*ماتيو ليبمان / ترجمة: عبد الوهاب البراهمــــي
(التفكير النقدي مدخل لإصلاح التربية )
إنّ نقل المعرفة ودراسة الحكمة هما المبدآن الموضوعيان للتربية. وقد أصرّت المجتمعات التقليديّة، المفتقرة إلى استقرار متين، على أوليهما. وكان نقل المعرفة من جيل إلى آخر، قائم على اعتبارها تراكم حقائق. إذ المعرفة في نظر هذه المجتمعات مدوّنة من الحقائق الأبدية موافقة تماما لعالم جامد.
ثمّ أتى زمن انهار فيه الاستقرار. ليقال” إنّ الأزمنة تتغيّر”. و تصبح المعرفة التقليديّة إذن غير ملائمة بل معرفة بالية. يميل الناس في هذه الأزمنة غير المستقرّة إلى تفضيل المرونة الذهنيّة والإبداع ويولون اهتماما أقلّ للمعرفة كمعرفة. وهذا هو من غير شكّ السبب الذي جعل الرواقيون يدرسون الحكمة. إنّهم يهيئون أنفسهم لأيّام اليسر والعسر على حدّ السواء.
إنّ التصوّر الراهن للتربية بوصفها مسارا للبحث يتداخل مع هذين الهدفين. إنّه يلحّ على المسار، إلحاحه على منتوج الفكر تماما مثل إلحاحه على المعرفة، إنه يلحّ على البحث كما الحقيقة. إنّه يقرّ بأنّ كل علم يتكوّن من مجموع معارف تتغيّر ببطء، وتتراكم بانتظام وتمثّل محصّلة لكلّ خبرة مكتسبة من هذا العلم. بيد أنّنا لا ننتظر أبدا اليوم من الطلاّب أن يقتصروا على تعلّم ما هو معلوم، بل ننتظر منهم أن يفكّروا بأسلوب نقدي.
إنّ التفكير النقدي هو الاحتفاظ بهذا الجانب من التربية التقليديّة التي تؤكّد على أهمية دراسة الحكمة واستتباعاتها على الممارسة وفي الحياة اليوميّة. ولكن، ما التفكير النقدي؟
إذا كان علينا أن نحثّ على ممارسة التفكير النقدي وتدعيمه في المدارس، فلا بدّ أن نكوّن فكرة واضحة عنه وعمّا يمكن أن يكون. علينا أوّلا رسم سماته التي تحدّده، و معرفة المنتوج المميّز الذي ينشأ منه وكشف الشروط التي تؤسّس لوجوده.
1- إنّ ما ينتجه التفكير النّقدي هو أحكام.
إذا ما فحصنا التعريفات المتداولة للتفكير النقدي، فإنّ ما يلفت انتباهنا هو أن أصحاب هذه التعريفات باختلافهم يقدّرون نتائجه و غالبا ما يهملون الإشارة إلى خصائصه الأساسيّة. إضافة إلى ميلهم إلى اختزال نتائج التفكير النقدي ومطابقتها فحسب للحلول والقرارات. هكذا مثلا يعرّف كاتب التفكير النقدي بوصفه ” المسارات الذهنيّة، والاستراتيجيات والتمثّلات التي يستخدمها البشر لحلّ المشكلات واتخاذ قرارات وتعلّم مفاهيم جديدة”(1) ويكون التفكير النقدي ، وفق كاتب آخر” تفكير معقول raisonnable وانعكاسي يستهدف تحديد ما نعتقد أو ما نفعل” (2). إنّ هذه التعريفات قد تنيرنا ولكن بصورة غير كافية، إذ أنّ نتائج التفكير النقدي ( حلول وقرارات واكتساب مفاهيم) هي لديه محدودة والمعاني المقترحة لتعريفه ( معقول وانعكاسي) ضبابيّة. ولنضرب في ذلك مثلا، إذا لم يكن التفكير النقدي إلاّ تفكيرا ينتج عنه قرارات، دلّ ذلك على أنّ قرار اختيار طبيب بتصفّح دليل الهاتف ينمّ عن تفكير نقدي. علينا أن نمدّ في اتساع نتائج التفكير النقدي، وتعيين سماتها الأساسيّة وبيان العلاقة التي تقيمها.
لقد أشرنا من قبل إلى أنّ الانشغال الراهن بالتفكير النقدي يذكّرنا باهتمام القدامي بالحكمة. وقد يكون من المفيد العودة سريعا إلى هذه النقطة واختصار الحديث عنها. أي تصوّر نقيمه للحكمة؟ إن تفحّص بعض المعاجم يقودنا إلى عبارات من قبيل ” حكم ذكيّ” jugement intelligent أو” امتياز حكم” excellence de jugement أو ” حكم تعدّله التجربة” jugement tempéré par l’expérience . هناك ملاحظة تفرض نفسها …تكرار استعمال عبارة “حكم”. (3) ولكن ما الحكم؟ هذا ما تقترحه لنا المعاجم من تعريفات. فالحكم هو ” بناء آراء ، تقييمات أو استخلاص”. إنّه يتضمّن إذن عمليّات مثل حلّ المشكلات، اتخاذ قرارات وتعلّم مفاهيم جديدة، لكنّه في ذات الوقت أكثر شمولا و عمومية.
