التنويريدراسات دينية

مبحث الدلالات في الدرس الأصولي

تقديم

إنَّ  البحث في الدلالة بأنواعها وأقسامها وفروعها شكَّلت قاسما مشتركا  ومحورا  جامعا بين جميع العلوم التي كانت في التراث  اللغوي العربي،بحيث كان  الجامع المشترك بين هذه  العلوم على اختلاف تخصصاتها، هو سعيها  المشترك والجامع نحو  تفسير النص، وبيانه، واستمداد المعنى منه، وفق المقتضيات اللغوية، والسياقية  والمقامية المشكّلة لبنية النص .

مبحث الدلالات

 يعدّ مبحث الدلالات من أهم المباحث التي جسَّدت مستويات التواصل والتداخل بين عدد من العلوم  في التراث العربي الإسلامي، ومنها علم الأصول الفقه، وعلم اللغة والمنطق وعلم المعجم. ولتحقيق وترسيخ هذا  التواصل، عمل علماء الأصول على الاستفادة واستثمار مباحث  اللغويين والمناطقة والمعجميين على حد سواء في  مباحثهم لغاية استغلال الطاقة الدلالية واللغوية للنص الشرعي، لتكون هذه الدلالة  المحمولة والمحصل عليها من النص ،طريقا معينا وسندا مساعدا في استنباط الأحكام الشرعية،من أجل  استثمارها حتى  تفي وتتسع معانيها اللغوية والشرعية  للمستجدات،وتلبي الحاجيات التي تحدث في الواقع  والمجتمع الجديد.

والدلالات مرجعها لغوي ما يفسر،لنا أن معظم المباحث في علم أصول الفقه هي مباحث اتجهت نحو جهة اللغة عامة،والتحقق من الدلالة اللفظية خاصة. “فالسلطة المرجعية في علم أصول الفقه هي للبحوث اللغوية، والمحور الرئيسي الذي ينتظم هذه البحوث هو علاقة اللفظ بالمعنى” ([1]). 

 ورغم أن  المرجع اللغوي هو  المحمول والمركب لمباحث الدلالات عند الأصوليين، فان علماء الأصول لم يقفوا عند حد الاجترار والتكرار والاستعادة لما ذكره علماء اللغة، بل تعدوه إلى ما أغفله علماء العربية من مباحث ودراسات تتعلق في مجملها بمجال الدلالات .[2]

وهو ما أشار إليه إمام الحرمين الجويني ت478ه  في كتابه “البرهان “عندما قال إن عناية الأصوليين بالجوانب اللغوية فاقت ما هو مقرر وحاضر عند غيرهم، بحيث اعتنوا بكثير من المباحث التي أغفلها علماء  اللغة العربية. [3]

وان كانت بداية هذه العناية بجهة الدلالات ،قد بدأت مع  العناية بألفاظ القرآن الكريم في تحقيقها ومتابعتها  ورصد تحولاتها من حيث الوضع والتداول والاستعمال والسياق، وإعمال المقتضيات   المحيطة بالسياق،وان  كانت هذه  العناية  متجهة أكثر إلى معجم  ألفاظ القرآن من خلال دراستها ومتابعتها في جميع أبعادها ومناحيها.[4]

وقد قام علماء المعجم  بتخصيص وإفراد معاجم خاصة لهذه الألفاظ، وهذه المعاجم هي المسماة والمتعارف عليها بالمعاجم القطاعية،أو المعاجم الخاصة  أو المعاجم القرآنية.[5]

ومن أبرز هذه المعاجم  معجم  : مفردات ألفاظ القرآن” لأبي القاسم الحسين بن محمد بــن المفضــل المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ)،وهو من أهم وأحسن ما ألف في مجــال المفردات القرآنية.

ومن المعاجم القرآنية التي نالت شهرة واسعة، معجم السمين الحلبي ت 520 ه المسمى”عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ”.

  حيث عملت هذا المعاجم  القرآنية، على إظهار التحول في دلالة الألفاظ التي انتقلت من  اللغة إلى الشرع  أي من المواضعة اللغوية  إلى المواضعة الشرعية [6].

وعليه فمن لوازم التفسير  لكتاب الله،أن  يعمد  المفسر إلى التحقق من اللفظة القرآنية في التفسير، مع الاقتصاربشكل أكثر  على المعاجم الخاصة ، التي تعد الأصل والعمدة في التحقق من الألفاظ القرآنية.[7]

وهذه المعاجم قامت  على رصد اختلاف المعاني وتنوعها بسبب اختلاف موقف الكلمة في التركيب واختلاف سياقها.

