقدر ما هي انتروبولوجية وإيتيقيّة وشخصانيةّ.
– تطبيق رابع يفرض نفسه. لقد بينّا أعلاه بأنّ عالم النصّ ” الشعري” هو عالم مسقط، محمول على مسافة شعرية من الواقع اليومي. أليس الكائن الجديد حسب الإنجيل، حالة تباعد بامتياز؟ ألا يخطّ هذا الكائن طريقه عبر التجربة اليومية على حساب الانغلاق الظاهر لهذه التجربة؟ أليست قوّة هذا المشروع قوّة قطيعة؟ ألا يجب القول إذن، بأنّ الواقع المنفتح في صلب اليومي هو واقع آخر، أي واقع الممكن؟ تتوجّه عبارة ” اقتربت مملكة الربّ ” في اللغة اللاهوتيّة، إلى الممكنات الأكثر خصوصية، لكن إلى ممكنات معناها ليس في متناولنا. إنّ المسلك الذي اتبعناه إلى حدّ الآن هو مسلك تطبيق بسيط لمقولات هرمونيطيقية إنجيلية تُفهم بوصفها هرمونيطيقا ” جهوية”« régionale » ” . إنّ أطروحتي هي أن خصوصيّة المحتوى الإنجيلي لا يبدو إلاّ في نهاية هذا المسلك. لجاهار اوبلينغ Gerhard Ebeling في هذا الصدد، الحقّ : حينما نتناول فحسب الإنجيل بوصفه كتابا من بين كتب أخرى، يتأكّد بوصفه كلام الربّ. (16). يتميّز الخطاب الإنجيلي، من بين كلّ السمات التفاضليّة للخطاب الإنجيلي، بالطبع بوصفه ” حديث الربّ” « God-Talk » ( بعبارة جان ماكاررّي John Mcquarrie (17). لكن لا يمكن فصل دلالة هذه الإحالة إلى الربّ عن الوظيفية المرجعية لأشكال الخطاب التي أثرناها أعلاه: سرد وتنبؤ وحمد أو ثناء ومَثَل، الخ ..فالإله- المرجع مستهدف من كلّ الخطابات الجزئية. إنه في الآن نفسه المؤشّر على انتمائها المتبادل ومؤشّر عدم اكتمالها. إنه مقصدها المشترك وما يفلت من كلّ واحد. ولا تفهم كلمة “الربّ” في هذا الصدد بمثل مفهوم فلسفي، كما كانت في دلالة فلسفية في القرون الوسطى أو في معنى هيدجري. فكلمة ” الإله” تقول أكثر من كلمة ” كائن” لأّنّها تفترض السياق الكامل للسرديات والتنبؤات والقوانين والمزامير، الخ. إنّ فهم كلمة ” إله”، هو إتباع اتجاهِ سَهْمِ مَعناها. أعني بسهم معناها قوّتها في جمع الدلالات الجزئية، المرسومة في مختلف الخطابات الجزئيّة، وفتح أفق لا يُحدّد بختم أيّ خطاب. هذا الهروب إلى لانهائيّ الإله – المرجع مُقْتَرَح من بنيةٍ خاصّةٍ لعدّة أشكالِ خطاب إنجيلية. إنّ المبالغة في الروايات الرمزية، والمفارقة في الأمثال، و الانفصال في الزمن المسمّى أخروي تفعّل في الخطاب ضربا من الثغرة ومرورا إلى الحدّ الأقصى، بفضله تتجاوز اللغة الشعرية ذاتها إلى لغة دينيّة. إنّ هذه العبارات القصوى تُمثّل، على الصعيد المقابل – لاهوتي، ما يمكن أن يكون المفاهيم – القصوى للاهوت، حينما يُدْمج هذا الأخير ” معدّلات modificateurs ” تناظرية أو سلبيةّ. لابد أن نقول بالمثل عن كلمة ” المسيح” . ولابد أن نضيف، إلى الوظيفة المزدوجة لكلمة ” الإله” – وظيفة تجميعية ووظيفة نقصان- وظيفة ثالثة، أي القدرة على تجسيد كلّ الدلالات الدينيّة في رمز فريد، رمز الحبّ القرباني الأقوى من الموت . إنها وظيفة منح كلمة ” الله” متانة، وكثافة تفتقر إليها كلمة ” كائن” . ” تحيل كلمة ” الإله” ” في المسيح” إلى هِبَةٍ مقسّمة بيننا وإلى علاقة يمكن أن تكون لنا مع هذه الهبة التي نستقبلها ونعترف لصاحبها بالفضل.
