دوما كان الشعر يشدني بقوة منذ الطفولة ويجعلني أحلق في الكلمات وما وراء الكلمات، وكلما كان النص أمامي يحفل بالرمزية والفكرة والصور والجرس الموسيقي واللوحات كلما شدني أكثر، فالجمال بالشعر لوحات مرسومة بالكلمات تلونها روح الشاعر وما يريد قوله بتصوير لحكاية أو حدث، وألوانها مشاعر وأحاسيس وأفقها وفضائها الجمال، ومن هذه النصوص التي شدتني بقوة نصين للشاعر اسحق عثمان هما: “في مَكانٍ ما بِقَلبي” و”حنين” والشاعر من الشعراء الذين اقرأ لهم باستمرار وإن لم تسنح الظروف أن نلتقي مواجهة.
وفي النص الأول نجد أن المسرح مكان ما من قلب الشاعر ومحور النص “نَبيٌ يَختَبِئ” ولكنه “يأبى الظهور” بينما في روح الشاعر “نبوءة شفافة كالماء”، ورغم انها كماء شفيف بلا لون ولا طعم ولا رائحة ولا ثبات، إلا أنها “تترك ندوبا من خرير وحرير”، والخرير صوت والحرير ملمس، وفي هذا الوصف للحدث ومسرحه وشخوصه يتألق الشاعر في قصيدة حفلت بالرمزية وصور من جمال، فكأنها لوحات مرسومة بألوان الحروف وريشة الفنان.
هي النبوءة في روح الشاعر التي تأخذه إلى سهاد فهي “على الإمساك عصية” ولكنها نبوءة “تستفز التشويق” وتتقمصه فيقول: “أنا الفَضاء ،، وهي الأَثْير” وحين تتقمصه يقول: “أُجَسِّدُ الخَلقَ والواقِعَ”، ليكمل بالقول: ” أَجْمَعُ نَفْسي وما وَقَرَ وَقَرَّ” فيكون من الحياة في حياة، “داعيا الى نجاة”و “ضامرا على فرات”، فيكون بذلك من العين قرير حين يحتك سره بالناموس والغيب بالمبهم المجهول، ويتمازج الذي مضى بواقع الحاضر وحلم الغد الآتي، فعندها فقط “يَنداحُ الضَّبَابُ .. يَتَدَاعَى لَبْس الغُموض”، فالستر والحجب قد رفعت “عن بصيرة نفاذ” ونلاحظ هنا ان الشاعر تحدث عن البصيرة وليس البصر، فالبصر له ما يراه أمامه بالنور، والبصيرة ترى بالقلب والروح ما وراء المحجوب والمستور، فيرى الغد قبل أن يأتي وهو يصحو من سبات، والأهم انه يرى الحقائق، فيكتب الحقيقة شعرا أو نثرا وينشد للنضج والفلق وحب السنابل.. فعندها فقط يكون الحصاد..
وفي النص الثاني “حنين” ورأيت فيه ست لوحات كان الحنين يعصف بالنص، فبدأ اللوحة الأولى بالحديث على لسان تلك المرأة المجهولة التي عرف عليها بقوله: “سيدة في المساء” وهي اشارة انها في سنوات متأخرة من عمرها كما المساء لحظات نهاية النهار وبدء مرحلة العتمة، بقوله: “تقول” وهو فعل مضارع يشير للحظة الآنية وليس للماضي أو المستقبل، فتتحدث عن فهمها للحنين وتصفه أنه “مضغة الشوق، العالقة، على أغصان الضلوع والحنايا”، فالحنين لدى سيدة المساء مرتبط بالحب فهو “بين صهوة الفؤاد وصهيل القلب”، ونلاحظ أن استخدام كلمة “صهيل” وهو صوت الخيول الحرة في البراري مع الخيول الأخرى، بينما يلاحظ أن الخيول حبيسة الاسطبلات قليلة الصهيل بسبب حياتها الرتيبة وبعدها عن حرية البراري، وهذه اشارة رمزية لسيدة المساء بأنها كانت كما الخيل في البراري ولكن قلبها هو من يصهل، والحب يمتطي صهوة الفؤاد بتشبيه قوي للقلب بالجواد، فالانسان يمتطي صهوة الجواد والحب يمتطي صهوة القلب، ويبقى السؤال لماذا هذا الصهيل؟ ويأتي الجواب بسرعة فمشاعر السيدة ” تروَىَ مِن دَمعِ الحِگايَةِ .. وصَحوَةِ الذِّکْرَيات”، بينما ما تبقى لها من هذه الذكريات ومن هذا الحب “صَمْغُ الشَّذَى والحَگايا، مِن مُدِن.. وَجْهُهَا المَاء” وهذا الذي تبقى من ذكريات ” لا تُجْرَحُ فيها الـ مَرآيا !! ولا تَجْرَحُ مِنها الزَّوَايا “.
