(دراسة تحليلية – نقدية)
” إن البناءات الاجتماعية لديها القدرة على أن تنتج في داخل ذاتها عناصر الإحلال بالقوة والتغيير “. رالف داهرندورف.
– المقدمة:
عمل ماركس على بناء نظريته في المادية التاريخية على أساس جدلي (مادي)، معتمداً على البيانات التاريخية والموضوعية حتى عصره. لكن النظام الرأسمالي شهد تغيرات موضوعية وفكرية بعد وفاة ماركس، هذا إلى جانب ظهور قراءات خاطئة للماركسية نفسها، كما تجلت هذه لدى من أخذوا بالحتمية الاقتصادية.
لذا حاول رالف داهرندورف إلى بناء نظريته المعاصرة حول مفهوم الصراع الاجتماعي بالاعتماد على إعادة قراءة ونقد الأفكار الاجتماعية والاقتصادية التي قدمتها النظرية الماركسية الكلاسيكية، بالإضافة إلى استيعاب التغيرات التي شهدها مجتمع ما بعد الرأسمالي وبالأخص في النصف الثاني من القرن العشرين.
ترى الماركسية أن منشأ الصراع الاجتماعي هو صراع طبقي في المؤسسات الصناعية وذلك بالاعتماد على مقولة ماركس في بيانه الشيوعي (المانيفيستو) عام 1848 (ليس تاريخ المجتمعات سوى صراع طبقي). إلا أن داهرندورف يعتقد بأن الصراع الدائر في وقتنا الحالي ليس صراعاً طبقياً بين طبقة البروليتاريا وطبقة مالكي وسائل الإنتاج كما اعتقد ماركس، حيث أخذ مفهوم الصراع الاجتماعي منحى آخر بناءً على أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته والتغيرات التي لحقت بالمجتمع ما بعد الرأسمالي. من هذا المنطلق يهدف المقال إلى تسليط الضوء على نظرية الصراع الاجتماعي عند رالف داهرندورف من خلال تناول بالدراسة والبحث العناصر التالية:
أولاً – من هو رالف داهرندورف (1929- 2009)؟ هو عالِم اجتماع ألماني – بريطاني، فيلسوف، سياسي، وليبرالي، كان خبيراً بارزاً في شرح وتحليل الانقسامات الطبقية في المجتمع المعاصر. درس الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، وهو من أبرز منظّري الصراع الاجتماعي المعاصر الذين اهتموا بدراسة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع، كما اهتموا بدراسة ومراجعة ونقد النظرية الماركسية في تفسير الصراع الطبقي، وكان نتاجه الفكري ينصب على أربعة موضوعات أساسية: (الطبقة ونظرية الصراع، نظرية الدور، المجتمع والديمقراطية، التحديث كعملية). أما عن منهجيته ( أي زاوية اقترابه من الواقع الاجتماعي) فهي مزيج من أفكار ماركس وفيبر. من أهم مؤلفاته:
– بعيداً عن اليوتوبيا: نحو إعادة توجيه التحليل السوسيولوجي 1958.
– الصراع الطبقي في المجتمع الصناعي 1959.
– مقالات عن نظرية المجتمع 1968.
– فرص الحياة 1979 وهو آخر كتاب له.
أما فيما يتعلق بحياته السياسية والمهنية، كان عضواً في البرلمان الألماني، ووزير الدولة البرلماني في وزارة الخارجية الألمانية، والمفوض الأوروبي للتجارة، والمفوض الأوروبي للبحوث والعلوم والتعليم، وعضو مجلس اللوردات البريطاني، وعُرف لاحقاً في المملكة المتحدة باسم اللورد داهرندورف.
