المقدَّس كمسوِّغ للعنف
ريني جيرار و إحياء باراديغم الصراع في قلب مفهوم الرغبة
ريني جيرار هو مثال للفيلسوف الذي اخترق معمعة الفكر وأبى أن يخرج منها إلا حاملا معه مشعل الحقيقة، الحقيقة التي تحاشاها غيره و احتشموا منها، الحقيقة التي احتوت بداخلها صنوف المعرفة وفصوص العلم ونصوص الدين، فكان من بين الفلاسفة المنتمين إلى التراث الهيجلي الذين أسَّسوا نسقا فلسفيا ومفاهيميا، هذا النسق قد زاوج بين ما هو أنثروبولوجي وما هو فلسفي وما هو ديني، لذلك لا غرابة أن نجد البعض يعتبره ((هيجل المسيحية )) والآخر يصنفه ضمن مخلفات الإرث القروسطي مع سان أوغستين، لكن سيتبين لنا أنه لا هذا ولا ذاك أفلح في تصنيفه، إنه فيلسوف هلامي يصعب الإمساك به، فنجده تارة يقتحم ساحة الفلسفة بمفهمة جديدة للرغبة على غرار ما جاء به اسبينزا، وتارة أخرى نجده يطرق باب الدين مستنجدا بالمقدس، وتارة أخرى نجده يربط بين المقدس والعنف من زاوية أنثروبولوجية ذات جذور فلسفية محضة. ومن هنا نستخرج ثلاثة مفاهيم أساسية لا مندوحة لقارئ ريني جيرار من فهمها والكشف عن العلاقة الجامعة بينها.
مفهوم الرغبة، مفهوم العنف، مفهوم المقدس .
يعرض ريني جيرار مفهوم الرغبة بوصفها محاكاة، ضاربا عرض الحائط بالنظرية الأوديبية الفرويدية، فهو يرى أن رغبتنا ليست مستقلة ولا تنبع من ذواتنا، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر، يسميه جيرار بالوسيط او النموذج، و يعني ذلك أن العلاقة بين الشخص الراغب و الغرض المرغوب ليست علاقة مباشرة، بل هي تمر عبر الوسيط، و بالتالي تأخذ الرغبة شكل مثلث هو مثلث الرغبة الذي يضم الأطراف الثلاثة، اي الشخص الراغب و الوسيط و الغرض المرغوب . و الأغراض نوعان : تلك التي تقبل المشاركة و تولد بين البشر مشاعر التعاطف، و تلك التي يتمسك بها الفرد و لا تقبل المشاركة، فتولد التنافس و بالتالي الغيرة و الحسد و الكراهية، و كل هذا ينم عن العنف ( و يمكنك الاطلاع على تفاصيل أكثر للموقف الذي يتبناه جيرار عند ماكس شيللر في كتابه ” إنسان الحقد”) . و الوساطة نوعان كذلك : خارجية عندما يكون وسيط الرغبة بعيدا اجتماعيا عن متناول الشخص الراغب، لا بل حتى بعيدا عن العالم الواقعي، و هو يتحول الى منافس و الى عقبة تقف حائلا دون امتلاك الغرض المرغوب، فتزداد قيمة الأخير مع احتدام المنافسة . إذن الصراع دائما هو صراع من أجل الأغراض لذلك بدأت بشرحها قبل الوسيط .
إذن فالرغبة ما يرغب فيه الآخر تحول البشر الى متنافسين، فيولد العنف الذي يهدد المجتمعات البشرية بالدمار و الخراب مع نشوب حرب يسميها هوب بحرب الكل ضد الكل، عندها و في قلب تلك الأزمة ن يتحول العنف الذي يلف الجميع الى عنف موجه الى فرد واحد (قد يكون حيوانا ) فتقرر الجماعة التضحية به و قتله معتبرة إياه المسؤول الوحيد عما حل بالجماعة من عنف و خراب، و هكذا تتحول الى الضحية وحدها كل شهية الجماعة للعنف .