بينما في اللوحة الثانية ينقلنا الشاعر من الحنين الذي تفجر في فؤاد سيدة المساء وصهيل قلبها إلى الواقع الحالي الذي تعيش فيه، فهي الآن “على الأطلالِ تَرسو في الغَدَاةِ” ولا تكف عن الحنين والنداء لمن اعتلى صهوة القلب “شِرعَتُها وشِراعُها نِداء، على سَتائِرِ الرُّوحِ ؛ وقِبْلَةِ النَّوَايا گالشِّعرِ مُعَلَّقات..”، فلا تمتلك إلا الهرب “من ثأر النرجس” فهل أخطأت بحق من اعتلى صهوة قلبها فتخاف من ثأره؟ وخاصة أن النرجس زهرة ربيعية ارتبط اسمها بإسم الفتى المعجب بنفسه الى حد الغرور حتى تحولت صورته التي يتأملها على صفحة الماء إلى زهرة النرجس، وهي تهرب أيضا من “الغَسَقِ المُغْمِض في البَنَفْسجِ” والغسق أول عتمة الليل وظلامه والبنفسج صنف ينتج ورودا بيضاء أو بنفسجية عطرة وأوراقها كما القلب، فهل في قلب من اعتلى صهوة قلبها جمال البنفسج وعطره كما لو أنه “الناضِج على البُرتُقال ..” بسبب “جفاف النهار” برمزية لجفاف الحب، فمات الحب و”ما اسْتَوَى على سُوقِهِ !؟” كما تستوي سنابل القمح ولم يترك سوى الذكريات والحنين.
من هذه المراحل التي مرت بها سيدة المساء وشكلت التتالي لمرحلة تمر بها حتى وصلنا للذروة في القصيدة، ينقلنا الشاعر لمرحلة مهمة وهي وقفة السيدة بمواجهة نفسها أمام هذا الحب الذي كان يعصف بها، فتقف وتراجع نفسها في اللوحة الثالثة وتقرر أن لا يدمرها الماضي والتفكير فيه فهي تقف وتهمس بقوة “أعيد تدويري” وهنا مصطلح يستخدم في اعادة تدوير منتوجات سبق أن تمت صناعتها وانتهى دورها فيتم اعادة تدويرها كما اللدائن “البلاستيك” والزجاج وعلب الألمنيوم التي تستخدم بالمشروبات والعصائر والورق سواء العادي من مخلفات المطابع أو المقوى على شكل صناديق لوضع البضائع بها، وهذا يشير أن اعادة التدوير تعتمد على المادة نفسها وتعيد تدويرها بأشكال جديدة بدون أن تفقد خصائصها الأولى، ومن هنا كان الإدهاش بالنص أن سيدة النص ستعيد تدوير نفسها وهي تقصد طبعا الروح والمشاعر والأحاسيس لتتغلب على ما انتهى من مراحل مضت والبدء بمرحلة جديدة، فهي تهمس لنفسها متخذة القرار “أعيد تدويري” والهدف من ذلك “لِـ أَغْدو لُغَة الصَّباحِ الجَديدَة” وهذه اللغة نجدها بصورة جميلة “في النَّدى المَسْكوب مِن گأسِ الزَّنابِق”، فلنتخيل المشهد برؤية زنبقة بالصباح وزهرتها بأوراقها تشبه الكأس والندى الصباحي ينسكب منه “فَـ يَنهَضُ الگرَى عن خَدِّ البَتَلات”، ويهمس الندى أنه أصبح ” زَيتُ الفَوانيسِ المُسْرَج” بمرحلة جديدة حيث الحبيب يبقى “الساکِن في نَبضِ المَدَى”، ويبقى الحنين قائما “في رَجعِ الصَّدى والضَّمير”، دون انفكاك عن مرحلة مرت ويبقى الحنين” دُونَما انْفِگاک عن غِمدِ العُرى في جُمْلَةِ حَوَّاء” ويصبح الغد من جديد خيول برية حرة منطلقة حيث تؤكد سيدة النص أن الاشراقة الجديدة ستكون لها كما “على أَعناقِ صَبابا الصَّهيلِ في غَدي”.