لقد تأثر داهرندورف كثيراً بالأفكار والمبادئ التي جاء بها ماركس سواءً الاجتماعية منها أو الاقتصادية، وبالأخص التي تتحدث عن الطبقات والصراع الطبقي، ومع ذلك فتأثره لم يكن كلياً وإنما بدرجة نسبية، ويظهر ذلك في عدم اتفاقه معه على أن الصراع ليس محصوراً بين العمال ومالكي وسائل الإنتاج فقط، وإنما هناك أنواع أخرى من الصراع من بينها الذي يحدث بين ذوي البشرة البيضاء والبشرة السوداء (الصراع القائم على التمييز العنصري)، وأيضاً بين الآباء والأبناء داخل الحياة الأسرية (الصراع الأسري)، وبين المدرسين والطلاب في المدارس والجامعات (الصراع المعرفي)… وغيرها. كما يرى أن بعض أفكاره لم تعد تتلاءم مع طبيعة المجتمعات المعاصرة التي عرفت تطوراً كبيراً مقارنة بالوقت الذي كتب فيه ماركس نظريته عن الصراع الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، لم تعد الطبقة العاملة (البروليتاريا) ذات التوجه الواحد والأهداف الواحدة، بل أصبحت هناك مصالح مختلفة ومكانات متعددة لأفراد الطبقة الواحدة، كما أن نظام الملكية لم يعد كما كان في السابق، بل أصبح هناك انفصال للملكية عن الإدارة، وأُخرج الملاك من عملية الإنتاج وبالتالي القضاء على سلطتهم الاستغلالية، وهذا ما سمح بتحسن ظروف الطبقة العاملة الاقتصادية وارتفاع مكانتهم الاجتماعية. إلا أن هذا ليس معناه أن الصراع لم يعد موجوداً أو ليس له قيمة، بل على العكس، فالواقع يثبت أن الصراع الاجتماعي لم يغب يوماً عن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بل أخذ ممارسات ومظاهر مختلفة.
ثانياً- رؤية داهرندورف لمفهوم الصراع الاجتماعي: ينظر مفكرو مدرسة الصراع على العكس من تشديد الوظيفيين على الاستقرار والإجماع الى العالم على أنه في حالة صراع متواصل، ويفترضون أن السلوك الاجتماعي يحسن فهمه في سياق الصراع أو التوتر بين الجماعات المتنافسة، وليس من الضروري أن يكون هذا الصراع عنيفاً إذ يمكنه أن يأخذ شكل المفاوضات العمالية والسياسات الحزبية والتنافس بين الجماعات الدينية والاثنية. وامتداداً لأعمال ماركس بدأ علماء الاجتماع المعاصرون ينظرون الى الصراع لا على أنه مجرد ظاهرة طبقية فحسب، ولكنه جزء من الحياة اليومية في جميع المجتمعات ومن بين هؤلاء العلماء رالف داهرندورف. ومن أهم التصورات الأساسية التي يقوم عليها اتجاه الصراع الاجتماعي عموماً في علم الاجتماع في الجوانب والنقاط التالية
– المصالح هي عناصر هامة للحياة الاجتماعية, وخاصة المصالح الطبقية.
– توجد وتتكون الحياة الاجتماعية من جماعات ذات مصالح مختلفة ومتناقضة ومتصارعة.
– تولد الحياة الاجتماعية بطبيعتها الصراع.
– تتضمن التباينات الاجتماعية أشكالاً مختلفة من القوة.
– الأنساق والنظم الاجتماعية ليست متحدة أو منسجمة.
– تميل الأنساق والنظم الاجتماعية للتغير والتبدل.
– الصراع الاجتماعي هو أداة الطبقة المستغلة لتأكيد ذاتها وحقوقها وتحريرها من الطبقة المستغلة.
يعتقد رالف داهرندورف أن الصراع الاجتماعي يحدث نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والاجماع في محيط اجتماعي معين. ويحدث أيضاً نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية أو كليهما معاً. أما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة أو كبيرة كالعشائر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والأمم.
ينطلق داهرندورف في نظريته للمجتمع من نقده للبنائية الوظيفية والنظرية الماركسية معاً، ويعتبرها نظريات مجتمع اليوتوبيا. ويرى ضرورة الخروج عن هذا التحليل الطوباوي الذي ينظر للمجتمع نظرة مثالية مطلقة بحيث كل المؤسسات متضامنة، إلا أنه استخدم نفس أدوات التحليل لكلا النظريتين وحلل بنظرية التكامل ونظرية القهر.
