1- مقدّمة:
تعدّ نظريّة إيرفنغ غوفمان الدّرامية (Dramaturgical Theory)[1] مدخلاً سوسيولوجياً درامياً متطوراً لفهم السّلوك الاجتماعي وتحليل التّفاعلات الإنسانية في مسار الاستكشاف الأعمق لخفايا السّلوك الإنساني ونوازعه العصية على الفهم والتحليل. وتشكل نظريته هذه بلورة مكثّفة لمختلف الاتّجاهات الأساسية في نظريات التّفاعل الاجتماعيّ والرمزيّ على حدّ سواء. وتكمن عبقرية غوفمان في تناوله لمختلف الظواهر الاجتماعية وفق طريقة مبتكرة تعتمد التّمثيل المسرحي الرمزي منهجية صميميّة في استكشاف أبعاد السلوك الإنسانيّ نفسياً واجتماعيّا. وهو في مختلف جوانب هذه النظرية يوضّح لنا كيف يتفاعل الناس وكيف يتشكلون بأنفسهم، ويشكّلون الحقيقة الاجتماعية وفق الفعاليات الرّمزية الدرامية التي تنطوي على عمليات سيكولوجية صميمية تأخذ طابعاً رمزياً مكثفاً فاعلاً في إنتاج الهويّة والمعنى والدّلالة، وفي تشكيل الفعل الاجتماعيّ بمختلف تجلياته وتمظهراته.
وتتميز نظرية غوفمان بقدرتها الفائقة على التوغّل في أعماق النّفس الإنسانية، واستكشاف أغوارها العميقة، وقد جعلت من التّفاعل الإنساني الدّرامي قضيتها الأساسية وميدانها الحيوي لممارسة نشاطها المعرفي. إذ يرى غوفمان أن التّفاعل الرمزي يشكل البوتقة التي تتفاعل فيه إيماءات الجسد، وتهدّجات الصّوت، وحركات اللّسان، وومضات الدلالة، وبريق الرموز وتوهّجات المعاني. وعلى هذا النحو، وفي هذا الميدان التّفاعلي، يدرس غوفمان الإنسان كبنية دينامية سيكولوجية لغويّة رمزية تتشكل في سياقات التّفاعل مع الآخر تكيفاً مع مواقف الحياة اليومية ووضعياتها الاجتماعية.
وقد أثمرت جهود غوفمان العلمية في هذا المجال السوسيولوجي ليكون أحد أهم علماء الاجتماع في القرن العشرين، واستطاع أن يخطّ مساره المبتكر في سوسيولوجيا التّفاعل الرمزيّ، وأن يرسّخ نظريته المتفردة في مجال التّحليل الدراميّ للسّلوك الإنساني. وقد عُرف بأفكاره المبتكرة حول سلوك الإنسان في الحياة الاجتماعية والمجتمع، وقدّم رؤى واضحة حول دور الرموز والإشارات في التّفاعل بين الأفراد. وقد استحقّ بجدارة فائقة أن يلقّب اليوم بالأب المؤسّس لنظرية التّفاعل المسرحي الدراماتورجي (Dramatyrgy)[2].
يركز غوفمان في مداخله الدرامية على محورية السّلوك اليومي للأفراد في مختلف المواقف الاجتماعية، ويبني تصوراته السوسيولوجية على منهجية تحليل الرموز والإشارات التي يستخدمها الأفراد للتواصل والتّفاعل مع بعضهم بعضاً، والأفراد في تفاعلهم وتواصلهم – كما يصورهم غوفمان – يقدّمون أنفسهم ويتصرّفون وفق نسق من الأدوار التي يؤدونها في الحياة الاجتماعية، وكأنهم ممثّلون على خشبة مسرح الحياة الاجتماعية في مختلف جوانبها وتقاطعاتها. وفي مسار هذا الأداء المسرحي يعدّ الفرد “ممثلا” يتحلّى بالقدرة على اختيار الدور الذي يؤدّيه، وتقديم نفسه بشكل يتوافق مع المتطلبات المجتمعية والاجتماعية للدور. وبالتالي، فإنّ السّلوك الاجتماعي يمثل “عرضًا مسرحيًا” يتمّ تقديمه للآخرين، والأفراد يعملون جاهدين على تحسين عرضهم الخاص ومحاولة الحفاظ على مظهرهم الاجتماعيّ.
وتتمثّل مقولته المركزية في تصويره للحياة الاجتماعية على أنّها دراما مسرحية مشحونة بالأدوار التمثيليّة التي يحاول فيها الفرد التكيّف مع المجتمع من خلال التّفاعل الذي يمتثل لنسق من الطّقوس والعادات الروتينية اليومية التي تشبه الأداء المسرحي في جوهرها. ويبين لنا غوفمان في مختلف أعماله الصّورة اليومية للحياة الاجتماعية القائمة على التّفاعل المسرحي، فعندما يتقابل الناس في المواقف الاجتماعية يتفاعلون ويديرون أدوات التّفاعل المخضبة بالأدوار التمثيلية مستخدمين الرموز والدلالات، وهم في سياق هذا التّفاعل يقومون بتقديم نسخ متعددة عن أنفسهم تناسب الجمهور وتناسب غاياتهم التّفاعلية القائمة على مبدأ التكيف مع المجتمع بعاداته وتقاليده ومعاييره وأعرافه[3].
لقد أثارت نظرية غوفمان في التمثيل المسرحي للحياة الاجتماعية اهتمام المفكرين والباحثين من مختلف المذاهب والأطياف، وقد تعرضت نظريته هذه للانتقادات المستمرة من قبل المفكرين الاجتماعين، ورغم قسوة النّقد الموجّه إلى هذه النظرية أحيانا، فإن أفكار غوفمان ومقارنته المجتمع بالمسرح قد حظيت بإعجاب كثير من المفكرين والنقاد وتقديرهم. ومن الواضح أنّ غوفمان يشكّل أحد أركان النظرية الاجتماعية الرمزية ومن أبرز علماء اجتماع الحياة اليومية، وقد قُدّر له أن يقدّم تصوّرات عميقة الأبعاد بعيدة الأغوار عن الحياة الإنسانيّة في أعمق معانيها ودلالاتها. واستطاع أن يجوس في أعمق أعماق النفس الإنسانية ليضع العالم في صورة التّفاعلات الذهنية والنفسيّة القائمة على الدّلالة والإشارة والمعنى والمغزى في حياة الأفراد، وهو أمر تجاوز قدرة علم اجتماع النّظريات الكبرى، وهو بذلك استطاع أن يميط اللّثام عن أعمق دلالات الوجود الإنسانيّ، وأن يهتك أكثر مظاهر الحياة الإنسانيّة في مجال التّفاعل اليوميّ والصّيرورة الحياة.
إنّه يقدم أجوبة على أسئلة حيويّة تتّصل بكيفيات التّواصل والتّفاعل، وبالكيفيات التي تتشكّل فيها ذواتنا وهوياتنا الدّاخلية العميقة. واستطاع أن يعرّفنا بأنفسنا وقدراتنا وإمكانياتنا في إدارة التواصل وتشكيل الانطباعات. وفي سياق ذلك كلّه استطاع أن يكشف عن وضعيات الزّيف الاغترابية في وجودنا، ومن أكثر جوانب نظريته أهمّية وخطورة، أنّه استطاع أن يبيّن أنّ الحياة الاجتماعية في مجملها نسق متواتر من المظاهر الخارجية، وأنّ العمق الإنسانيّ في أبعاده الجوهرية ما زال بعيداً عن تناول المفكرين والعلماء. فالحياة مسرحية مصنعة نعيش فصولها تارة على الخشبة الأمامية لتأدية أدوار خاصة، وتارة في الكواليس، إذ نرتاح لأنفسنا ونسترخي ضمن أبعاد ذواتنا الحقيقية، وتارة في الفضاء العام للمسح وخارجه؛ كي نعيش حياتنا ضمن مسيرة التّواصل الرمزي في الحياة.
وسنعمل في هذه الدّراسة على تناول مختلف جوانب نظرية غوفمان الدّرامية التي يضعها منهجاً أصيلاً في الكشف عن مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، غوصا في أعماقها واستكشافا لخفايا الحياة الإنسانية وملابسات التّفاعل الاجتماعي الذي يتجلّى في صورة درامية مسرحية.
2- الظّاهرة الغوفمانية:
يعدّ عالم الاجتماع الأمريكي – الكندي إيرفنغ غوفمان (Irving Goffman) [4](1922-1982) من أكثر علماء الاجتماع الأمريكيين تأثيرًا في القرن العشرين، وقد احتل المرتبة السّادسة بين علماء الاجتماع الأكثر تأثيرا في دليل التايمز للتّعليم العالي بين مؤلّفي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في عام 2007[5].
وُلد غوفمان في 11 يونيو عام 1922 في عائلة أوكرانية يهودية هاجرت إلى كندا في أواخر القرن العشرين[6].
سجل في جامعة مانيتوبا في عام 1939 لدراسة الكيمياء، ولكنّه استنكف دراسته فيها، وانتقل إلى أوتاوا للعمل في مجال صناعة الأفلام لصالح المجلس الوطني الكندي للأفلام الذي أسّسه جون غريرسون. وبدأ اهتمامه لاحقًا بعلم الاجتماع بعد لقائه بعالم الاجتماع دينيس رونغ (Dennis Wrong) الذي حفّزه على ترك جامعة مانيتوبا ومتابعة الدراسة في جامعة تورنتو التي تخرج فيها بدرجة بكالوريوس في علم الاجتماع وعلم الإنسان عام 1945. وانتقل لاحقًا إلى جامعة شيكاغو حيث حصل على شهادة الماجستير عام 1949.
تابع تحصيله العلميّ في جامعة شيكاغو متأثرا بأساتذة كبار أمثال روبرت بارك (Robert Ezra Park)[7] وكليفورد شو (Clifford Shaw)[8]. ولاقى غوفمان تشجيعاً كبيراً من مشرفه لويد وارنر (W. Lloyd Warner) [9] دفعه إلى البحث المعمّق في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وقد انتهى به الأمر إلى القيام بدراسة أنتروبولوجية حول البناء الاجتماعيّ لسكان جزيرة شيتلاند (Shetland Isles التابعة لإسكتلندا برعاية قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة إدنبرة. وعلى منهج الأنتربولوجيين الكلاسيكيين أمضى غوفمان عاماً كاملاً في الجزيرة (بين شهري ديسمبر من عام 1949 ومايو عام 1951) يسجل ملاحظاته بمنهجية المشاركة الحيّة (observation participante). ” فغوفمان لم يكن من أولئك الذين تستهويهم الكتابة في المكاتب المكيّفة، بل إن ديدنه كان التخلص من المسافة التي تفصله، بوصفه باحثاً، عن الظاهرة محل الدراسة والانغماس فيها. هذه الظاهرة التي لم تكن سوى الظاهرة الاتصالية (التّفاعلية) وجها لوجه، والتي شغلته منذ أطروحة الدكتوراه خاصته إلى آخر محاضرة كتبها”[10].
وشكلت هذه الدراسة الموسومة بـ “سلوك الاتصال في مجتمع الجزيرة “(communication conduct in an Island Community) موضوع أطروحة الدكتوراه التي دافع عنها في عام 1953. وفي هذه الأطروحة قدَّم غوفمان لأوّل مرّة مصطلح «النظام التّفاعلي (Interaction order) الذي يوجّه الحياة الاجتماعيّة ويحتضن معالمها عندما يوجد الأفراد، ويتواصلون معاً في حيّز مكانيّ. وهذا “النطاق من علم الاجتماع هو الذي اتَّخذه غوفمان نطاقاً له. ذلك أنّ استقصاء خصائص النظام التّفاعلي هو الخيط الذي يربط الموضوعات والمواد المتباينة في كتبه الأحد عشر، وفيما يزيد على دستة من دراساته المنشورة في مجلات مرموقة”[11].
التحق غوفمان مدرسا في قسم علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا ببيركلي عام 1957 وترقّى في مدارجها الوظيفية أستاذاً متفرغاً عام 1962، ثم درّس في جامعة شيكاغو، ولاحقاً في جامعتي بيركلي وبينسيلفانيا، وقد انتخب الرئيس الثالث والسّبعين للجمعية الأميركية لعلم الاجتماع. توفي بعد إصابته بمرض السرطان عام 1982 [12].
3- مؤثرات غوفمان وأعماله العلمية:
يمكن القول: إن غوفمان استغرق في التحصيل المعرفيّ، وقد أتى على التراثين السّيكولوجي والسّوسيولوجي متأثراً بالأعمال العلميّة لكبار المفكّرين والعلماء الذين سبقوه وعاصروه أمثال: هيربرت بلومر (Herbert Blumer)، وإميل دوركايم (Emil Durkheim)، وسيغموند فرويد (Sigmond Freud )، وإيرفيت هيوز (Everett Hughes)[13]، وألفريد رادكليف براون (Alfred Radcliffe-Brown)، وتالكوت بارسونز (Talcott Parsons)[14]، وألفريد شوتز (Alfred Schütz)[15]، وجورج سيمل (Georg Simmel)، ووليام لويد وارنر (W. Lloyd Warner)،وكان هيوز (Everett Hughes) أكثرهم تأثيراً كما يرى بعض النقاد.
وقد أثّرت أعماله، بالمقابل، في عدد كبير من علماء الاجتماع الذين عاصروه ولاسيما أنتوني (Anthony Giddens)، ويورغن هابرماس (Jürgen Habermas)[16]، وبيير بورديو (Pierre Bourdieu)[17]. ومع أنّ كثيراً من المفكّرين يصنفون غوفمان بوصفه أحد روّاد ومنظّري التّفاعلية الرمزية، فإنّه لم ينظر إلى نفسه منتميا إليها أو ممثلاً لها، ويرى بعض النقّاد أنّ نظرية غوفمان لا يمكن تصنيفها بسهولة، أو تأطيرها في مدرسة محدّدة من مدارس الفكر الاجتماعيّ، كما أنّه يصعب اختزال أفكاره وتنميطها في نسق من الأفكار الرئيسة.
4- أعماله:
ترك غوفمان إرثاً فكرياً مهمّاً جداً في مجال علم الاجتماع اليومي، وتمحورت أبحاثُه وأعماله حول التّفاعل الدرامي الرمزي وأثره في تشكيل الحياة الاجتماعية في مختلف تجلياتها الإنسانية، وقد ترك لنا أحد عشر كتاباً وعدداً كبيراً من الدّراسات المنشورة في مجلات مرموقة[18].
ومن أهمّ الأعمال التي أودعها في الإرث السوسيولوجي العالمي، يُشار إلى كتابه المشهور “تقديم الذات في الحياة اليومية” (The Presentation of Self in Everyday Life)[19] الذي نشره في عام 1959، ويشار أيضاً إلى كتابه المصحّات (Asylums) [20] الصادر في عام 1961، ثم كتاب الوصمة (Stigma) عام 1963، وأخيراً كتاب تحليل الإطار (Frame) Analysis) [21] الصّادر سنة 1974.
وقد صنف كتاب غوفمان “تقديم الذات في الحياة اليومية” في المرتبة العاشرة من بين أهم الأعمال السوسيولوجية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، وقد جاء هذا التصنيف في المؤتمر العالمي لعلم الاجتماع ISA الذي عقد في مونتريال 1998[22].
ويشار، في هذا السّياق، إلى أنّ الكتب الأربعة التي ألفها غوفمان جاءت ضمن قائمة أفضل مائة كتاب في علم الاجتماع بحسب الاتّحاد الدولي لعلم الاجتماع (ISA) في عام 2016. وفي هذا التّصنيف حافظ كتاب “تقديم الذات في الحياة اليومية” على المرتبة العاشرة، واحتلّ كتاب المصحّات المرتبة 33، ثم كتاب الوصمة Stigma في المرتبة 44، وأخيرا، ورد كتاب تحليل الإطار في المرتبة 91[23]. وفي هذا التصنيف احتلّ كتاب ماكس فيبر (Max Weber) “الاقتصاد والمجتمع” (Economy and Society) المرتبة الأولى، وأخذ كتاب ميلز (Mills Charles Wright) “الخيال السوسيولوجي” (The Sociological Imagination) المرتبة الثانية، بينما احتلّ كتاب ميرتون (Robert Merton) “النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية” (Social Theory and Social Structure) المرتبة الثالثة، وعلى التّوالي نال كتاب ماكس فيبر ((Max Weber)) البروتستانتية والروح الرأسمالية (Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism) المرتبة الرابعة، وكتاب بيرجر ولوكمان (Berger, P.L. and Luckmann, T) “البنية الاجتماعية للحقيقية (The Social Construction of Reality) المرتبة الخامسة، وكتاب بورديو (Pierre Bourdieu) “التمايز: في النقد الاجتماعي (Distinction: A Social Critique) المرتبة السّادسة، وكتاب نوربيرت إلياس (Norbert Elias ) صيرورة الحضارة The Civilizing Process المرتبة السابعة، وكتاب هابرماس (Jürgen Habermas) نظرية الفعل التواصليّ (The Theory of Communicative Action) المرتبة الثامنة، وكتاب تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) بنية الفعل الاجتماعي (The Structure of Social Action) المرتبة التاسعة، وأخيراً كتاب غوفمان (Erving Goffman) “تقديم الذات في الحياة اليومية” (The Presentation of Self in Everyday Lif) المرتبة العاشرة.
ويُعدّ كتابُه الأول “تقدیم الذات في الحياة اليومية”[24] من أهمّ الأعمال وأخطرها، وفيه تتمثل مختلف عناصر نظريّته الاتّصالية، وهو العمل الذي تألّق فيه، وحلّق في عالم الشّهرة بوصفه أحد أهم علماء الاجتماع في القرن العشرين. وفي هذا العمل تتجلّى نظرية غوفمان الدرامية للحياة الاجتماعية، إذ ينظر إلى الحياة على أنّها دراما، وحاول، ضمن هذه الرّؤية، أن يبحث في طبيعة السّلوك التّفاعليّ الذي يقوم بين الناس عندما يجتمعون ويتلاقون بشكل حسّي ملموس، أي وجهاً لوجه.
