بلاد العرب؛ قراءة في المعالم الكبرى للحاضر والمستقبل

image_pdf

أخبركم أن أول مؤتمر قمة عربية عقد بجامعة الدول العربية كان بمدينة الإسكندرية عروس البحر المتوسط في الثامن والعشرين من مايو سنة 1946، أما المؤتمر القادم ولعله ليس الأخير سيعقد بالمملكة العربية السعودية في نفس الشهر الذي احتضن القمة العربية الأولى، وكأننا ضربنا موعدا دائما مع آيار بتفاصيله العربية غير السعيدة. ولقد عرف المواطن العربي من خلال شاشات الفضائيات الضاربة في الانتشار بقوة وهوس مستغلة شغف العربي بولع الفرجة أن هناك مؤتمرا عربيا موسعا يعقد في المملكة العربية السعودية، والجدير بالذكر والدهشة والعجب وقل ما شئت من مفردات تضيق بها معاجم المفردات أنك تطالع خبرا يكاد يكون متشابها حد التطابق والتماثل دون اختلاف بكافة وسائط الإعلام مفاده أن الاجتماعات التحضيرية للقمة العربية في دورتها العادية الثانية والثلاثين على مستوى الوزراء والمندوبين في مدينة جدة، قد انعقدت؛ لمناقشة أهم القضايا التي سيطرحها القادة في اجتماعهم المقرر يوم الجمعة ١٩ مايو الحالي بالعاصمة السعودية الرياض.

واكتفى هذا العربي بأن يراقب من بعيد وهو يقضي حوائج أسرته اليومية المكرورة بعضا من وجوه الحكام والملوك والرؤساء العرب في أثناء إلقاء بياناتهم السياسية التي بدت أكثر اعتيادا على أسماع هذا المواطن العربي الذي وُصف بعناية من قبل في أشعار الفلسطيني محمود درويش والشاعر الرافض الثائر أحمد مطر وأخيرا الشاعر السوري أدونيس.

هذا العربي الذي وجد نفسه حائرا، بل أكثر حيرة وهو يطالع أنباء انعقاد قمة عربية جديدة وسط مشاهدات لا تستدعي الصمت المستدام أحد سمات العربي القديم ؛ اقتتال العسكر بالسودان الشقيق وسط تكهنات بأن نظرية المؤامرة الأمريكية هي الدافع الأول المطلق لهذا الاقتتال، ناهيك عن مزاعم تبدو صادقة بعض الشئ عن الرائحة الصهيونية في المشهد وربما تداعيات تتعلق بمياه النيل أيضا، وأن ثمة تحركات صهيونية خفية بصدد القيام ببعض الممارسات غير المشروعة لتحويل مجرى النيل منعا لوصوله أو عرقلته للشمال، ثمة ظنون قد تبدو صادقة بعد حين.

كذلك، وهو ما سيتم عرضه في سطور لاحقة المشهد الصهيوني في قطاع غزة المكلوم، وسط تنديد وشجب واعتراض معنوي وصمت عسكري عربي وامتعاض مستمر وقت القتل الممنهج بشأن المواطنين الفلسطينيين بغزة وببقاع أخرى بفلسطين، تلك القضية عصية الحل، مجهولة النهايات !.

أما عن المشهد اليمني، فتكفي تصريحات مدير ونائب مدير منظمة الصحة العالمية أو أمين ونائب الأمين لها وإن كنت لا أجد هوى في استخدام كلمة أمين، فصورة اليمن السعيد كما كنا نعرفها بهذا الوصف والتوصيف أصبحت الأكثر قتامة وسوادا وحلكة، ولا أظن وغيري كُثُر أن المشهد اليمني سيتغير لمدة عقد قادم وإن كنت أتمنى نفي ظني الخائب.