هذه هي فكرة كبش الفداء التي يرى جيرار أن كل المجتمعات البدائية قامت عليها و تحولت الى طقس يمارس بانتظام للحفاظ على تماسك الجماعة بتوجي طاقتها العدوانية و عنفها نحو غرض رمزي، و بما أن الرمز ينطوي على معاني عديدة و أحيانا قد تكون متناقضة كما يعتبرا جورج زيميل، فإن الضحية التي جنت على الجماعة الدمار بما هي مصدر للشر، فقد تكون منبع الخير كذلك لأنها أخذت الشر معها و هي ترحل، كما في عيد الأضحى فالأضحية قد تدل على الوئام و التماسك داخل الجماعة و قد تعني أحيانا صراعا من أجل الظفر بالأضحية الأفضل تبجحا و تفاخرا، و هذا المثال هو شرح للدلالات الرمزية .
ويرى جيرار أن هذه الطقوس هي الأساس الذي قامت عليه الثقافات و الحضارات القديمة و أنا وراء ظهور فكرة المقدس الأسطوري، و بالتالي ظهور الدين، و هكذا تكون نظرية العنف و المقدس عنده نظرية في أصل الثقافات، و أما المسيحية فتعارض مبدأ طقس التضحية و العنف و تؤكد براءة الضحية أمام عنف الجماعة و صلب المسيح خير دليل على ذلك، أي أنها تكشف عن المكبوت و تفضح العنف و الكراهية، و هنا يستدل كذلك جيرار بقولة للمسيح : أريد الرحمة، لا أريد التضحية ” .
لكن لنطرح سؤالا على جيرار : ماذا لم كانت الضحية راغبة في غرض ذاتي ذو نزعة لا واعية جماعية كما يسميها كارل يونغ ؟
لقد توصل اميل دوركهايم في إطار دراسات حول الانتحار الى ثلاثة أنواع منه : أهمها الانتحار الأناني و الانتحار الإيثاري الناتج عن انغماس أو ذوبان الفرد داخل الجماعة، حيث يستبدل عقل بعقلها كما يقول غوستاف لوبون، و يتكون لدي هابيتوس كما سماه بورديو، يؤدي به الى استعداد و تأهب للدفاع عنها في الحروب، بمعنى التضحية من أجلا حتى و لو كان ثمن ذلك روحه و حياته، إن في هذه الحالة ضحية يضحي بنفسه لا ترغم الجماعة على ذلك، و لكن يرغمه اللاوعي الجمعي .
إن أبرز ما لاحظته عن جيرار هو تمسكه بباراديغم الصراع في خضم عرضه للمفاهيم الثلاثة، لكن الغريب في الأمر هو أنه تنصل من هذا الباراديغم من خلفية دينية حين دعا الى نبذ المقدس الذي يبرر العنف بواسطة شخص او حيوان، حيث ان انتفاء هذا الشخص اذا أمكن تسميته بالمنحوس ينتفي العنف داخل الجماعة، و هنا تأسيس لباراديغم الوفاق أو التواصل أو ما يسميه ليفيناس بباراديغم ( الأنا _ الأنت ) أو ما يسميه هابرماس بالتذاوت .
إنه لا يمكن قبول الباراديغم الجديد لجيرار، و مردنا في ذلك و استناده على مرجعية دينية مسيحية لتجاوز منطق الصراع و هي مرجعية هشة حاول جراءها جيرار محاولة يائسة لإعادة الاعتبار للمسيحية في العصر الاستهلاكي السائر في درب العولمة الغارق في مختلف أشكال العنف .
___________
*إبراهيم ماين: طالب باحث في سلك الإجازة شعبة الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة جامعة محمد الخامس الرباط ، حاصل على دبلوم الدراسات العامة بجامعة ابن زهر أكادير تخصص علم الاجتماع .
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.