ترى نظرية التكامل أن كل المجتمع متواصل إلى درجة ما وثابت من حيث بناء عناصره المتكاملة، ولكل عنصر وظيفة خاصة بحيث يسهم في دوام المجتمع كنسق، ويعتمد كل بناء اجتماعي وظيفي على نوع من الوفاق بين أعضاءه، وعلى العكس من هذه الأفكار تركز نظرية القهر على أن كل مجتمع عبارة عن موضوع عمليات التغير بوجهة أو بأخرى، والتغير الاجتماعي هذا كل الوجود، ويصور كل مجتمع في كل فترة نوعاً من النزاع أو الصراع ويسهم كل عنصر في عدم تكامل النسق، كما أن كل بناء اجتماعي على وفاق القيم، وإنما يعتمد على قهر بعضها البعض، وقد رأى داهرندورف أن كلتا النظريتين هامتين لفهم المجتمع في اجتماعهما.
من خلال هذا الدمج اقترح داهرندورف نموذجاً للصراع الاجتماعي بدل من النموذج اليوتوبي، حيث حاول أن يضفي نوعاً من الموضوعية على نظريته فاعترف بالصراع كظاهرة اجتماعية طبيعية في كل المجتمعات يمكن أن تكون له وظائف إيجابية تدفع نحو التغير، فهو لا يتصور وجود المجتمع في ضوء مفاهيم التنسيق الوظيفي والتكامل والتناسق والتوازن والتضامن، كما لا يتصور وجود المجتمع في ضوء الصراع الطبقي ذو المضمون الاقتصادي المادي كما زعم ماركس، وإنما ينادي بضرورة إعادة توجيه علم الاجتماع نحو مشكلات التغير والصراع والقهر التي ينطوي عليها البناء الاجتماعي.
حاول داهرندورف في كتابه “الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي” عام 1959 أن يفحص مدى فائدة التحليل الاجتماعي الذي قدمه ماركس في دراسته للمجتمع الرأسمالي إذ ذهب إلى أن: ” هذا التحليل يحتاج إلى تعديل عندما يطبقه على المجتمع الصناعي الحديث أو المجتمع ما بعد الرأسمالي، ويرجع ذلك الى أن البناء الاجتماعي لهذا المجتمع قد شهد تغيرات ملحوظة منذ أعمال ماركس مثل: تطور الشركات الصناعية والتجارية ونتيجة للتقدم التكنولوجي، تغير أوضاع العمال في الشركات الصناعية، واختلاف معدلات العمال المهرة وغير المهرة، تطور مفهوم الطبقة الوسطى التي أصبحت تضم ذوي الياقات البيضاء والزرقاء، ارتفاع معدلات الحراك الاجتماعي وبخاصة بين الأجيال…“.
ويوضح داهرندورف في تحليله للمجتمع الصناعي الحديث أن الصراع في المجتمع ما بعد الرأسمالي سوف يصبح صراعاً منظماً ويتم بصورة نمطية يمكن التنبؤ به والتحكم أو السيطرة عليه إذا خضع لقواعد محددة ومعروفة. فالصراع يتم ويقع في المحيط السياسي وليس في الميدان الاقتصادي ومن علاقات الملكية لوسائل الإنتاج إلى علاقات السلطة، ومن تعارض المصالح الى استمرار الصراع، ومن الصراع كوسيلة ضرورية للتغير إلى البحث في وظائف الصراع في الكل الاجتماعي.
خلاصة القول، ليس من الضروري أن يكون هذا الصراع الاجتماعي عنيفاً كما هو التنظير الكلاسيكي، إذ يمكنه أن يأخذ شكل المفاوضات العمالية والسياسات الحزبية والتنافس بين الجماعات الدينية والاثنية. وامتداداً لأعمال ماركس بدأ علماء الاجتماع المعاصرون ينظرون إلى الصراع لا على أنه مجرد ظاهرة طبقية فحسب، ولكنه جزء من الحياة اليومية في جميع المجتمعات ومن بين هؤلاء العلماء رالف داهرندورف، راندال كولينز، لويس كوزر.
