تقديم
يعتبر القرآن الكريم كتاب الأمة الإسلامية، ومنهجها في الحياة، كانت تستقي منه الأحكام الشرعية، وتستمد وتستخلص قيمها العليا في هذه الحياة، بحيث أعدت عدة بحوث نظرية أكاديمية، وأنجزت عدة دراسات تطبيقية لخدمة كتاب الله تحقيقا وتوثيقا واستمدادا وبيانا وتفسيرا، على امتداد العصور وعلى مر الأزمان، وهو ما جعل العلماء يتناولون القرآن الكريم بالبحث، ويتابعونه بالدرس في جميع أبعاده ومكوناته، وفي جميع جهاته ومستوياته وعناصره، وحتى في امتداداته الزمانية والمكانية.
ـ خدمة القرآن الكريم
وقد عمل علماء الإسلام في جميع العصور على خدمة القرآن الكريم رواية ودراية، وأفنوا أعمارهم بتتبع كل صغيرة وكبيرة تخص العلوم المتصلة بالقرآن الكريم، ووضعوا كل ما جادت به عقولهم، وأفكارهم من مؤلفات وكتب، تخص وتتعلق بما له صلة مباشرة بالبحوث والدراسات في المجال المتصل بالقرآن الكريم، وأصبحت هذه البحوث مفخرة لعلماء المسلمين في الكتابة والتأليف والتصنيف في علوم القرآن بجميع فروعه وأقسامه، وكانت العناية بالقرآن الكريم حاضرة في مختلف مراكز ومؤسسات البحوث العلمية المنتشرة والموزعة في الجامعات الإسلامية.
وهذا ما يعني بأن القرآن الكريم، نال عناية كبيرة بين العلماء قديما وحديثا، بحيث لم يظفر أي كتاب على وجه الأرض بما ظفر به القرآن الكريم من النظر، ومن البحث المتواصل، ومن المتابعة العلمية المستمرة، ومن العناية غير المنقطعة في التأليف والتصنيف والتعريف والتفسير، وهذا الجهد العلمي الكبير، كان من أجل تحصيل المعنى المراد، وتلقي هذا المعنى بشكل سليم وسديد، وإدراك المقصد المحمول في المعاني التي جاءت في نصوص القرآن الكريم.[1].
قال المفسر الإمام البيضاوي ت675ه في مقدمة تفسيره “لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكم فيه، إلا لمن برع في العلوم الدينية، كلها أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات والفنون الأدبية بأنواعها”.[2]
ولعل المعنى نفسه نجده عند الإمام الشاطبي الغرناطي، الذي وصف القرآن الكريم في كتابه الموافقات بقوله:
“ولقد تقرر أن الكتاب العزيز كلية الشريعة، وعمدة الملة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلا الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه.
وعلى هذا الاعتبار، لزم ضرورة لمن رام وقصد الاطلاع على كليات الشريعة، وأراد إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذ القرآن الكريم سميره، وأنيسه، وأن يجعله على مر الأيام والليالي نظرًا وعملاً، فيوشك أن يفوز بالبغية وأن يظفر بالطلبة وأن يجد نفسه في السابقين، والرعيل الأول، فإن كان قادرا على ذلك ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة البينة للكتاب وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين أخذ بيده في هذا المقصد الشريف والرتبة المنيفة.”[3]
-موقع اللغة في المدونة التفسيرية
علم التفسير من أهم العلوم المتصلة بفهم وتلقي المعنى واستخلاصه من القرآن الكريم، فهذا العلم كان القصد منه هو الوقوف على المعنى المراد في النص القرآني لإدراك المعاني، والوصول إلى مقاصده، ذلك أن القرآن الكريم كان دائما هو أشرف العلوم، والفهم لمعانيه من أولى الأولويات، لأن شرف العلم من العادة، أن يرتبط ويقترن بشرف المعلوم الذي هو علم التفسير.
ومن الإشارات الأولية التي ينبغي التصريح بها، أن الاشتغال على اللغة من لدن المفسر، وعلى ومباحثها وقضاياها، أملاه التعلق وارتباط البيان والفهم وتلقي المعنى بالدراية باللغة العربية.
