منذ عامين على وجه التحديد واليقين، وجه المسؤولون بصندوق النقد الدولي تحذيرا شديد اللهجة لدول الاتحاد الأوروبي من تباطؤ التعافي الاقتصادي في معظم دول الاتحاد، مع ضرورة توافر حزم اقتصادية جديدة لبعض الدول لضمان تعافيها اقتصاديا، هذا مع فرضية استمرار جائحة كورونا وسط العجز العلمي الراهن، وفشل المؤسسات العلمية الأوروبية في إيجاد لقاح ناجز وفعال، ناهيك طبعا عن الفسل والعجز والسقوط العلمي الضارب في العمق والتكوين لدى علماء الوطن العربي الغارقين في بحوث ودراسات تنظيرية باتت عديمة النفع والفائدة بينما يتسارع العلماء الحقيقيون لمواجهة جائحة القرن الواحد والعشرين.
ووسط تحذيرات صندوق النقد الدولي لاقتصاد أوروبا البطئ نسبيا مقارنة ببعض الدول العربية غير المتعافية أساسا، فإن ثمة إشارات وتلمحيات تؤيد أنه قد لا يكون هناك مكان للعمل عن بعد للنساء والشباب معا وسط استمرار معاناة الشعوب والدول مع فيروس كورونا والذي يستنزف معظم اقتصاديات الدول.
الغريب في الموضوع برمته، هو ما صدر عن المدير العام لصندوق النقد الدولي السيدة كريستالينا جورجييفا، في تصريحات منصرمة، بأن الصندوق سيقدم 50 مليار دولار كمساعدة طارئة لمساندة البلدان في مواجهة آثار تفشي فيروس كورونا، وهذا بالضرورة أمر طيب وشأن جدير بالاهتمام وتوجيه الثناء والشكر للصندوق ومديرته، لكنها فاجأت الصحفيين بخبر استثنائي عاجل يشير إلى أن الصندوق يعتقد أنه على الدول سرعة التصرف بعجلة لزيادة قدرة النظم الصحية لمواجهة أزمة كورونا الوبائية، مضيفة أنها تريد أن ترى ـ على حسب قولها ـ “تدابير مصممة للاستجابة لما قد يكون له تأثير أعمق على الشركات والأسر”. ورغم ذلك فإن مديرة صندوق النقد الدولي ترى وجه ارتباط قوي بين سرعة التعافي الاقتصادي ومواجهة جائحة كورونا، على الرغم من أن كافة بلدان العالم المتعافية اقتصادية والراغبة في التعافي حتى غير المتعافية يتكبد اقتصادياتها القومية مليارات الدولارات من أجل توفير بيئة استشفائية أو على الأقل توفير ضمانات طبية أولية لإسعاف المرضى ومعالجتهم بصورة قد تبدو بائسة في بعض الدول الفقيرة.
ومن الطبيعي جدا أن يفكر صندوق النقد الدولي في الأزمة الوبائية الراهنة بمنظور ورؤية اقتصادية لاسيما وأنها الهيئة المالية الداعمة لكافة الدول التي تنتوي الاقتراض لتحسين أوضاعها الاقتصادية وفق خطط استراتيجية ضامنة لحقوق الصندوق نفسه، لذا فإن مديرة الصندوق السيدة كريستالينا جورجييفا قالت “إن التعاون العالمي القوي بشأن لقاحات لكوفيد – 19 ربما يسرع التعافي الاقتصادي العالمي، ويضيف تسعة تريليونات دولار إلى الدخل العالمي بحلول 2025″، وهذا أمر منطقي حيث إن الصندوق يعزز إنتاج لقاحات كورونا لاسيما في دولتي الصين والولايات المتحدة الأميريكية، الأمر الذي دفعها أن تتوجه بالنداء لكلتي القوتين الاقتصاديتين بمواصلة التحفيز الاقتصادي القوي الذي يمكن أن يساعد على تعزيز التعافي العالمي.
