كانت أوروبا في العصور الوسطى ترزح تحت وطأة السلطة الدينية الكنسية المتزمتة التي قوضت العقل وكبلت الفكر الفلسفي ووأدت الحرية وحرمت السؤال، فباتت الحقيقة حكرا على الدين فقط، ومن تجرأ على الإتيان بحقيقة خارج الدين إلا ويقذف بأشكال التشنيع والتعيير ويتهم بالتجديف والضلال، وقد يؤول مصيره _ في غالب الأحيان _ إلى النفي أو الإعدام.
إن احتكار الحقيقة هذا من قبل الكاثوليكية قد أدى إلى سيادة التحجر والتحنط، ونبذ الاختلاف والتنوع، الشيء الذي تمخض عنه تفشي التعصب والتشدد للدين الواحد باعتباره الصحيح أو الصائب، ورفض الآخر ومعاداته لمجرد اختلافه العقدي، هكذا زرعت الكنيسة الفتن ودست سموم الحقد والعدوانية في شرايين المجتمع الأوروبي، أضحت معها الضرورة ملحة لرجال متخصصين لاستئصال شأفة التزمت والتكلس التي كانت تربض على صدر الجسد الأوروبي وتنخر فيه، وتحقق ذلك مع بزوغ عصر الأنوار وإشراق فكر جديد ينادي بالحرية والجسارة في استخدام العقل، عصر تسيده فلاسفة يؤمنون بقدرة الإنسان على أن يطير حرا بمنأى عن أية وصاية أو إمرة دينية وسياسية، لأن الالتصاق الأعمى بأي دين أو عقيدة يعطل العقل ويجر على صاحبه مرض التعصب.
إن مسعى الأنوار ليس هو القضاء على الدين كليا، إنها لا تدعو الناس إلى التخلي عن معتقداتهم بقدر ما تدعوهم إلى اعتناق قيم الكونية بما فيها التسامح، تلك القيم النابعة من عدالة العقل باعتباره مشتركا إنسانيا يستمد قوته من القانون الطبيعي الذي اقتضى حق الاختلاف بين الناس بحكم مجتمعاتهم وأنماطهم الثقافية، إذ أضحى مع فكر الأنوار، ذلك الآخر اللاإنسان لأنه لا ينتمي إلى المجتمع الأوروبي، إنسانا بقوة العقل، بحيث لم تعد الحقيقة مقصورة على الدين الكاثوليكي فحسب، بل أصبحت شأنا كونيا له وقعه وأثره على استتباب قيم التعايش والتسامح، بما تجود به هذه القيم من مقومات السلم والأمان، إذا غابت، حضرت العدوانية مكشرة عن أنيابها تودي بالمجتمعات في مهاوي الحرب والهلاك. هذا كان شعار فولتير نابغة عصر الأنوار في كتابه ” رسالة في التسامح “، الكتاب المسالم الذي رفع لواء التسامح بعدما كانت هذه القيمة تدخل في دائرة اللامفكر فيه، وأنزل راية التشدد والتعصب.
لقد كان هم فولتير انطلاقا من كتابه ” رسالة في التسامح ” كيفية التأسيس لقانون طبيعي إنساني يخلو من التعصب ويتضمن التسامح، فالسؤال الذي طرحه في الفصل السادس من كتابه، هل التعصب قانون طبيعي إنساني؟ يوحي برغبة فولتير الجامحة إلى استنكار التعلق بالدين الواحد والتصدي للاختلاف، وهذا يتضح جليا في نصه المرفق أعلاه، باتجاهه إلى عقد فصل بين التعصب الديني والتسامح الإنساني وتبيان مدى دناءة وسفاهة الأول، ومدى رجحان الثاني.