ثالثاً- أسس المجتمع ما بعد الرأسمالي: يرى داهرندورف أنه بالرغم من التغيرات والتحديثات التي طرأت على النظام الرأسمالي، والطبقة الرأسمالية، وظهور المجتمع ما بعد الرأسمالي، ونمو الطبقة الوسطى، إلا أن كنظام محافظ على قوته ومحكاً لسيطرته على مصادر الثروة والقوة وأمور الحكم في المجتمع، ويظهر ذلك من خلال وجود حاكم ومحكوم وآمر ومأمور داخل المجتمع، فكما هو معروف أينما وجدت القوة والسيطرة وُجد الخضوع والاستغلال. إن هذه السيطرة والقهر هو ما يجعل من التنظيمات الاجتماعية متسقة، كما أنه هو أيضاً الذي يدفع إلى التمرد والتغيير الاجتماعي لإعادة تقسيم القوة وتمركز السلطة، فالصراع دائماً ما ينشأ بين مواقع السيطرة ومواقع الخضوع. وعليه فالصراع في المجتمع الصناعي يتولد من علاقات السلطة لا من علاقات الإنتاج كما قال ماركس. فإذا كان الصراع عند ماركس اقتصادياً مادياً، فإنه عند داهرندورف سياسي بدرجة أكثر. استناداً إلى الرؤية السابقة يحدد داهرندورف أسس المجتمع الرأسمالي الذي يسميه ” مجتمع ما بعد الرأسمالي” في النقاط التالية:
1- يغير كل مجتمع من قيمه ونظمه باستمرار، وقد يكون هذا التغير سريعاً أو تدريجياً عنيفاً أو منظماً شاملاً أو محدوداً، ولكن لا يمكن أن يغيب عن الذهن أبداً أن الأفراد يخلقون تنظيمات ليعيشوا في إطارها سوياً متعاونين، وهي حالة التوازن والنظام.
2- يجب إعادة صياغة المقولات الاجتماعية لتخرج من عالم اليوتوبيا إلى نموذج الصراع، الذي له كفاءة امبيريقية تتمثل في قدرته الكبيرة على دراسة التغير، فالصراع هو القوة الخلاقة التي تصاحب التغير.
3- يتمسك داهرندورف بنموذج الصراع والتوازن، فالمجتمع له وجهان متوازيان: الأول يكشف عن الاستقرار والتآلف والاتفاق العام “التوازن” والوجه الثاني يكشف عن التغير والتحول “الصراع” ومن هنا ليس بمقدورنا – حسب داهرندورف – فهم الواقع بشكل حقيقي إلا إذا وضعنا أيدينا على التفاعل الجدلي بين الثبات والتغير والصراع.
4- لم تعد النظرية الماركسية في الصراع الطبقي تتلاءم مع بناء المجتمعات الصناعية الحديثة، فقد تغير هذا البناء الاجتماعي الرأسمالي عن الوقت الذي كتب فيه ماركس أطروحته.