وكما نقلت رويترز عن الصندوق الذي بدا أكثر لطفا وإنسانية من خلال تصريحات مديرته، فإنه يرى ـ الصندوق ـ أن التدخل القوي والصارم لكثير من الدول أنقذ أرواحا من ناحية، وساعد من ناحية أخرى شركات منهارة اقتصاديا وبشريا كذلك، ودعم الحالة الاقتصادية، لكنه أشار إلى أن تداعيات الأزمة على الماليات العامة هائلة، مبينا أن الديون الجديدة ارتفعت في المتوسط بنسبة 9 في المائة، من إجمالي الناتج المحلي على مستوى العالم.
هذا الذي يدعونا جميعا أن نلتفت إلى توجهات صندوق النقد الدولي وسياساته صوب الجمهورية العراقية المنكوبة منذ سنوات بعيدة، فهو يدعو العراق إلى حزمة من الإصلاحات الاقتصادية رغم ما تعانيه البلاد من نكبات سياسية وأخرى اقتصادية، وثالثة طائفية، مع التزامن المستدام لوجود فرق وتيارات راديكالية متطرفة تسعى إلى تدمير العراق داخليا. ويبدو لأن صندوق النقد الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة ومقره الدائم واشنطن أكثر دراية ومعرفة ببواطن الأمور داخل العراق ربما أكثر من حكومتها الحالية أيضا.
وما يدعو للعجب تجاه سياسات وتصريحات صندوق النقد الدولي وهو مهتم بالشأن الاقتصادي العراقي وأهمية تعافيه بسرعة تتناسب مع دول الشرق الأوسط، تلك التصريحات التي أدلى بها رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في العراق السيد توكير ميرزوييف في بيان سابق من ” إن جائحة كورونا والانخفاض الحاد في أسعار النفط وإنتاجه أسفرت عن تفاقم مواطن الضعف الاقتصادي في العراق “، مشيرا إلى أنه “نظراً للنقص الحاد في تمويل المالية العامة والتحديات التي تواجه سداد التزامات المدفوعات الخارجية والمحلية بما فيها الأجور ومعاشات التقاعد يتعين إجراء إعادة معايرة حاسمة للسياسات الاقتصادية من أجل الحفاظ على استقرار الاقتصاد.
المشكلة الحقيقية التي تواجهها بعض البلدان ومنها الجمهورية العراقية وهي تحاول الاقتراض والمساعدة من صندوق النقد الدولي أن خطتها الاقتصادية قد لا تكون طويلة المدى من ناحية، وأنها قد تواجه جملة كبيرة من التحديات الطارئة من ناحية أخرى، منها على سبيل المثال مواجهة جائحة كورونا التي تهدد اقتصاديات الدول بالفعل، ومنها انهيار بعض الشركات المتوسطة والصغيرة التي ستنقرض في ظل استمرار شيوع سلالات جديدة من الجائحة، كذلك أوجه الإنفاق الضرورية مثل التعليم والمرافق التي تبتلع قيمة الاقتراض بالكامل وهي مرافق خدمية غير إنتاجية في كثير من البلاد العربية أو الشرق أوسطية.
فضلا عن وجود جماعات متطرفة وحروب أهلية وانتشار تيارات وفرق راديكالية تقف أمامها الحكومات عاجزة عن مواجهتها، الأمر الذي قد يدفع بعض الدول الراغبة في التعافي إلى إنفاق قدر كبير من قيمة القروض العالمية في مواجهة تلك الجماعات.
والجدير بالذكر أن نشير إلى حالة العراق الاقتصادية حسب وكالات الأنباء العالمية المحلية والدولية، فإن العراق يعاني من أزمة مالية غير مسبوقة ناجمة عن جائحة فيروس كورونا وانهيار أسعار النفط الذي يعول العراق على مبيعاته لتمويل 90 بالمئة من موازنته العامة ما ادى الى اضطراب مالي خطير زاد من معدل الفقر إلى نسبة 40 بالمائة من سكان البلاد البالغ عددهم 40 مليون نسمة.