وربما نحمد الله على ثمة مكتسبات تمت من خلال هذه القمة العادية جدا، مثل التقارب السوري العربي وعودة المياه إلى مجاريها كما في المثل المصري السائر وهي عودة طبيعية وفطرية كان ينبغي عودتها منذ فترة لولا تدخل الكثير من الفرقاء والمتهوكين وبعض مرضى السياسة لكن العودة محمودة بإذن الله. ونحمد الله مجددا أن القمة ستمر طوعا بغير خسائر لفظية او تراشق كلماتي ومعلوماتي باستثناء سياسة التلميح والتصريح التي ستمارس بشأن الشهود الإيراني بالمنطقة العربية، والعودة غير المشروطة للتطبيع الاقتصادي التجاري مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وإذا كان قدِّر لمدينة الرياض الجميلة التي قضيت بها سنوات باتت بالذاكرة علامات ومحطات مضيئة بالفعل استضافة القمة العربية التي لا يعتبرها كبار المحللين السياسيين أنها طارئة رغم الموقف الطارئ دوما في غزة وما يرتكبه الكيان الصهيوني الغاشم بحق أهل فلسطين، أو مثل قمم العرب المنصرمة التي لا يمكن اعتبارها طارئة لاسيما وأن تفاصيل الاجتماعات العربية في أوقات الحسم والحزم وصناعة القرار السياسي وتنفيذه إما اقتصاديا أو عسكريا لم يكن ضمن أجندة نتائج أية قمة عربية.

نضرب أمثلة تبدو بديهية؛ إعلان الحرب على إسرائيل في السادس من أكتوبر لم يكن ضمن أجندة اجتماعات معلنة تمثل قوة عربية حقيقية دون مساعدة مستترة تم الإعلان عنها عقب الانتصار العسكري القوي الذي حققته القوات المسلحة المصرية، تماما يعكس هذا التوجس العربي الأكثر صمتا وقت التدخل العسكري المباشر في الاعتداء الصهيوني على لبنان كذلك حينما قرر الرئيس العراقي صدام حسين احتلال دولة الكويت ومن ثم تحريرها طوعا أم كرها بأيادٍ ليست عربية خالصة بل بمساعدة أمريكية انتهت بتقويض الجمهورية العراقية نهائيا حتى إشعار آخر، كذلك تسليم العراق الذي بدا قويا في استعلائه الثقافي والحضاري والعسكري أيضا إلى حفنة من المرتزقة والكيانات السياسية والتيارات الدينية المتصارعة.

جاءت قمة الرياض في وقت يستدعي تناول قضايا أكثر خطورة تمس الكيان العربي الذي لا يزال منذ عام 2004 يعيش في فوضى الأيديولوجيات وصراع الحكومات دونما توقف، وصولا إلى النجاح النسبي للخطة الأمريكية المعروفة إعلاميا بالفوضى الخلاقة وفي كتب التأريخ المعاصر بثورات الربيع العربي، وكلتاهما الخطة والثورات هي مؤامرة لم تحتاج إلى تستر أو التواري خلف أقنعة مزيفة بل جاءت مزاعم الربيع العربي الذي يمكن توصيفه بخريف الأنظمة العربية الحاكمة التي شارفت بغير تظاهرات على نهايتها بحكم طول بقائها وفقدان السيطرة على الوعي الجمعي أو محاولة السعي في إعادة تشكيله وتسييسه.

على كل حال، ستبدأ وتنتهي القمة العربية وسط استشراف لبداياتها ونهاياتها المتوقعة أيضا؛ لأن كافة المشاهد تفي بوضوح إلى عدم الترقب للبيانات السياسية العربية التي بدت معروفة للرائي، يكفي أن تعرف تصاعد التهديدات الصهيونية المكرورة والمستدامة واستباحة كافة الأراضي الفلسطينية هي مجرد أخبار عادية جدا،  لكن من العجب أن تستقبل الدول العربية هذه الأنباء والأخبار والمشاهد ومقاطع الفيديو عن مجازر المقصلة الصهيونية المستمرة في فلسطين وقت انعقاد القمة، وربما يرى البعض أو الكثير أيضا فلا فرق أنه لا ارتباط بين القمة العربية والمشهد الصهيوفلسطيني، لكن عند تحليل المشهد نستشرف أن الوطن العربي لم يرتب أوراقه جيدا للحدث العربي المكرور والمعتاد المعروف نهاياته كذلك.