ومن أهم مظاهر هذا التغير في رأي داهرندورف انفصال الملكية عن الإدارة إضافةً إلى تفتت وحدة الطبقة العاملة فلم يعد كل أفراد البروليتاريا يشغلون مكانة واحدة في المجتمع وهنا يركز داهرندورف على مصطلح “ أشباه الجماعات ” بدلاً من ” الطبقات “. ويرى بأن توجهات هذه الجماعات تحدد من خلال حيازة السلطة والاستبعاد منها، وبكلمة واحدة أينما وجدت السلطة فسوف يناضل الناس من أجلها. كما أدى نمو الطبقة الوسطى الجديدة وتطورها من خلال تجمع كبير ونامٍ لمجموعات متباينة أسهمت عملية التصنيع في المجتمع على تكوينها واتساع نطاقها وهي تمثل فئة أكثر مما تعبر عن فكرة الطبقة وذلك في ضوء استخدام ماركس لهذا المفهوم وهي تتكون من العاملين ذوي الياقات البيضاء من أمثال المعلمين والمحاسبين. ومن مظاهر هذه التغيرات أيضاً زيادة فرصة الحراك الاجتماعي والدليل على ذلك الحراك الذي حدث ما بين الأجيال وبين المهن وزادت مسألة التبعية الذاتية حيث يتبع الابن مهنة والده بالأخص في المهن العليا (الطب، السلك الدبلوماسي،…). بالإضافة إلى ذلك استخلص داهرندورف نمو المساواة، حيث إنه يمكن تمييز المجتمع على نحو صحيح في ضوء الصراع بين جماعات المصلحة المتنافسة وقد تصبح الصراعات في مجتمع ما بعد الرأسمالي تنمو على نحو منظم ونمطي ويمكن التنبؤ بها والتحكم فيها، ويشير داهرندورف في ذلك إلى عدم قدرة النظرية الماركسية على تفسير الواقع لأنها تربط ما بين القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبين ملكية وسائل الإنتاج بطريقة فجة، حيث تلعب المتغيرات الاقتصادية العامل الوحيد في عملية الصراع الاجتماعي، وهذا ما جعل داهرندورف يحدد الطبقات الاجتماعية على أنها فئات منظمة أو غير منظمة من الناس يشتركون في مصالح ظاهرة أو كامنة تنشأ عن أوضاعهم في أبنية السلطة التي يجدون فيها أنفسهم ولهذا يعتبر الصراع الطبقي في رأيه مجرد أي صراع بين الجماعات ينشأ عن علاقات السلطة، وزعم داهرندورف أن معظم الناس في المجتمع ليس بالضرورة أن تكون لديهم الرغبة في الانخراط في صراع صناعي، واقتصادي، واجتماعي، وسياسي الذي ينشأ عن مصدر بنائي واحد كما هو الحال في علاقات الملكية (التفاوت الطبقي). وبدلاً من ذلك، أوجدت التغيرات (المذكورة أعلاه) في مجتمع ما بعد الرأسمالي الأساس الذي سوف يستند إليه الوعي الجمعي لجماعات المصلحة، وكذلك المتغيرات التي سوف تحدث من خلالها عملية الصراع الاجتماعي.
وهكذا نجد أن النموذج الذي قدمه داهرندورف يجمع بين عناصر التوازن والاستقرار، وعناصر الصراع والتغير. وبذلك نجده اهتم بالصراع الاجتماعي الذي أهمله أصحاب النظام، وقَبِل بالشكل العام كما تصوره ماركس، ولكنه في الوقت ذاته رفض مضمونه ليقدم مضموناً جديداً استبدل فيه الحتمية الاقتصادية بالحتمية السياسية.
رابعاً- مقولات نظرية الصراع الاجتماعي عند داهرندورف: اهتم داهرندورف بحقيقة مؤداها أن الأبنية الاجتماعية قادرة على أن تنتج من نفسها العناصر التي تديرها أو العناصر التي تغيرها، وتبعاً لذلك حاول تحديد الجماعات والعمليات التي تدخل في أحداث هذه الظاهرة تحديداً نظرياً، وتحليلاً تجريبياً (إمبيريقياً)، وقد حاول أن يصيغ نظرية عامة عن الصراع الاجتماعي مستفيداً من نظرية التكامل ونظرية القهر. وتنحصر تلك المقولات فيما يلي:
– المصالح هي العناصر الأساسية للحياة الاجتماعية.
– تتضمن الحياة الاجتماعية القهر والإغراء والاقناع.
– الحياة الاجتماعية انقسامية بالضرورة.
– الحياة الاجتماعية تولد التعارض والتناقض.
– الحياة الاجتماعية تولد مصالح تتباين في القطاعات المختلفة.
– يتضمن التباين الاجتماعي وجود سلطة.