كل ما سبق زاد من شغفي البحثي للتنقيب عن هوية وكنه صندوق النقد الدولي الذي تتباين حالاته من الوداعة واللطف والشفقة تجاه الدول والحكومات حينا، والشراسة والقوة وسطوة التصريحات حينا آخر، واستقرت رحلة الشغف عند كتاب كتاب الدكتور إرنست فولف Ernst Wolff أستاذ الفلسفة بجامعة بريتوريا بجنوب أفريقيا الموسوم بـ ” صندوق النقد الدولي.. قوة عظمى في الساحة العالمية “، Weltmacht IWF.. Chronik eines Raubzuges والصادر في عام 2014 م، وتنبغي الإشارة ويجدر التنويه إلى كون الكتاب موسوعة معلوماتية ومعرفية مذهلة عن صندوق النقد الدولي منذ نشأته، والحقيقة أن فعل القراءة للكتاب كان ممتعا لأن مؤلفه استطاع أن يعالج هوس القارئ المصري على وجه الاختصاص وشغفه الأيام الراهنة بتقصي أكبر قدر من المعلومات المتصلة بطبيعة صندوق النقد الدولي وطبيعة عمله وماهيته منذ بزوغ الفكرة بمزيد من الترحال والسفر عبر قارات العالم والتجول بقدر هائل وشيق من المعلومات التي تجعل القارئ العادي متخصصا في عالم المال والاقتصاد بوجه عام.
فكان كتاب أرنست فولف Ernst Wolff المرجع الأصيل لتأصيل طبيعة صندوق النقد الدولي وبيان مهامه وبعض مطامحه المعلنة والمستترة من أجل الوصول إلى توصيف دقيق لهذا التعاون بين مصر والصندوق.
وصندوق النقد الدولي يزعم في توصيف رؤيته ورسالته إلى العالم بأنه يساعد الدول النامية ـ ولا أعرف أو أفطن إلى متى ستظل هذه الدول نامية ؟ ومتى ستكبر بالفعل وتصبح راشدة يحق لها تقرير مصائرها ؟ ـ في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية على صياغة مناهج تفضي إلى تنمية مستدامة ورخاء متزايد، والحقيقة التي تخالف الزعم والرؤية أن ممارسات الصندوق في دول العالم الثالث على يقين التحديد تعيد إلى الأذهان تاريخ عصور الهيمنة الكولونيالية.
ورغم ذلك يظل الصندوق هو الملجأ الآمن والملاذ الأخير والرهان النهائي لكثير من الدول للتزود بالسيولة النقدية من أجل استكمال خطط البناء والإعمار الاقتصادي لها،وبالرغم من أننا نسمع ونشاهد عبر الفضائيات التي تزاحمنا الهواء وحق التنفس والخلود للراحة ولو لسويعات قلائل أن الصندوق لا يتدخل في السياسات الاقتصادية أو الإدارية للدول الساعية إلى الاقتراض، يفاجؤنا إرنست فولف الألماني الأصل بأن صندوق النقد الدولي يسعى منذ بداية فكرته التأسيسية في مؤتمر ( بريتون وودز ) إلى تعزيز الهيمنة الأمريكية على اقتصاديات دول الشعوب النامية، بل والمضي بشكل متسارع في عملية خصخصة مشروعات عامة خدمية كامستشفيات والمدارس والجامعات الحكومية، وأيضا بعض الموانئ البحرية والجوية والسكك الحديدية وشركات الطيران الوطنية في الدول التي اقترضت من الصندوق.
ومن غرائب سياسات الصندوق الذي استهدف دول أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، أنه أبدى اهتماما متزايدا منذ عام 2007 صوب شمال أوروبا عقب اندلاع الأزمة المالية، لكن منذ اندلاع واشتعال أزمة اليورو في عام 2009 أخذ يركز نظره واهتمامه تجاه الجنوب الأوروبي.
