في مقالات علمية ينشرها الأستاذ سعيد يقطين، على صفحات جريدة القدس العربي، يتناول فيها النص القرآني، من منظور تخصصه الأكاديمي في مجال السرديات، جاء التمييز في النص بين “النص الكوني” وبين “النص العالمي”. النص الأول نسبة إلى “الكون” في امتداده اللامحدود، حيث التداخل بين عالمي الشهادة والغيب. والنص الثاني نسبة إلى “العالم” في امتداده المعيشي المحدود، حيث يحضر عالم الشهادة مجردا من أي نزوع ميتافيزيقي.
هذا تقسيم رئيسي يمكنه أن يحقق الانفصال المطلوب بين سرد “الشهادة” (الدنيوي) الذي يتجلى أكثر فيما يسميه لوكاتش بالملحمة البورجوازية/الرواية وما يتفق معها في نفس المنطق السردي، قديما وحديثا، وما يميز هذا السرد هو التركيز على الحركية المادية للإنسان في المجال الواقعي المحدود زمكانيا. وبين سرد “الغيب” (الأخروي) حيث تفاعل السماء مع الأرض وتفاعل عالم الحياة مع عالم الموت.
هذا تقسيم رئيسي يلحقه تقسيم فرعي، فالنص الكوني ليس إحالة على بنية وتكوين موحد بل يتشكل من بنى مختلفة تخضع لتكوينات مختلفة، كما هو الشأن تماما مع النص العالمي فالرواية ليست سوى بنية خاصة تمتلك تكوينا خاصا في علاقتها ببنى سردية تمتلك تكويناتها المغايرة (قصة، مسرح…)
ولذلك، فإذا كان المسرح/القصة، كنص عالمي، يختلفان، بنية وتكوينا، عن الرواية رغم انضوائهما ضمن نفس الخطاب السردي، فإن ذلك ينطبق على القرآن الكريم في علاقته بالنصوص الكونية الأخرى من ملحمة غلغامش إلى الكتب المقدسة، توراة وإنجيلا، فرغم اشتراك هذه النصوص في الطابع الكوني من حيث التفاعل بين عالمي الغيب/السماء والشهادة/الأرض والتفاعل بين الحياة والموت، فإن لكل نص شروطه البنيوية والتكوينية الخاصة.
بناء على هذا التحليل، يمكن أن نستنتج أن الأستاذ سعيد يقطين بعيد جدا عن التأويل الذي قد يمارسه بعض (القَرَأة) les lecteur(ant)sعلى وزن الكَتَبة les écrivants إن صح هذا التحوير لمفهوم رولان بارت ! فقد وظف خبرته السردية لتأسيس خصوصية النص القرآني في علاقته بالنصوص، الكونية منها والعالمية، ولم يخلط النص القرآني بهذه النصوص، كما قد تتوهم القراءة (التي لا تقرأ ما تقرأ) بالتعبير البليغ للأستاذ سعيد يقطين في رده على الإنشائيين .
هذا الخلط في التلقي الذي يمارسه البعض على الخطاب المعرفي المؤسس، منهجا واصطلاحا، عانى منه الأستاذ الجابري، نفسه، لما طرق باب القرآن الكريم، وحاول توظيف خبرته في مجال التحليل الابستملوجي على النص القرآني لجعله معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية، وهذا ما رد عليه الأستاذ الجابري، في حينه، بشكل صريح حينما ميز النص القرآني عن المتن التراثي، فرغم كونه جزءا من التراث العربي الإسلامي فالنص القرآني يمتلك خصوصيته النصية، بنية وتكوينا، مما يجعله متميزا.
المجهود العلمي الذي يبذله الأستاذ سعيد يقطين، من أجل التأسيس ل “السرديات القرآنية” لا يختلف عن المجهود العلمي الذي بذله الأستاذ محمد عابد الجابري من أجل التأسيس ل ” الابستملوجيا القرآنية”. وكلاهما وصل إلى هذه العتبة القرآنية بعد طول مراس أكاديمي، مما أهلهما لتدشين حفريات معرفية رصينة بإمكانها أن تخلص النص القرآني من التلقي الإيديولوجي الذي حوله إلى (حصان طروادة) في ساحات معارك، مذهبية وسياسية واجتماعية، لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل! الرهان المعرفي كبير جدا، ويجب على المتلقي أن يكون في مستواه من خلال التكوين المعرفي الذي يمكنه من آليات القراءة .
____
*د.إدريس جنداري – باحث.