ويتناول غوفمان في هذا الكتاب مفهومه عن «إدارة الانطباع»، “ويطور منظوره الدراماتورجي بطرائق مبتكرة، مشيراً إلى ستة «مبادئ» دراماتورجية، هي: الأداءات، والفرق، والمناطق والسلوك المناطقي، والأدوار المتباينة، والتواصل خارج الشخصية، وفنون إدارة الانطباع، وهو لا يقدّم هنا تصنيفاً سكونياً لأشكال التصرّف بل يتفحّص، على نحو تحليليّ، القضايا الدينامية الخاصّة بتقديم البشر ما يدعوه تعريفات للوضع والحفاظ عليها”[25].
وباختصار يقدّم غوفمان في هذا الكتاب منهجية مبتكرة في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لدراسة التّفاعل الاجتماعي في الحياة اليومية، “وذلك من خلال نظريته الدرامية في تحليل التّفاعل الاجتماعي وفهم الحياة الاجتماعية ويشكل هذا الكتاب جوهر نظريته الأساسية ومنطلق إسهاماته البارزة اللاّحقة في موضوعات مثل: “دراسة التّفاعل وجهًا لوجه، وتحليل أنماط الكلام، وتحليل الإطار، والسلوك اليومي، وغيرها؛ إذ قدّم تحليلاته عبر ترسانة ثرية من المفاهيم الخاصة التي جعلت من الصّعب اختزال فكره وتحليلاته إلى عدد من الأفكار المحدودة.[26]
استغرق كتابه: “المصحات: الوضع الاجتماعي للمرضى العقليين وسواهم من النزلاء “(Asylums: Essays on the 1961 ,social situation of mental patients and other inmates) الذي يتضمّن نتائج دراسة ميدانية للمرضى العقليّين في مستشفى سانت إليزابيث في واشنطن، عاماً كاملاً قضاه في تحليل مختلف مظاهر التّفاعل بين المرضى والممرّضين والأطبّاء وإدارة المشفى. وتتضمن هذه الدراسة أربع مقالات تتفحّص الأولى مستشفى الأمراض العقلية بوصفه بيئة مغلقة، وتتفحّص الثانية أحكام المرضى وتقييمهم لأنفسهم وللآخرين؛ وتبحث الثالثة في خفايا الحياة السّفلية للعاملين في المشفى؛ وتنتقد الرّابعة الطب النفسي المؤسساتي[27].
ويتناول غوفمان في كتابه: لقاءات: دراستين في علم اجتماع التّفاعل (Encounters: Two studies in the sociology of interaction, 1961.) مسألة الهويّة ودور التّفاعل الاجتماعي في إنتاجها.
ثم يدرس ظواهر التّجمعات الإنسانية وتفاعلاتها في كتابه: السّلوك في الأماكن العامة: ملاحظات حول التّنظيم الاجتماعيّ للتّجمعات (Behavior in public places: Notes on the social organization of gatherings, 1963.). وتشكّل الأماكن العامّة في هذا الكتاب إطاراً للتّفاعل الإنساني الذي يعتمده غوفمان في تحليل العلاقات والتّفاعلات القائمة بين الأفراد[28]. ويميّز في هذا السّياق بين التّفاعل العابر والتّفاعل المركز، ويشتمل هذا الكتاب على مناقشات مهمّة للآداب المرتبطة بأوضاع مختلفة، والإغفال المهذّب، ولغة الجسد، والانخراط، والمساهمة[29].
وفي كتابه “الوصمة ملاحظات حول إدارة الهوية ” 1963 (Stigma: Notes on the management of spoiled identity) يتناول غوفمان وضعيات الأشخاص الذين يعانون من تهميش المجتمع نتيجة أوضاعهم الاجتماعيّة أو الصحية ولا سيّما هؤلاء الذين وقعوا في براثن الانحراف والإدمان والجريمة. وهو يبيّن في هذا الكتاب بالدّرس والتّحليل الكيفيات التي يتواصل فيها أصحاب الوصمات مع الآخرين، والطرق التي يحاولون فيها التكيف مع الأسوياء[30].
ويتضمن كتابه “مراسم: التّفاعل، مقالات في السّلوك وجها لوجه (Interaction ritual: Essays on face-to-face behavior1967)” عدداً كبيراً من المقالات التي كتبها حول فعاليات التواصل بين الناس في مختلف تجلياتها وتعيناتها، ويركّز على ألعاب القمار في نوادي نيفادا[31].
ويتناول في كتابه “تفاعل استراتيجيّ” (Strategic interaction, 1969) دور الخداع والمكر في العلاقات الاجتماعيّة، ويبحث في الطرق التي يعتمدها الأفراد في الحصول على المعلومات، وكشفها وإخفائها لبناء العلاقات التّفاعلية مع الآخرين. وفي الفصل الموسوم بــــــــ «التّفاعل الاستراتيجي» يتناول أسس اتّخاذ القرار في ظروف مصيرية للطرفين[32].
يواصل غوفمان في كتابه “علاقات علنية: دراسات جزئية للنظام العام (Relations in public: “Microstudies of the public order, 1971) اهتمامه بالتّفاعل المركز وغير المركز الذي سبق أن أعلن عنه في كتاب السلوك في الأماكن العامة. “ويستكشف في فصوله الستة القائمة بذاتها تلك الأنماط الشخصية «الفردية» و «الجماعية» التي تساعد في الحفاظ على الذات والتبادلات الداعمة والتبادلات الشافية» التي تبقي التعاملات اليومية على ما يرام من حيث «العلامات – الروابط» و«المظاهر السويَّة» التي تمكّن العلاقات والأماكن والأوضاع من أن يكون لها معنى. وقد ألحق غوفمان بهذا الكتاب مقالة من عام 1969 بعنوان «جنون المكان». وهي مقالة سيريَّة في العمق ترسم الخطوط العامة للخراب الذي أحدثه مريض عقلي في البيت”[33].
في كتابه “تحليل الإطار: مقالة في تنظيم التجربة ” (Frame analysis: An essay in the organization of experience, 1974) الذي استغرق إعداده عقداً كاملاً، وأراد له أن يكون رائعته وكتابه الرئيس، يستكشف غوفمان أبعاد تجربة الحياة الاجتماعية ويقدّم مصطلحات ومفاهيم أساسية يمكن توظيفها منهجياً في تفهم مختلف أنماط السلوك البشري[34].
ويمكن لهذا الاستعراض الموجز لأعمال غوفمان أن يقدم لنا تصوراً خاطفاً وشاملاً لأبرز معالم نظريته وأفكاره ومفاهيمه وتصوّراته، ومعظمها، كما لاحظنا، يدور في فلك التّفاعل الاجتماعيّ والتّواصل الإنساني في مختلف الحالات الممكنة بين البشر. وفي هذا يقول ثائر ديب (مترجم كتاب غوفمان المركزي) “عرض الذات في الحياة اليومية إن هذه الترسانة من الأعمال وطرائقه في تشغيلها “جعلت منه واحداً من أهم علماء اجتماع القرن العشرين وأشدهم نفوذاً، وواحداً من أهم أركان «نظرية التّفاعل الرمزي» ومطوّر المنظور الدراماتورجي[35].
5- العالم كمسرح والأفراد كممثلين:
يتبنى غوفمان منطلقات نظريته الدرامية (Dramaturgical Theory) في فهم مختلف تجليات الحياة الاجتماعية وتشكّلاتها. وهو ينطلق من سوسيولوجيا الحياة اليومية البسيطة، ويتدرّج في تناول معطياتها من خلال شبكات التّواصل الاجتماعي الذي يقوم بين أفرادها في مختلف الأوضاع الحياتيّة. فالعالم كما يراه غوفمان مسرح كبير يتفاعل فيه البشر، ويتشكّلون. وفي معترك هذا التّفاعل تولد الحياة الاجتماعيّة وتتجلى في أكثر معانيها عمقاً وأصالةً. وقد شبه الحياة الاجتماعية وما يدور فيها بمسرح كبير يؤدي فيه كل فرد أدواراً متنوّعة تتناسب مع معطيات المواقف التي يعيشها أو يواجهها، والدّور الذي يؤديه الفرد قد يكون مغايراً لطبيعته الحقيقية شأنه شأن الممثل الذي يجسّد شخصية الآخر ويتمثلها، وغالباً ما تكون الشخصية التي يقدّمها مغايرة للشخصية الحقيقة التي يكون عليها الممثل، وهذا يعني أنّ الأفراد في سلوكهم اليومي غالباً ما يتغافلون عن شخصياتهم الحقيقيّة، ويُظهرون ما يخالفها على صورة ما يتطلبه الموقف الحياتي بما ينطوي عليه من غايات ومطالب، ويحاول الأفراد عند قيامهم بأدوارهم الاجتماعية المطلوبة تقديم الدور بوصفه تجسيداً حقيقاً لشخصياتهم وهذا يعني أن الأمر التمثيلي يتطلب منهم إخفاء الحدود الفاصلة بين شخوصهم الحقيقية وشخوصهم التمثيلية.
وينطلق غوفمان في تناوله للحياة الاجتماعية من بسط عناصرها الذرية، أي من العلاقة التّفاعليّة البسيطة التي تقوم بين طرفين، بين فردين، في المجتمع، ففي هذه العلاقة يبدأ الفعل الاجتماعي بالنمو والتشكل. ومثل هذه العلاقة تمثّل الذرة الأولى في الحياة الاجتماعية والإنسانية. وبتفاعل هذه الذرة ضمن تشابكات الحياة الاجتماعية يولد النسيج الاجتماعي. وتولد الحياة الاجتماعية في مختلف مظاهرها وتجلياتها وتفاعلاتها الإنسانيّة.
وتتمثّل الأطروحة المركزيّة في نظريّة غوفمان في استجلاء الكيفيّة التي يتشكل فيها هذا التّفاعل الإنساني الدّرامي، وتحديد الأدوات والصّيرورات التي تحكمها في مستويات بساطتها، وفي أعلى درجات تعقيدها. وهنا تبرز اللّغة والرّموز والإشارات والإيماءات بوصفها أدوات أساسية يعتمدها الناس في تفاعلهم وتشاكلهم، في مختلف تمظهرات وجودهم الإنسانيّ. ويحدّد لنا غوفمان الإطار العام الذي تجري فيه هذه التّفاعلات الإنسانية، إذ يرى أنّ الحياة أشبه بمسرحية تفاعلية تقوم بين الممثلين والمشاهدين، وفي دوالية التّفاعل الدرامي بين الجمهور والممثّلين. وقد أبدع غوفمان في استقراء أهم التّفاعلات المسرحية الدرامية بين البشر، ووصفه للطرائق التي يدير بها البشر تفاعلاتهم وانطباعاتهم على خشبة المسرح الاجتماعي. فالعالم الذي يعيش فيه الناس مسرح تفاعلي يحتضن التّفاعل الاجتماعي بين البشر… وهذا التّفاعل يشكل موضوع دراسة غوفمان فيما وسمه بالتّحليل الدراماتورجي (Dramatology). وهو نمط من التحليل يعتمده في تحليل الأدوار القائمة بين الناس، ورصد تفاعلاتهم وإشاراتهم وإيماءاتهم ومختلف الأوضاع الرمزية التي يمارسونه خلال تواصلهم في أحضان «العالم المسرح». وفي هذا التناول المسرحيّ يحاول غوفمان استكشاف مختلف معادلات التوازن والخلل والتّكامل التي تقوم بين الحياة الشّخصية الخاصّة الخفيّة والحياة العامة الجماعية العلنية. وفي منهجية تناوله لهذه التّفاعلات التي تقوم بين الناس، يقوم بتحليل أدقّ التفاصيل وضروب التبادُل والتّفاعل الرمزي الذي يقع بين البشر في دائرتي الزمان والمكان المدروسين. ومن يتأملْ في منظور وأعمال غوفمان سيجد بالضرورة أنّ نظريته التّفاعلية تأخذ أهمية صارخة وأداة منهجية فاعلة لفهم كثير من وضعيات العصر الذي نعيش فيه بما ينطوي عليه من مستجدات تواصلية في مختلف مجالات الوجود الحداثي المعاصر، ولا سيما في مجال الميديا والإعلان ووسائل التواصل الاجتماعي.
ويبدو لنا واضحاً أنّ غوفمان اعتمد المنهجية الدراماتورجية (علم دراسة المسرح) في تحليل التّفاعل الاجتماعي والتواصل الإنساني في الحياة اليوميّة. وعلى هذا الأساس ينظر إلى الحياة بوصفها مسرحاً كبيراً وإلى سلوك أيّ فرد بوصفه يؤدي دوراً (Performance) على خشبة هذا المسرح. ويرى أنّ سلوك الفرد (أيّ فرد في أيّ موقف تفاعلي) هو صيغة أداء مسرحيّ يعرض فيه ذاته أمام الآخرين، أي في حضرة الآخر. ويأخذ هذا السلوك الفردي (الأداء) صورة “دور مسرحي محدّد” يؤدّيه وفق مطالب مكانته الاجتماعية ووظيفته وظروف حياته وثقافته ومعيشته. والأداء يشير إلى كلّ ما يصدر عن الفرد من نشاط أثناءَ فترة حضوره المستمرّ أمام مجموعة محدّدة من المراقبين، ويكون لهذا النّشاط شيء من التأثير في المراقبين كما في المشاهدين. ويسعى الفرد أثناء تأديته الدّورَ أن يقدم انطباعاً محدداً عن ذاته للآخرين يتناسب مع الدّور ومع الأهداف التي يضعها نصب عينيه.
ويعمل الفرد أثناء تأديته الدّورَ على توظيف أدواته الرّمزية التعبيرية من إيحاءات وإشارات وإيماءات وتلميحات تعزيزا لصورة الدور الذي يؤديه، أو لنقل إنّه يسعى إلى تجسيد هذا الدّور على نحو واقعي ملموس أمام الحضور والمشاركين والمراقبين.
ويستخدم غوفمان مختلف مفردات الدراما المسرحية لوصف الفعالية السّلوكية التي يؤديها الفرد مثل مفهوم الواجهة Front الذي يتضمّن عناصر مسرحية نمطية “مثل المشهد المسرحي الذي يشمل الأثاث والدّيكور والتّخطيط المادّي وأجزاء في الخلفية تقدم ركائز المشهد والمسرح من أجل تدفق الفعل البشريّ الذي يُؤدَّى أمام هذا المنظر المسرحيّ أو داخله أو عليه، أو تضمّ ما يُشكّل الواجهة الشخصية، مثل المظهر والسلوك. ويقوم بالأداء فريق من الأفراد المؤدين[36]. ومثلما هو الحال في المسرح يتواجد الفرد الذي يؤدّي الدور في مناطق Regions من خشبة المسرح، ويكون في هذه الحالة، أي عندما يكون أمام الآخرين مباشرة على خشبة المسرح، في منطقة المواجهة الأمامية Front Region، وعليه حينذاك أن يستخدم مختلف الوسائل لإدارة الانطباع Impression Management بصورة مقصودة أحياناً وعفوية أحياناً أخرى للتحكّم قدر الإمكان في الانطباع الذي يولده لدى الآخرين[37].
وعلى هذا النّحو يصوّر لنا غوفمان الحياة الاجتماعية – بتفاعلاتها وصيروراتها- على نحو أشبه ما تكون بمسرحية ضخمة تقدم على خشبة مسرحية هائلة الأبعاد، وهو في هذا السّياق يرى أن أفراد المجتمع أشبه بفريق تمثيلي يؤدي أداوره على المسرح، فالناس في حياتهم اليومية، في تفاعلهم يماثلون فريقا من الممثلين الذين يتعاونون على المسرح لإنجاز أدوارهم وتقديم أنفسهم وتحقيق أهدافهم. ويقدم غوفمان أمثلة عديدة للتّفاعل الدرامي الاجتماعي اليومي، ويضرب مثلاً على ذلك بما يجري في المستشفى الذي يشكل مسرحاً يتفاعل على خشبته فريق من الأطبّاء والممرضين والمساعدين الذين يتعاونون جميعاً من أجل تقديم العلاج المناسب للمرضى وحمايتهم من غوائل أمراضهم، وتخفيف آلامهم ومعاناتهم بطريقة تتكامل فيها الأنشطة وتتشابك فيها الأدوار والفعاليات الهادفة إلى تحقيق الغايات الطبّية المرسومة. ومن هذا المنطلق تتحدّد رؤية غوفمان للحياة الاجتماعية بوصفها مسرحاً يكافح فيها الأفراد ويناضلون من أجل تحقيق توافقهم الاجتماعي والانسجام مع المشهد العام للحياة بما تنطوي عليه من معايير وقيم وتصوّرات وثقافات، وهكذا، يرى غوفمان أن الإنسان يسعى درامياً إلى تحقيق غاياته الإنسانية ضمن مسارات التّوافق مع المجتمع[38].
6- المسرح بين منطقتين:
وفي المشهد المسرحيّ للمجتمع يميز غوفمان بين منطقتين أساسيتين في المسرح: المنصة الأمامية Front Region وهي خشبة المسرح، والمنطقة الخلفية Back Region (الكواليس). ويرمز هذا التقسيم المكاني إلى ازدواجية في سلوك الممثلين، أي الأفراد الفاعلين في المجتمع، فالسلوك على الخشبة الرئيسة يختلف كلياً عن السلوك في “الكواليس”، فعندما يكون الفرد على المنصّة الأساسية -أي على خشبة المسرح في مواجهة الجمهور- يترتّب عليه وجوباً أن يأخذ في أدائه المسرحي مساراً أكثر جديةً واهتماماً وتركيزاً. ويحتاج الفرد المؤدي إلى مختلف الأدوات التعبيريّة التي يمكنه أن يوظّفها في إدارة المشهد، وتكوين الانطباعات لدى الحضور الماثل أمامه في المسرح. ولكنّ الفرد عندما يكون في الحظيرة الخلفية للمسرح، أي في الكواليس “وهي المنطقة الخلفية التي يغيب عنها المشاهدون ولا يسمح لهم بمشاهدتها، فإنّ سلوك الفرد يتّسم بالتّراخي والعفويّة والحرية، إذ يمكن للفرد أن يعبّر عن ذاته الصميمية، وعن هويّته الذاتيّة الخاصّة. ويمكنه أن يؤدّي سلوكيات قد تبدو مختلفة جداً عن تلك التي يؤديها على الخشبة الأمامية للمسرح. ومثال ذلك أن “يقوم الفرد بالمزاح مع زملائه واستخدام الغمز واللّمز وإطلاق النكات أو العبارات البذيئة. أو ينتقد ويسخر ممّن كان يحرص منذ قليل على أن يظهر أمامهم بمظهر الأدب والكياسة والتهذيب”[39].
فالحياة مسرح كبير. وهذا المسرح ينطوي على عدة أماكن أهمّها ثلاث مناطق أساسيّة: الخشبة الأمامية والكواليس ومكان الجمهور. وهذا يعني أنه يمكن لنا تفسير وتحليل أي موقف سلوكيّ للفرد أو للجماعة في ضوء هذا التقسيم المسرحيّ للأماكن، ويمكن أن نستخدم مختلف المفاهيم الدراماتولوجية التي تساعدنا في فهم سلوك الأفراد وتطلعاتهم وغاياتهم. فعلى سبيل المثال: سلوكاتنا في المنزل تختلف عن تلك التي نمارسها في الشارع وفي العمل وعلى الشّواطئ وفي المتاجر وفي الأماكن العامة. ومن الطبيعيّ أن يقوم غوفمان بتحليل السّلوك الاجتماعي في ضوء هذه المفاهيم مستخدما مختلف الأدوات المنهجية ذات الطّابع المسرحي، مثل الدور والأداء والواجهة والرمز والإشارة والدّلالة كما يوظف مختلف الفعاليات الرمزية التي تحدث في سياق التّفاعل الإنساني، وذلك في اتّجاه استكشاف الخفيّ والمضمر والمتواري في سلوكنا الاجتماعي. فخشبة المسرح الأمامية (The stage)، وهي الحيّز المكانيّ التي يمارس فيها الممثلون الاجتماعيون أدوارهم حيث يقف المؤدون أو الأفراد على الخشبة أمام الجماهير. و”يتم فيه عرض الذات وانتظار الانطباعات المطلوبة. وهناك المنطقة الخلفية (The backstage) حيث يستعد الأفراد لأداء أدوارهم أو التنازل عنها. كما يقترح لفهم نظريته مجموعة من المفاهيم القاعدية على غرار الخشبة والمنطقة الخلفية[40].
ويستلهم غوفمان وضعية المسرح الاجتماعيّ ضمن صيغة التناظر مع المسرح العادي. فالمنطقة الأمامية للمسرح (أي خشبة المسرح) تتشكل من تجهيزات وديكورات وصور وأشياء ثابتة نسبياً. والممثلون عادة ما يحتاجون إلى هذه البيئة المسرحية بما فيها من تجهيزات ضرورية لأداء أدوارهم. وهذا يعني أن خشبة المسرح ضروريّة، إذ لا يمكن للمثلين أداء أدوارهم إلّا في الموضع الملائم، وهو خشبة المسرح المجهّزة لنشاطهم المسرحي. ويماثل غوفمان بين صورة المسرح هذه وهيئته “والمشاهد الاجتماعية التي نراها في المواكب الجنائزية، والاستعراضات العسكرية داخل المدن، والمواكب الملكية الخيالية التي تشبه الأحلام [41].
من الواضح أن غوفمان يعطي أهمية كبيرة لتفاصيل المكان وتقسيماته في عملية التواصل، ويساعدنا هذا التّقسيم المكاني الدرامي على استيعاب المسار الذي تتّخذه الحياة الاجتماعية في حالة التلاقي بين الزمان والمكان، “فالبيت الحديث على سبيل المثال، مقسّم إلى ما يشبه الأقاليم المكونة من الحجرات وممرات وربما السقوف إذا كان المنزل يتكون من أكثر من طابق واحد. وهذه الفضاءات ليست مجرد مساحات مادية منفصلة، بل إنها مصمّمة وفق منطق زمني معين. فحجرة الجلوس والمطبخ يستخدمان، على الأرجح خلال ساعات النهار والحمامات خلال الليل. وتتحكم التّفاعلات التي تجري في هذه الأقاليم اعتبارات مساحية وزمنية. وبعض المواضع في ذلك البيت يشكل الخطوط الخلفية، بينما “الأداء” في مواضع أخرى. وفي بعض الأوقات يتحول المنزل كله إلى خطوط خلفية” [42]. ففي عطلة الأسبوع كما يقول غوفمان “تستخدم الأسرة سور البيت أو جدرانه أو سياجه لحماية حياتها الحميمة الخاصة التي تشيع آنذاك في أرجاء جميع الحجرات، بما يشتمل عليه ذلك استرخاء في الحديث وارتياح في ارتداء الملابس. ويتحول أسلوب المعيشة برمته إلى أنماط من السلوك والتواصل والتّفاعل كانت مقصورة على المطبخ وحجرات النوم“[43]. يبدو أنّ المكان يؤدي دوراً مهماً في تحديد الأدوار والأداءات، “فهو لا يقسمها فقط، ولا يسهم في تنظيمها فحسب، بل يشكل خلفية تضفي على الاتّصالات معانيها وتجعلها مفهومة أكثر، بل ومنمّطة في كثير من الأحيان تماماً مثل الديكور في المسرح الذي يقوم بدور محوري في إيصال الرسائل للجمهور”[44].
يماثل غوفمان، ما أسلفنا، بين ما يمارسه الأفراد في حياتهم اليومية وبين العروض المسرحية، وينطلق هذا التّماثل من صور الحياة اليومية التّفاعلية بين الأفراد. فالفرد عندما يتواصل مع الآخرين ويدخل في دائرة التّفاعل معهم يحاول التأثير فيهم وتوجيه انطباعاتهم عنه، كما لو أنّه يمثل دوراً على المسرح يريد أن يقنع الناس بقدرته على تقديم الصورة التي يرغب فيها عن نفسه. وفي معترك هذا التّواصل يقوم بتعديل سلوكه واستخدام مختلف الأدوات التعبيريّة في التّفاعل تماما كما هو الشّأن في الأداء المسرحيّ. وكما هو الحال في المسرح، يجب على الممثل أن يعرف جيداً طبائع المشاهدين ورغباتهم وتطلّعاتهم وتشكيلاتهم الذهنيّة، وهكذا، يحاول الفرد في دائرة الحياة الاجتماعية أن يحظى بمعرفة الآخرين، وإدراك ما يتطلّعون إليه، وما يلبّي رغباتهم ويستجيب إلى انتظاراتهم وقناعاتهم، وعلى هذا الأساس يعمل الأفراد في سياق تفاعلهم الاجتماعي على تكوين معرفة بالآخر، ويحاولون تجميع المعلومات عن هؤلاء الذين يتفاعلون معهم، لأنّ مثل هذه المعلومات المتعلّقة بالآخرين تساعد الفرد / الممثل على بناء مواقف سلوكية مناسبة تنسج إلى حدّ كبير في انسجام مع توقّعات الآخرين وتستجيب لها[45].
ويُستخلص ممّا تقدّم أنّ غوفمان يشطر المجال التّفاعليّ للحياة الاجتماعية إلى منطقتين أساسيتيّن:
تتمثل المنطقة الأولى في خشبة المسرح، أو ما يمكن تسميته بالخشبة الأمامية التي يدور فيها العرض المسرحي وهي المكان الذي تؤدى فيه المشاهد التمثيلية، وفي هذه المنطقة (خشبة المسرح) يجري التّفاعل بين الممثلين والجمهور، وفي نسق هذا التّفاعل يقوم الممثلون بأداء أدوارهم الاجتماعية (مثل المعلم في الصف، القائد في الجيش، رب العمال بين موظفيه، الموظف مع مراجعيه). هذا فيما يتعلق بالمنطقة الأمامية أي على خشبة المسرح.
ثم يحدّثنا غوفمان عن المنطقة الثانية التي لا تقلّ أهمية عن الأولى وهي “المنطقة الخلفية” للمسرح أو ما يسمّى عادة بـ (الكواليس)، وهي منطقة مغلقة لا يستطيع الجمهور مشاهدة ما يجري فيها، وفي هذه المنطقة الخلفية يستطيع الممثلون الاسترخاء، وأخذ قسط من الراحة والتحرّر من ضغط خشبة المسرح دون مراقبة الجمهور، وفي هذه المنطقة يجري الاستعداد للمشهد المسرحي القادم. وتأخذ هذه المنطقة أهمّية كبيرة على المستوى السيكولوجي الدّاخلي، فالممثل يراجع نفسه ويستبصر ذاته، ويتأمل نقدياً فيما قدّمه سابقاً على الخشبة، وإمّا أن يكون راضياً عن نفسه، أو ناقداً إيّاها مستعداً لبناء استراتيجية جديدة تمنحه القدرة على أداء دور أفضل فيما يترتّب عليه في المستقبل، فالأستاذ يمكنه أن يقرّ يضعف أدائه وهو يعيد النّظر فيما قدّمه في صالة المحاضرة، وقد يرسم استراتيجية جديدة لأداء أفضل، وكذلك السياسيّ قد يتأمّل في أدائه مع الصّحفيين، ويقرّ ببعض جوانب الضعف، وقد يشعر بأنّ أداءه كان متميزاً فيحظى بجرعة عالية من الثقة بالنّفس، وقد يطور مهاراته الخطابيّة بشكل أفضل.
ومن ثم فإنّ غوفمان يقوم بتصنيف الأدوار وفقاً لتنوع المناطق المسرحية ويضع لنا “جردة بـ “الأدوار” التي يمكن أن نقوم بها: وهي الأدوار الصريحة (مثل أدوار “الممثلين” أو “الجمهور”)، وكذلك أدوار أخرى أكثر دقة (يسميها “متناقضة مزدوجة)، مثل دور “الكومبارس”[46] الذي ينتمي إلى فريق الممثلين، لكن يتظاهر بأنه جزء من الجمهور شأن المرأة التي تتجاوب مع زوجها عندما يروي في السّهرة قصّة طريفة سمعتها عشرات المرات)”[47]. “أو “المُهمل” الموجود خلال التّفاعل، لكن يعدّ غائباً ولا يتوجـه نحـوه العرض (سائق التاكسي الذي لا يمنع حضوره المرأة من أن تصلح مكياجها، أو زوجين من المشادة)”[48].
وفي سياق الحدود الفاصلة بين المنطقتين “يشير غوفمان إلى الارتباك الذي قد يحدث إذا أزيلت الحدود بين هاتين المنطقتين، مثل أن يقوم شخص ما بدخول غرفة النوم من دون أن يطرق الباب. كما ذكر أن الموظفين في فندق جزر شيتلاند يتصرّفون بصورة مختلفة تماماً في الخشبة الخلفية بالمطبخ (حيث يمكنهم أن يسبّوا ويضحكوا ويهينوا الزبائن ويبصقوا في طعامهم)، عن طريقة تصرفهم في الخشبة الأمامية بالمطعم (حيث يكونون مهذّبين للغاية في حضرة الزبائن. إنّ الانتقال من الخشبة الأمامية إلى الخشبة الخلفية يمكن أن يكون أمراً ضاغطاً مسرحياً، لأنه يتطلّب وضع وجه المرء العام والاستعداد للتعرّض للفحص الدّقيق، وهو الأمر الذي يمكن أن يشكّل مشكلة خاصة بالنسبة إلى الأشخاص الخجولين[49].
7- إدارة الانطباع: Goffman’s Impression Management
يتناول غوفمان مفهوم “إدارة الانطباع” في كتابه «تسويق الذات في الحياة اليومية». وتتمثّل فكرة إدارة الانطباع في الجهود التّمثيلية التي يبذلها الأفراد لتقديم أنفسهم على نحو إيجابيّ في خضم التّفاعل الاجتماعي مع الآخر، وتركّز هذه الرؤية على الكيفيات التي يقدم بها الأفراد أنفسهم والمنهجيات التي يعتمدونها لتلبية توقعات الآخرين[50]. ويُعدّ مفهوم إدارة الانطباع (Impression Management) أحد المفاهيم المركزية في نظرية غوفمان الدّرامية، ويفيد هذا المفهوم بأنّ الأفراد يستخدمون مختلف الوسائل التعبيريّة الممكنة لتوليد أفضل الانطباعات عن أنفسهم عندما يتفاعلون ويقدمون أنفسهم للآخرين على مسرح الحياة الاجتماعية، وبعبارة أخرى يحاول الأفراد أثناء تفاعلهم أن يقدموا أنفسهم في أفضل صورة وأن يولّدوا أجمل انطباع يمكن أن يتركوه في نفوس الآخرين. ويتضمّن هذا التّقديم للنّفس اختيار أفضل السلوكيات اللّفظية وغير اللفظية، مثل اختيار اللّباس والزينة والهيئة والتحكّم في تعابير الوجه، واختيار الكلمات والعبارات بعناية لنقل صورة معيّنة عن الذات للآخر وخلق انطباع إيجابيّ يترك أثره في نفوس الآخرين.
وقد استخدم غوفمان مفهوم “إدارة الانطباع” الذي يرمز إلى نسق من السّلوكات التي يتبنّاها الأفراد في التّفاعل مع الآخرين، من أجل التحكّم في الانطباعات التي يمكن أن يتركها في نفوس الآخرين. وتشير “إدارة الانطباع” إلى العملية التي يحاول فيها الفرد التحكم في انطباعات الآخرين الذي يتواصل معهم لتقديم صورة عن نفسه تتوافق مع أهدافه ونواياه. وهي “محاولة واعية أو غير واعية للتحكم في الصورة التي يعرضها المرء لنفسه على الآخرين أثناء التّفاعلات الاجتماعية الحقيقية أو المتخيلة“[51]، وهي أيضا كما يعرفها غوفمان “نوع من الطقوس المتبادلة التي تساعد على تسهيل العلاقات الاجتماعية والسيطرة عليها من أجل تجنب الإحراج أثناء التّفاعلات الاجتماعية”[52].
ويمكن أن نسوق أمثلة كثيرة على فنّ إدارة الانطباع، ومنها سلوك لاعبي كرة القدم اليافعين، إذ يلجأ اللاعب إلى إبراز مهارته بأفضل ما يمكنه، ويميل إلى استعراض مواهبه الرياضية، وقد لا يكون الفوز في المباراة ذاتها هو الهدف الرئيس للاعب يافع، بل ينصبّ اهتمامه على إثارة إعجاب المدربين لزيادة فرص اختياره. وعلى صورة هذا المثال نرى بأنّ مفهوم إدارة الانطباع يُستعمل غالباً لتقديم الذات وتسويقها. وهو يمثّل في جوهره محاولة الفرد التأثير في انطباعات الآخرين، ودفعهم إلى قبوله واستحسان سلوكه.
وقد ميّز غوفمان بين جانبين من إدارة الانطباع في مسرح الحياة الإنسانية. أطلق على الأول الجانب الأمامي وعلى الثاني الجانب الخلفي، ويتمثّل الأول في تفاعل الأفراد في الأماكن العامة أو أمام الجمهور، بينما يتمثّل الثاني في التّفاعل الذي يتمّ بين الأصدقاء المقربين وأفراد الأسرة.
وحدّد غوفمان أيضاً عدداً من الأساليب التي يستخدمها الأفراد في إدارة الانطباع، مثل:
1-عرض الذّات (Self-presentation): تقديم الذات بطريقة معينة للآخرين، وينطوي هذا الأمر على نسق من الصّيغ التي يقدّم فيها الفرد نفسه للآخرين مثل الكلمات والإيماءات والسّلوكات. ويتضمن ذلك مظهر الفرد من لباس وزينة وغير ذلك.
2- حفظ الوجه (Face-saving): الحفاظ على صورة إيجابية في مواجهة المواقف التي يحتمل أن تكون محرجة.
3- المجاملات (Ingratiation): استخدام المجاملات والإطراء والتَمَلُّق والمدَاراة، والمُدَاهَنَة، والمُصَانَعَة، والمُلاطَفَة، والمُلاَيَنَة أو غير ذلك من الوسائل لكسب مشاعر الآخرين واهتمامهم.
4- التبرير والمواءمة (Aligning actions): تبرير تصرّفات المرء للآخرين من خلال مواءمتها مع الأعراف أو التوقّعات الاجتماعية.
5- الإسقاط (Self projection): إظهار نفس الصّورة أمام الآخرين كما يتوقّعون من الفرد. وعرض صورة معيّنة عن الذات على الآخرين لاستنباط الاستجابة المرغوبة. واستخدام الأخلاقيات والقيم الاجتماعية للحصول على صالحيّة الآخرين والحفاظ على صورة إيجابية للنفس. وقد يتضمّن ذلك استخدام التحليل والتّفكير النقديّ لفهم ما يتوقّعه الآخرون وكيفيّة التكيّف معه، ويتطلّب ذلك أيضاً معرفةً بالقيم والمعايير الاجتماعية المعتمدة في المجتمع والثقافة التي ينتمي إليها الفرد.
فالأفراد يقدمون أنفسهم من خلال الأدوار التي يؤدونها في المجتمع. وهم حينما يقدّمون أنفسهم يحاولون تقديم صورة مثالية لأنفسهم، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ لكل شخص جوانب سلبية في شخصيته، فإن الأفراد يعملون وفق كيفيّات متعددة على إخفائها والتركيز على السّمات الإيجابية التي تمكنهم من التّفاعل الاجتماعي بطريقة مثلى[53].
كثيراً ما يماثل غوفمان بين المواقف الحياتيّة للفرد والمشاهد المسرحية. وعادة ما ينظر إلى التّفاعل البشريّ باعتباره دراما يؤدّي فيها الممثلون أدواراً، وينقلون عرضاً معينًا للذّات أمام جمهورهم لخلق انطباعات إيجابيّة مناسبة للمواقف الحياتيّة. ويحاولون، كما يفعل الممثّلون أمام الجمهور، أداء الدّور المطلوب الذي يرضي ذائقة الجمهور، ويلبّي عناصر الإحساس بالمتعة والمفاجأة والاندهاش، ويلمح في هذا السّياق أنّ الآخر ” الجمهور” يراقب الممثّلين، ويتأمّل طريقة تصرّفهم وأنماط سلوكهم، وتعابير وجوههم، والدلالات والمعاني التي يعطونها لأفعالهم ونشاطهم المسرحيّ الاجتماعي[54].
ومن البداهة السوسيولوجية أنّ “إدارة الانطباع ” تتأثّر بعدد كبير من الأطر والسّياقات والمتغيّرات الثّقافية والدّوافع الاجتماعية. ويؤكّد غوفمان هذا الأمر بقول: “ما أفترضه، إذاً، وباختصار، هو أنَّه حين يظهر فرد أمام آخرين تكون لديه دوافع عديد لأن يحاول التحكُّم بالانطباع الذي يتلقونه عن الوضع. وما یعنی به بحثي هذا هو بعض التّقنيات الشائعة التي يستخدمها الأشخاص للحفاظ على مثل هذه الانطباعات وبعض الطوارئ الشائعة المقترنة باستخدام هذه التقنيات[55]. وهذا يعني أنّه لا يمكن للتّفاعل أن يكون إلاّ في سياق اجتماعيّ حقيقيّ أو مُتخيّل. وهذا السّياق يحمل في ذاته شحنة عالية من المتغيّرات الثقافيّة والاجتماعيّة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء إدارة الانطباع، وعلى الفرد في هذا التّفاعل أن يدير الانطباع وفقا لرغبة الجمهور وتطلّعاته، وأن يأخذ بعين الاعتبارات المناخ الثقافيّ والقيم والمعايير الأخلاقية السّائدة في المجتمع. ويتّضح أيضا تباين تأثير المسافة التي تفصل بين الفرد والجمهور، إذ تؤثّر المسافة الاجتماعية طولاً واقتصاراً في عملية التحكّم بالانطباعات، فسلوك الأستاذ الجامعي في قاعة المحاضرة يختلف عنه في قاعة المؤتمرات، فالمسافة الفاصلة بينه وبين طلابه تكون غالباً ضيّقة جداً بالقياس إلى تلك التي تفصله عن الجمهور في قاعة مؤتمرات عالمية. فالطلاب هنا أقرب إلى الأستاذ الجامعي من الحضور في قاعة مؤتمرات كبرى. وهنا أيضاً يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أهداف الفرد نفسه وغايته من التّواصل التّفاعلي مع الجمهور، لأن الغايات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها تشكّل أحد عوامل التأثير في عملية إدارة الانطباعات. وباختصار يمكن القول: إن “إدارة الانطباع” تجسّد محاولة فرد ما تقديم صورة جيّدة عن نفسه في إطار تفاعله مع الآخرين، ويمكن للفرد أن يستخدم مختلف أدوات التّفاعل الانطباعيّ اللغويّة والإيمائيّة والرمزيّة والصوت والصورة.
إدارة الانطباع، عملية قد تكون شعوريّة أو لا شعوريّة يحاول الأفراد بموجبها التّأثير في آراء الآخرين بخصوص شخصياتهم أو بخصوص شيءٍ ما أو حدثٍ ما من خلال تنظيم وضبط المعطيات في التّواصل الاجتماعي. وأوّل مَن ذكر المفهوم هو عالم الاجتماع إيرفنغ غوفمان في كتابه «تسويق الذات في الحياة اليومية» الصادر في العام 1959، ثمّ وسّع العمل على المفهوم في 1967[56].
8- الذّات والهويّة في دراما غوفمان:
يشكّل مفهوم الذات أحد المفاهيم الأساسيّة المركزية في نظريّة غوفمان، ويتجلى اهتمامه بعملية بناء الشّخصية، وتشكّل الهوية في مختلف أعماله وأبحاثه. ويؤكد غوفمان في مختلف جوانب نظريته أنّ الأنا يتشّكل في معترك التّفاعلات الاجتماعيّة منذ اللّحظة التي يولد فيها الكائن الإنسانيّ حتى اللحظة التي يتلاشى فيها وجوده. والأنا تتميز بطابعها الديناميّ المتغير، وتأخذ هيئات مختلفة ما بين الذّات الظاهرية والذات الأنويّة المضمرة. وتتكامل مختلف التّفاعلات الاجتماعية في مختلف مساراتها وأدواتها في عملية تشكيل الهوّية لدى الفرد. ومن الطبيعي أن يتناول غوفمان عملية تشكّل الهوية وفقاً للمدخل الدرامي المسرحيّ، فالمسرح الاجتماعّي هو ميدان التّفاعل الاجتماعيّ الذي يشكّل البوتقة التي تتبلور فيها هوية الأفراد وأنواتهم.
فالأفراد يتشكّلون في عمق التّفاعل الاجتماعي وهذا يعني أنّ هويّة الفرد لا تكون إلّا نتاجاً متواتراً ومتغيّراً لصيغ متعدّدة من التّفاعل بين الأفراد منذ اللّحظة التي يولد فيها الفرد. والأفراد في سياق تفاعلهم يستخدمون تقنيات مختلفة في عملية إدارة الانطباع التي تنتهي إلى تقديم ذواتهم بما ينسجم مع المواقف التي يعيشونها. ولذا تراهم يستخدمون لغة الجسد والإيماءات والحركات ونبرة الصوت والرّموز والملابس، وغيرها من الدعائم لإنشاء هوية محدّدة لأنفسهم تنسجم مع الدّور الذي يقومون به. ثم يتمّ لاحقا تقديم الهوية المرغوبة للآخرين، وذلك في خضم التّفاعلات الاجتماعيّة في مختلف المواقف، ويمكن لصورة هذه الهوية أن تتغيّر دينامياً ليتمّ تكييفها وتحيينها بما يتوافق والأطرَ الاجتماعيّةَ التّفاعليةَ. وهنا يؤكد غوفمان أنّ الأفراد يديرون هوياتهم (إدارة الانطباع) باستمرار من أجل الحفاظ على صورة إيجابيّة أمام الآخرين، وكسب القبول الاجتماعي، وتحقيق فعالية الاندماج المسالم الفعّال داخل الجماعة، ويطلق غوفمان على هذه العملية التي يدير فيها الأفراد تقديم أنفسهم، كما أسلفنا، بـ “إدارة الانطباع”، والتي تتضمن استخدام استراتيجيات مختلفة للتحكّم في تقديم النفس على صورة هويّة الآخرين.
وفي دوامّة التّفاعل يرى غوفمان أنّ الأفراد يتأثّرون في عملية بناء هوياتهم بالانطباعات التي يسجّلها الآخرون عنهم، وهذا يعني أنّ تصوّرات الأفراد عن أنفسهم تتبلور من خلال الطريقة التي يدركها الآخرون ويتفاعلون معها في مختلف المواقف الاجتماعية. وبعبارة أخرى تتشكّل هوية الفرد على منوال التّفاعل مع الآخرين في عملية متواصلة لتبادل الانطباعات، وينبنى على ذلك أنّ الفرد قد يرى نفسه على مقياس صورته لدى الآخرين. وهذا يعني أنّ الآخرين يمثّلون مرآة للهوية، فمواقف الآخرين ونظرتهم إلى الفرد تسهم في عملية تأكيد هويته، وترسيخ إحساسه بالسّمات الأساسية لكيانه الذاتي، وعلى هذا الأساس يتماهى الفرد بالصورة التي تركها هو نفسه في انطباعات الآخرين، وهكذا تتجلّى الهوية في مرآة الآخرين، فهوياتنا تشكل انعكاساً طبيعياً لصورتنا في مرآة الآخرين. وهذا يعني أنّنا لسنا كما نرى أنفسنا في المرآة بل كما يراه الآخرون فينا.
وفي سياق التّفاعل الاجتماعي يرى غوفمان أنّ الفرد يعتمد طرقاً مراوغة في تقديم نفسه للآخرين بطريقة ترضيهم، ويتبنى منهجيّة ماكرة يستطيع من خلالها أن يخفي المعلومات السّلبية، وأن يظهر المعلومات الإيجابية التي يقتضيها الموقف الاجتماعيّ وتلك التي تتوافق مع المعايير الاجتماعية السّائدة. ويوضح غوفمان هذه المنهجية بأمثلة متنوّعة مثل: إخفاء الوشوم عند التّقديم على عمل يكون فيها الوشم أمراً غير لائق، أو إخفاء أيّ مظهر لا يتناسب مع الوضعية المطلوبة.
ويركز غوفمان في تناوله لمسألة الهويّة على وعي الفرد بذاته، وفهمه لخصائصها، وعلى شعوره الحيويّ بوجوده متميزاً عن الآخرين، وهذا يعني أنّ مفهوم الهوية يقوم على فهم الفرد لذاته وشخصيته بما تنطوي عليه من أحاسيس ومشاعر وخصائص وقدرات ونزوات وطموحات وقدرات.
8-1- ما بين الذّات والشخصيّة:
يميّز غوفمان في مختلف أعماله بين الذّات الصميميّة للفرد والشّخصية، ويوضّح هذا التّمييز في كتابه: “ذات الإنسان”، إذ يبيّن أنّ الذات تشكّل الجوهر الحقيقيّ للفرد، وترمز إلى عمقه الإنسانيّ، ويتضمّن هذا الجانب معرفة الفرد بذاته وإمكانياته. وهو في هذا الأمر يميّز بين طبقتين أساسيّتين في الذّات: الذّات كما هي كائنة في الوجود: أي كما هي في الحقيقة، ومن ثمّ معرفة الفرد بذاته وشعوره بها. وعلى خلاف ذلك فإنّ الشخصية تشكل الجانب الخارجي للفرد، وتتأثر بالتّجارب والخبرات والمعطيات الاجتماعية والتّفاعلات الحياتية. ويؤكد غوفمان هذا التّمييز في كتابه: “العمل الجماعي والذات” فالذّات هي جوهر الشّخصية ونواتها. أمّا الشخصية فهي طبقات من القشور تغطّي الذات. وهذا يعني أنّ الشخصية تتشكل من خلال التّفاعل الذي يقيمه الفرد مع الآخرين، أو لنقل مجازاً بأنها تشكيل ثقافي يتحقّق في سياق التّفاعلات الاجتماعيّة للفرد مع الآخرين. وهي نتاج للشّروط الاجتماعية والبيئية التي يعيشها الفرد، وهنا يؤكّد غوفمان أنّ الذّات تكوين صميميّ يرتدي حلّة ثقافية اجتماعية. وهي في ذلك تمتح من معين التّجارب الاجتماعية والحياتية التي تصقل هوية الإنسان على مدى الحياة.
وبناء على ما تقدّم يمكن القول: إن الهويّة هي حاصل التّفاعل بين الذّات الصميمية والشّخصية التي تنتج عن التّفاعل الاجتماعي. وعلى هذا الأساس فإنّ غوفمان يرى أنّ الهوية كيان ثقافيّ يتشكّل في خضمّ التّفاعل الاجتماعي الدّرامي، ويصف هذا الأمر بقوله يقول: “إن مكنة إنتاج الذات بأكملها بالطبع ضخمة وبطيئة ومن الممكن أن تتحطم في بعض الأحيان لتكشف عن مكوناتها المنفصلة: التحكم بالكواليس، وتواطؤ الفريق، ومجاملة الجمهور وغيرها. لكن المكنة ذات السيور المدهونة جيدا ستنساب منها الانطباعات بسرعة كافية لأن تضعنا في قبضة أحد أنماط واقعنا – ستنجح في أداء الأدوار، والذوات الممنوحة لكلّ من الشخصيات المؤداة ستظهر وكأنها نابعة جوهرياً من مؤديها[57].
8-2- هويّتا الكواليس والخشبة:
يميز غوفمان طبقتين أساسيّتين في الهويّة، أو لنقل بين نوعين من الهوية: الهوية الصميمية الصلبة والهوية الدرامية المسرحيّة. فالهوية الصّلبة أو الذات الصّلبة هي هذه التي يكون فيها المرء على سجيته، أي على ما هو عليه في الأصل، وتتجلى الهوية الصلبة في الوضعيّة التي يسلك فيها الإنسان دون الخضوع لأي تأثيرات خارجية. فالفرد في منزله وغرفة نومه، أو في أي موقف غير تمثيليّ يعيش وفق متطلبات هويته الصميمية دون إضافات خارجية، إذ يأكل ويشرب وينام ويفكر بصورة طبيعيّة دون أيّ تصنّع.
ويقابل الهوية الصّلبة عند غوفمان ما يمكن أن نسمّيه بالهوية السّائلة المرنة التي يظهر بها الفرد في المواقف الاجتماعية ليحقّق التّفاعل والانسجام. فالهويّة السّائلة تتحدّد بالتأثيرات الخارجيّة على منوال الصّورة التي يقدّم فيها المرء نفسه للآخرين، أو على منوال الصّورة التي يريدها الآخرون، وعلى هذا الأساس تأخذ الهويّة السائلة طابع المرونة الاجتماعية التي يتطلّبها سلوك الممثّل على خشبة المسرح. وهذا يعني بوضوح أنّ غوفمان يميّز بين هويتين: هوية صلبة وهوية سائلة أو مرنة، بين ذات صميميّة وذات اجتماعية ترتسم على صورة تمثيل على خشبة المسرح، فالذّات السّائلة تظهر على خشبة المسرح حيث يؤدّي الفرد دوراً محدداً يتماهى معه، ويقدّمه في أفضل صورة ممكنة أمام الجمهور، أما الذّات الصلبة فتلك التي تتبدّى في الجانب الخلفي من المسرح (الكواليس)، وهو المكان الذي يتصرّف فيه الشّخص دون تأثيرات خارجية، أي يكون الشّخص على سجيّته دون مراقبة خارجيّة. أمّا الحياة خارج المسرح، فترمز إلى تعدّد في الشّخصية، إذ يظهر الفرد في مختلف مواقف الحياة بأنوات (جمع أناة = ذات أو هوية) وشخصيّات مختلفة جداً. وهي المنطقة التي يتواصل فيها الأفراد مع الجمهور بشكل مستقلّ عن أداء الفريق في المرحلة الأمامية. وباختصار عندما يكون الفرد في منطقة الكواليس، فإنه يتصرّف بشكل مختلف عن سلوكه أمام الجمهور على المسرح الأماميّ، وهذا هو المكان الذي يصبح فيه الفرد حقّاً نفسَه، ويتخلّص من الأدوار التي يؤدّيها عندما يكون أمام أشخاص آخرين.
وتأسيساً على ما تقدّم يمكن القول: إنّ غوفمان يقرّ بوجود تناقض بين الـهـويـة الافتراضيّة والهوية الفعليّة للفرد، وهو التّعارض نفسه بين الذات التي نعرضها أمام الآخرين، والذّات التي نعتقد أنها ذاتنا «الفعلية»، أو الخشبة الخلفية[58].
8-3-القناع والشخصيّة:
يعتمد غوفمان غالباً على مفهوم القناع في تفسيره للعملية التي يريد فيها الفرد أن يظهر أمام الآخرين كما يريدون، أو كما يريد هو، أو كما يقتضي الموقف في مشهد احتفالي تنكريّ. فالشّخص يرتدي قناعاً عندما يقدّم نفسه إلى الآخرين، وعندما يتفاعل معهم، وهذا يعني أنّه يظهر بشخصية تنسجم مع متطلّبات الموقف التّفاعلي في الحياة العامّة، والقناع يساعد الفرد في تقديم في أجمل صورة ممكنة تنسجم مع الصورة التي يرغب فيها الآخر , مثل العلاقة بين الخطيبين قبل الزّواج، إذ يحاول كلّ طرف أن يُظهر أجمل ما لديه، وأن يتجلّى في الصورة التي يرغب فيها الطّرف الآخر، أو الصّورة التي يقدّمها الموظف لنفسه عند ربّ العمل، أو الصورة التي يقدّمها الطّالب لأستاذه في الجامعة، ولكن في كثير من الأحيان غالباً ما يسقط القناع وتسقط معه الصّور المزيّفة المقنّعة التي تخفي الوجه الحقيقيّ للفرد، فالخطيبة والخطيب قد تسقط أقنعتهما بعد الزّواج، ويظهر الوجه الحقيقي في بيت الزوجية، وعندها تنشأ الخلافات ويشتد النزاع. وقد يؤدّي ذلك إلى تفكّك العلاقة الزوجية، فالطلاق البائن. نحن ” نأتي إلى العالم أفراداً، ونحرز شخصية، ونغدو أشخاصا“[59]. ويريد غوفمان هنا أن يؤكد أنّ ارتداء القناع لفترة زمنية يجعلنا نتمثل الدّور والهوية التي يتماهى معها الفرد لتصبح الصّورة المقنعة صورة أصيلة وصميمة. وعلى هذه النّحو فإن التصوّر الذي نشكله عن أنفسنا أو الدور الذي نسعى جاهدين للارتقاء إليه قد يصبح “هو ذاتنا الأصدق، الذات التي ترغب في أن نكونها. وفي النهاية، يغدو تصوّرنا لدورنا طبيعة ثانية وجزءاً لا يتجزأ من شخصيتنا”[60].
ويقدم غوفمان مثالاً حيّا لهذه الظّاهرة مستمداً من الحياة الجماعيّة في جزيرة شتلاند (Shetland Isle study): “كان فندق الجزيرة السياحي ملكاً لزوجين من أصول ريفية، وقد ترتب عليهما أن يضعا جانباً تصوّراتهما الخاصّة حول الكيفيّة التي يجب أن تعاش بها الحياة، وعلى مدى سنوات عديدة كانا يديران الفندق وفقاً لمطالب أبناء الطّبقة الوسطى ومعاييرهم الثّقافية المترفة. ومع الزمن ومرور الأيام ألفا ثقافة الطبقة الوسطى واستطاعا أن يتمثّلا ثقافة هذه الطبقة، أي أنهما أصبحا عملياً وفعلياً ينتسبان إلى هذه الطبقة، وقد أصبحا مفتونين أكثر فأكثر بهوية الطبقة الوسطى متخلّين كلياً عن ثقافتهما الأصلية الفلاحية”[61]. وهذا المثال يوضح لنا كيف تمّ تمثل الهوية الجديدة التي أصبحت صميمية مع أنّها كانت في البداية مجرّد مظاهر خدّاعة.
8-4-توازنات الهوية – احتقار الذات المظهري[62]
يبيّن غوفمان كيف يمكن للمرء أن يكيّف هويته لينسجم مع الوضعيّة التي يوجد فيها، وذلك وفق مبدأ: لكلّ مقام مقال، ففي كلّ موقف مختلف يرتدي المرء قناعاً يخدع فيه نفسه والآخرين. وإذا أردنا أن نضرب مثالاً من لدننا نذكر أنّ بعض أساتذة الجامعات الذين يحملون درجة الأستاذية (وقد ضاقت بهم الحال في البحث عن وظيفة تدرّ دخلاً أفضل) كانوا يتقدّمون لمسابقات تعيين جامعيّة لمرتبة أدنى من مرتبتهم بدرجة أستاذ مساعد أو مشارك في بعض الجامعات المترفة (رواتب أفضل) وفي أثناء تقديم طلباتهم كانوا يتجاهلون في ملفّاتهم درجتهم العلمية العليا الحقيقيّة ويقدّمون أوراق خبرة تناسب الوضعية المطلوبة (أستاذ مساعد) لأنهم يعرفون أنّ طلبات تعيينهم سترفض إن تقدّموا بدرجة أعلى من مستوى الدّرجة المطلوبة.
وقد أشار غوفمان بأمثلة عديدة إلى طبيعة هذا التنكّر بمستويات هوية أدنى، ولاحظ أنّ بعض الزنوج الذين يمتلكون خبرات عالية جداً يقدّمون أنفسهم بمستويات أدنى من أجل الحصول على وظائف في مستويات أدنى من مستويات كفاءاتهم الفعلية. ومثال ذلك أيضا أنّ تقوم ممرضة بالادّعاء أنّها عاملة منزلية كي تحظى بوظيفة تدرّ عليها دخلاً أفضل. وهكذا كانت طالبات الكلّيات الأمريكية في الخمسينيات يتغابيْن عمداُ للتأثير في زملائهن الطلبة;
ومثال ذلك أنّ بعض الطالبات الجامعيات الأميركيات يقلّلن من شأن ذكائهن ومهاراتهن وحزمهن حين يكنّ في حضرة الفتيان الذين يواعدنهم، ويُنقل عنهنّ أنهن يسمحن لفتيانهنّ أن يشرحوا لهن بشكل مضجر أشياء يعرفنها ويخفين كفاءتهن في الرياضيات عن أقرانهن الأقل قدرة، ويبرّر غوفمان هذا الفعل بأنّ الفتيات يردن أن ينلن رضا الشّباب وقبولهم لهن، فالشباب غالباً ما يتجنّبون الفتاة الذكية القويّة صاحبة الشّخصية، ويبحثون عن الفتيات الأقل شأنا في مستوى الاعتداد بالنّفس والذكاء والتفوق[63].
ويقدم غوفمان أمثلة عديدة لفعاليات التوازن في الهويّة، وقد وجد أنَّ الأطفال الأمريكيين في الثامنة من العمر يزعمون عدم الاهتمام بالبرامج التلفزيونية الموجّهة إلى الأطفال في سنّ الخامسة والسّادسة، لكنّهم يشاهدونها خفيةً في بعض الأحيان[64]. ونجد أيضاً أنَّ ربّات البيوت من الطبقة الوسطى يستخدمن في بعض الأحيان – بطريقة سرية وفي الخفاء- بدائل رخيصة للقهوة أو الآيس كريم أو الزبدة؛ ما يمكنهم من توفير المال أو الجهد أو الوقت، في الوقت الذي يبقون على انطباع أنَّ الطعام الذي يقدّمنه عالي الجودة. ويمكن الإشارة إلى وجود هذا النّمط من التمظهر الهوويّ بين بعض الجماعات الدّينية (الهندوس) الذي يطلق عليه غوفمان تسمية «الاستهلاك السرّي». “أي أنّهم يراعون جميع عوائدهم، أمام الأعين، لكنّهم ليسوا على هذا القدر من التّدقيق في خلواتهم”[65].
وكان لسكّان جزر شِتْلَنْد (مجموعة جزر بالقرب من الساحل الإسكوتلندي في بريطانيا العظمى)، وهي الجزر التي أجرى فيها غوفمان معظم دراساته الميدانية لأشهر كتبه، تقليد غريب في تقديم النفس في الحياة اليومية (Presentation of Self in Everday life)، إذ «كانوا يتركون واجهات بيوتهم تتآكل مخافة أن يعتقد الملاّك أن ساكنيها قادرون على دفع إيجار أعلى. وينظر غوفمان بهذا الشكل إلى جميع أوجه الحياة، من أكثرها خصوصية إلى أكثر جوانبها ظهورا وعلنية. فالمرأة التي تحسّ أنها أخطأت في حق زوجها، تقوم عادة بمحاولة استرضائه ما أمكن بإظهارها ودّا زائدا غير معهود. وعمليّة التصنع أو “التحكم في الانطباعات ” impression management تقع باستمرار في حياتنا، كما لو كنّا جميعاً نعمل مندوبي إعلانات لذواتنا. ونحن نستخدم محيطنا المادي مجالا للتّمثيل تاركين مساحات للخلوة “وراء الكواليس” نلوذ إليها طلبا للراحة من عناء التّمثيل (كما في الحمام مثلا)[66].
8-5- تعدّد الهويّات:
تأخذنا نظرية غوفمان الدرامية إلى القول بوجود تعدّدية في الهوية، فالهوية الفردية تتّخذ صورة المرايا المتكسّرة، فلكلّ منا وجوه متعدّدة في الحياة تفرضها مختلف المواقف الاجتماعية ضمن دورة درامية لا تتوقّف في تغايراتها وتفاعلاتها وصيروراتها، ولهذا يقول غوفمان: “إن لدى الفرد ذواتا اجتماعية مختلفة عديدة لأن هنالك مجموعات مميزة من الأشخاص الذين يهتم لآرائهم. وهو يُبدي عموماً جانباً مختلفاً من ذاته لكل مجموعة من هذه المجموعات المختلفة. وكثير من الشباب المتزنين بما يكفي أمام ذويهم ومعلميهم، يقسمون ويتبجحون مثل قرصان بين أصدقائهم الشباب «الأجلاف». ونحن لا نظهر أنفسنا لأطفالنا كما نظهرها لرفاقنا في النادي، ولا نظهرها لزبائننا كما نظهرها للعمال الذين نستخدمهم، ولا نظهرها لمعلمينا وأرباب عملنا كما نظهرها لأصدقائنا الحميمين”[67].
ويبين غوفمان في هذا السّياق مراحل تطور الهوية ضمن صيرورة التنوّع والتعدّد، فالهوية تتشكل بداية على نحو صميميّ مكثف. وهي الهوية الذاتية الجوهرية، ثم يبدأ الفرد لاحقا في سياق تجاربه الإنسانية بامتلاك هويّات متعدّدة ومختلفة. وتأخذ هذه الهوية صيرورات متنوعة، إذ هي “هوية للذات، وهوية للآخرين، إحساس بالذات، (الكيفية التي نحس بها بأنفسها صورة الذات الشكل الذي نرى أو نتصور به أنفسنا) تمثيل الذات (الطريقة التي يمكن أن نصف بها أنفسنا)، تقدير الذات (الطريقة التي نقوم بها أنفسنا)، استمرارية الذات (الطريقة التي نحس بها أنفسنا مشابهين لما كناه أو مختلفين عنه، الذات الحميمية (ما نحن عليه داخليا) الذات الاجتماعية (ما نظهره للآخرين)، الذات المثالية (ما نريد أن نكونه)، الذّات المعيشة (ما نحس أننا عليه)”[68]. فالأفراد “يقدّمون أنفسهم على نحو متغاير بما يتلاءم مع السّياق والجمهور، ومن ثم فإنّ الهويات الذاتية مرنة، متشابهة مختلفة ومبنية اجتماعياً بما يتوافق والأشخاص من حولنا “[69]. وبعبارة أخرى فإن الهوية تتجلّى في مجموعة من الأقنعة التي نرتديها لنقدّم بها أنفسنا إلى الآخرين بما يرضيهم ويرضينا في الآن نفسه، وهذا هو القانون الأساسيّ لتعدّد الهويات والذوات والشّخصيات التي تتواتر في مجال حياتنا اليومية وتفاعلاتنا الاجتماعية. وهذا يعني أن الأفراد لديهم من الذّوات بقدر ما هنالك من مناسبات ومواقف اجتماعية مختلفة[70].
9- مفهوم التّفاعل الاجتماعيّ:
يشكّل مفهوم التّفاعل أحد أهمّ وأبرز المفاهيم الأساسية في نظريته الاتّصالية التّفاعلية. وقد تناول غوفمان مفهوم التّفاعل في عدد من أعماله ولا سيّما في كتابيه السّلوك في الأماكن العامة (Behavior in Public Places) وطقس التّفاعل (Interaction Ritual). وعمل في هذين الكتابين على تصنيف استراتيجيات التّفاعل المستخدمة في الحياة اليوميّة. ويتبنّى غوفمان البعد الرمزي في نظرية التّفاعل الاجتماعي، إذ يرى أنّ التّفاعل الرمزي (Symbolic Interaction) يشكل جوهر نظريّته الاجتماعية في التّفاعل الاجتماعي الذي يُبنى على نسق لا محدود من الأدوات الرمزية تعدّ عناصر أساسية لبناء المعاني والدلالات لتحقيق التّفاهم في الحياة الاجتماعية، وتمكين الأفراد من بناء تصوّرهم لأنفسهم وللعالم من حولهم. ويعدّ التّفاعل الرمزي مفهوماً شاملاً يتضمّن مختلف الأنشطة وعمليات التّفاعل التي تتمّ بين الأفراد في تواصلهم الاجتماعي. ويشدّد غوفمان على أهمّية التّفاعل الدائر بين الأفراد في تشكيل الذات والهوية الاجتماعية وينطلق في بناء نظرية من الدور الحيوي الذي يؤدّيه التّفاعل الرّمزي بوصفه المحرّك الأساسيّ للتّغيير الاجتماعيّ.
يركز غوفمان في أبحاثه على أهمّية التّفاعل المباشر بين الأفراد – أي التّفاعل وجها لوجه-، ويعرّفه بأنَّه “تأثير الأفراد المتبادل على أفعال بعضهم بعضا حين يكونون في الحضرة المادية المباشرة لبعضهم بعضًا[71]. فالتّفاعل عملية يتم فيها تبادل الأفكار والمشاعر والإشارات والرموز بين شخصين أو أكثر، والتّفاعل كما يرى غوفمان ليس مجرد تبادل للرسائل والإشارات، بل يتضمن أيضاً تفسير هذه الرسائل والإشارات، بالإضافة إلى استحضار توقعات الأفراد وردود فعلهم. والتّفاعل الاجتماعي العياني بين الأفراد يتأثر بعدد من العوامل من مثل: الخصائص الشخصية للفرد وموقفه وثقافته وخبراته الحياتية. ويعتمد التّفاعل على الرموز والإيماءات وحركات الجسد وملامح الوجه. ويقوم على تواتر ردود الفعل الذهنية والنفسية بين الأطراف المتفاعلة[72].
ويعتمد غوفمان منهجه المعروف في التشبيه الدرامي في تفسير بنية التّفاعل وهذا يعني أنه يشبّه التّفاعل الاجتماعي بما يجري على خشبة المسرح، فالناس في الحياة اليومية يمثلون الجهات الفاعلة أي الممثلين على الخشبة الأمامية للمسرح، إذ يقوم كل منهم بأداء نسق متنوع من الأدوار، ويتكون الجمهور من أفراد آخرين يلاحظون تمثيل الأدوار ويتفاعلون مع العروض.
ويبين غوفمان أنّ الأفراد يتفاعلون معاً في بيئات اجتماعية متنوّعة. وهم، في سياق تفاعلهم، يعملون على إدارة الانطباع الذي يرسم الكيفية التي يقدّمون فيها أنفسهم، وفي هذا السياق يحاول كلّ منهم تقديم نفسه على الصورة المثلى التي يريدها لنفسه كي تتوافق مع الصورة المرغوبة عند الجمهور، وتمثل عملية إدارًة الانطباع وتقديم الذات جزءا أساسياً من بنية التّفاعل الاجتماعي الذي ينطوي على مدارات تتمثل في تمكين أطراف التّفاعل من فهم المقاصد والدلالات والمعاني وإدراك نسق التّوقعات الممكنة.
ويركز غوفمان على أهمية التّفاعل الدينامي بين الأفراد ويبين لنا أنّ الفرد عندما يكون في حالة اتصال مع الآخرين يسعى لمعرفة مختلف جوانب الموقف الاتّصالي، ويعمل على اكتشاف مختلف الحقائق والمعلومات والحيثيات التي تشكل الصورة العامّة للموقف الاتصالي. وعندما يدرك الفرد هذه الحقائق والمعلومات يستطيع أن يقوم بعملية التنبّؤ بالأحداث التّفاعلية. ويستطيع أن يجاريها ضمن مخطط سيكولوجي إدراكي يتّسم بالوضوح، وهذا يعني أنّ الجانب المعرفي ضروري في عملية التّفاعل الاجتماعي، وفي غياب المعرفة بالموقف الاتّصالي التّفاعلي، فإنّ الفرد يفقد قدرته على المناورة والمبادأة والمبادرة. وتفقد العملية الاتصالية بعدها التّفاعليّ. ولذلك فإنّه من الضروري للفرد أن يدرك ما استطاع المعلومات الاجتماعية التي تتعلّق بالموقف والآخر. وهذا الأمر يتطلب منه أن يدرك النتائج المتوقّعة لأفعال الآخرين أيضاً. فعلى سبيل المثال يجب على الفرد في أي موقف أن يدرك مشاعر الآخرين واتجاهاتهم ونواياهم واهتماماتهم ومستويات تعليمهم وثقافاتهم. ومن المؤكّد أنّ مثل هذه المعلومات لا يمكن أن تكون مهيّأة بصورة مثالية، أو متاحة بشكل كامل، ولكن أي نصيب من هذه المعرفة سيكون ضرورياً لتحقيق عملية التّفاعل، ويلاحظ في هذا السّياق أن الفرد عندما لا يمتلك معلومات كافية، فإنه غالباً ما يلجأ إلى توظيف بدائل من مثل: التّلميحات والرموز والإيماءات وتعبيرات الجسد كأدوات للتنبّؤ[73].
وإذا كان من المؤكّد أن كل فرد يحاول أن يقدم ذاته على الصورة التي يرغب فيها لنفسه، وتلك التي ترضي الآخر، وهو في هذا السّياق يحاول أن يمتلك تصوراً عن انطباعات الآخرين ومشاعرهم بوصفهم مشاركين له في عملية التّفاعل. وهنا يمكن للفرد المتفاعل أن يعدّل من سلوكه طبقاً لطبيعة الانطباعات والمشاعر التي تصدر عن الآخرين، وذلك من أجل أن يحظى بقبولهم وتفاعلهم على نحو إيجابي[74].
يذكر غوفمان في كتابه «طقوس التواصل» الصادر في العام 1967، أن الأفراد ينخرطون في التّفاعلات الاجتماعية باعتماد عدد من السيناريوهات ويعتمد خريطة من الفعاليات اللفظية والذهنية ويوظفها في تحقيق التواصل الفعال مع جمهوره أو مع الآخر. ويستطيع الفرد أن يكتسب أهميته وقيمته الاجتماعية عندما يستطيع تقديم دوره بطريقة فاعلِة، ويمكن القول: إن نجاح التواصل الاجتماعي يعتمد على مقدرة الفاعِل الاجتماعي على التكيف النشط مع الجمهور أو مع الآخرين. وهذا يعني في نهاية الأمر أنه ينبغي على الفرد أن يُظهِر نوعاً من الشخصية تخوّله له أن يكون «شخصاً يمكن الاعتماد عليه للبقاء كمتفاعل اجتماعي، مستعدّ للتواصل، وللتصرف بطريقة لا تجعل الآخرين يشعرون بالخطر عند تقديم أنفسهم له كمتفاعلين اجتماعيين”[75]. وفي هذا المسار يحلّل غوفمان الكيفيات التي يتفاعل فيها الفرد مع الآخرين ولا سيّما في حياته اليومية وفي “ظروف العمل العادية إذ يقدّم نفسه للآخرين، ويسعى في الوقت نفسه إلى ضبط إيقاعات الانطباعَ الذي يأخذه الآخرون عنه، ونوع الممارسات التي قد يلجأ إليها للحفاظ على أدائه أمامهم”[76].
وفي مقام آخر يتجلّى تركيز غوفمان على الكيفية التي يقدّم بها الأفراد أنفسهم ظاهرياً في عملية التواصل الاجتماعيّ، ويظهر هذا التركيز في قوله: “مما لا شك فيه أن البُعد الاجتماعي لإدارة الانطباع يمتدّ وراء المكان والزمان المحدّدين للتفاعل المقتصر على مكان العمل“[77]. وهذا يعني أن إدارة الانطباع هي «نشاط اجتماعي ذو مضامين ترتبط بالفرد والمجتمع على حد سواء. قد ندعوها «الفخر» عندما يُظهِر الفرد سلوكاً خيّراً نابعاً من التزامٍه نحو نفسه، وقد ندعوها «الشّرف» عندما “يقوم بذلك انطلاقاً من حسّه بالمسؤولية تجاه الوحدات الاجتماعية الأكبر “[78].
ويقدم لنا غوفمان أمثلة عديدة معبّرة عن طبيعة التّفاعل واستراتيجياته، وقد وجدنا من المناسب في هذا السّياق الإشارة إلى النموذج التّفاعلي الذي ذكره غوفمان للتّفاعل في المطعم بين النادلة والزبون، كتب غوفمان يصف هذا التّفاعل: “الأمر البارز الأول هو أنَّ النادلة التي تحتمل الضغوط لا تستجيب لزبائنها فحسب، بل تعمل بشيء من البراعة كي تتحكّم بسلوكهم. والسّؤال الأول الذي يجب طرحه عندما ننظر إلى علاقتها بالزبون هو: هل للنادلة قصب السبق على الزبون، أم أنَّ الزبون هو الذي له قصب السبق على النادلة؟ النادلة البارعة هي التي تدرك الطبيعة الحاسمة لهذا السؤال…. تعامل النادلة البارعة الزبون بثقة ومن دون تردد. قد تجد على سبيل المثال، أنَّ زبوناً جديداً جلس وراح يتأمل قائمة الطعام قبل أن تتمكن من إزالة الأطباق المتسخة وتغيير الغطاء. فتحيّيه وتقول: «هل يمكنني تغيير الغطاء من فضلك؟» ومن دون أن تنتظر إجابة، تأخذ منه القائمة كي يبتعد عن الطاولة، وتواصل عملها. هكذا تجري العلاقة بأدب ولكن بحزم، من دون تساؤل قطّ عمن هو المسؤول”[79]. ويتّضح من هذا المثال أن التّفاعل يأخذ مساراً سيكولوجياً ورمزياً، ويتميز بالمهارة التي تبديها النادلة في التّفاعل الإيجابيّ السلس مع الزبائن.
ويتضح أيضاً من خلال المثال أعلاه أن التّفاعل الاجتماعي المباشر وجهاً لوجه يعتمد التّعبيرات اللفظية ولغة الجسد ورموز المكانة مثل الملابس والمظهر عموماً، ويلاحظ في هذا السياق “أن قدرة الفرد على التلاعب في الانطباعات محدودة في آخر الأمر ومُقيَّدة بحضور الآخرين وملاحظتهم لسلوكه وتصرفاته وخصوصاً ما يصدر بشكل عفوي وبغير إرادته[80]. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ غوفمان يرى أنّ اللغة فعل اجتماعي، وقد أكّد في أكثر من سياق أنّه “يجب النظر إلى فعل التحدث كفعل اجتماعي وليس بناءً لغوياً”. وتبدو وضعية اللغة كفعل في مثالنا السّابق عن النادلة، إذ وجدنا أنّ الكلمات ترتبط جوهريا بالفعل، وترافقه وتمهّد له، ويبدو أيضاً أنّ اللغة كان لها أكبر التأثير في إدارة الانطباع من قبل النّادلة.
9-1- من التّفاعل غير المركّز إلى التّفاعل المركّز:
يميّز غوفمان بين نوعين من التّفاعل الاجتماعيّ. أطلق على الأول اسم التّفاعل العابر، أي غير المركز وعلى الثاني تسمية التّفاعل المركز. ويتمثل التّفاعل العابر في التواصل الاجتماعي العادي اليومي الذي يحدث في إطار الحياة اليومية مثل التواصل مع الآخرين أثناء السّير في الشّارع مثلاً، أو الجلوس في مقهى. ويتميّز عندما يتجمع الناس سوياً في الشوارع المزدحمة أو قاعات السينما والاحتفالات أو الحفلات وعندما يكون الواحد منّا برفقة الآخرين، أو على مقربة منهم، فإننا نتواصل سويّاً وبصورة مستمرّة من خلال الأساليب غير الشّفوية مثل تعبيرات الوجه وحركات الجسم. هذا النوع من التواصل بضعف وتيرة التواصل إذ لا يكون هناك تركيز على الآخرين أو اهتمام بسلوكهم.
أمّا النّوع المركز فهو النوع الذي يحدث التواصل في حالة من الانتباه إلى ما يقوم به الآخرون، مثل التركيز فيما يقولون أو يفعلون. ومثاله الخطيب الذي يلقي خطبة الجمعة، أو عضو البرلمان الذي يطالب بحقوق الإنسان في جلسة رسميّة، أو الأستاذ الجامعي وهو يلقي محاضرة عامّة، أو القائد العسكري الذي يقود المعركة في حالة الحرب، فهذا التّفاعل يحتاج إلى تركيز شديد وفاعل ونشط بين الأطراف المتفاعلة[81].
ويحدث التّفاعل المركز أيضاً عندما يتنّبه الأفراد لما يقوله أو يفعله الآخرون. “ويمثل هذا التّفاعل الجانب الأكبر من التبادل الذي نجربه في حياتنا اليومية مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل. إذ نمارس اللقاء المركز وغير المركز في وقت واحد. كما قد يشمل مصطلح “اللقاء” حديثنا العابر مع الآخرين، والمناقشات والندوات والألعاب الجماعية والاتصالات الوجاهية الروتينية في المحلات والمطاعم وما إلى ذلك”[82].
ويبيّن غوفمان في سياق آخر أنّ التلاقي الاجتماعي (Social Encounter) هو أنموذج للتّفاعل المقصود (Focused Interaction) الذي يقع بين شخصين، لديهما الغرض نفسه في عقليهما، مثل: اللقاء بين المدراء أو السّياسيين، أو لقاء المعلم بطلابه، أو الحوار بين شخصين حول موضوع معين، أو تبادل الأفكار والآراء في جلسة دراسيّة، أو مناقشة علمية، ويتجلّى أيضاً في الرياضات الجماعية التي تتطلّب تفاعلا بين اللاّعبين، وفي الاحتجاجات والتّظاهرات الاجتماعية التي تتمّ عن طريق تفاعل بين النشطاء والمتظاهرين.
ويرى أنّ التّفاعل العابر غير المقصود (Unfocused Interaction)، وهو التّفاعل الذي يتم، عندما يوجد شخصان أو أكثر بالصدّفة في مكان عام (حديقة، شاطئ البحر، صالة السينما، المقهى)[83]. فعلى سبيل المثال، عندما يتلاقى الناس في الشارع يكون التّفاعل عابراً، إذ يقوم كلّ فرد بإلقاء نظرة عابرة على الناس بمجرد معرفة وجودهم، ثم لاحقاً يلقي النّظر بعيداً عنهم. وفي مستوى التّفاعل المركز المقصود، فإنّ التّفاعل يأخذ درجة أكبر من الاهتمام، إذ يكون الاتصال مواجهة بين فردين أو أكثر وجهاً لوجه، وعيناً بعين في اتّصال مباشر بالصوت والصورة[84].
ويشير غوفمان إلى أنّ الأفراد يشعرون بالقلق والتوتّر مع بداية الموقف الاتّصاليّ مع الآخرين، ويتملّكهم شعور بالمخاطرة في كثير الأحيان، لأنّ الفرد قد لا يكون متأكدا وواثقاً كلّ الثّقة من طبيعة هذا التّواصل أو اتجاه المسار الذي ستتّخذه عملية التّفاعل، ومثال ذلك حالة الفرد الذي يتقدّم لمسابقة وظيفيّة، إذ يشعر بدرجة عالية من القلق والتوتّر قبل المقابلة وأثناءَها. ويرى غوفمان أنّ الفرد في حالة التّواصل المركز يعطي قدراً أكبر من الانتباه والاهتمام “ويعمل على زيادة درجة تحكمه بوسائل التواصل المتاحة له مثل الكلام وتعبيرات الوجه وإيماءات الجسم كما أنّ الأفراد يركزون مزيداً من اهتماماتهم لاكتشاف مدى الصدقية لدى الآخرين. وهذا يعني أن التّفاعل المركز يمكن الفرد من قدرة أكبر على التحكم في زمام التّفاعل وفي مساراته، لأنّه يعطيه فرصة ممارسة كلّ أنواع الاتصال (اللفظي وغير اللفظي)، ليس للفت انتباه المتلقي فقط، ولكن لإبقائه أطول مدة تحت وقع كثافة التلقي”[85].
ويستعرض غوفمان العناصر الأساسية المتكرّرة لنظام التّفاعل الاجتماعي ويصنفها على النّحو الآتي[86]:
1- الأفراد أو الأشخاص الفاعلين: بوصفهم منطلق التّفاعل الاجتماعي وغايته. وهذا يشمل الأفراد سواء أكانوا أحادا، أم أزواجا، أم مواكبَ أم أرتالا.
2- طريقة الاتصال: إما من خلال الحضور الفيزيقي المشترك، أو من خلال المحادثات الهاتفية أو من خلال تبادل الرسائل.
3- منصة الأداء: وتشمل المكان الذي يهيّأ فيه النشاط قبل الجمهور (مثلاً المناقشة، سياق الكلام أو المحيط والاجتماع الرسمي، واللعب والعرض الموسيقي).
4- المناسبات الاجتماعية، الاحتفاليّة، وهي جموع من الأفراد، في مناسبة ذات شرف، وتحظى بتقدير مشترك. إذ يصل المشاركون ويغادرون بطريقة منسّقة. وهذه الوحدة الأخيرة تمثّل الوحدة التّفاعلية الأكبر التي يذكرها غوفمان إذ أنّ هذه الوحدة يمكن أن تتمّ هندستها لتمتدّ إلى عدد من الأقسام”[87].
9-2- آليات التّفاعل وركائزه:
ركز غوفمان جهوده الأمبيريقية على ملاحظة سلوكيات الأفراد وهم منهمكون في حياتهم اليومية. واستطاع أن يخرج بعدد من القواعد والمبادئ العامّة التي تحكم السّلوك البشريّ في عملية التّفاعل الاجتماعيّ، ويمكن استعراض أهم الديناميات أو العمليات التي تحكم السّلوك الإنسانيّ التّفاعليّ على النّحو الآتي:
1 – من أجل وجود تفاعل اجتماعيّ، فإنّ أحد العناصر الرئيسة هو وجود شخص يقوم بها. هؤلاء الأشخاص، الذين يتفاعلون، هم الفاعلون المزعومون[88].
2- في التّفاعل، تكون مختلف الجهات الفاعلة في حالة من التباين، وهذا يعني التّفاعل المتبادل، إذ يمثل هؤلاء الأشخاص أدواراً ملموسة ويتبادلون الانطباعات التي سيتم استخدامها لفهم الأداء والتصرف وفقاً له. وكل الموضوعات هي بواعث وأجهزة استقبال وفي الوقت نفسه: كلاهما ممثل وجمهور[89].
3-الوسيلة الاتّصالية: يتطلّب التّفاعل الاجتماعي وجود وسيلة اتّصال فعالة وفعالية في تبادل الرسائل والمعلومات بين الأفراد والمجموعات. ويمكن أن يكون الاتّصال عيانياً مباشراً أو عبر الرّسائل وأدوات الاتّصال المختلفة الشفوية والمكتوبة والمسموعة.
4- المؤثّر والاستجابة: يؤثّر تلقي الأفراد للرسائل والمعلومات التي تمّ تبادلها في تفاعل اجتماعي، فكلّ فعل يؤدي إلى ردة فعل واستجابة من قبل الطّرف الآخر في عملية التّفاعل. ويؤدّي تواتر الأفعال وردودها الجوابيّة إلى تشكيل الموقف التّفاعلي.
5- الثّقة والاهتمام: تشكّل عناصر الثّقة والاهتمام عملية أساسيّة في تحقيق التّفاعل بين الأفراد والمجموعات وتمكّنهم من التّواصل الفعّال وتبادل الرّسائل والمعلومات. ويؤدّي الاهتمام دوراً حيوياً في إضفاء الطّابع الحيويّ على عملية التّفاعل والتّواصل بين الأفراد. ويعمل على تنمية قدرتهم على التّواصل وتبادل الرّسائل والمعلومات.
6- التكيّف: تناول غوفمان ديناميات التكيّف والتسوية (Adjustment) في كتابه المصحّات (Asylums)، ويعني بالتّسوية التأقلم أو “التكيف” (Adaptation) وهي العمليّة التي تساعد الفرد على التكيف الواقعي في معترك التّفاعل الاجتماعيّ، ويعني بها العمليّة التي يحقّق فيها الفرد تكيّفاً تفاعلياً مع معايير الجماعة وقيمها[90].
7- أداء الدور: يُعدّ مفهوم الدور من أهمّ المفاهيم التي ركّز عليها غوفمان في نظريته التّفاعلية، إذ يرى غوفمان أنّ الدور يقع في صميم طقوس التّفاعل، والأدوار كما يراها تتشكّل من مجموعة من المعايير التي تحدّد واجباتنا على أنّها الأفعال التي يقرّر الآخرون مشروعيّة أدائنا لها، وكلّ دور يرتبط بدور آخر على الأقل، وما يُعدّ حقوقاً لدور يعدّ واجباً لدور آخر. “إذ لا يوجد دور منعزل، فالدور يتشكل من مجموعة مترابطة من. الأنشطة المتشابكة مع الأنشطة الأخرى للناس، فلا يوجد زوجات من دون أزواج، ولا مريض بدون طبيب، ولا أستاذ دون تلميذ، وعليه فإنّ ارتباط الأفراد معاً في جماعات يتمّ خلال شبكة الأدوار المتبادلة”[91].
8- الإغفال المهذّب: وهو لا يعني تجاهل الآخرين كليّاً، لأننا نكون مدركين وواعين لوجودهم وحركتهم، ولكنّه يعني امتناعنا عن اقتحام حياتهم وأنماط سلوكهم المعتاد في وضع معيّن. ونحن نتخذ مثل هذا الموقف الشعوريّ والسلوكي مئات المرّات في حياتنا كل يوم بصورة عفويّة. وذلك مثلما يفعله العابرون على جانبي الطريق في المدن تجاه الآخرين الذين يتوقّعون منهم مثل هذا السلوك في الأحوال العادية[92].
9- الأداء (Performance): وهو مفهوم مركزيّ في النسق الدراماتورجي، ويرمز إلى جميع النّشاطات والفعاليات التي يقوم بها الفرد أمام مجموعة معيّنة من الأفراد الآخرين الذين يمثلون دور المشاهدين والمراقبين. والأداء فعالية مسرحية تمكّن الفرد الفاعل اجتماعياً من التّعبير عن هويته الاجتماعية في داخل الجماعة. وهو في أدائه يسعى إلى صقل هويته، وإبرازها بوضوح أمام الآخرين المتفاعلين. ومن خلال هذا الأداء يعطي الأفراد الممثلون معنى لأنفسهم ودلالة يراد بها إقناع الآخرين (المشاهدين)، وقد يكون الممثل على دراية بأدائه مدركا للأدوات التي استخدمها، وهو في الغالب يسعى إلى تحقيق هدف معين من خلال الأداء الذي يقوم به، ولكنّه غالباً لا يستطيع أن يتنبّأ بالنتيجة التي يمكن أن يحققها؛ لأن ذلك أمر يرتهن بحكم الجمهور أو الآخرين الذين يتفاعل معهم.
10- المؤدي (Performer): وهو الفرد الفاعل الذي يقوم بالتمثيل. وهو الممثل الذي يتوجّب عليه توليد الانطباعات بأدائه الممكن على خشبة المسرح. والفرد في سياق فعاليته الأدائيّة يحاول استثارة الجمهور للحصول على الاستحسان والقبول وإصدار الحكم الإيجابيّ على الأداء المسرحي وخلق الانطباع الجيّد ومن الطبيعي أنّ الحصول على نتيجة مرضية تشكل الهدف الأساسيّ للممثل الفرد في أدائه المسرحي. ويشتمل إعداد الأداء على المشهد والدعائم والموقع الذي يحدث فيه التّفاعل، وسيكون للإعدادات المختلفة جماهير مختلفة وبالتالي سيتطلب ذلك من الممثل تغيير أدائه لكلّ إعداد.
11- التواصل غير اللفظي: يؤدّي التواصل غير اللفظي (بالإضافة إلى اللّفظي) أهمية كبيرة في عملية التّفاعل، ويشير كوفمان إلى أنّ كثيراً من الرسائل التي يتم تبادلها بين الأفراد والمجموعات يتمّ تبادلها من خلال التواصل غير اللفظي، ومن خلال المواقف والأحداث التي يشارك فيها الأفراد والمجموعات.
وهذه العوامل مجتمعة تشكل الإطار العام لعملية التّفاعل الاجتماعي وتعبر عن ديناميات التّفاعل وصيروراته الأساسية.
9-3-تأثير التّفاعل الاجتماعيّ:
يرى كوفمان أنّ التّفاعل الاجتماعيّ يمكن أن يؤثّر في عدّة جوانب، من أهمّها تشكيل الشخصية وبناء الثّقافة والتّواصل الاجتماعيّ. ويمكن أن نسرد بعض جوانب التأثير النّاجمة عن التّفاعل الاجتماعي، ومنها:
1- التأثير الفكري: يؤدي التّفاعل الاجتماعيّ إلى تنمية الأفكار والمفاهيم بين الأفراد وتطويرها، كما يفعل فعلَه في تنمية الثقافة، وفي تشكيل القيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية بين أفراد المجتمع.
2- بناء العلاقات الاجتماعية: يؤدي التّفاعل الاجتماعي إلى تكوين وتعزيز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والمجموعات، ويمكن أن يؤدّي إلى تكوين صداقات وعلاقات عمل وشراكات وغيرها.
- 3- تنمية السلوك الاجتماعي: يؤدّي التّفاعل الاجتماعي إلى تنمية سلوك الأفراد والمجموعات، ويمكن أن يطوّر بنية السّلوك، وأن يرسم أبعاده وحدوده ومعاييره واستراتيجياته.
4- بناء الهويّة الذاتيّة: يؤثر التّفاعل الاجتماعي في بناء الهوية الذاتية للأفراد، ويمكن أن يؤدّي إلى تطوير وتغيير هوية الفرد ومواقفه واعتقاداته.
5- تطوير البنية الثقافية للمجتمع: يؤدّي التّفاعل الاجتماعي إلى تشكيل وتطوير الثقافة والعادات والتقاليد والقيم والمعارف لدى الأفراد والمجتمعات.
9-4- نقد نظرية غوفمان:
لا يمكن لأيّ نظرية أو عمل علميّ أن يسلم من سهام النّقد، وقد تلقّت نظرية غوفمان سيلاً متدفّقاً من الانتقادات العلمية الصّارمة حتى من جانب أولئك الذين أعجبوا به شديد الإعجاب، ومع ذلك فإنّ هذه الانتقادات لا تنتقص من قيمة النظرية الغوفمانية وأهمّيتها العلمية على الإطلاق. وقد انكبّ كثير من الباحثين والكتّاب على دراسة أفكار غوفمان وأبحاثه العلمية.
ومن بين النّقاد الذين وجهوا سهامهم إلى نظرية غوفمان يطالعنا عالم الاجتماع البريطاني إيان كريب الذي يرى أنّ أعمال غوفمان لا تعدو أن تكون نوعاً من السوسيولوجيا الوصفيّة، ويرى في هذا السّياق أن كتابه الرئيس “تقديم الذّات في الحياة اليومية ” ما هو إلا تصنيف لوسائل لَعِب الأدوار واستراتيجياتها. وتأسيساً على هذه الرؤية فإنّ نظرية غوفمان الدرامية تفتقد الصّرامة العلمية، ولا تستخدم الاستنباط ا لمنطقيّ، إذ تقتصر على تقديم نسق من الأفكار التي يمكن للباحث أن يُوظّفها في عمله بصفتها توجيهات عامة[93]. ويذهب كريب أيضاً إلى الاعتقاد أنّ التفسير الذي يقدّمه غوفمان في منظوره التّفاعلي هو تفسير مستوى منخفض نسبياً، وهذا يعني أنّ التفسيرات التي يقدمها ليست سوى ترديد لمسلمات جورج هيربرت ميد في التفريق الأنا الفاعلة (I) والأنا المنفعلة (Me)، وهي المسلّمات التي وظّفها فيما بعد ليعيد وصف مختلف أشكال الفعل والتّفاعل الاجتماعيّ مستخدماً منهجية المماثلة الدّرامية بين المجتمع والمسرح[94]. ويتّفق كثير من النّقّاد مع كريب على أنّ التفسيرات التي قدمها غوفمان تأخذ طابعاً وصفياً جزئياً تناسب الوضعيّات التي تناولها دون أن تتجاوزها في قيمتها التفسيرية، وهذا يعني أنّه لا يمكن تعميم النتائج التي انتهت إليها دراسات غوفمان في مستوى الحياة الاجتماعية بعامّة.
وقد وجّه عالم الاجتماع المعروف غولدنر (Alvin Ward Gouldner ) نقده الواضح لغوفمان -رغم إعجابه الشديد بنظريته-. وتمحور نقده حول ضعف القدرة التفسيريّة الشّمولية لنظريّة غوفمان، ولا سيّما فيما يتعلّق بالظواهر الاجتماعية الكبرى كالسّلطة والطّبقة والثّقافة والهجرة والتّفاوت الاجتماعي، وهي قضايا سجّلت غيابها في نظرية غوفمان الذي انكفأ على منهجيته الذرية-الجزئية في علم الاجتماع. ويلاحظ غولدنر[95] أنّ غوفمان غرق في جزئيات الحياة اليومية إلى الدّرجة التي لم يستطع معها أن يرى ما حولها وما فوقها من ظواهر اجتماعية. ولم يستطع البتّة أن يحقّق التوازن بين الجزئيات التي تناولها بالدّراسة وبين الكليات والتكوينات الشّمولية في المجتمع، أي بين الظواهر الفرديّة البسيطة، وبين الظواهر الكلية الشّاملة. وبصيغة أخرى يلاحظ غولدنر أنّ غوفمان اعتمد سوسيولوجيا الحياة اليومية دون أن يبحث في تأثير الظّواهر الكبرى مثل الطّبقة والثّقافة والسّياسية في مجريات الحياة اليوميّة، إذ لا نجد أيّ تأثيرات للنّوع والطّبقة والعرقية في المنهجية النقديّة ذاتها، يتحفظ غولدنر على الطّريقة الفوضويّة التي يتناول بها غوفمان مفاهيمه دون أن يشكّلها في سياق نظري متكامل[96]. وفي سياق نقدي آخر نعت غولدنر علم اجتماع غوفمان بـ “علم اجتماع الاحتيال” وذلك نظراً لتغييب السّياق الأخلاقي في تحليل غوفمان المسرحيّ للعلاقات الاجتماعيّة.
وقد تواترت الانتقادات الموجّهة إلى غوفمان من قبل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) الذي انتقد تركيز غوفمان على الفرد وتجاهله للتّفاعلات الاجتماعية التي تمارسها التكوينات الاجتماعية والأطر الثقافيّة الكبرى في المجتمع، وأخذ على غوفمان تجاهله لديناميات القوّة الطبقيّة والتفاوتات الاجتماعيّة المؤثرة في عمليّات التّفاعل وفي صوغ هوية الفرد وتكوينه الإنسانيّ. ونجد ما يماثل هذا النقد عند ميشيل فوكو (Michel Foucault) وأنتوني جيدنز (Anthony Giddens) ونانسي فريزر (Nancy Fraser) ويورغن هابرماس (Jürgen Habermas). وقد ركزت انتقادات راندل كولان (Randall Collins) على إهمال غوفمان تأثير العواطف الإنسانية في عملية التّفاعل الاجتماعيّ. وعلى هذا المسار قامت الباحثة الكندية دوروثي سميث (Dorothy Smith) بنقد نظرية غوفمان لتجاهلها تأثير متغيّر الجنس والتباين بين الجنسين في عملية التّفاعل الاجتماعيّ.
ومن الواضح أنّ معظم الانتقادات قد تمحورت حول تجاهل غوفمان للظّواهر الكبرى وتأثيرها في تفاعلات الحياة اليومية كما تجاهل أيضاً تأثير الظواهر الصّغرى للحياة اليومية في تشكيل الظواهر الكبرى. ويتّضح أن الهوّة كبيرة بين سوسيولوجيا المصغّرات وسوسيولوجيا الظّواهر الكبرى، ولذا يعاب على مدخل غوفمان سعيه إلى رصد الفريد والمتفرّد والصغير في الحياة اليومية بعيداً عن القضايا الكبرى التي شكّلت هاجس علماء الاجتماع على مدى قرن من الزمان.
وكثيراً ما يتردّد بين النقاد بأنّ أعمال غوفمان وأفكاره الدراميّة لا تشكّل نظريّة على الإطلاق، ولا تتضمّن نظريته أيّ فرضيات قابلة للاختبار، كما لا يمكن لأفكاره أن تُعتمد في تفسير شموليّ للسّلوك الاجتماعيّ، إذ تقتصر مهمّتها على فهم مواقف التّفاعل بين الأفراد خارج سياق الوضعيّات الاجتماعية العامّة والظواهر الشمولية في المجتمع. ويمكن لنا سرد بعض النّقاط المهمة في نقد مدخل غوفمان الدراميّ للعلاقات الاجتماعية:
1- لا تمتلك نظرية غوفمان أيّ فاعلية في مجال تفسير الظّواهر الكبرى من مثل: الهجرة، السّلطة، الطبقة، الصّراع الطبقي، الثقافة …الخ. فالنظرية تركّز بشكل أساسيّ على التّفاعلات الشخصية اليومية بين الأفراد، ولا تعطي الاهتمام الكافي للتّفاعلات الكبرى بين الظواهر مثل العلاقة بين السّلطة والطبقة، وبين الثقافة والهجرة، وبين الطبقة والصراع الطبقي الخ…
2- يستغرق غوفمان في التّحليل الجزئيّ وفي تفكيك الظّاهرة إلى أدنى مستوياتها الذرية. ويمكن القول: إنّ نظريّته تركز على التّفاعلات الاجتماعية اليوميّة التي تتكوّن من عمليات ديناميكية متفرّدة، ولا تعطي الاهتمام الكافي لعمليّات الاندماج والتجزؤ والتفكّك بين الأفراد والمجموعات.
3- تكرّرت الإشارة إلى أنّ النظرية تجاهلت العوامل الاجتماعيّة البنيوية، فالنظرية لا تعطي الاهتمام الكافي للعوامل الهيكليّة البنيوية التي تؤثّر في التّفاعلات الاجتماعية، من مثل: الطّبقة الاجتماعية والجندر والثقافة والسّلطة والسّياسة.
4- الفردية المفرطة: تركّز النظرية بشكل كبير على الفرد، وتتجاهل العوامل الاجتماعية الجماعية والمجتمعية التي ينشأ منها التّفاعل الاجتماعي، وهذا يعتبر نقصاً في نطاق النظريّة. وهو نقص يُعزى إلى تركيز غوفمان على الفرد وسلوكه التّفاعليّ في الحياة اليومية على نحو دفعه إلى تجاهل السّياقات الاجتماعية والثقافية الأوسع التي تؤثّر في السّلوك الاجتماعيّ.
5- الاستغراق في المعاينة الحسّيّة أو في الاعتماد على الملاحظة السلوكية: فالنّظرية تعتمد بشكل كبير على الملاحظة السلوكيّة والوصف النفسيّ للأفراد والتّفاعلات الاجتماعية، وهذا يعدّ ضعفاً في نطاق النظرية، ويتطلب إضافة المزيد من الأبحاث النفسيّة والاجتماعية لتطويرها.
6- استغرق غوفمان في تبني الأدلّة القصصيّة والحكايات اليومية كما استغرق في التحليل القصصي الدرامي على حساب الدّراسات الميدانية والأمبيرقية التي تعتمد على المنهجيات السوسيولوجية التجريبية.
7- يُؤخذ على النظريّة عدم قدرتها على تفسير التّفاعلات الاجتماعية الشّاملة: إذ تتمحور النظرية على دراسة التّفاعلات بين أفراد أو مجموعات صغيرة، دون الاهتمام بالعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكبرى التي تؤثّر في هذه التّفاعلات.
8- عدم تمثيل الواقع الاجتماعيّ بشكل كامل: فالنظريّة تعتمد على الدراسة التّحليلية للحالات الفردية، دون الاهتمام بالتنوّع الاجتماعي والثقافيّ والجغرافيّ الذي يمكن أن يؤثّر في نمط التّفاعلات.
9- عدم مراعاة التغيرات الزمنيّة والتاريخيّة: فالنظرية تركز على دراسة التّفاعلات في الوقت الحاضر، دون النظر إلى التطوّرات التاريخية والاجتماعية التي قد تكون أثّرت في تلك التّفاعلات وشكلتها.
10- عدم التمكّن من التنبّؤ بالتّفاعلات الاجتماعّية بشكل دقيق: فالنظريّة لا تعتمد على قواعد أو نماذج ثابتة، بل تعتمد على دراسة حالات فرديّة، وهذا يجعل من الصّعب التنبؤ بطريقة دقيقة بنمط التّفاعلات الاجتماعية.
11- الإفراط في التحليل المصغّر: يرى بعضهم أنّ نظرية غوفمان تقوم بتحليل تفاصيل صغيرة جداً للتّفاعل الاجتماعي، ما يجعل النظريّة تفتقر إلى النظرة العامة والتّحليل الكليّ للظواهر الاجتماعية.
12- التركيز على السّلبيات: يتّهم بعض النقاد نظرية غوفمان بالتركيز أكثر ممّا ينبغي على الجوانب السّلبية والمشاكل في التّفاعل الاجتماعي، على حساب الاهتمام بالجوانب الإيجابية والمفيدة.
13- التركيز المفرط على التّفاعلات وجهاً لوجه: تستند نظرية غوفمان على فكرة أنّ التّفاعلات وجهاً لوجه هي أهمّ أشكال التّفاعل الاجتماعي. ومع ذلك، قد لا يكون هذا التّركيز مناسباً في عصر الاتّصالات الرقميّة والتّفاعلات عبر الإنترنت.
ويصرّ كثير من النقاد على أنّ أعمال غوفمان لا ترقى إلى مستوى النظريّة وإنّما تشكل إطاراً نظريّاً ومنهجيّاً وإمبيرقياً لدراسة التّفاعل الاجتماعيّ الرمزيّ في المجتمع، وغالباً، ما يميل النّقّاد إلى تسمية أعمال غوفمان بالمدخل الدراميّ، ويرون أنّ أعماله قد تشكّل نواة نظرية ولكنّها لم ترق قطّ إلى مستوى النّظريات السوسيولوجيّة المعروفة في علم الاجتماع.
ورغم من هذه الانتقادات فإنّ غوفمان قدم مشروع نظرية مهمّة في مجال تناول القضايا الاجتماعية التّفاعلية في الحياة اليوميّة. وقد كرّس حياته العلمية كلّها في استكشاف أغوار ومعاني ودلالات هذا التّفاعل. ولم يزعم يوماً أنّه يسعى إلى تكوين نظريّة كبرى في علم الاجتماع، وجلّ ما كان يسعى إليه هو العمل على استكشاف أبعاد التّفاعل الاجتماعّي وتأثيره في تشكيل لحمة الحياة الاجتماعية وبناء الهوية وتفسير كثير من القضايا الخافتة والغامضة في مسار التّفاعل الاجتماعيّ والإنساني. وما لا شكّ فيه أنّ تركيز غوفمان على الميكروسوسيولوجي واعتماد منهجيّة التّحليل الذرّي المصغّر للحياة الاجتماعية في رصد ديناميات التّفاعل الاجتماعي، قد مكّن من إدراك الكيفيات التي يقوم فيها الناس بصوغ الاندماج الاجتماعي عبر التّفاعل والتواصل في مختلف مناحي الحياة وميادين الوجود الاجتماعي. وما لا شكّ فيه أيضاً أنّ هذا الاستكشاف السوسيولوجي قد أبرز الطّابع الإنسانيّ للحياة الاجتماعيّة، وأضفى المعنى والدّلالة النوعيّة على الحياة الاجتماعيّة، وأكسب الوجود الاجتماعيّ معناه من خلال استقراء معاني التّفاعل الرّمزي بين الأفراد في مسارات الحياة الاجتماعيّة المختلفة.
وتجدر الإشارة في هذا السّياق أنّ غوفمان حاول في كتابه الأخير “نظام التّفاعل” الذي حُرّر بعد وفاته في عام 1982 أن يتجاوز النّقد الذ تعرّض له حول تجاهله للظّواهر الاجتماعية الكبرى التي تتعلّق بالسّلطة والدّين والجنس والطّبقة والسّياسة والهجرة. وبيّن في هذا الكتاب تكامل العمليّات الطقوسيّة التي يقوم الناس من خلالها بأداء الهويات وإدارة التّلاقي الاجتماعيّ مع بعض الظواهر البنيوية الكبرى. وقد حاول أن يحقّق التوازن في هذا العمل الأخير بين التّحليل الجزئيّ والتّحليل الكلّيّ، بين سوسيولوجيا الحياة اليومية التّفاعلية، وبين النظريات البنائية مثل الوظيفية.
10- خاتمة:
يقرّ معظم المفكرين في علم الاجتماع بأنّ غوفمان يُعدّ أحد أهم القامات الرفيعة في علم الاجتماع المعاصر. ومن المؤكّد اليوم أنّ غوفمان قد استطاع أن يمنح السوسيولوجيا المعاصرة روحاً تعبق بالدلالات والمعاني، ويرى معظم النقّاد اليوم أنّ سوسيولوجيا غوفمان استطاعت أن تأخذ طابعاً شعبيّاً وجماهيريّاً واسعاً. ولم يكن في مقدور أيّ من علماء الاجتماع السّابقين أن يرقى بعلم الاجتماع إلى هذا المستوى. وتبيّن الوقائع السوسيولوجية أنّ كتب غوفمان قد حقّقت انتشاراً كبيراً بين الجماهير، إذ يمكن للإنسان العادي أن يقرأ بشغف معظم الأعمال التي قدمها غوفمان في حقل التّفاعل الاجتماعيّ.
ويمكننا القول في هذا السياق: إنّ غوفمان استطاع أن يخفض أجنحة علم الاجتماع العالية لتخفق قريباً من واقع الناس وحياتهم . ويصحّ القول إنه أنزل علم الاجتماع من عليائه و”أهبطه” من أبراجه العاجيّة ليلامس حياة الناس وقضاياهم الوجودية بطريقة درامية تتميّز برشاقتها وعمقها وقدرتها على إضفاء الدّلالات والمعاني على حياتنا الاجتماعية.
ومن الجليّ الواضح أنّ: غوفمان قد استطاع أن يمزج مزجاً بديعاً بين الدراما والسيكولوجيا والسّوسيولوجيا والأدب واللّغة والرمز لينسج لنا علم اجتماع الحياة اليومية بطريقة خلاّقة خلابة، واستطاع بذلك أن يستكشف أغوار المشاعر الإنسانيّة العميقة بتحليلاته الرّشيقة، وأن يستكشف فيض المعاني والدلالات التي تتدفّق في مدارات التّفاعل الإنساني.
استطاع غوفمان بمنهجه السوسيولوجي المبتكر أن يبيّن لنا، وبصورة درامية، كيف تتشكّل التكوينات الاجتماعية الأولى من خلال التّفاعل. وأوضح كيف تتشكل الهويّة، واستطاع أن يبيّن لنا زيف الحياة الاجتماعية، وأن يميز بين الهوية الحقيقية والهويات المقنعة التي نعتمدها في حياتنا الاجتماعيّة. وفي سياق ذلك كلّه استطاع أن يستكشف وأن يكشف لنا مواطن الزّيف، ومكامن المظاهر وأهميتها في حياتنا الاجتماعية. وباختصار استطاع أن يكشف لنا المظاهر الاجتماعية المزيفة الخادعة في حياتنا الاجتماعية. فالحياة تبدو فعلا نوعاً من الدّراما التّمثيلية في جوهرها. وهذا الطّابع التمثيليّ يغطّي المساحة الأعظم من حياتنا ووجودنا الاجتماعي. أمّا حقيقتنا في أصالتها فما هي إلا لحظات نقضيها في كواليس غرف النّوم والحياة اليومية الحميمة.
وعلى هذا المنوال يستكشف غوفمان جانبان من الحياة: أحدهما “كواليسي” سريّ يعبر عن حقيقتنا الصّلبة، وعن هويتنا الذاتية، والآخر مظهريّ مسرحيّ دراميّ نستعرض فيه أنفسنا، ونحاول أن نظهر على غير حقيقتنا. وعلى هذا الأساس تبدو الحياة وكأّنها مسرحية يأخذ فيها كل فرد دور الممثل على خشبة المسرح في وقفة رهاب أمام الآخر: يظهر ما ليس فيه، ويوظف أقنعته من أجل أن يحقّق الغاية من وجوده ملتمسا تحقيق حالة التّراضي بينه وبين المجتمع.
واستطاع غوفمان على الرغم من الانتقادات التي واجهها أن يفرض نظريّة سوسيولوجية – وإن لم تكن قد نضجت بعد – نستلهم في الأعمال السوسيولوجية المعاصرة. وبدأ الاهتمام بنظرية غوفمان في عصر الميديا والإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعي التي أكّدت بشكل مطلق ما كان يلحّ عليه غوفمان من طغيان الزّيف على الحياة الاجتماعية. وقد وجد معظم الباحثين المتخصّصين في دراسة وسائل الاتّصال في نظرية غوفمان مدخلاً سوسيولوجياً نادراً وفعالاً في دراسة التّفاعل القائم بين النّاس عبر وسائل التّواصل الاجتماعي كما وجدوا في أبحاثه الميدانيّة المنهجيّة الأصيلة في دراسة التّفاعل الاجتماعيّ في المجتمعات المصغرة، في قاعات الدرس، وفي قاعات الرقص، وفي المقاهي والشوارع والأندية. ويضاف إلى ذلك أنّ نظرية غوفمان مكّنت الأفراد أنفسهم من فهم الطبيعة الدرامية لتفاعلاتهم وجعلتهم أكثر فهماً لذواتهم ووجودهم وطرق تفاعلهم وطبيعة السيكولوجيا التي تحكمهم أثناء التّفاعل مع الآخرين في خضم الحياة اليوميّة. وباختصار استطاعت نظرية غوفمان أن ترسم حدود الحياة الاجتماعية اليومية وأبعادها، وأن تهتك أسرارها، وتكشف ما خفي من أوتارها، ومهّدت للفرد أن يكتشف ذاته في دائرة صلاته وعلاقاته بالآخرين.
توفي غوفمان في نوفمبر عام 1982، بعد وقت قصير من إلقائه خطبته الرئاسية أمام الجمعية السوسيولوجية الأمريكية، على شكل ورقة سميت ” نظام التّفاعل” ((The Interaction Order))، وممّا لا شكّ فيه أن أعمال غوفمان ما تزال تمتلك قوة هائلة ومؤثّرة في الإنتاج المعرفي لعلماء الاجتماع حول العالم. وسيظلّ أحد أهمّ الشخصيات العلمية تأثيراً وإمتاعاً وإبداعاً في مجال علم الاجتماع المعاصر. وعلى الرغم من مرور 41 سنة على وفاته ما تزال أعماله تلقى رواجاً وحضوراً كبيراً متزايداً في فضاء العلوم الاجتماعية والإنسانية[97]. ولا مراء في أنّ كتاباته الشعبية البسيطة التي تخاطب العقل العامّ كانت أحد عناصر شهرته. “وعلى الرغم من هذا الضّعف المنهجيّ، فإنّ قراءة أعماله تبثّ السّرور والفرح لدى قرائها، لأنّه يمكن لأيّ شخص أن يفتح عشوائياً أحد مؤلّفاته ويقرأها، ويصبح على الفور ملماً بأفكاره”[98].
مراجع الدراسة وهوامشها:
[1] – الدراماتيكية نسبة الى الدراما (Drama) وهي فنّ مسرحي، أو بالأحرى هي نوع من النصوص الأدبية التي تؤدى تمثيلا في المسرح أو السينما أو التلفزيون أو الإذاعة. أخذت الكلمة من اللغة الإغريقية القديمة “δρᾶμα” وتعني يشخص أو يمثل. وهي غالبا ما تكون على صورة حكايةٌ لجانبٍ من الحياة الإنسانية يعرضُها ممثِّلون يقلَّدون الأشخاص الأَصليين في لباسهم وأقوالهم وأفعالهم وتهتم القصص الدرامية غالباً بالتفاعل الإنساني وكثيرا ما يصاحبها الغناء والموسيقى ويدخل فن الأوبرا ضمن هذا التعريف. وتنقسم الدراما في المفهوم الإغريقي إلى ثلاثة أجزاء -الملهاة (الكوميديا) وهو الأداء التمثيلي الذي يؤدي للضحك ممثلا بالقناع الأبيض الضاحك. -والمأساة (التراجيديا) عكس الملهاة (الكوميديا) وهو الأداء التمثيلي الذي يؤدي إلى الحزن ويمثله القناع الأسود الباكي. – أما الجزء الثالث فهو نوع خاص من الدراما يتضمن الجانبين ويعرف باسم “التراجيكوميدي”. وقد استقرّ تعريفها في عصرنا الحالي على أنها: فن مسرحيّ يُؤدّى على المسرح، أو التلفزيون، أو الراديو، وهي مصطلح يُطلق على المسرحيات والتمثيل بشكل عام.
[2] – الدراماتورجيا هي الدراسة التي تبين العلاقة بين المضمون المسرحي والشكل، ليظهر مشهدياً أمام المتفرجين. تاريخياً، ظهر مفهوم الدراماتورجيا في القرن الثامن عشر، ومهد لظهور مفهوم الإخراج في نهاية التاسع عشر. أدى ظهورُ الدراماتورجيا، إلى تحول في النظرة للمسرح، وانبثاق ما يسميه الناقد الفرنسي برنار دورت (B. Dort) الذهنية الدراماتورجية، التي ساهمت في بناء علاقة جديدة: بين النص والعرض. يمكن تحديد الدراماتورجيا من خلال طرح سؤالين. السؤال الأول: ماذا يتم تقديمه؟ والسؤال الثاني: كيف يتم تقديمه؟ وبالتالي فإن الدراماتورجيا هي الدراسة التي تبين العلاقة بين المضمون المسرحي (Content) والشكل (Framing) إذاً، هي الربط بين المحتوى، والشكل، ليظهر مشهدياً أمام المتفرجين بلغة فنية مسرحية.
[3] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، ترجمة محمود محمد حلمي، مراجعة جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2009. ص 247.
[4] – تنويه: تجدر الإشارة إلى وجود ثلاث صيغ لترجمة اسم غوفمان في الكتابات الغربية، هي: غوفمان، وجوفمان، وكوفمان. وقد وقع اختيارنا على الخيار الأول غوفمان وهي الترجمة الأفضل لاسمه والمعتمدة من كبار المترجمين وسنقوم بتوحيد هذه التّسمية في مختلف مراحل هذه الدراسة.
[5] – Data provided by Thomson Reuters’ ISI Web of Science, 2007, Most cited authors of books in the humanities, 2007, March 26, 2009. Most cited authors of books in the humanities, 2007 | Times Higher Education (THE)
[6] – فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه، علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية أعلام وتواريخ وتيارات، ترجمة إياس حسن، دمشق: دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، 2010. ص 119.
[7] – روبرت إيزرا بارك (Robert Ezra Park) (14 فبراير 1864 – 7 فبراير 1944)، عالم اجتماعٍ ويعتبر أحد أهمّ الشخصيات تأثيرًا في بدايات حقل علم الاجتماع الأمريكي. كان بارك رائدًا في علم الاجتماع، ونقله نقلةً نوعيّة من مجرّد كونه فرعًا فلسفيًا جامدًا إلى علمٍ حيويٍّ متأصّل في دراسة السلوك البشري، ويعد أحد أهم مؤسّسي مدرسة شيكاغو.
[8] – كليفورد شو (Clifford Shaw) (1895-1957) عالم اجتماع وعالم إجرام أمريكي ينتمى إلى مدرسة شيكاغو في علم الاجتماع خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ويعتبر أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في علم الإجرام الأمريكي، ورائد من رواد منهج تاريخ الحياة.
[9] – بليو. لويد وارنر دبليو. لويد وارنر (W. Lloyd Warner) هو عالم اجتماع وأنثروبولوجيا أمريكي، ولد في 26 أكتوبر 1898 في ريدلاندس في الولايات المتحدة، وتوفي في 23 مايو 1970 في شيكاغو في الولايات المتحدة.
[10] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مجلة دراسات وأبحاث – المجلة العربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، السنة العاشرة، مجلد 10 عدد 4 ديسمبر 2018. صص 722-734. ص 733.
[11] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، ترجمة ثائر ديب، الطبعة الأولى، دمشق: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021. ص 9.
[12] — Tom Burns. (1992). Erving Goffman. New York, London. Routledge, PP. 13-9.
[13] – إيفرت هيوز (: Everett Hughes) عالم اجتماع أمريكي، ولد في 30 نوفمبر 1897 في أوهايو في الولايات المتحدة، وتوفي في 4 يناير 1983 في كامبريدج في الولايات المتحدة.
[14] – تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) (13 ديسمبر 1902- 8 مايو 1979) عالم اجتماع أمريكي معروف مؤسس نظرية الوظيفية في علم الاجتماع الأمريكي أستاذ في في جامعة هارفارد منذ العام 1927 حتى العام 1973.
[15] – ألفريد شوتز (Alfred Schütz) فيلسوف وعالم اجتماع أمريكيّ وُلِد في النمسا عام 1899 وتوفي عام 1959، أحد أهم رواد علم الاجتماعي الظواهري (الفينومينولوجيا) وهي حركة فلسفية نشأت في القرن العشرين هدفها وصف الظواهر المختلفة وفقًا لكيفية تجربتها بوعي. انتقل شوتز إلى الولايات المتحدة عندما كان يبلغ من العمر 50 عامًا هربا من النازية الألمانية وقام بالتدريس في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية الموجودة في نيويورك. جذب عمله انتباه زملائه من خلال دراسة التطور اليومي للناس، وكذلك خلق الواقع من خلال الرموز والعمل البشري. ركز نظرية شوتز على دراسة أهمية” التخلل الذاتي أو الذوات المتداخلة” محاولا تقديم الإجابة عن التساؤلات الآتية: 1 ــ كيف نعرف أفكار الآخرين؟ 2 ــ كيف نعرف أنفسنا؟ 3 ــ كيف يتم تبادل رؤانا و إدراكاتنا مع الآخرين؟ 4 ــ كيف يحصل التفاهم المشترك بين المتفاعلين؟ 5 ــ كيف يتصل الفواعل فيما بينهم؟ معنى ذلك أن تداخل ذوات الفاعل لا يحصل بشكل منفرد أو من جانب واحد بل يتطلب حضور الآخر أولاً، وطرح أفكار وآراء يتم نقاشها ثانيا وتبادل التفاعل بينهم ثالثا (ساعتها يحصل تبادل المشاعر بينهم حبا أو كرها ودادا ً أو بغضا ً، إعجابا ً أو استعلاء) ومن ثم يحصل تبادل الذوات بين الفاعل والحضور. بتعبير آخر يشترط حضور الآخرين حيوية مفعمة بوساطة نقاشه معهم واستماعهم له ومحادثته إليهم وتفاعلهم معه في فترة زمنية معينة، وبقعة جغرافية معلومة الأبعاد، آنذاك يتبلور التخلل الذاتي.
[16]– يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) فيلسوف وعالم اجتماع ألماني معاصر (18 حزيران 1929 دسلدورف) يعدّ من أهم علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر. ولد في دوسلدورف، ألمانيا وما زال يعيش بألمانيا. ويعد من أهم منظري مدرسة فرانكفورت النقدية له أكثر من خمسين مؤلفا في قضايا الفلسفة وعلم الاجتماع وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي.
[17] – بيير بورديو (Pierre Bourdieu) (1930-2002) عالم اجتماع فرنسي، أحد أهم المفكرين والفلاسفة في القرن العشرين، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر، بل إن فكره أحدث تأثيرا بالغا في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين.
[18] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 9.
[19] – Erving Goffman, The Presentation Of Self In Everyday Life, Anchor Books edition. Arabic copyright, 1959.
[20] – Goffman, E. (1961). Asylums: Essays on the Social Situation of Mental Patients and Other Inmates. New York: Anchor Books.
[21] – Goffman, E. (1986). Frame Analysis (An Essay on the Organization of Experience). new york. Northeastern University Press edition.
[22] – https://www.isa-sociology.org/en/about-isa/history-of-isa/books-of-the-xx-century
[23] – Reguera, J. I. , Books of the Century; Top 100 Sociological Books. Consulté le 5 20, 2018.
[24] – Erving Goffman, The Presentation of Self in Everyday Life, Anchor Books, 1959
[25] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 10.
[26] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، معنى، 9/مايو/2020. https://mana.net/6773/
[27] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، صص 10-11.
[28] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 11.
[29] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 11.
[30] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 11.
[31] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 12.
[32] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 12.
[33] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 12.
[34] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 13.
[35] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 13.
[36] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، مرجع سابق.
[37] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، مرجع سابق.
[38] – A. Gouldnar, The Coming Crisis Of Western Sociology, London Heinman, 1970, P. 385.
[39] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، مرجع سابق.
[40] – حفيظة ضربان وصوراية رمضاني، عرض الهوية في الحياة الافتراضية: دراسة سوسيولوجية لتقنيات عرض الذات عبر مواقع التواصل الاجتماعي – الفيسبوك أنموذجا، المجلد 15، العدد 2، سبتمبر 2021، صص 249-267. ص 251.
[41] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، مرجع سابق.
[42] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 727.
[43] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 727.
[44] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 727.
[45] Goffman, E. (1956). The Presentation of Self in Everyday Life. Edinburgh: University Of Edinburgh Social Sciences Research Centre. P1.
[46] – الكومبارس (بالانجليزية Compares و: Comparsa) هو ممثل «زائد»، وهو مواطن عادي يجلبونه بأجر ليلعب دوراً بسيطا في عرض فني، لا يظهر له أهمية كبيرة ملحوظة، إلا أنّه غالباً ما يساعد على خلق مناخ طبيعي للقصة.
[47] – فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه، علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية مرجع سابق، ص 120.
[48] – فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه، علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق، ص 120.
[49] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، مرجع سابق، ص 248.
[50] – موسوعة عريق، إدارة الانطباع، عريق، 4/4/2023. http://bitly.ws/CySs
[51] – ريم الأنصاري، نظرية غوفمان: إدارة الانطباعات، دراسة، 24/5/2021. https://drasah.com/Description.aspx?id=4197
[52] – ريم الأنصاري، نظرية غوفمان: إدارة الانطباعات، دراسة، المرجع السابق.
[53] – ريم الأنصاري، نظرية غوفمان: إدارة الانطباعات، دراسة، المرجع السابق.
[54] – ريم الأنصاري، نظرية غوفمان: إدارة الانطباعات، دراسة، المرجع السابق.
[55] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 111.
[56] – موسوعة عريق، إدارة الانطباع، عريق، 4/4/2023. http://bitly.ws/CySs
[57] – إرفنغ غوفمان: عرض الذات في الحياة اليومية، ترجمة: أحمد العوفي، مراجعة: خبيب عسيلان، 3/4/2023. https://nthar.net/wp-content/uploads/2016/11/presentation-of-the-self.pdf
[58] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، مرجع سابق، ص 249.
[59] – Robert Ezra Park, Race and Culture (Glencoe, ill.: The Free Press, 1950), p. 250.
[60] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 37.
[61] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 37.
[62] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 54.
[63] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 54.
[64] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 57.
[65] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 57.
[66] – إيان كريب، النظرية الاجتماعية، من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، الكويت: عالم المعرفة، العدد 244، 1999. ص 122.
[67] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 63.
[68] – حفيظة ضربان وصورية رمضاني، عرض الهوية في الحياة الافتراضية مرجع سابق، ص 252.
[69] – حفيظة ضربان وصوراية رمضاني، عرض الهوية في الحياة الافتراضية، مرجع سابق، ص 253.
[70] – إيان كريب، النظرية الاجتماعية، من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 122.
[71] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 111.
[72] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، مرجع سابق.
[73] – إرفنغ غوفمان: عرض الذات في الحياة اليومية، ترجمة: أحمد العوفي، مراجعة: خبيب عسيلان، 3/4/2023. https://nthar.net/wp-content/uploads/2016/11/presentation-of-the-self.pdf
[74] – السيد رشاد غنيم والسيد محمد الراخم ونادية محمد عمر، النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 2008. ص 180.
[75] – موسوعة عريق، إدارة الانطباع، عريق، 4/4/2023. http://bitly.ws/CySs
[76] – Goffman, E. (1967). Interaction ritual: Essays on face-to-face behavior. Chicago: Aldine.
[77] – Goffman, E. (1967). Interaction ritual: Essays on face-to-face behavior, Ibid..
[78] – Goffman, E. (1967). Interaction ritual: Essays on face-to-face behavior, ibid.
[79] – إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، مرجع سابق، ص 30.
[80] – محمد حسين، غوفمان من جديد: التّحليل الدرامي والتباعد الاجتماعي، مرجع سابق.
[81] – ريم الأنصاري، نظرية غوفمان: إدارة الانطباعات، دراسة، مرجع سابق.
[82] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 727.
[83] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، مرجع سابق، ص 250.
[84] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، مرجع سابق، ص 251.
[85] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق،رص 727.
[86] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 725.
[87] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق ـ ص 725.
[88] – مدونة الفلسفة وعلم النفس، النموذج الدرامي لإيرفينج جوفمان، Sainte Anastasie، 4/3/2023. http://bitly.ws/CtVz
[89] – مدونة الفلسفة وعلم النفس، النموذج الدرامي لإيرفينج جوفمان، المرجع السابق.
[90] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق،ص 726.
[91] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 726.
[92] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق، ص 727.
[93] – إيان كريب، النظرية الاجتماعية، من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 123.
[94] – إيان كريب، النظرية الاجتماعية، من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 123.
[95] – ألڤن وارد غولدنر (Alvin Ward Gouldner ) عاش 29 يوليو 1920 – 15 ديسمبر 1980 عالم اجتماع أمريكي وأستاذ علم الاجتماع في جامعة أمستردام (1972–1976) وأستاذ كرسي ماكس ڤبر لعلم الاجتماع في جامعة واشنطن (منذ 1967)..
[96] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، مرجع سابق، ص 254.
[97] – باديس لونيس، إرفنغ غوفمان والظاهرة الاتصالية: قراءة إبيستيمولوجية في أهم أفكاره التنظيرية، مرجع سابق ـ ص 733.
[98] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظّرون المعاصرون، مرجع سابق، ص 254.
_________
*أ. د. علي أسعد وطفة- كلية التربية – جامعة الكويت.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.