تجعلنا التعريفات المقدّمة للحكمة نعتقد أنّ الراشدون وحدهم قادرون على إطلاق حكم. ولكن ما الفرق بين حكم بسيط وحكم حسن؟ إنّ الفرق بينهما لا يخفى عنّا تماما: نحن قادرون جميعا على التمييز بين مجردّ الغناء والغناء الحسن، بين أن نحيا ببساطة وبين أن نحيا حياة حسنة. وليس غير مألوف لدينا التمييز بين مجرّد التفكير وبين التفكير بصواب.
إنّ الخيط النّاظم لبحثنا يجعلنا نستشفّ الحكمة بما هي نتاجا مخصوصا للحكم الحسن و الحكم الحسن بما هو خاصيّة التفكير النقدي. نحن على مفترق الطرق عند الحكم والحكم الحسن، ولعلّه قد آن أوان التوقف لمحاولة النظر في الموضوع بوضوح أكثر.
حيثما لا تكون المعرفة والتجربة مجرّد تحصيل ولكنّها مستخدمة فعلا، فإنّنا قد نلمح الظهور البيّن لحالات بديهية للحكم. فالمهندسون والمحامون والأطبّاء هم محترفون ويؤدّي عملهم دائما إلى بناء أحكام. وهكذا يكون الملحّنون والرسامون والشعراء. هذا حقيقيّ أيضا لكلّ واحد منّا حينما يكون عليه مجابهة وضعيات ذات طابع أخلاقي: علينا إطلاق أحكام قيمة. وهذا شأن المدرّسين أيضا والفلاحين ومنظّري علم الفيزياء: عليهم جميعا إطلاق أحكام وهو من صميم عملهم واهتماماتهم وحياتهم. وقد صاغ أرسطو دون شكّ هذا الأمر على النّحو التالي: هناك أحكام على صعيد عملي وأحكام على صعيد إنتاجي وأحكام على صعيد نظري. وبقدر ما نحسن استخدام ملكة الحكم لدينا، يقال عنّا بأنّنا نتصرّف بحكمة.
علينا الإقرار بأنّ الأساتذة الأكفّاء يبرهنون على حكم صائب بشأن ما يتّصل بممارستهم ذاتها كما بشأن ما يتّصل بالمادّة التي تقوم عليها هذه الممارسة. والطبيب الكفء لا يفعل غير القيام بتشخيص سليم عن ظروف مرضاه وتحرير وصفات مطابقة، وهو يحمل أيضا أحكاما عن علم الطبّ وعن اختصاصه الذي يمارسه بالذات. إنّ الحكم الحسن لا يتخلّى عن أي شيء بما في ذلك ذاته.
إنّ الحكم هو إذن تحديدا للفكر واللغة والفعل أو الإبداع. وأي حركة، كالإشارة باليد يمكن أن تكون حكما؛ وكذا مجاز كقولنا ” جون دودة أرض” هو حكم؛ أو معادلة بمثل” E=mc2 وهي حكم أيضا. إنّها أحكام في جانب منها لأنّ هذه الحركة وهذا المجاز آو هذه المعادلة هي ثمرة تمشّ أقيم على نحو ما بالاستناد على بعض الأدوات أو الطرق. وتتّضح هذه الأحكام صائبة إذا ما كانت نتاج عمليات طبّقت بعناية، ويسّرتها أو وجّهتها الأدوات والطرق الملائمة. وإذا ما ألقينا نظرة على مسار التفكير النقدي وحاولنا تحديد خصائصه الرئيسيّة، سنكون أكثر أهلية لفهم قرابته بالحكم. وسأساند الرأي بأنّ التفكير النقدي هو ذاك التفكير الماهر والمسئول الذي ييسّر الحكم الصائب لأنّه:
- يرتكز على معايير
- يصلح ذاته بذاته
- يتأثّر بالسّياق.
2- يرتكز التفكير النقدي على معايير:
نحن نشكّك في القرابة بين كلمات ” نقد” و ” معايير” لأنّ لها تشابه شكليّا وأصلا مشتركا. إضافة إلى أنّنا جميعا على إلف بنقد الكتب أو الأفلام، وقد لا يبدو غريبا الزعم بأنّ أفضله أي النقد هو الذي يستخدم معايير جديرة بالثّقة.
ونحن نعرف أيضا القرابة بين المعايير والأحكام، بما أنّنا نعرّف المعيار بما هو ” قاعدة أو مبدأ يٌستخدم في بناء حكم”. يبدو من المعقول استنتاج وجود ضرب من الصلة المنطقية بين ” تفكير نقدي” و” معايير” و” أحكام”. وتكمن الصلة من دون شكّ في كون الحكم مهارة، وفي كون التفكير النقدي هو تفكير ماهر، وكون المهارات لا يمكن أن تُعرّف دون معايير، بواسطتها يمكن تقييم ما يفترض من إمكانيات بارعة. إنّ التفكير النقدي هو إذن تفكير يستخدم معايير و يمكن تأكيده بفضل معايير.
وفضلا عن ذلك، قد يكون من المفيد اعتبار ما يمكن أن يكون عليه التفكير “غير النقدي”. إنّ ما يستحضره ذهننا مباشرة في هذا الخصوص هو أنه ّ تفكير متهافت وارتجالي وواه ومجازف وغير مبنيّ. وإنّ استناد التكفير النقدي على معايير يجرّنا إلى الاعتقاد في كونه حسنَ التأسيس مبنيّ وأفضل تسلّحا. ولكن ما الذي يبرّر هذا؟
كلّما قدّمنا مطلبا أو صدعنا برأي، نضع أنفسنا موضعا قابلا للثلم، إذا كنا لا نملك حججا تدعمه.علينا إذن أن نتساءل. ما الذي ندعو إليه، حينما تُناقش آراءنا؟ وماذا ندّعي لمّا يعترض على مطالبنا؟ وإلى ما نستند في تأييد إقرارنا حينما لا نصل إلى الإقناع به؟ إنّ محاولة الجواب على مثل هذه الأسئلة يقودنا إلى استنتاج أنّه يجب على مطالبنا وآراءنا أن تسند بحجج. ولكن أي علاقة توجد بين الحجج والمعايير؟
المعايير حجج: إنّها عبارة عن حجج ولكن من جنس معيّن، ذات صِدْقيّة. وحينما يكون علينا تنظيم الأشياء بطريقة وصفيّة آو انطباعيّة – ويتعلق الأمر هنا بمهمّتين على غاية من الأهميّة – استلزم منا الظفر، قدر الإمكان، بالحجج الأكثر صِدْقية، والتي تصبح معايير للتصنيف والتقييم. وقد يتفّق أن لا تضحى هذه المعايير بالإجماع، غير أن قيمتها وأهمّيتها مقدّرة أحسن تقدير لدى جماعة بحثيّة. وقد يسمح حسن استخدام هذه المعايير التي تحظى بالاحترام بإرساء موضوعيّة أحكامنا المعياريّة، والوصفية أو الانطباعيّة. يحكم المهندسون على بناية ما باستخدام معايير من قبيل النفعية والأمان والجمال، ويصدر القضاة أحكاما وفق معايير القانونية واللاقانونيّة؛ ويمكن أيضا أن نعتبر أن المفكّرين النقديّين يستندون على معايير أثبتت جدواها بمرور الزمن من مثل الصلاحيّة ودليل البداهة والتلاؤم . فكلّ مجال نشاط – مثل ممارسة الهندسة، والحقوق أو المعرفة التي أشرنا إليها- يجب أن تكون قادرة على تقييم المعايير التي توجّه ممارستها.
غالبا ما تكون البناءات الذهنية التي نسكنها غير قادرة على مقاومة شديدة: يمكننا أن نوطّد أركانها بتعلّم البرهنة بأكثر منطقيّة. لكن لن يكون لذلك كبير نفع إذا ما كانت الأرض التي ترتكز عليها لينة وإسفنجية. علينا أن نرتكز في مطالبنا وآراءنا وعلى كلّ ما يتبقّى في فكرنا على أسس صلبة مثل الصخر. فالارتكاز على معيار ذي أسس متينة، هو وسيلة لإقامة فكرنا على قاعدة صلبة.
هذه إذن قائمة مختصرة لنوع الأشياء التي نستدعيها أو تلك التي نطلبها والتي تبعا لذلك تمثّل ضروبا مخصوصة للمعايير:
- مقاييس
- قوانين، ضوابط، قواعد، تنظيمات، تشريعات، أوامر، وصفات، توجيهات وتعليمات
- وصايا، اقتضاءات، تخصيصات، شروط، حدود،
- اتفاقات،معايير، انتظامات، نظاميات، تعميمات،
- مبادئ، افتراضات، تعريفات،
- مثل عليا، نوايا، أهداف، مرامي، موضوعات،
- اختبارات، قناعات، نتائج تجريب
- مناهج، طرق، سياسات
جميع هذه أدوات يمكن استخدامها في مسار تكوين الأحكام. إنّها جزء من الجهاز العقلي. وقد تبدو باهتة وعقيمة من حيث كونها مرتّبة وفق مقولات في تصنيف علمي taxinomique مثلما هي هنا. لكن حينما تكون شغّالة في مسارات البحث، فإنّه يمكن أن تعمل بطريقة ديناميكية ونقديّة.
لقد سبق أن أشرنا أنّه يمكن لنا بمعونة المنطق، تنمية تفكيرنا بإحكام؛ وتبريره والدفاع عنه بمساعدة حجج هي من قبيل المعايير. ترتكز تنمية التفكير لدى المتعلّم – أي المرور من التفكير العامّي إلى التفكير المحكم – في جزء كبير منها على قدرته على تحديد واستدعاء حجج وجيهة لتبرير ما يقدّم من آراء. وقد يُحمل الطلاّب على إدراك أنّ حجّة ما تكون وجيهة حينما تكون دقيقة وأقوى ( في معنى أنها تًقبل مباشرة) من الرأي المقدّم.
لنوضّح هذا الأمر: حينما يقيّم المدرسون عملا ما، يجب عليهم الاستعداد لتبرير العدد الذين يمنحوه بتقديم حجج أي معايير يستندون عليها في تقييم ما يمكن اعتباره عملا. ولن يكون لأيّ أحد شأن بهذا إذا ما صرّح المدرّس بأنّه قيّم بطريقة “حدسيّة” أو أقرّ بأنّ استخدام المعايير ليس ضروريا ولا ملائما. إنّ التفكير النقدي مسؤولية عرفانية . وحينما نشير بصراحة إلى المعايير المستعملة، فإنّنا نحثّ الطلاّب على التصرّف بالمثل. وعندما نوفّر لهم نماذج لمسؤولية فكرّية فإنّنا ندعوهم إلى تحمّل مسؤولية تفكيرهم الخاص وبوجه عام تحمّل مسؤولية تربيتهم الخاصّة. وبما أنّ المدرسة أو الجامعة هي فضاء للبحث، فالتّمشيات المعتمدة فيها لابد أن تدافع عن نفسها، مثلما يعلن عن شروط القبول في وظيفة أو ترقية لطالبي الشغل. وهذا لا يعني أنّ كلّ جوانب حياتنا هي بالضرورة ودائما موضع تساؤل. فهناك بعض الأشياء التي نوليها قيمة دون أن تكون لنا رغبة في تقييمها؛ وهناك أناس نحترمهم دون أن تكون لنا بالضرورة رغبة في ” احترامهم”. في مثل هذه الظروف نكون قد فرّطنا في المعايير والقواعد. ذلك أنّ انتهاك خصوصية الآخر لا تضاهي في قيمتها ما نغنمه من هذه المعايير. فإذا لم يرغب أحدهم في تناول بعض الموضوعات على الملأ، فيجب أن يكون هذا الحدّ نتيجة لاختياره الخاص.
وإذا كان لنا أن نختار معايير، وجب علينا دون شكّ الارتكاز على معايير أخرى.فبعض المعايير تستجيب بصورة أفضل ويمكن لنا إذن أن نقول عنها إنّها بمثابة ميتا-معاييرméta-critères.وهكذا حينما أكّدنا سابقا أن المعايير هي حججا ذات صِدْقِية، وأنّ أحسن الحجج هي التي تنكشف قوية وملائمة. إنّها طريقة أخرى في القول أنّ الصِّدْقِيّة والقوة أو المتانة و التلاؤم هي ميتا- معايير مهمّة. يمكننا ذكر معايير أخرى مثل الانسجام والتماسك.
تبدو بعض المعايير على مستوى عال من التعميم وهي أحيانا مسلّمات، إمّا صريحة أو ضمنية، في حال اشتغال التفكير النقدي. تفترض مقولة المعرفة إذن، معيار الحقيقة؛ وبالتالي، فحيثما ندّعي أن معرفتنا علمية، صاحب ذلك ادعاءنا أنّ هذه المعرفة حقيّقية. وفي هذا المعنى، فإنّ فروع المعرفة المتّصلة بالفلسفة من قبيل الابستيمولوجيا والإيتيقا والاستيتيقا لا تملي معاييرها بل إنّ الأمر على خلاف ذلك. إنّ المعايير هي التي تحدّد مجال اشتغالها. ويتعلّق الأمر في الابستيمولوجيا ككلّ بأحكام تطبّق عليها معايير الحقيقة والخطأ، وتتضمّن الايتيقا أحكاما ينطبق عليها معيار الخير والشرّ؛ وبالمثل ، في الاستيتيقا أحكام ينطبق عليها معايير الجميل والقبيح. من هنا فالحقيقة والخير والشر والعادل والحسن و الجميل – جميعها معايير لها من أهميّة ما قد يفرض علينا اعتبارها ميقا- معايير méga-critères، تتصل بدورها بمعيار جامع معيار المعنى.
من أول وظائف المعيار تأسيس المقارنات. و إذا ما قمنا بمقارنة لا تستند إلى أيّ معيار( مثلما هو الحال مثلا إذا ما قلنا أنّ ” طوكيو أفضل من نيويورك”). فلن ينتج عن ذلك سوى لبس. وإذا ما أمكن لنا من جهة أخرى، تطبيق عدّة معايير ( مثلما هو الحال في اعتبار”طوكيو أهمّ من نيويورك”؛ حيث لا يمكن لنا القول بأن ذلك يعود إلى امتدادها أو سكّانها)، فالوضعية أشدّ التباسا. وبما أنّه يجب أن تسند الآراء غالبا بحجج، فلابدّ للمقارنات أن تصاحبها عاّمة معايير.
تُدمج المعايير أحيانا بطريقة لا شكلية informel وعفوية. فحينما نقول مثلا كانت الحرارة في يوم الثلاثاء أحسن، مقارنة بيوم الاثنين، بينما كانت حرارة يوم الأربعاء أسوء مقارنة بيوم الاثنين. وفي هذه الحالة، فإنّ الحرارة يوم الاثنين تقوم مقام المعيار غير الرسمي. وينطبق هذا على العبارة التالية:” إذا ما قارنّا فيلا بكلب كان الفيل أضخم، أمّا إذا ما قارنّا فأرا بكلب كأن الفأر أصغر”. يتضمّن هذا المثال أيضا استخداما فوضويا وعفويّا للمعايير. ويمكن عامّة فهم اللغة التشخيصيّة بوصفها تستخدم المعايير غير الرسمية. هكذا، فإنّ مقارنات موسّعة أو أكثر تحديدا من قبيل” تشبه المدرسة مخيّما عسكريّا” أو” المدرسة مفوّجة enrégimentée أكثر من مخيّم عسكريّ”.إنّ استعمال “التفويج” enrégimentement العسكري الذي يخصّ مخيمات العسكر كمعيار غير رسمي لقياس الانضباط الذي يخيّم على المدرسة.
من جهة أخرى، يمكن أن نسمّيها ” معايير رسمية” تلك التي تقبلها سلطة ما أو يحصل حولها إجماع بوصفها قاعدة للمقارنات.فحينما نقارن كميّة سائل في برميلين مستعملين اللتر وحدة قيس، فإنّنا نستعمل وحدة اللتر استنادا إلى ما أقرّه مكتب القياسات والموازين. يمثّل القياس باللتر المقرّر من هذا المكتب، الباراديغم المؤسّسي الذي يمكن على أساسه مقارنة قيسنا باللتر.
يمكن أن نقارن بين الأشياء إذن، بمساعدة معايير نوعا ما شكليّة. إلاّ انه علينا التمييز بين فعل مقارنة الأشياء ببعضها البعض وبين مقارنتها بقاعدة مثالية للمقارنة standard idéal، وهو تمييز يتناوله أفلاطون في ” السياسي”. بتقييمنا للأعمال إذن، يمكننا مقارنة نتيجة متعلّم في فريق عمل بنتائج متعلّمين آخرين ( باستعمال معيار ” المنحنى” courbe)، حيث يمكن مقارنته دون خطا بواسطة قاعدة معيار النتيجة. وعلى نحو مماثل، يمكننا مقارنة معدلات الرماة فيما بينهم، في لعبة البايسبول،baseball ، أو يمكننا مقارنة مردودهم بمباراة منجزة.
تستعمل عبارات ” قاعدة مقارنة” و” معيار” ومقياس” غالبا بصورة مختلفة في اللغة المستعملة. ويبدو، مع ذلك، أنّ المعايير ( وقاعدة المقارنة) تمثّل صنف فرعي موسّع من المقولات. وهو موسّع لأنّ مفهوم ” المعيار” ( كما هو مفهوم ” قاعدة “) يمكن أن تفهم على وجه مختلفة. ومن بين هذه التأويلات، التأويل المشروح في الفقرة السابقة حيث هناك إشارة على معيار مثالي أو قاعدة معيار على أتم معناه. وفي المقابل هناك معايير توافق مستويات دنيا للمردودية مثلما هو الحال في هذه التي طالما سمعناها:” لا يجب علينا التخفيض من سقف معاييرنا”. ثمّ إنّ المعايير، بمعنى آخر،هي اصطلاحات تتعلّق بالسلوك. ” إذا كنت في روما فافعل ما يفعله الروماني”. هذا معيار اصطلاحي يصلح موجّها أخلاقيا. وفي معنى آخر، تتوافق قواعد التعيير أيضا مع وحدات قيس للسلطة لدى مؤسسة المعايير.
هناك من غير شك، جانب اعتباطي حتى في قواعد التعيير الأكثر صدقية مثل وحدات القيس، التي لنا حريّة تحديدها وفق فهمنا الخاص. و نستطيع اتخاذ قرار، إذا ما أردنا ذلك، أن نجعل من المتر يحوي على طول أقلّ من 100 سنتمتر.بيد أن ما يحدث باستمرار، انّه حالما يضحى المتر محدّدا، فإنّنا نفضّل أن لا تتغيّر وحدات قيسنا: فهي على هذا النحو أكثر صدقية. وحينما تكون المفاهيم ضبابيّة فلا مفرّ من الاعتباطية. وهذا حال مفهوم ” النّضج: فلا يمكن الحسم بشأنه. إلاّ أنه، بجعل سنّ21 حدّا عمريا للانتخاب، يصبح من الضروري اتخاذ إجراء يسمح لنا بالقول من هو له الحق في الانتخاب أو لا. فالمقاييس وخاصّة المعايير وقواعد التعيير هي جزء من الأدوات الأكثر ملائمة للتمشّي العقلاني. ويمثّل، تعليم الطلاب استخدامها، بعدا أساسيا في تعليم التفكير النقدي.
3 – التفكير النقدي معدّل لنفسه
إنّ ما يميّز البحث وفق شارل بيرس ، هو أنّه يستهدف الكشف عن مواطن الضعف فيه وسدّ الثغرات في تمشّيه الخاص. فالبحث هو إذن ذاتي التعديل.
يشتغل فكرنا في الغالب بطريقة لا نقديّة . وتتطوّر أفكارنا بصورة هائلة، من مجموع إلى آخر، دون الانشغال بالحقيقة أو الصّلاحية وبصورة أقلّ بإمكانية الخطأ.
هناك فعلا أشياء يمكن أن نفكّر فيها ومن ضمنها يوجد تفكيرنا الخاص. نعم يمكن لنا التفكير في فكرنا الخاص، ولكن يمكن لنا القيام بذلك دون أن يكون من منطلق سلوك نقدي. لأجل هذا واستنادا إلى مكاسب الميتا-عرفانية المتّصلة بدراسة الفكر، يمكننا استنتاج أن الميتاعرفان والتّفكير النقدي ليسا بالضرورة متطابقين.
إنّ تحويل الفصل الدراسي إلى مجموعات بحث يقودنا إلى ميزة من أهمّ ما يكون (فبمعزل عمّا يؤدّي إليه من تحسّن بديهي للمناخ الأخلاقي): هو أن المشاركين يشرعون في التساؤل حول تمشيات الآخرين ومحاولة التعاون على إصلاح ذواتهم. وبالنتيجة، فإنّه بموجب الشرط الذي يخوّل لكل مشارك استبطان مجموع منهجيّة المشاركين، فإنّ سيكون بمقدور كلّ مشارك إصلاح عملياته الذهنية الخاصّة.
4- يكشف التفكير النقدي عن تأثر بالسّياق.
مثلما أنّ التفكير النقدي منتبه إلى التماثلات والانتظامات النوعيّة والبيسياقيّة intercontextuelles، فإنّه منتبه أيضا إلى مميّزات الوضعيات الشموليّة أو السياقيّة بالخصوص. إنّ فكرا منتبها إلى السياق سيتعرّف على :
أ) الظروف والشروط الاستثنائية أو اللامنتظمة
ينتج عن هذا الأخذ بعين الاعتبار طريقة ما في التفكير عادة محظورة. وهكذا، فإنّه يمكن فسح المجال ، ولو من باب المحاولة، لباب للبحث والتقصّي منظورا إليه عادة خادعا.
ب) الحدود الخاصّة والعرضي أو الأضداد.
يمكن لبرهنة مقبولة عادة أن تعتبر محظورة في ظروف معيّنة. وقد نستوضح هذا بواسطة الهندسة اللاإقليية التي تستبعد بعض النظريات الإقليدية، مثل التي تقر بأنّ الخطوط المتوازية لن تلتقي أبدا.
ج) الأشكال الجامعة: إذا أمكن لملاحظة خارج السّياق أن تبدو خاطئة، فإنّها قد
تكون صالحة ودقيقة حينما نسلّط عليها الضوء داخل خطاب جامع . ويمكن أيضا البرهنة على العكس.
د) إمكانية أن تكون البداهة لا نموذجية
ربما هو الحال مثلا إذا ما كان الغرض جمع نوايا تصويت على صعيد وطني، فإنّنا نستخلص نتائج عامّة من البحث في عيّنة محدودة من السكّان يكوّنون جماعة متجانسة ،أي ينحدرون من نفس المنطقة الجغرافية، من نفس الاتنية ويشتغلون نفس الوظائف في المجتمع.
هـ) إمكانية أنّ بعض المعاني في سياق أو مجال معيّن لا يمكن أن تترجم في سياق أو مجال آخر.
ليس لبعض الكلمات أو العبارات مرادفا محدّدا في لغات أخرى وما نمنحه إياها من معاني يعود إذن إلى خصوصيّة السّياق.
التفكير بواسطة المعايير والتأثر بالسياق يمكن أن تستوضح بشكل مطابق بالاستعانة بتمرين يضع في الحساب تطبيق معيار خاص على مجموعة من الوضعيات الخيالية. فلنفترض أن هذا المعيار هو الإنصاف (والذي من خلاله يمكن أن نلاحظ انبثاق معيار أوسع هو العدالة). العمل بالتناوب هو شكل من أشكال الإنصاف. هذا إذن تمرين مأخوذ من ” الدهشة أمام العالم “( wondering at the word ) كتاب مدرسي لـ”كيو”(kio) و Gus قوس، وهي قصّة من برنامج الفلسفة للأطفال تتوجّه للأطفال من 9 و 10 سنوات .
لـــــــــــــــــــــــــــــــكلّ دوره
ينخرط الناس في بعض الأحيان في مسار تقاسمpartage . فقد يذهبون إلى السينما ويتقاسمون متعة مشاهدة فيلم . أو يتقاسمون قطعة مرطّبات بمناصفتها قسمين متعادلين.
غير أنه في ظروف أخرى ليس من اليسير التقاسم معا. فإذا امتطى شخصان حصانا، تقدم أحدهما على الآخر بالضرورة . ويمكن أن يتبادلا دور القيادة ولكن لا يمكن أن يفعلا ذلك معا في نفس الوقت. يدرك الأطفال ذلك جيدا. وهم يعرفون أن هنالك قواعد سلوك لابدّ من إتباعها على وجه من الوجوه.