 بحيث  “بدأت الدراسات المعجميّة العربية، ككلّ الدراسات اللّغوية عند العرب، بخدمة الدين الإسلامي، ولغرض فهم القرآن الكريم فهما يتأسس على السلامة في تلقي المعنى،  من حيث هو المصدر الأوّل للتشريع الإسلامي، ودستور المسلمين[8].

  ففهم النص وتحصيل المعنى لا يتيسر الا بضبط الدلالة   وكما قالت الأستاذة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ يبدأ  “بالخدمة اللغوية لألفاظه بمعرفة الدلالة المعجمية للفظ ثم الانتقال إلى الدلالة السياقية..[9].

والرهان على المعنى يعود أن    المعنى المحقق في  اللفظ يتم العبور من المنطوق إلى المفهوم، ومن المنصوص إلى المستنبط، ومن الصريح إلى المضمر، ومن المعنى الأصلي إلى المعنى التبعي ومن المواضعة اللغوية إلى المواضعة الشرعية،ومن المعنى المطابقي إلى المعنى اللزومي…[10].

تقسيمات الدلالة

قسم  الإمام الأصولي  ابن القيم الجوزيةت751ه     الدلالة[11]،إلى  قسمين أساسيين:

–1-الدلالة الحقيقية وهي الدلالة التابعة لقصد المتكلم،وهذه الدلالة  لا تختلف باختلاف المتكلمين،فالمتكلم أدرى  من غيره بكلامه،وهو اعلم به من  غيره.

-2–الدلالة التابعة وهي التابعة لفهم السامع،وهذه الدلالة تختلف باختلاف مدارك  ومستويات السامعين حسب المقتضيات الثقافية التي يتميزون بها  .[12].

وضبط الدلالة التبعية من الأصلية  من لوازمه  الاستعانة   بالسياق من حيث هو آليات خادمة وطرائق معينة على تمثل المعنى من دلالة الألفاظ.

استنتاج

 لا بد أن نذكر  أن مساهمة علماء الأصول في اشتغالهم على الدلالة،وصناعة المعنى تعد مساهمة رائدة، ومشاركة متميزة،لأنهم أدركوا  الأبعاد التشريعية  والغوية التي يحظى بها النص في بنية الثقافة العربية الإسلامية.


[1]— اللدكتور محمد عابد  الجابري بنية العقل العربي:56                                                                                                                                                           

[2] – إمام الحرمين الجويني :البرهان: تحقيق الدكتور عبد العظيم  الديب إصدار : دار الأنصار القاهرة الطبعة-2-السنة1400ه. 1/169  

[3] -نفسه:1/189

[4] – لخضر اكبر حسن :أصالة البحث الدلالي عند العرب: مجلة جامعة تكريت العدد:12-السنة:2012. ص: 29-

[5] –  الدكتور مصطفى بنحمزة:إسهام الأصوليين في دراسة صلة اللفظ بالمعنى ص: : ضمن كتاب:من قضايا الفكر واللغة.منشورات دار الأمان الرباط المغرب :2013.. 251

[6]  الدكتور  أحمد حسن الخميسي: حركة التأليف المعجمي في مفردات القرآن   مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 93 و94 – السنة الرابعة والعشرون – السنة: 2004 –

[7] -الدكتور احمد حدادي: المكتبة المصطلحية في التراث العربي الإسلاميمطبعة جسور السنة: 2000. :ص: 14

[8] الدكتور حاج هـنّي محمد: التأليف المعجمي التراثي المتخصّص، عوامل نشأته ومراحل تطوّره، جامعة حسيبة بن بوعلي- العدد:  22الشلف : الجزائر السنة: 2015 

[9] –  الدكتور عائشة بنت الشاطئ : مقدمة في المنهج  :123 إصدار مركز تراث للبحوث  والدراسات السنة: 2014.

[10] الدلالة عند الأصوليين لعبد الكريم مجاهد –مجلة الفكر العربي العدد:11-السنة:7-1986-ص:

[11] -للوقوف على اجتهادات ابن  القيم في الدلالة يراجع: الدلالة النحوية في مؤلفات ابن قيم الجوزية    لإدريس بن خويا دار الكتاب العربي، الجزائر، ط1، 2016.

[12] -إعلام  الموقعين لابن القم :1/351.  

يراجع:- كتاب علم الدلالة في التراث العربي والدرس اللساني الحديث للدكتور إدريس بن خويا: عالم الكتاب الحديث الأردن:2016.ص: 44
_________
*الدكتور محمد بنعمر: أكاديمي من المغرب أستاذ التعليم العالي كلية الآداب وجدة المغرب.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة