ماهية المصطلح:
يحمل مصطلح “العلم” هالة كبيرة من الشرعية والاحترام، لما يعنيه من تماس مع أصل حقيقة المعرفة. لكن ليس كل مجال من مجالات البحث يمكن أن يطلق على نفسه حقًا علميًا، إذ تشكل مجالات مثل علم الأحياء والكيمياء والفيزياء وفروعها، تقليديا، ما يُعرف بالعلوم الصلبة، بينما تسمى العلوم الاجتماعية والإنسانية بالعلوم الناعمة. ويوجد سبب وجيه جدًا لهذا الترسيم، ولا علاقة له بمدى صعوبة، أو فائدة، أو إثارة، هذا المجال، أو ذاك. ويعتمد التمييز على الصرامة العلمية لأساليب البحث الميداني الدقيق، إذ اكتسب العلم سمعة هائلة في النجاح، لدرجة أن المجالات الأخرى صارت تلتف بلغة العلم. ولكن، لكي يعتبر المجال علميًا، يجب أن يستخدم نهجًا استقصائيًا صارمًا للغاية، وتهدف نتائجه إلى تكرارها، أو دحضها من قبل باحثين آخرين. لذلك، أصبح معروفًا أن ليس كل ما يدعي أنه “علمي” هو في الواقع كذلك، لأن هناك خمس سمات أساسية للدراسات الدقيقة علميًا تميز “العلم” عن كل شيء آخر.
المآخذ الرئيسة:
وبالتساؤل حول ماذا نعني بالدقة العلمية؟ يقول العالمان الأمريكيان أليكس بيريزو، المحرر التنفيذي لـ”الفكرة الكبيرة”، وتوم هارتسفيلد، عالم الفيزياء: “لنبدأ بما لا نعنيه”، مُقِرِين بأن الإحصائيات والمصطلحات المتقطعة لا تجعل المجال علميًا صارمًا، وزاعمين أن لاعبي البيسبول والمقامرين يستخدمون الإحصائيات كل يوم. ورغم ذلك فهم ليسوا علماء، ويمكن للفلاسفة أن يصفوا حتى أبسط الظواهر بنثر كثيف بشكل غير مفهوم. وقد اقتبسا من أينشتاين، قوله: “يمكن لأي أحمق ذكي أن يجعل الأشياء أكبر [و] أكثر تعقيدًا”، مثلما أن مجال الاقتصاد المكثف رياضيًا مشغول إلى حد كبير بتحديد الارتباط والسببية. من أجل القيام بذلك، يستخدم الاقتصاديون أسلوبًا إحصائيًا، وتحليل الانحدار المتعدد، الذي يكون معقدًا تمامًا كما يبدو. ولكن، كما كتب مؤلفو الكتاب الأكثر مبيعًا “Freakonomics”، الذي قررا أن “تحليل الانحدار هو فن أكثر منه علم.” في الواقع، لا أحد يستطيع أن يتنبأ باستمرار بتقلبات الأسواق. لذلك، إذا كان التحليل المنحني للعقل، والكلمات متعددة المقاطع، والرياضيات المعقدة لا تجعل المجال دقيقًا علميًا، فماذا يفعل؟ وهنا، نعود إلى القول إن هناك خمس سمات للدراسات الدقيقة علميًا.
إن القدرة على خلق ظروف محكومة بدرجة عالية هي ببساطة غير موجودة في العديد من العلوم اللينة، أي الاجتماعية والإنسانية. بدلاً من ذلك، يعتمدون على الدراسات القائمة على الملاحظة في بيئات غير خاضعة للرقابة، وغالبًا ما تكون فوضوية. ولفصل الارتباط عن السببية، يطبقون الإحصائيات؛ مثل تحليل الانحدار المذكور أعلاه، لكن هذا ليس بديلاً كافياً لبيئة شديدة التحكم، لأن البيئة الخاضعة للرقابة ليست فقط في المختبر. ويجري تنفيذ نتائج العلم ضمن نموذج، أي مجموعة مقبولة وقائمة على الأدلة من الأطر المفاهيمية، التي تخلق ظروفًا خاضعة للرقابة للفهم. ويشرح الفيلسوف العلمي توماس كون طبيعة هذه النماذج في كتابه الشهير “هيكل الثورات العلمية”، الذي نُشِرَ في عام 1962. أن النماذج تسمح، بشكل أساس، للعلماء بالاتفاق على القواعد الأساسية داخل المجال، والتحدث مع بعضهم البعض بلغة مشتركة، وتوسيع المعرفة بشكل متماسك. ويجدر بنا الإشارة إلى أن أحد أشهر التصريحات النموذجية أدلى به عالم الأحياء الأمريكي ثيودوسيوس دوبزانسكي، الذي كتب مقالًا بعنوان: “لا شيء في علم الأحياء يجعله منطقيًا إلا في ضوء التطور”، نُشِرَ في 1 مارس 1973.
السمات الخمس:
تتوقع السمة الأولى وجود “مصطلحات محددة بوضوح”، إذ يجب ألا يستخدم العلم مصطلحات، أو كلمات غامضة ذات تعريفات عشوائية. ويتفق جميع علماء الأحياء الدقيقة على ماهية الخلية، ويتفق الكيميائيون جميعًا على ماهية الجزيء، لكن هذا ليس هو الحال دائمًا في المجالات الأخرى. فكيف يحدد المرء بدقة أيديولوجية سياسية معينة؟ أم الرضا عن الحياة؟ أم التحيز العنصري؟ هذه الأفكار، على الرغم من دراستها بشكل شائع في مجالات أخرى، لها تعريفات غامضة يمكن أن تتغير بمرور الوقت، عبر الجغرافيا، أو حتى بين الثقافات المختلفة.
وتفترض السمة الثانية “قابلية القياس”، لأن العلم الصارم قابل للقياس الكمي حيث تقاس الكواكب من حيث الكثافة والسرعة المدارية، فيما يتم قياس السمية بجرعات قاتلة، والتيار بالأمبير. لكن كيف تقيس السعادة؟ هل يمكن لأي شخص أن يضع رقمًا موثوقًا به لمعرفة مدى سعادته اليوم؟ رغم أن اللورد كلفن قد أعرب عن أهمية القابلية للقياس عندما قال: “غالبًا ما أقول إنه عندما يمكنك قياس ما تتحدث عنه، والتعبير عنه بالأرقام، فأنت تعرف شيئًا عنه؛ ولكن عندما لا تستطيع التعبير عنها بالأرقام، فإن معرفتك تكون هزيلة وغير مرضية؛ قد تكون بداية المعرفة، لكنك نادرًا ما تقدمت في أفكارك إلى مرحلة العلم، مهما كان الأمر”.
وتعتمد السمة الثالثة على “ظروف تحكم عالية”، وقد تكون هذه هي الخاصية الأكثر أهمية، وهنا بالتحديد تقصر العديد من المجالات. فتحافظ الدراسة الدقيقة علميًا على التحكم المباشر في أكبر عدد ممكن من العوامل، التي تؤثر على النتيجة. ثم يتم إجراء التجربة بدقة بحيث أن أي شخص آخر في العالم، باستخدام مواد وطرق متطابقة، يجب أن يحقق نفس النتيجة بالضبط. ويجب أن يحصل العَالِم، الذي يختبر نمو البكتيريا في فرنسا على نفس النتيجة، التي حصل عليها عالم الأحياء الدقيقة في أستراليا.
وتُثَبِّت السمة الرابعة “قابلية إعادة الإنتاج”، التي تسمح بالسيطرة على الظروف بتكرار التجارب بعناية، قائلة إن العلم الدقيق قادر على إعادة إنتاج نفس النتيجة مرارًا وتكرارًا. ويجب أن يجد باحثون متعددون في قارات، أو مدن، أو حتى كواكب مختلفة نفس النتائج بالضبط إذا قاموا بتكرار الظروف التجريبية بدقة. وقد قوبلت التصريحات الأخيرة عن انفراج في أبحاث الموصلات الفائقة بالتشكيك على وجه التحديد لأن التجارب اللاحقة فشلت في تكرار النتائج. ويمكن دحض الادعاءات غير الدقيقة بشكل قاطع ثم إزالتها من شريعة الحقيقة العلمية، فنجاح العلم يعتمد إلى حد كبير على قابلية الاختبار والشفافية وقابلية التكاثر.