على هذا النحو يمكن للهرمونيطيقا الإنجيلية أن تضطلع بمهمّة بتفسير نشأة وتمفصل الكلمة ” الله” في فضاء المعنى المحدّد بمتن النصوص الإنجيلية. نفهم الآن في أي معنى تكون الهرمونيطيقا الإنجيلية في الآن نفسه حالة خاصّة لهرمونيطيقا عامّة وحالة فريدة . حالة فريدة من حيث أنّ هذا الكائن الجديد، الذي تتحدّث عنه الأنجيل، لا يمكن أن يوجد إلاّ في كلام هذا النصّ. وحالة متفرّدة، لأنّ كل الخطابات الجزئية تتعلّق باسمٍ يشير إلى نقطتها المركزية ولأنّ الاسم يتطابق مع الحدث- المعنى المبشّر به بوصفه قيامة .غير أنه لا يمكن للتأويلية أو الهرمونيطيقا الإنجيلية أن تعبّر عن شيء ما فريد إلاّ إذا كان هذا الأخير قد انكشف بوصفه عالم النصّ، وحينما يدعونا هذا العالم ذاته في النص، وعبر النصّ ومن وراء النصّ.
خاتـــــــــــــمة
ليسمح لي، في الختام، أن أعود إلى مفهوم الإيمان الدينيّfoi religieuse الذي أبَيْنا أن نجعله مباشرة مبحثا، والذي لا يُدرك فحسب إلاّ بواسطة تعبيراته اللغوية والشعريّة. لن يبدو الإيمان، بالنسبة إلى تأويلية فلسفية، كتجربة مباشرة، بل دائما بوصفه تجربة ممفصلة في لغة. أودّ أن أدمج من جديد مفهوم الإيمان، في نهاية هذا المسار، بربطه بمفهوم فهم الذات قبالة نصّ. إنّ الإيمان هو سلوك من يتأهب لتأويل ذاته بتأويل عالم النصّ (18)سيكون هذا هو التحديد التأويلي للإيمان الإنجيلي.
يسمح هذا التحديد بالتخلّص من كلّ اختزال نَفْسَنِي psychologisante للإيمان . وليس هذا لأنّ الإيمان في الأصل هو فعل يأبى أن يختزل ذاته في اللغة. على هذا الأساس يمثّل الإيمان نهاية كلّ تأويلية والأصل الغير هرمونيطيقي لكلّ تأويل.
تبدأ حركة التأويل وتنتهي بشجاعة قرار ما هو يسيرا ولا منهكا بالتعليق. يمكن للإيمان، في ضوء هذا الطابع الماقبل ـ لغوي، أن يُعيّن بوصفه ” انشغالا أقصى” ( 19 )، كامنا في كلّ قراراتي .
يمكننا إذن أن نسمّيه أيضا” الشعور باستقلالية مطلقة ” (20)، للتأكيد على كونه لم يكن سوى جوابا لمشيئة تسبقني. يمكننا أيضا أن نسمّيه” ثقة لا مشروطة” ( 21) إذا ما أردنا أن لا نفرّقه عن الأمل الذي يشقّ طريقه متخطّيا كلّ العوائق والذي يُحوّل كلّ مبرّر يأس إلى مبرّر للأمل. يفلت الإيمان بواسطة كلّ هذه السمات من التأويلية ويشهد بأنّها ( أي التأويلية) ليست لا الكلمة الأولى ولا الأخيرة.
لكن تأتي التأويلية لتذكّرنا بأنّ الإيمان الإنجيلي لن يكون بإمكانه الانفصال عن التأويل الذي يرفعه إلى اللغة. و سيظلّ ” الانشغال الأقصى أو النهائي” صامتا إذا لم يسنده كلام مجدّد باستمرار بتأويل العلامات والرموز الذي، إن جاز التعبير، يورّثه عبر القرون. أمّا عن ” الشعور بالاستقلالية المطلقة ” فسيظلّ شعورا ضعيفا إذا لم يتطابق مع مشروع كائن جديد يفتح إمكانيات جديدة لوجودي. يظلّ الأمل، أو ” الثقة اللامشروطة”، متجدّدة باستمرار بفضل الأحداث – العلامات التي تؤكّدها الكتب “المقدسة” les Écritures، وبالخصوص قصص التحرّر في العهد القديم وقصص القيامة في العهد الجديد. إنّها هنا الأحداث التي تعني الإمكانيات القصوى لحرّيتي وبالتالي تصبح كلام الله بالنسبة إليّ. ذلك هو التحديد الهرمونيطيقي للإيمان الإنجيلي“.