ولأنني بحكم عملي الأكاديمي أعرف دور الأسئلة في تحفيز الأذهان فأنا أرى أن الحكمة اليابانية التي تقول ” يمكنك أن تجد سؤالا جديدا لكل إجابة ” فالأولى أن يهتم الإعلام العربي بتقديم صورة شاملة وحقيقية عن صندوق النقد الدولي للمواطن الذي من حقه أن يعرف. فالمعرفة علاج الخوف كما قال ( رالف والدو إيمرسون)، أو كما ذكر أفلاطون في مدينته الفاضلة بأن المعرفة غذاء الروح. لكن هذا الإعلام لم يفعل شيئا سوى التأكيد بضرورة التسارع في إجراءات القرض.
لكن يخبرنا إرنست فولف في كتابه الماتع بأن وظيفة الصندوق الأساسية تكمن في العمل على استقرار النظام المالي، وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشكلات اقتصادية مزمنة وليست طارئة، لكن يحرص المؤلف دوما على مفاجأة القارئ بإضافة وقائع ومعلومات بين السطور فيضيف على توصيف وظيفة الصندوق بأن تدخلات صندوق النقد الدولي تبدو في الواقع أشبه بغزوات جيوش متحاربة.
وبحسب اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي الذي ترأسه لأول مرة البلجيكي ( كميل جوت ) في عام 1946م، تكمن أهداف الصندوق في تشجيع التعاون الدولي في ميدان السياسة النقدية، وتيسير التوسع والنمو في التجارة الخارجية، والعمل على تحقيق استقرار في أسعار الصرف، والمساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف. ورغم هذه الأهداف التي تدغدغ أسماع المواطنين اللاهثين وراء حياة تتسم بالرفاهية والرخاء الاقتصادي إلا أن عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ الازدهار الاقتصادي وصاحبه شروع صندوق النقد الدولي في نصب حبائله وهو ما حدث تحديدا مع الأرجنتين 1956 م حيث أسهم الصندوق في اشتعال أكبر إفلاس حكومي عرفه التاريخ، وتشيلي في سبتمبر 1973 بعد الانقلاب العسكري الذي أنهى حكومة الرئيس الاشتراكي سالفادور أليندي بمساعدة وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية CIA وتسليم زمام السلطة إلى أوجستو بينوشيه. وكانت النتيجة هي إلغاء كل عمليات التأميم المنفذة من قبل سالفادور أليندي.
ويستعرض المؤلف في كتابه سياسات صندوق النقد الدولي في بعض البلدان الأوروبية البعيدة عن دول العالم الثالث مثل أيرلندا التي شهدت سنوات طويلة من الرخاء والاستقرار الاقتصادي إلا أنه في عام 2007 تعاقدت الحكومة الأيرلندية على قرض جديد من الصندوق وفي نفس توقيت الاتفاق على القرض انفجرت فقاعة المضاربة في سوق المال وسوق العقارات وسجل مستوى البطالة ارتفاعا كبيرا وعجزت مشاريع متوسطة الحجم عن خدمة ما بذمتها من ديون.
ونتيجة القرض الأيرلندي من الصندوق فرض الصندوق عدة شروط قهرية مثل إلغاء 24750 فرصة عمل في القطاع العام أي ما يعادل 8 في المائة من كل ما في هذا القطاع من فرص عمل، وخفض رواتب موظفي الدولة الجدد بنسبة تبلغ 10 في المائة، وتخفيض المدفوعات التحويلية المخصصة للأسر كثيرة الأطفال، هذا الأمر الذي يجعلني وغيري من المهمومين بأمر الوطن العظيم الذي بدأ بالفعل في تحقيق نهضته الاقتصادية أن يعي لطبيعة سياسات هذا الصندوق وممارساته في كثير من البلدان.