يستفحل التعصب الديني كلما كان الإنسان المتعصب منغلقا داخل قوقعة دينه مسكونا بيقين مطلق مقدس متعالي لا يقين قبله ولا بعده، بأن معتقده هو الأصح، ومن خالفه في المعتقد فإن مآله هو العقاب، إنه إنسان لا يفهم كيف يمكن أن يوجد دين آخر غير دينه، لذلك يلجأ إلى استصغار الآخر المختلف وتحقيره واعتباره هائما غارقا في الضلال والتيه، بل إنه يدخل في صراع مصيري معه قصد إلغاءه وإبطاله، إضافة إلى تعليق الوصوم عليه ليصير منبوذا من محيطه. فيكون الصراع إذن عنوان كل حقيقة مستوحاة من الدين، وكل صراع يكون فيه العقل غائبا يميل دائما إلى الهمجية والعنف والفوضى، ولكي يتجنب المجتمع دخول هذه المعمعة التي لا منتصر فيها يجب أن تستمد الحقيقة من مبدأ واحد أوحد لا يبث الشقاق والتفرقة بين الناس بقدر ما يذيع بينهم التوافق والترابط كما كانت ديانتهم أو ثقافتهم، فما هو هذا المبدأ؟
يحدد فولتير هذا المبدأ في الكونية، شعاره الأبرز هو: ” لا تفعل ما لا ترغب في أن يفعل بك ” [1]، معنى ذلك أن الإنسان بما هو كذلك يجب أن يتفهم الآخر انطلاقا من ذاته هو، فإن قرر هذا الانسان أن يدخل في صراع دام مع الآخر المختلف، فيجب عليه أن يتوقع ردة فعل من الطرف المقابل بمقتضى قانون الصراع، الأمر الذي سيدخله في حلقة من التصادمات والاشتباكات لا فكاك له منها، فالمتعصب ينحاز إلى الجهل أكثر من انحيازه إلى العلم بما لدى الآخرين من أفكار وتقبلها والاقتناع بها، وينجم عن ذلك جمود عقلي من جهة، وتعديا على الآخر من جهة ثانية. ومن أجل تلافي ذلك ينبغي إقامة علاقة مع الآخر ترتكز على أسس التفهم والاحترام والصفح، فضلا على تجويز حرية المعتقد وعدم قدح الاختلاف. إذا تحقق هذا كقانون إنساني، حينها فقط يمكننا الحديث عن التسامح بوصفه قيمة كونية.
لقد غرس فولتير في أرض الوعي الأوروبي بذور التسامح والحرية، واجتث منها التعصب والاضطهاد، فوضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما ننغلق ونركن للتزمت والتعصب بما يجلبانه من حروب واقتتالات لا طائل منها تجعلنا نرفل في أوحال الفوضى والبلبلة بيننا وبين الطوائف والفرق المذهبية المتنوعة، وهذا يصدر من فكرة أنانية تربط الحقيقة بدين واحد. وإما أن ننفتح ونستند إلى دعامات التسامح ونرتمي في أحضان التعايش والتحاور بما لها من وقع على استقرار المجتمع وتمتين بناءه وتقويم أعمدته، إن التسامح هو السبيل الوحيد والأوحد الذي ينحو بالإنسانية نحو تحقيق السلم والوئام، لأنه لا يتأسس على الدين، وليس فريضة دينية، إنه قيمة إنسانية تنبثق من العقل، وبما أن العقل مشترك بين جميع الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية، فإنه يشكل عصب القانون الإنساني الذي يملي علينا ما يجب فعله وما لا يجب، طبقا لحرية كل إنسان في أن يكون على ما هو عليه باحترام حرية الآخرين. يكفي أمام هذين الخيارين أن نقف وقفة تأمل وتريث لمراجعة نتائج كل خيار على حدة، ليتبين أيهما أنسب، خيار التعصب، أم خيار التسامح.
فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، دار بترا للنشر والتوزيع، سوريا دمشق، الطبعة الأولى 2009، ص 47، 48 [1]
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
إن الانغلاق وعدم إعمال العقل أدي إلي التحجر والتعصب ضد اختلاف الرأي، التسامح يدعو إلي السلام النفسي والطمأنينة لدي الأفراد للعيش في سلام وطمأنينة لمواصلة رحلة الحياة.