تنعقد القمة العادية جدا ولا يزال العراق المضطرب سياسيا وأمنيا لا يجد حلا عربيا واضحا وصريحا لمشكلاته الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، فالعراق ربما منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين وهي تعاني التعري الأمني والضياع الأيديولوجي في ظل ترقب مستدام من تنظيم الدولة ( داعش) لاقتناص مقاليد الحكم والسيطرة، ناهيك عن الصراع السني الشيعي وإن بدا بعض الشئ في هدوء نسبي نتيجة عوامل عدة منها سعي الأكراد لتحقيق مكاسب أكبر والاستقلال الذي سيتحقق عما قريب، وربما اعتاد المواطن العربي من نواكشوط إلى الخليج أن يقرأ ويسمع ويرى انتخابات مستمرة بالعراق للدرجة التي يجوز لنا التهكم المحمود بأنه ستجرى انتخابات موازية للأسرة داخل البيوت العراقية.

مشهد اليمن أيضا الذي يبدو تائها تماما عن القمة العربية بالرياض هو مدعاة للحسرة، في ظل معاناة شعب كان سعيدا بأرضه يوما ما وكأن البلدان العربية على موعد مع الكسل السياسي ذي العلاقة المشتركة مع الصحة والحالة الاجتماعية، فلم أكن أتوقع مساندة اقتصادية أو سياسية لليمن الذي ظل سعيدا لعقود بعيدة بل على الأقل أجد تدخل طبيا قويا ومباشرا هناك، أما بشأن قصة الحوثيين بالنظام السياسي القائم فلا جديد ولا نتوقع جديدا من الدول العربية التي أنهت قمتها بمزيد من الصمت المطبق تجاه أزمة اليمن.

أما لبنان المرتبطة بالجسد العربي، نظن الآن إلى حد اليقين أن علاقتنا بها صوت فيروز وماجدة الرومي ومحمد علي شمس الدين والأخوين رحباني فقط، لأن المشهد اللبناني الداخلي يوحي بصورة كاشفة إلى أنها الدولة الثالثة الأكثر فقرا في التصنيف العالمي لاسيما وأن نصف الشعب اليوم أصبح من الفقراء حسب الإحصائيات الاقتصادية العالمية، لكن ربما حضور اهتمام كأس العالم لكرة القدم بقوة على طاولة الاجتماعات العربية جعلت من الحالة الاقتصادية اللبنانية نوعا من العبث إذا ما تم الحديث عن إنشاء كيانات اقتصادية لدعم الوضع الاقتصادي اللبناني، لكن لم أسمع أو أقرأ سطرا واحدا عن دعم اقتصادي عربي للبنان عن طريق إنشاء مصانع أو إقامة سوق اقتصادي ينعش الحالة الاقتصادية التي تقدم لبنان هدية لأي غاصب خارجي أو متآمر داخل بطريقة سهلة القنص.

أما بخصوص الأزمة الليبية، وكل معلوماتي وربما معلومات أجيال بأكملها عن ليبيا هي العقيد معمر القذافي، هذا ما يجعلنا مضطرين إلى إقرار ثمة حقائق مفادها أن ليبيا التي تغير علمها كما تغير عُرف مجتمعها غائبة عن الحضور العربي بفضل الاضطراب السياسي والانفلات العسكري ورغبة ألف ألف مواطن ليبي في أن يصبح رئيسا لها أو عضوا بالبرلمان أو صاحب سلطة، المهم هو تسيد المنصب وتقلد السلطة بأي طريقة مشروعة وأخرى غير مشروعة. وما دامت ليبيا تحاول أن تحل مشكلاتها السياسية في الحضن الأوروبي فلن تجد مخرجا ممكنا طبيعيا لأزمتها، وخصوصا أن القمة العربية بالجزائر لم تهتم بقضية ليبيا وكأنها ارتاحت مطلقا إلى خطب الزعيم معمر القذافي إلى الأبد فلا داعي لاستحضار صحراء ليبيا وخيامها ورمالها من جديد إلى واقعنا العربي.

والسودان الأكثر حيرة ولا أدري كيف ستنتهي الاضطراب والتظاهرات المدنية في مواجهة السلطة العسكرية هناك، ربما الحيرة الحقيقية حينما يستيقظ الشعب السوداني الطيب على حالة من التصحر والجفاف وإعلان بدء الضياع المائي وليس مجرد الحديث عن أزمة مياه راهنة، هذه هي الحالة الوحيدة التي ستجعل السودان يستفيق على وضعه وحالته، فمنذ أن انقسمت السودان إلى دولتين بفضل تدخل أمريكي وتوجه مسيحي محض لتقسيمها وكأن التاريخ لا يعيد نفسه بل نحن أفشل طالب في استقرائه وقراءته وتأويله والإفادة من دروسه وعِبره، والسودان يعاني ويعاني وظن أنه سيعبر النهر العظيم صوب البحر حينما أحلت بأراضيه إحدى ثورات الحريق العربي أعني الربيع حسب مظان ومساعي التغلغل الغربي والأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.