بول ريكور ” الدين من أجل التفكير”، كتابات ومقالات، فصل 6 ” الفلسفة وخصوصية اللغة الدينيّة” ص 199. نشر سوي، باريس 1975.
– هوامش:
1- مقال نشر في ” مجلة التاريخ والفلسفة الدينية” ( جزء 55 عدد 1، 1975، ص 13),
2– انظر ” تسمية الربّ” في قراءات 3 ص 282 . أنظر إنفرا، ” التجربة واللغة في الخطاب الديني “.
3- انظر فيجنشتين ” بحوث فلسفية ” 1953 ترجمة فرانسوا داستير باريس قاليمار 2005 وانظر أوستين ” حينما يكون القول فعلا ” ترجمة جورج لان باريس سوي 1970 .
4- يطوّر ريكور مفهوم الحقيقة – الكشف في 1977 في ” تاويلية فكرة الوحي”( كتابات ومحاضرات 2 ً 238).
5- انظر إيان ـ. رمسي، اللغة الدينية، براس 1957 وفريديريك فيري، اللغة الدينية هل لها معنى ؟، المنطق المعاصر والإيمان 1961 ترجمة كل، بيسيارياس، باريس، سارف، 1970
6- أنظر “تسمية الرب” نص مذكور في ص 289-296.
7- يعرّف نعوم تشموسكي” النحو الوليدي” بوصفه ” نسق قواعد يشير إلى وصف بنيوي لجمل، بطريقة صريحة ومحدّدة بدقة”. ” مظاهر النظرية التركيبية” 1965 ترجمة }. كلود ميلنار، باريس سوي 1971ص 19 . وسعّ ريكور مفهوم ” الشعرية التوليدية ” عام 1975 في التاويلية الأنجيلية” ص 185).
8- انظر، في الأسفل هامش 10
9 -أنظر أموس ن. ويلدر، وإيرلي كريستيان ريتوريك : لغة الإنجيل، لندن براس1964 – ويليام أ. بيردليس أدب النقد في العهد الجديد – فيلادلفيا – نشر 1970
10- انظزر في الأعلى وفي الأسفل
11- تاريخ الخلاص .
12- سيقوم بذلك ريكور في ” تاويلية فكرة الوحي”، نص مذكور هنا.
13- فراج غوتلوب في كتابات فلسفية ترجمة إيمبار باريس 1971 ص 102
14- حول التقليد ميميزيس بالحكاية ( ميتوس) انظر الزمن والرسد ” جزء الدخيل والنصّ التاريخي باريس – سوي1971 ص 1026- 126.
15- أنظر ” تاويلية فكرة الوحي ” ريكور نص مذكور هنا ن التمييز المفهومي بين الموحي والموحى يبه يقرا بعدُ في الفصل الأخير من رمزية الشرّ، بعنوان” دورة الأساطير” .
16- يعلق ريكور مطوّلا التاويلية اللاهوتية لجيرار إيبلينغ إنطلاقا من كتابه Wort und Glaube (1960) في “« Ebeling ، حيث يؤكّد معه على ضرورة تاويل الإنجيل بوصفه نصا كأي نص ( غلإيمان – التربية عدد 78، 1967 ص49-50).
17- أنظر جان ماكاري، كلام الرب” في” Examination of the Language and Logic of Theology,”. لندن نشر 1967
18- أنظر أسفله
19- يستعيد ريكور مختلف التعريفات اللاهوتية للإيمان دون الإشارة إلى أصحابها ( مثلما هو الشأن في كتاب ” من النص إلىالعمل ص 130-131)، وهو ما يفعل خلافه في ” التجربة واللغة في الخطاب الديني” ( أنظر أسفله . يبدأ بالتعريف التيليشي، ديناميكة الإيمان 1957 ترجمة أ. جونال، سويسرا – كيباك لافال، 2012 ص11-14
20- انظر شلايرماخر و كريستلايش غلوب Der christliche Glaube ( 1830-1831) ج 1 :” إنّ السمة المشتركة لكّل أشكال الظهور (…) للشفقة، والذي بواسطتها تتميّز في ذات الوقت عن المشاعر الأخرى، وبالتالي الماهية المماثلة لذاتها للشفقة، هي أن يكون لنا وعيا بذواتنا بوصفنا مرتبطين أو، وهو ما يعني نفس الشيء، بوصفنا في علاقة مع الإله” ( ذكر وترجم من إيميلو بريتو ” الشعور الديني حسب شلايرماخر ” المجلة اللاهوية الجديدة جزء 114 عدد 2 1992 ص194).
21- في ” التجربة واللغة في الخطاب الدينيّ ريكور يجمع هذا التعريف ببارط وببيلتمان .