– الأنساق الاجتماعية مفككة ومملوءة بالتناقضات.
– تتجه الأنساق الاجتماعية إلى التغير (كل مجتمع يظل عرضة بصفة دائمة إلى عملية التغير).
– كل مجتمع هو صيغة من العناصر المستمرة نسبياً.
– كل مجتمع هو صيغة متكاملة من العناصر.
– يسهم كل عنصر من عناصر المجتمع في أداء وظائفه.
– يقوم كل مجتمع على أساس الاتفاق بين أعضاءه.
إذن في ظل هذه الرؤية فإنه من المحال أن يبقى المجتمع جامداً لا يتحرك. لذلك حسب داهرندورف فالنظرية السوسيولوجية ينبغي أن تنقسم إلى قسمين:
– نظرية الصراع: وهذه النظرية تهتم بدراسة صراعات المصالح وأشكال القهر التي تحافظ على سلامة المجتمع.
– نظرية الوفاق: وهذه تركز على دراسة الدمج في المجتمع مثل النظرية الوظيفية البنائية.
وهكذا يعترف داهرندورف أن المجتمع لا يمكن أن يوجد بدون وجود الصراع والوفاق معاً واللذين يكملان بعضهما البعض. ولأن الصراع يحدث في المجتمع الذي يسوده الاتفاق في جميع أجزائه، فإن الصراع أيضاً يحدث طالما يولد الحاجة إلى الوفاق. لذلك ينبغي بناء النظرية السوسيولوجية على مبدأين: (مبدأ الصراع، مبدأ الوفاق) هذا يعني حسب النظرية الصراعية أن لن يكون هناك وجود لأي مجتمع بدون حضور المبدأين الضروريين لبعضهما البعض. فالمجتمع الذي يسوده الاتفاق بين أجزائه يحدث فيه صراع بين أجزائه والعكس صحيح، فالصراع يؤدي إلى الاتفاق فيما بين أجزائه مثل الأسرة.
خامساً- آلية حدوث الصراع الاجتماعي عند داهرندورف: ينطلق داهرندورف في فهمه لمفهوم الصراع الاجتماعي من مفهوم السلطة الذي يعني احتمال طاعة أشخاص معينين لقائد جماعة معينة، فشير إلى أن المجتمع في الغالب يتألف من جماعتين متضادتين إحداها مسيطرة وأخرى خاضعة يحدث عادةً صراع بينهما نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول كيفية تقسيم الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية. وأيضاً لوجود “ما يسمى بـ ” الرموز الثقافية ” وهو نوع من الأسباب التي تؤدي إلى انسجام بين البشر أو إلى خصام، والخصام في هذا السياق قد يتجلى في الاختلاف على مفهوم السلطة المادية. فمن له الحق السلطة وتملكها ؟ ولماذا؟ هو سؤال يسمح بنشوب صراع. أما من وجهة نظر ماركسية فإن قضية العدالة الاجتماعية تعد متغيراً بنيوياً في إثارة الصراعات الاجتماعية طالما أن هناك توزيع غير عادل للثروة. بمعنى آخر، سعىداهرندورف إلى بناء رؤيته لمفهوم الصراع على أساس نظرية القهر التي تفترض وجود التغير الاجتماعي والصراع الاجتماعي والقهر، (ومساهمة كل عنصر في المجتمع في تفككه وتغيره). وتعتبر هذه الافتراضات هي أسس الصراع الاجتماعي.
وباعتراف داهرندورف بهذا التوصيف عن الحقيقة الاجتماعية، يرى أن الاتحادات مجبرة على التعاون إذ أن تعاونها يحدث تحت وطأة الأوامر. وهو يعني بذلك أن أعضاء هذه الاتحادات يشكلون منظمات رسمية ومن ثم فهم خاضعون لعلاقات السلطة. والعوامل الفاعلة في بناء هذه الاتحادات هي تجمعات من المراكز (السيادة والخضوع). وهو يعني بذلك أن جماعة تملك السلطة فهي تأمر وجماعة أخرى لا تملك سلطة فهي مأمورة وبالتالي (مقهورة).