من يقرأ إحداثيات وفعاليات القمة العربية بالرياض يدرك حجم وقيمة الهدية التي قدمناها للكيان الصهيوني بأننا ما زلنا على العهد في الاجتماع وتناول قضايا هامشية غير مُلحَّةٍ وأن عليه ـ الكيان الصهيوني ـ أن يستمر في تنفيذ خططه التي باتت معلنة في تفتيت أي قوى مناهضة لها.

بغير ذلك فكافة جدول أعمال المؤتمر كأنها معادة منذ سبعينيات القرن المنصرم فقط الوجوه تغيرت لكن ملامح القضايا كما هي بل باتت مزمنة العرض والتحليل ومن ثم اجترار البيان الختامي الذي لن يأت بجديد أبدا.وهذه القمة العادية جدا جدا جاءت بحكم التاريخ العربي السلبي منذ نكبة فلسطين سنة 1948 من أجل صياغة وعود بعيدة المنال والتحقق وإصدار إعلان ختامي ورقي لا تتجاوز  حدود كلماته القاعة التي تشمل المشاركين والذين كانوا بالتأكيد على علم تام بأن القضايا المثارة بالقمة العربية  جميعها مكرورة ومعادة لأن الوضع العربي نفسه بات قديماً لا جديد فيه اللهم سوى القلق المستدام صوب الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وبغض اكتراث عما سيتناوله السياسيون الذين اتسموا اليوم بالبلادة والخيبة في تحليلاتهم لأعمال القمة العربية، فإن القمة نفسها كالعادة القديمة التي تمارسها جامعة الدول العربية  أهدرت الحق الفلسطيني حتى وإن كانت أعمال القمة وبيانها الختامي سيتحدث بالضرورة عن فلسطين والقدس وعمليات الاستيطان الإسرائيلي وهذا ليس بجديد أصلاً، وأظن أن القمة كانت لابد من سعيها إلى تحقيق مصالحة فلسطينية صهيونية من أجل رحمة العباد والبلاد من الحكي البليد عن حق الشعب الفلسطيني المكلوم، أؤلئك الذين يعيشون فقط في فلسطين أما المرتزقة الذين يتاجرون بالوطن ويعملون بكافة دول النفط ويجترون ذكريات كاذبة خادعة لم يشهدوها بأعينهم ويكنزون أموالا طائلة بالجامعات الخليجية والمؤسسات العربية  عليهم أن يوجهوا أموالهم لخدمة وطنهم الحقيقي فلسطين، وتذكر ذاكرتي طويلة المدى في أثناء عملي بجامعة الملك خالد بعض الوجوه الفلسطينية التي كانت تتاجر بقضية الوطن ويحملون بطاقات مصرفية  بالقاهرة ودبي والرياض. ولقد رأيت بعيني في أثناء عملي محاضراً بإحدى الجامعات الخليجية منذ سنوات بعيدة موقف بعض الأكاديميين الفلسطينيين إزاء وطنهم الذي لا يعلمون عنه شيئاً سوى الاسم والهوية التي صارت متعددة؛ سورية مرة ومرة أخرى أردنية وكثيراً مصرية. وهم لا يقتنعون أساساً بضرورة العودة إلى فلسطين أو إقامة مشروعات اقتصادية هناك لأن هذا هو عين العبث ذاته من وجهة نظرهم. بل وإن معظهم ممن رأيت منفصلون تماماً عن المشهد الفلسطيني الداخلي سوى المتابعة التليفزيونية للأحداث هناك أما المشاركة فغائبة تماماً.

لكن القمة عادت لأحوالها ومقاماتها القديمة والمكرورة والمملة أحياناً بالحديث عن الحق الفلسطيني ووقف الطغيان الإسرائيلي بالقدس وخصوصا إن هذه الحوارات والخطب الكلامية لا تتعدى قاعات الاجتماع ما دام ملايين الفلسطينيين بالعالم بعيدون عن أرضهم وبحوذتهم مليارات الدولارات.

______
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل/ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية(م)./ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

جديدنا