لتوضيح هذا الأمر ، يمكن أن نطلب من تلامذتنا النقاش حول هذه الوضعيات التي يجب أن ينتظروا فيها دورهم طيلة اليوم الدراسي العادي. فلكل دوره في فسخ السبورة ، والذهاب إلى الحمام وحجرة الملابس وتوزيع الأوراق. ولكل دوره في قاعة الألعاب لرمي الكرة بالمضرب ووضعها في السلّة والقفز على الحاجز.
اطلبوا من تلامذتكم ما هي العلاقة بين “التداول في الفعل” وبين أن نكون ” منصفين”. و يجب أن يوضّح ما سيتبع ذلك من نقاش، أن الإنصاف يتحقّق أحيانا بصورة متزامنة، أي أنّ الأطفال يعاملون بإنصاف في نفس الوقت وأحيانا بطريقة تعاقبية، فيتلقّى الأطفال إذن معاملة منصفة الواحد بعد الآخر. فإذا كان عيد ميلاد أحدهم مثلا ونظم لأجله حفل فيه قطع مرطّبات، كان لابد أن يكون هناك قطعة مرطبات لكلّ طفل، هذا مثال لتوضيح الإنصاف بصورة متزامنة.وإذا ما أراد الأطفال ممارسة لعبة التخفّي، فلابدّ من أن يمارسوا ذلك بالتداول حتى يكون الأمر منصفا.( وفكرة أن يكون الجميع مغمضي العينين في نفس الوقت فكرة غريب).
تمرين: متى يكون بوسعنا أن ننجز عملا بالتداول؟
– بوسعنا – ليس بوسعنا – لاأردي
- ماري: لويز، لنتداول على ركوب الدراجة. سأستعملها يوم الاثنين والأربعاء والجمعة وتستعمليها أنت يوم الثلاثاء والخميس والسبت.
- بيار: بول، لنصاحب لويز إلى السينما بالتداول.سأصحبها أنا أول وثالث سبت من كلّ شهر وستصحبها أنت ثاني ورابع سبت.
- جاك: لويز، لنغسل الصحون بالتداول، أنا أغسلها وأنت ترتبها.
- جان: حسنا،لويز لنتفرج على التلفاز بالتداول. تختارين برنامجا مدته ثلاثون دقيقة ثم أختار أنا برنامجا آخر.
- فانيسا: لويز،ما رأيك لو قمنا بواجباتنا المدرسية بالتداول؟ أقوم أنا هذا المساء بواجباتك وواجباتي المدرسية وغدا تقومين أنت بواجباتي وواجباتك المدرسية.
- فانيسا: لويز، إنّي أكره أن أراك تحملين هذه الكتب الكبيرة الحجم وأنت ذاهبة إلى المدرسة ! دعيني اليوم أحملها مع كتبي وتحملين أنت غدا كتبي وكتبك .
حينما ينجز التلاميذ هذا التمرين، فإنّهم يستخدمون معيار” الّتداول” ( أي معيار الإنصاف والعدالة) في ست حالات خاصّة تقتضي تأثّرا بالسّياق. ويجب على النقاش داخل الفصل أن يسمح بالتمييز بين الحالات التي بالوسع إخضاعها ” للتداول” والحالات التي يشك على الأقل في إخضاعها لمبدأ ” التداول”. وحينما نستعمل تمارين مثل هذه في إحداث فريق بحث، فإنّ كل العناصر متوفّرة لانبثاق التفكير النقدي في الفصل. ولا يفوتنا القول بأن هذه ليست هي الطريقة الوحيدة لذلك، بل هي إحداها.
يتضح إذن أن المبرّر الذي بموجبه وقع ذكر المجالات الحقوقيّة والطبيّة في الأول بوصفها المواضع الأكثر مناسبة للحالات -النماذج cas-types للتفكير النقدي، يجب أن يكون واضح البداهة أكثر. فمجالي النشاط هذين يوافقان الاستعمال المرن للمبادئ في مجال الممارسة، وحساسية مفرطة تجاه وحدة كلّ حالة، ورفض تحوّل المبادئ والوقائع إلى أسرّة بروكيست Procuste حيث يجب أن على كلّ واحد أن ينام عليها، وترك الالتزام بمسار يعني المحاولات والافتراضات والتصويبات المعدلة – ذاتيا التي تخصّ كلّ نوع من البحث. ويعرف القضاة والأطباء أهميّة أن نكون حذرين ويقظين – وإصدار أحكام صائبة في ممارسة عملهم. تبيّن المجالات الحقوقية والطبيّة في أفضل ممارستها وبصورة تامّة، ما يمكن أن يكونه التفكير النقدي وما يجب أن يكون عليه. وما يتبقّى للمربين غير الإشارة إلى ما قد يكون عليه المسلك الأفضل للوصول إلى التفكير النقدي ومساعدة المتعلمين على التعرّف في ممارستهم الخاصّة، على عناصر التفكير النقدي التي قد تحتاج إلى الدعم.