وإذا كانت هناك حركات عالمية احتجاجية في إسبانيا والبرتغال واليونان منذ عام 2011 أي وقت ثورات الربيع العربي ضد سياسات صندوق النقد الدولي وممارساته ورفع لافتات احتجاجية مفادها ” ليذهب صندوق النقد الدولي إلى الجحيم “، و ” لتسقط الترويكا “، فإن هذه الإحداثيات تجعلنا نقدم لمحة سريعة وبسيطة عن طبيعة عمل الصندوق، مهتمين في المقام الأول إلى توجيه الحكومة المصرية إلى مراعاة الدقة والاحتياط في التعامل مع الصندوق.
ولاشك أن الأنظمة التعليمية وإن اجتهدت في ممارسة الديموقراطية بصور شتى وفي مظاهر متنوعة، إلا أنها ـ بحكم الضرورة ـ لم تكترث بمسألة المفاهيم واكتسابها ورفع سقف التنوير الاقتصادي لدى المتعلمين بصفة خاصة والمواطنين بصفة عامة، رغم أن معظم التربويين العرب بل إن جميعهم يؤكدون في دراساتهم وأبحاثهم رهينة المكتبات الأكاديمية أن عملية اكتساب المفهوم من أعمق وأجلّ أهداف التعليم والتعلم، لذلك نجد مئات بل آلاف الدراسات التربوية تتناول عملية اكتساب المفاهيم كونها مرحلة رئيسة في الفهم والتفسير ومن ثم التلقي الإيجابي لأى طرح فكري بعد ذلك.
وهذا ما لجأت إليه السياسات الاقتصادية العالمية من ربط وثيق بين الديموقراطية وتمكينها وبين ضرورة الترسيم الاقتصادي المرهون بعمليات الاقتراض والتمويل المؤجل الفائدة، واجتهد رواد التنظير الاقتصادي الغربي إيجاد وشائج ذات صلة قوية تعكف على الربط وعقد العلاقات المنطقية بين مفهوم الديموقراطية الحرة وبين النمو الاقتصادي المرهون بسياسات البنك الدولي وصندوق النقد، إلا أن الديموقراطية نفسها تعاني من التباين وعدم وضوح الصورة، فهي تتضمن صورتين متباينتين مختلفتين حسب النظريات السياسية، وليست صورة واحدة وهي الراسخة في مظان المواطن، فالديموقراطية فلسفتان سياسيتان متمايزتان، وكلتاهما لهما مخاطر واضحة قد تنزلق إلى المسخ المشوه ما لم يؤخذ في الاعتبار تقنين تطبيقها وواقعية هذا التطبيق، وما يتوافق مع نظم مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.
ومخطئ من يظن أن الديموقراطية في جملتها هي عنوان الدولة المدنية بدليل الصورة الأولى لها المسماة بالديموقراطية الاجتماعية الكلاسيكية. وهذه الصورة من صور الديموقراطية تعرف بالأوساط السياسية بمفهوم اليسار القديم. وفيها يتم تدخل الدولة في حياة الفرد الاجتماعية والاقتصادية تدخلاً مباشراً، وهي تنظر إلى رأسمالية السوق الحر باعتبارها سبباً للعديد من المشكلات، ولكنها تعتقد أن هذه المشكلات يمكن معالجتها أو تجاوزها من خلال تدخل مباشر من الدولة في نظام السوق.
وهذه الديموقراطية الكلاسيكية أو ما تعرف باليسار القديم تؤكد على هيمنة الدولة على المجتمع المدني ؛ وهذا التدخل يتمثل في مظاهر عدة منها فرض الضرائب التصاعدية، وتطبيق استراتيجيات تحقيق التكافؤ، وخلق مجتمع أكثر مساواة نظراً لأن الحكومة هي المهيمن على المشهد الاجتماعي والاقتصادي.وهذه الصورة كثيراً ما استخدمها واستعملها الرئيس المخلوع مبارك طيلة ثلاثين عاماً،زذلك من خلال زعمه لإقامة ديموقراطية مدنية شعارها التكافؤ في هيئة فرض حزمة من الضرائب ولكنه في حقيقة الأمر يمارس سلطة استبدادية مقنعة.