وتقول الحقيقة حول “القدرة على التنبؤ والاختبار”، باعتبارها السمة الخامسة، إن العلم الدقيق قادر على عمل تنبؤات قابلة للاختبار. ومن أجمل الأمثلة على ذلك هو الجدول الدوري للعناصر، فقد تنبأ الكيميائي الروسي ديمتري مندلييف، بنجاح بخصائص العناصر المفقودة على الطاولة، أي العناصر، التي لم يتم اكتشافها بعد. في حين أن مجالات مثل الاقتصاد وعلم النفس قد تكون قادرة على تفسير السلوك الحالي، إلا أنها غالبًا لا تؤدي أداءً جيدًا في التنبؤ بالنتائج المستقبلية، إذا كانت في الأصل تجرؤ على إجراء تنبؤات على الإطلاق. إن التنبؤ الواضح والقابل للاختبار ينطوي على خطر أن يتم اكتشافه خطأ من خلال التجربة، وهذه التجربة بالنار هي، التي تميز ما سيصبح علمًا وما لن يصبح علمًا مقبولًا. فقد اشتهر الفيلسوف كارل بوبر باستخدام معيار القابلية للتزوير للتمييز بين العلم والمساعي الأخرى، التي لا تصمد أمام التدقيق التجريبي، وهذا يُشير ببساطة إلى أن أعظم النظريات في العلم صمدت أمام اختبار الزمن.
استخلاص:
باعتراف الجميع، إذن، تُعتبر هذه السمات الخمسة قائمة صعبة من الضوابط المُعَرِّفَة لطبيعة العلم وصعوبته، وما يجب، أو من المفترض أن يكون. فقد لخصت بدقة حقيقة أن معيار العلم الصارم يجب أن يكون مرتفعًا جدًا، وحتى بعض المجالات المقبولة على نطاق واسع على أنها صارمة علميًا لا تكون دائمًا على مستوى التدقيق العلمي. فمثلًا، فيزياء الجسيمات النظري، وعلى الأخص نظرية الأوتار، تقدم أحيانًا تنبؤات غير قابلة للاختبار باستخدام التكنولوجيا الحديثة. ولا يمكن لعلم الأوبئة، في كثير من الأحيان، إجراء تجارب مضبوطة، لأسباب أخلاقية وعملية على حد سواء. ولا يستطيع علماء الأوبئة حبس 20 ألف شخص في غرفة لمدة 20 عامًا لتحديد ما إذا كان إطعامهم الـ”هوت دوج” قسريًا سيسبب السرطان، وبدلاً من ذلك، يعتمدون على الدراسات القائمة على الملاحظة. وبعض مجالات العلوم الاجتماعية بالكاد تلبي أيًا من المعايير المذكورة أعلاه.
وفي الختام، فلنعد إلى السؤال المطروح في عنوان هذا المقال، “ما الذي يفصل العلم عن كل شيء آخر؟” وبما الإجابة صعبة، كما بدا لنا، فإنه قد بدا جليًا أنه لا يوجد خط فاصل واضح تمامًا بين “العلم” و”غير العلم”. وما يمكن قوله بشكل قاطع هو: إن الدراسة الدقيقة علميًا ستلبي جميع، أو معظم المتطلبات المذكورة أعلاه، وستلبي الدراسة الأقل صرامة القليل من هذه المتطلبات إن وجدت. وهذا قد يسبب مشكلة للمجالات اللينة من العلوم الاجتماعية والإنسانية، من دون أن ننسى ما جرأت الإشارة إليه حول “الأيديولوجيا”، وإن كان من السياسيين، الذين يصدحون بعلمية هذا المنهج، أو ذاك، أو بـ”علمانية” ما يتبنونه ضد “رجعية” ما تُعًلِّقُ به “الميتافيزيقيا” وثائق إيمانها شَبَهٌ، أو تنافر غرسته الطبيعة البشرية في عقول التابعين.
___________
* الدكتور الصادق الفقيه/ مستشار مركز دراسات الشرق الأوسط “أورسام”، أنقرة، تركيا
الخميس، 1 يونيو 2023
صقاريا، تركيا