ويرى داهرندورف أن كل تجمع من هذه التجمعات يمتلك مصالح كامنة مشتركة، بمعنى أن كل جماعة لديها توجيهات لا شعورية منغرسة في أوضاع اجتماعية معينة والتي تمثل الأسس لشبه جماعات (أي جماعات غير منظمة يشارك أعضاؤها في مصالح مشتركة كامنة). وهذه المصالح الكامنة قد تفصح عن نفسها في شكل مصالح ظاهرة، بمعنى تحوّل المصالح اللاشعورية إلى اتجاهات واعية شعورية، والتي تتعارض مع مصالح الاتحادات الأخرى، ومن تصبح شبه الجماعات طبقات اجتماعية.
ويعني داهرندورف أن الاتحادات تشترك في مصالح ظاهرة وكامنة ولها علاقة ببناء السلطة في الاتحادات المتعاونة بالأمر. وإن الإفصاح عن المصالح يعتمد على وجود عدد من العوامل المعينة: ظروف التنظيم، والظروف الفنية ويعني بها هيئة التنظيم وإجراءات التنظيم. والظروف السياسية ويعني بها الحرية والتحزب أو التعصب، والظروف الاجتماعية ويعني بها اندماج أدوار المصالح – أي مدى تشرب أعضاء الجماعة لأدوارها. كما أن وجود الظروف السابقة يتوقف عليه كثافة و حدّة الصراع الطبقي الناتج، ويعني مدى اكتمال وجودها أو أنها ما زالت في طور التكوين، ويعني المدى الذي فيه صراع الطبقات والجماعات قد ظهر على السطح. ومدى توزيع السلطة والمكافآت، ومدى انفتاح النسق الطبقي.
ويتوقف انفجار الصراع الطبقي وعنفه على مدى تواجد الظروف (التنظيم، الفنية، السياسية، الاجتماعية والنفسية)، وإلى مدى تحول الحرمان المطلق للحرمان النسبي ويعني بها تحرر أعضاء الجماعة أو الطبقة من الإذعان والخضوع المطلق وتحولهم الى خضوع نسبي، وكذلك يتوقف الانفجار والعنف على المدى الذي وصل إليه ترتيب وتنظيم الصراع.
وهكذا يمكن القول إن داهرندورف أخذ بنظرية القهر، واعتبر أن جماعات المجتمع تتعاون ويتم بناؤها مجبرة على ذلك بواسطة المصالح الكامنة. وتحت ظل ظروف اجتماعية معينة تفصح هذه المصالح الكامنة عن نفسها في شكل مصالح ظاهرة تتعارض هذه المصالح بعضها مع البعض الآخر مما يؤدي إلى الصراع الطبقي، ويتوقف كل ذلك على كثافة وعنف هذا الصراع على ظروف موقفيه معينة. وبما أن المجتمع ما هو إلا عبارة عن مجموعة من الاتحادات المتنافسة والمتعاونة إجبارياً والتي تبنيها المصالح ويحيط بها ظروف اجتماعية. فإن مثل هذا المجتمع يصبح مجهزاً بمنبع للديناميكية والتغير الاجتماعي المستمر.
ويلاحظ أن محاولة داهرندورف لتركيب أفكار كل من ماركس وفيبر تعتبر وصلة هامة بين نظريات الصراع ونظريات السلوكيين الاجتماعيين، وخاصة أنها أيضاً تتعامل مع مواضيع التناقض بين هاتين النظريتين. ولقد حاول في نظريته تفسير ضرورة ولا ضرورة الصراع الطبقي، وانبعاث وعدم انبعاث الصراع الطبقي، وتلك كانت دراسة محكمة توضح مدى تعقد الصراع في المجتمع الصناعي.