ومن مقدمات التفسير، ومداخله الأساسية، أن فهم النصوص الشرعية فهما صحيحا وسليما وسديدا من لوازمه الأساسية، ومن قيوده ضبط اللغة التي بها كتب النص الذي هو موضوع التفسير..
وهذا المقتضى المنهجي هو ما عبر عنه الإمام جمال الدين الاسنوي في كتابه نهاية السول عندما صرح بأن :”علم العربية من اللغة، ومن النحو والتصريف، لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة، فلا يمكن استنباط الأحكام منها إلا بفهم كلام العرب إفرادا وتركيبا….”[4] .
فلا يتصور أن يتصدى للتفسير من لا علم له باللغة العربية، وليس من المعقول أن يقدم على التفسير من لا دراية له باللغة العربية ولا بعلومها، ولا بأسرار لغته ودلالته، وكل ما له علاقة بالتفسير..[5]
ومن مقتضيات التفسير التمكن والمعرفة بالقواعد اللغوية، فهذا المفسر ابن جزي الكلبي الغرناطي ت741ه نص في مقدمة تفسيره بقوله “….وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال، وما، أحوج المفسر لهذه القواعد …..”.[6]
الثقافة العربية الإسلامية والتفسير
أدركت الثقافة العربية الإسلامية في بداية نشأتها أن الحاجة ماسة وضرورية إلى تأسيس منهج يضبط عملية الفهم، ويسدد عملية البيان، وينظم عملية التأويل من خلال إظهار الأصول المعتمدة ووضع الشروط و الضوابط المعينة على التفسير، وهو ما دفع بعلماء الإسلام إلى الاعتناء أو الاهتمام بمنهج الفهم وبمسالك البيان والاستمداد.
ـ اللغة في التفسير
من أبرز تفاسير القرن الرابع الهجري تفسير الإمام ابن جرير الطبري الذي يعد مدونة تفسيرية كبيرة، إذ حمل هذا التفسير اللغة والبلاغة وعلم النحو، وعلم المعجم، وعلم القراءات.
هو كتاب جامع البيان في تفسير القرآن للإمام الكبير والمحدث الشهير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، وهو أجل التفاسير وأشهرها، ويعتبر الطبري أبا للمفسرين باتفاق العلماء.
بحيث إن النسبة الكبيرة من علماء التفسير استفادوا من تفسير الإمام الطبري من حيث النقول والروايات التي جاءت متضمنة فيه.
ونظرا لموقع لهذا التفسير من حيث العلوم المحمولة فيه، فلقد كان الأثر والوقع الكبير في تفاسير الغرب الإسلامي إلى درجة أن ابن حزم الأندلسي ت 456ه في مقارنته بين تفاسير المشارقة وتفاسير الأندلسيين جعل تفسير من الإمام الطبري موضع مقارنة، ومحل موازنة بينه وبين تفسير بقي بن مخلد الأندلسي الذي عاش في القرن الثالث الهجري.
وبحكم هذا الموقع العلمي الوازن الذي ناله تفسير الطبري بين الأندلسيين، فقد قام محمد ابن أحمد ابن عبد الرحمن التجيبي الأندلسي باختصار تفسير الطبري في كتاب خاص [7].
لعل هذا الوصف جعل هذا التفسير يعد من التفاسير التي نالت شهرة واسعة، ولقيت متابعة كبيرة، وهذه الشهرة مرجعها أن هذا التفسير يعد موسوعة تفسيرية كبيرة حاملة لمجموعة من العلوم والمعارف، من ذلك المعارف اللغوية البلاغية و المعجمية والأسلوبية [8].