في اللوحة الرابعة والتي تبدأ بالسؤال “كيف؟” وتتكرر فيها عملية طرح الأسئلة “في دائِرَةِ النَّاموسِ والأَلْغَاز، ودَورَةِ السِّرّ السُّؤال”، وبعدها “متى؟” نجد أن التساؤلات تنحصر بالحال والزمان حيث “يَؤولُ نِصف وَتَرِ المُجونِ؛ في قَوسِ عُرجُونٍ، يَدنو مِن بُؤْرَةِ َشْرَعُ إلى اقْتِفاءِ البِدايَة؟؟” حتى نرى سيدة النص “تَجْثو في مِحرابِ السُّکُون” وهناك وفي ذلك المحراب ” تَتَقَمَّصُ الطُّهْرَ” حتى نراها “گما أُقْحُوَانَة” فهي “لَيسَ بِجاذِبَةِ التَّمَاهي” وكأنها تهمس: لا تلوموني “لِئَلّا أُگرِّر الخَطيئَة”.
لينقلنا الشاعر للوحة الخامسة ويبدأها بالسؤال على لسان سيدة النص ضمن لوحة مرسومة بالكلمات حافلة بالتشابيه والرمزية: ” هَلْ ..؟ أَتْرُکُ تُفَّاحَةَ النُّدمان ؛ عالِقَةً على صَدرِ المُشْتَهى ؟؟ دُونَما رِداءٍ ،، تُوغِلُ في خُصوبَةِ الحُلْمِ، تَشْكو فَوَران الفُرات”، فتخيلوا معي جمالية هذه اللوحة والتشبيه والرمزية فيها وحجم الصرخات في أعماق سيدة النص التي تكمل برجاء: ” دَعوني ؛ لـِ أَرعىَ ،، أَحتَوي، ثُمَّ أَرتَدي، قَبلَ خَطايا الأرضِ، ثَوبَ السَّماء _ أوَّاب” فسيدة النص هنا في صراع داخلي بين الرغبة والمقاومة فتنهي النداء والرجاء بالحسم: “ولَيسَ كُلُّ مَن اشْتَدَّ بِهِ الجَوَى . أَصَابَ النّواة فَاحتَوَى أنينَ الخَلَجَات” وتؤكد على اصرارها: ” لَن أَتْرُگ القِشْرَ والنَّوى”.
في اللوحة السادسة والأخيرة من النص يوصلنا الشاعر الى النهاية بعد أن روى شعرا وعبر النص قصة شعرية، فسيدة النص ترى أن هذه الحياة ليست أكثر من مواسم موت فتقول: “فدَعوني لـِ أَحيَا مَواسِم هَذَا المُوت” وتقول أن الآخرين سواء المتفائل والرحال والفلاح أطلقوا عليه ” مَجَازًا ،، اسمَ الحَياة !؟”، فهي في ترى أن تحيا “بينَ وَمْضَةِ رَجاء وغَفْلَةِ اشْتِهاء” وأيضا ” دُخانِ الاْحتِراق”، ولذا تراها تهمس لنفسها: ” أَعصُرُ شَهْوَةَ أَكْمامي، مِن عُذْرِيّةِ الجَفَاف” وتواصل همساتها: ” أُدَوزِنُ إِيقاعَ اللَّذَّة، وما لَحَنَ مِن إغواء”، وهي ترى من خلال ذلك أنها حلفت بروحها وليس جسدها فتقول: ” أُلْهِمُ السَّنابِلَ ؛ مِن فَيضِ اضاءاتِ روحي” حتى تصل إلى ما تروم اليه من هدفين: ” حَتَّى أَبْلُغ – بِكُلِّ انْشِغاف – أجَل القِطاف، ” أو أصهر ذاتي في بوتقةِ الأنام” وعندها ومن قلب فَراش مهجتها الهائم تصل للنهاية وتختم الحكاية وتقول: ” أَرفَعُ شِراعِيَ المَصلوب، أُنْزِلُ المرساة”.
فنجد أنفسنا بين نصين الأول نص فلسفي في البحث عن الحقيقة الغائبة، نرى فيها الشاعر يحمل مصباح ديوجين تحت الشمس ويبحث عن اللامرئي وينشر جناحيه كطائر يشدو للإفصاح والتعبير، وفي الثاني قصة شعرية تجول في أعماق الروح وصراعها بين تضادين، فكان الشاعر في النصين متألقا بقوة اللغة وتكثيف العبارات محلقا في جمالية الفكرة، يرسم بالحروف لوحات حملت الكثير من الجماليات برمزية غير مغرقة ولكنها تحتاج قراءة متأنية ودقيقة، مستخدما التشبيه ليمنح اللوحات جمالية أخرى.
“عمَّان 15/7/2023”
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.