ما هي إذن قدرة التفكير النقدي على تطوير التربية، إن في الابتدائي أو الثانوي أو الإعدادي؟ لماذا يجزم كثير من المربين بأن التفكير النقدي هو مفتاح إصلاح التربية؟ إنّه في جانب منه لأنّ التربية تمهّد لمنعطف بطيء: إنّها تريد إحداث المرور من التعلّم إلى التفكير. نريد من الطلاب أن يفكّروا بأنفسهم وان لا يكتفوا بالحفظ عن ظهر قلب ما فكّر فيه آخرون قبلهم.ولا نريد من الطلاب أن يفكّروا فحسب – وهذا جزء من الجواب- بل نريد أن يبذلوا جهدا أكبر، أي أن يكونوا قادرين على الحكم بصواب. إنّ الحكم الصائب هو الذي يميّز التأويل الدقيق لنص مكتوب، والتحرير المتناسق والمتوازن والفهم الواضح لما نتعقّله، والحجاج المقنع. إن الحكم الصائب هو الذي يسمح بقيس وإدراك الإثباتات، والصعود الاعجازي والاستتباعات والمقترحات التي تتضمنها بعض العبارات. ولا يمكن لهذا الحكم الصائب أن يكون إجرائيا إلا إذا استند إلى كفاية مهارات التفكير، الضامنة لكفاية الاستنتاج، وإلى كفاية البحث وبناء المفاهيم ومهارة الترجمة. وإذا ما أحدث التفكير النقدي تحسّنا للتربية، فإنّ ذلك مردّه أنّه زاد، كمّيا وكيفيا، في تمعين ما يقرأه التلاميذ ويدركونه وما يعبّرون عنه فيما يكتبونه وما يقولونه.
إنّ إدماج التفكير النقدي في البرنامج الدراسي يحمل معه الوعد بتحمّل التلميذ عبء كفاءته الأكاديمية. وحالما يحصل الاعتراف بهذا، يكون من الضروري التفكير في أحسن الطرق لإنجاح هذا الإدماج.وفي الأثناء، قد يحسن أن نحتفظ في أذهاننا بان التلاميذ الذين لا يتعلّمون استخدام المعايير بإظهار حساسيّة تجاه السّياق وسلوكا تعديليا – ذاتيا ، لا يتعلّمون التفكير بصورة نقدية.
وفي النهاية، لنسوق كلمة في خصوص استخدام المعايير في التدرب على التفكير النقدي والتي تيسّر الحكم الصائب. إنّ التفكير النقدي، كما نعلم، تفكير ماهر وكفء ومهاراته هي ” مهارات” « savoir-faire » تستجيب لمعايير ملائمة. فإذا ما فكّرنا بصورة نقدية، فنحن مدعوون إلى إحداث تناسق بين جملة من المهارات العرفانيّة، التي تكوّن عائلة، من مثل مهارات البرهنة ومهارات بناء المفاهيم والمهارات المكتسبة لأجل البحث والمهارات التي تساعد على الترجمة.وبدون هذه المهارات، نكون عاجزين عن إدراك معنى نص مكتوب أو محادثة، عجزا ليس أقلّ من عجزنا عن أن نمنح معنى لمحادثة أو لما نكتبه نحن. ولكن بما أن الأركسترا مكوّنة من عائلات آلات موسيقية من مثل عائلة الآلات الخشبية والنحاسية والوترية، كان هناك عائلات مختلفة من المهارات العرفانيّة. وبنفس الطريقة التي تتكون بها كل عائلة من الآلات الموسيقية في الاركسترا من آلات فردية مزمار وكمان وبوق انجليزي، كان لكلّ منها معايير خاصّة لأدائها الكافي، فإنّ هناك أيضا مهارات عرفانية فردية ، من قبيل القدرة على الاستنتاج أو التصنيف والذي يمثّل نوعا مخصوصا من القدرة الكافية الموافقة لمعايير مطابقة. يحدث لنا ملاحظة أن قطعة موسيقيّة رائعة قد تفقد جمالها حينما يعزف موسيقي واحد (ضمن الأركاستر) دون المعايير المقبولة. وبالمثل، باستخدام وتجويد المهارات العرفانية الضرورية لتكوين التفكير النقدي، لا يمكننا إهمال أيّ من هذه المهارات، حتى لا نهدّد مجموع المسار. لهذا السبب لا يمكننا الاقتصار على حمل التلاميذ على ممارسة مجموعة من المهارات العرفانية وإهمال أخرى، مطلوبة لأجل الوصول إلى كفاية في البحث وفي اللغة والفكر، كفاية تميّز شغل المفكّرين النقديين المتميّزين في هذا المجال.وبدل انتقاء ومسح بعض المهارات نعتبرها بمثابة ترياق، علينا البدء من صلب التواصل والبحث – مع القراءة والإنصات والكلام والكتابة والبرهنة- وعلينا تحصيل كلّ المهارات التي يفرضها التحكّم في مثل هذه التّمشيات. إنّه بفعل ذلك فحسب، سندرك أنّ وحده المنطق والابستيمولوجيا وغيرها من المجالات الفلسفية يمكن أن تمنحنا المهارات والمعايير التي يفتقر إليها البرنامج المدرسي الحالي ” .
ماتيو ليبمان
*فصل من كتاب ” التفلسف مع الأطفال ” ترجمة باتريسيا دوناللي بمساعدة ماري جوزي موران وميشيل ساسوفيل. طبع جامعة لافال.