الشكل رقم (1) يبين آلية عمل الصراع الاجتماعي عند داهرندورف بين الجماعة المسيطرة والجماعة الخاضعة لها
وفي النهاية نجد أن الصراع سمة مميزة للحياة الاجتماعية، يحدث نتيجة تعارض المصالح بين طرفين أو أكثر، كما أنه يتخذ أشكالاً مختلفة، بحيث إننا نجد الصراع الطبقي عند كارل ماركس الذي يعتبر في جوهره صراع بين من يملكون وسائل الإنتاج وبين من لا يملكونها. ولمعرفة النتائج والاتجاه الذي سينتهي إليه والعلاقات الجديدة التي ستنشأ من جرائه، يكفي اكتشاف العلاقات والقوانين التي تتحكم فيه، وهذا ما تسعى الماركسية للوصول إليه. لقد ركز رالف داهرندورف في رؤيته لمفهوم الصراع باعتباره حالة مستمرة ومتواصلة بين الطبقات والأفراد التي ستؤدي لا محالة إلى حالة دائمة من التغيير الاجتماعي، إلا أن هذا لا يمنع وجود فترات يسود فيها نوع من الوئام والوفاق التي تضمن بعض الاستقرار الاجتماعي. فإذا سلمنا بوجود مجتمع دائم الثبات والاستقرار، فإننا نقع في اليوتوبيا. وأيضاً وجود مجتمع دائم الصراع والتغير معناه مجتمع متهالك ومحطم وفاقد للقيم.
خلاصة القول، قدم داهرندورف تفسيراً للعلاقة الوثيقة والمستمرة بين القوة، والسلطة، والصراع، كما سعى إلى تقديم نظرية متماسكة حول تشكل جماعة الصراع، والتي تعطينا نقطة بدء جيدة لإيضاح أهداف الناس وتحديد التعارضات المحتملة. ويصف داهرندورف عدداً من العوامل الهامة التي تخلق أيضاً جماعات الصراع المتحرك وتكثف الصراع وتجعله شديداً، أو بشكل مماثل، تقود إلى اختزال الصراع الاجتماعي. وعلى الرغم من ذلك، فإن نظريته حول حراك جماعة الصراع تفشل في إيضاح ما يجعل الناس مدركين لأنفسهم كجماعة لها مصالح عامة ومظالم عامة، إن الانتقال الحاسم مما وصفه ماركس ” طبقة في ذاتها ” إلى ” طبقة من أجل ذاتها ” مسار جدل بين منظري الصراع، وحتى منظري الاختيار العقلاني حول صياغة آلية هذا الانتقال، ولا يوجد مُنظر حتى الآن يقدم إجابة مقنعة تامة، ربما لأن متغيرات سوسيولوجية ومتغيرات سيكولوجية قصيرة المدى وبعيدة المدى تنخرط في هذه العملية. كما تنحصر الانتقادات الموجهة لنظرية داهرندورف بشكل أساسي بأن تعاريفه لمفاهيمه الرئيسية المتعلقة بالطبقة والصراع غير واضحة، باعتراف داهرندورف هو نفسه الذي يرى بأن نظريته في الصراع وأن كانت حديثة إلا أنها غير كاملة وتحتاج إلى مزيد من التطبيقات والتدقيق.
________
– المراجع المعتمدة:
1- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.
2- محمد عبد الكريم الحوراني: تأويل الاستغلال في نظرية علم الاجتماع – العناصر التكميلية لنظرية سوسيولوجية في الاستغلال، مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2010- 2011.
3- علي ليلة: النظرية الاجتماعية الحديثة (الأنساق الكلاسيكية)، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الثالث، بدون تاريخ.
5- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008.
6- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.
7- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999.
8- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978.
9- إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة تحليلية في النظرية الاجتماعية المعاصرة، دار وائل للنشر، عمان، ط3، 2015.
10- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.
11- فيصل زيات، محمد مخطار ديدويش: نظرية الصراع الاجتماعي (من منطق كارل ماركس إلى منطق داهرندورف)، مجلة دراسات في علوم الإنسان والمجتمع، جامعة جيجل، الجزائر، المجلد: 02، العدد: 01، مارس 2019.
12- إبراهيم عيسى عثمان: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2008.
__________
**د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.