وتحاول الديموقراطية الكلاسيكية إلى توفير دولة رفاهية شاملة تحمي المواطنين من المهد إلى اللحد وهي في ذلك تخالف الظروف الطارئة التي بإمكانها تقويض الوطن نفسه بتعرض الدولة لأزمة اقتصادية طاحنة قد تعصف بمقدراتها الطبيعية والبشرية، ورغم ذلك فإن أنصار ذلك الاتجاه يرون ضرورة أن تأخذ الدولة من الأغنياء لتعطي الفقراء وهي في ذلك أيضاً تسير بصورة وئيدة نحو المساواة والعدالة الاجتماعية، وفي سعيها هذا تحاول هذه الديموقراطية القضاء على فكرة التمييز بين الفقراء والأغنياء عن طريق المساواة السياسية والاجتماعية وتقليص السلطة الحاكمة المركزية والمطلقة. ولكن ما شهدته مصر خلال السنوات العشر الأخيرة هو صعود طبقة من المحتكرين من أهل الصناعة والتجارة الذين استغلوا علاقتهم أو باصطلاح رجال الساسة تزاوج السلطة ورأس المال في احتكار صناعات بعينها والتربح من خلال الاستغلال البشري للعمال.
ويرى عالم الاجتماع ت. مارشال أحد منظري دولة الرفاهية في بريطانيا أن مفهوم دولة الرفاهية تمثل قمة عملية تطورية طويلة لحقوق المواطنة، ولكن هذه الدولة لا تعطي اهتماماً كبيراً لقضايا البيئة أو لم تتعامل مع القضايا الأيكولوجية بطريقة متسقة. لذا فنجد أن معظم الدول التي تنادي بالديموقراطية من دول العالم العربي تعاني من ظواهر التلوث بأنماطه وأشكاله رغم الحملات التوعوية الإعلامية للحد من ظاهرة التلوث، وكذلك عدم الاستفادة من مخلفات البيئة الزراعية في تطوير صناعات أخرى.
أما النظرية الثانية للديموقراطية، أو الصورة الأخرى لها فهي تتمثل في دورها المحدود للحكومة، وأنها تشترط وجود مجتمع مدني مستقل ذاتياً، مع وجود نزعة قوية نحو السوق الاقتصادي الحر، وهذه الديموقراطية تؤمن بالاقتصاد الفردي بل ةتشجعه وتشير إلى أن الاقتصاد لا ينتعش إلا عن طريق المبادرات الاقتصادية الفردية. ورغم ما تتمتع به الديموقراطية الجديدة أو ما اتفق على تسميته بديموقراطية اليمين إلا أنها لا تعترف بالمساواة وهذا أمر بدهي ؛ لأنها تشجع الاقتصاد الحر والفردي، وهذا بالضرورة يخلق مجتمعاً طبقياً.
ولعل أبرز ما في الديموقراطية الجديدة هو الكونية أو ما يعرف بالعولمة، فالصورة الأولى للديموقراطية كانت مركزية إلى حد بعيد، بخلاف الصورة الثانية التي ترغب فيها الدولة إلى إقامة علاقات ممتدة مع دول أخرى، وإقامة علاقات دولية بصورة واقعية، وهي في ذلك تسعى لأن تبعد شعوبها عن ويلات الحروب وطمع الأعداء في ثروات ومقدرات الدولة نفسها.
وبعقد مقارنة سريعة بين نوعي الديموقراطية نكتشف أن الصورة الثانية لها هي الأقرب للتطبيق والأكثر جدوى للشعوب، بالرغم ما تعانيه ديموقراطية اليمين من مشكلات ومصاعب مثل إعلاء قدر الاقتصاد الفردي الذي يمثل خطورة على المجتمع من خلال عدم المساواة الاقتصادية، وتفاوت المستويات الاقتصادية بين أفراد الأمة الواحدة.
_________
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيلL أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية ( م )ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.