التلقي السليم للنص القرآني
إن التلقي السليم للنص القرآني، يتأسس على منهجية محكمة و صارمة، ويقوم على مجموعة من القواعد والأصول يتداخل في فيها المنقول بالمعقول و النظر بالاجتهاد، لأن الأصل في التفسير هو النقل، أما النظر والاجتهاد وإعمال العقل فهو خادم تابع للمنقول، ومن القواعد المقررة والمتعارف عليها بين المفسرين والأصوليين أن الاجتهاد في التفسير ان كان مجردا المجرد عن النقل مردود ومرفوض، وهذا من قبيل القواعد والكليات المجمع عليها بين جميع علماء الإسلام قديما حديثا .
وإذا كانت قواعد التفسير هي أداة معينة لإظهار المعنى، وإدراك القصد في القرآن الكريم لأنها مستمدة ومستخلصة بالاستقراء من اللغة العربية ومن منطقها وسننها في التخاطب، ومستمدة من مقاصد الشريعة الإسلامية . ومن شأن التقيد بهذه القواعد التفسيرية أن تساعد المفسر على التلقي السديد و السليم للنص القرآني والوقوف على المعنى .
المرجع النقلي
الذي عليه علماء التفسير، أن من الأصول الكبرى التي يتوقف عليها التفسير هو الأخذ بالمنقول، وجعله هو الأصل والقاعدة، أما النظر والاجتهاد والعقل، فهو تابع ومكمل للأصل الأول.
وهذا الضابط التفسيري هو الذي كشف عنه الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره عندما صرح بقوله بأن القاعدة، والمنطلق الأساسي في تفسير كتاب الله هو الانطلاق من المنقول واعتباره هو الأصل، واعتماد المرويات من السنة الصحيحة ومن الآثار الصحيحة….[9].
الأصول اللغوية:
إضافة إلى الأصول النقلية المعتمدة في التفسير، فإنه يستلزم استحضار مجموعة من المكونات، والعناصر اللغوية والسياقية والمعجمية قصد استخلاص المعنى من النص القرآني.
ومن ثم فإن تجاهل أي عامل من هذه العوامل من شانه أن يفسد المعنى عملية التفسير، ويجهل المفسر في منأى عن تمثل القصد و إدراك المراد، الذي من أجله نزل النص.
فكان من الضروري التقيد والأخذ، واستيفاء جميع العناصر المساهمة في استمداد المعنى من النص. خاصة ما كان له صلة بعلوم اللغة العربية، باعتبار أن كتاب الله لا يفسر إلا بتصريف مجموعة من العلوم فيه كما صرح بذلك ابن عطية في مقدمة تفسيره …[10].
وهذا يعود إلى أن النص القرآني هو في أصله نص مدون باللغة العربية لأن باللغة العربية خاطبنا الحق سبحانه كما الإمام الشافعي في مقدمة كتابه الرسالة[11] وهو المعنى الذي أكده ابن حزم عندما قال ابن جزم الأندلسي:”إن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان:…”.[12].
تبعا لهذا الاعتبار فمن أبرز مقتضيات التفسير التمكن من اللغة العربية، باعتبارها هي الأداة، والمفتاح في التفقه في الدين….[13].
-الخطاب القرءاني للدكتورة خلود العموش:- إصدار عالم الكتب الحديث الأردن-2008. ص:5-
[2] ـ تفسير الإمام البيضاوي :1ص:13
[3] ـ الموافقات للإمام الشاطبي : ج 3 ص: 345
[4] -نهاية السول لجمال الدين الأسنوي :2/103.
[5] -القرءان والتفسير العصري للدكتورة بنت الشاطئ :45
[6] -التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي :1/11
[7] مختصر تفسير الإلمام الطبري لمحمد ابن أحمد ابن عبد الرحمن التجيبي تحقيق محمد حسن أبو العزم الزفيتي الهيئة المصرية العامة للكتاب مصر: 1980.
[8] اـاتجاهات التفسير بالغرب الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري” لمؤلفه الأستاذ عبد الله إصدار الربطة المحمدية للعلماء السنة:ص 9
[9] -مقدمة تفسير الإمام القرطبي:1/22
[10] -مقدمة تفسير ابن عطية :1/5
[11] -الرسالة:52
[12] -الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم:3/9
[13] – فقه اللغة للثعالبي:35.