مدرسة المستقبل.. رهانات بناء متعلِّم مستنير
إذا كان المفكِّر والسوسيولوجي الفرنسي الكبير ’’إدغار موران’’ قد عبَّر على أنَّه ” أصبح للمستقبل اسما آخر ألا وهو اللايقين.”[1] فإنَّ الحديث عن “صناعة متعلِّم” المستقبل قد يكون من باب اللايقين هو الآخر، لا سيما إذا ما وضعنا في الاعتبار، أن لا مناص من أنَّ المتعلِّم الذي على المدرسة أن تكوّنه وتعدّه يجب أن يوافق الحياة المستقبليَّة، وأن أهداف كل عمليَّة تربيَّة وتعليم وتنشئة اجتماعيَّة عليها أن تضعه في قلب مصيره هو، أي واقعه وسياقاته المركَّبة والحياة التي سيحياها ويعيشها في المستقبل، وليست الحياة والظروف كما هي الآن.
وبناء على هذا، وفي إطار التفكير في هويَّة المتعلِّم والمدرسة التي ستتوقَّف عليها مسؤوليَّة إعداده، والذي هو بالأساس تفكير في عالم الغد المعقَّد واللامتوقَّع والمنفلت من أي تنبُّؤ دقيق، فقد صار المستقبل عصيّا على الفهم والاستشراف، بحيث إذا كانت التربية من أهم الوسائل التي من خلالها يعمل الإنسان على تحديد توجّهاته نحو المستقبل، وإعداد الرأسمال البشري القادر على التكيُّف مع ممكنات هذا الأخير، فإنَّها أصبحت من المواضيع ذات الأهمّيَّة الكبرى والحسَّاسة، وأيضا من بين القضايا المحيرة لدول العالم أجمع، على اعتبار أن العالم تواجهه تحدِّيات غير مسبوقة في التاريخ البشري. لذلك فإنَّ النظام التربوي القائم والذي هو نتاج الثورة الصناعيَّة، والخاضع لنظام السوق ومبدأ المنفعة وقيم الاستهلاك، نظام يثبت الآن ضعفه وهشاشته، ويفتح الباب أمام البحث عن نظام تربوي بديل وأشمل، لا يركِّز على الفائدة والمنفعة فقط، بل على ذاتيَّة الإنسان وكينونته ومصيره أيضا، ولا يستهدف تسليع الإنسان كما تسلّع الأشياء الماديَّة. وإنّما يبني متعلِّمين يتملكون، ليس فقط المعرفة المجزَّأة المتخصِّصة التي تخول لهم أن يصبحوا ماكينات منتجة في دورة الاقتصاد، ولكن متعلِّمين يتملَّكون المعارف والوسائل وتقنيات التفكير النقدي الحر الذي يسمح لهم بإدراك وضعهم البشري الكوني، في علاقة بباقي كائنات هذا العالم الذي ليس ملكا للبشر وحدهم وإنَّما هو مشترك طبيعي كوني.
إنَّ هذا النظام التربوي مطالب بجعل المدرسة فضاء للإبداع الحر، ولتنمية ذاتيَّة المتعلِّم في كافة جوانبها، لا ميدانا للتخصُّص وتجريب النماذج الإرشاديَّة (البراديغمات) التعليميَّة والمناهج والمقاربات البيداغوجيَّة، والتي مهما كانت لها من منافع أثبتت نجاعتها، مقارنة بالأنظمة التقليديَّة القائمة على التلقين، إلا أنَّها لا يمكن أن تكون صالحة دائما لكل المجالات التربويَّة وكل السياقات التعليميَّة التعلميَّة محلّيا وعالميا. ما لم يتمّ مراعاة إطار تنزيلها مع ضرورة تبييء كل اقتباس، خاصَّة وأنَّ نظامنا التعليمي، الآن، في حاجة إلى مدرسة المستقبل، مدرسة الذات الفاعلة، التي لا تحدِّد الغايات والأهداف فقط، هذه الغايات التي غالبا ما تجانب الصواب وتكون مكلفة، وإنَّما المدرسة التي تبني متعلّما فاعلا وقادرا على التكيُّف مع الواقع والمصير الذي يمكنه أن يواجهه، فيكون بإمكانه إيجاد الحلول الممكنة له بالاعتماد على نفسه، المتعلِّم الذي يدرك أنَّ وجوده يتوقَّف على الآخرين، الغير والطبيعة، لا على ذاته فقط. غير أن هذه المدرسة التي ستناط بها مهمَّة بناء هذا المتعلِّم الفاعل والمستنير، تطرح إشكال طبيعتها ووظيفتها ومناهجها، والمضامين والوسائل والتقنيات التي بواسطتها ستحقِّق ذلك؟ دون مصادرتها لاختيارات المتعلِّم ورهاناته وقدراته على تحمُّل العالم والواقع الذي سيعيش فيه.
سنحاول من خلال هذه المقالة تقديم وجهة نظر خاصَّة، لا تعني أنَّها حلا سحريّا، ولا وصفة جاهزة. بقدر ما هي محاولة للتفكير تستحضر السياق العالمي والعربي معا، والتحدِّيات التي تطرحها الألفيَّة الثالثة على الإنسان وعلى الأنظمة التربويَّة عموما، وتتمحور وجهة النظر هذه، على ثلاث مداخل كبرى وعامَّة، تتحدَّد في الآتي :
أولا: التربية على التفكير النقدي الحر والمركب.
ثانيا: التربية على قيم الجمال والتذوق الفني
ثالثا: التربية على المواطنة الكونيَّة والفهم الايكولوجي.
قد تبدو هذه المداخل للبعض مثاليَّة وحالمة وغارقة في الطوباويَّة، إلى حدٍّ ما، لكننا نرى أنها من الممكنات القادرة على بناء متعلِّم مستنير وملتزم ومسؤول أمام ذاته وغيره والعالم، مع التأكيد على أنَّها لا تلغي أبدا، المعارف والعلوم ذات المنفعة العمليَّة والتطبيقيَّة بشكل نهائي، كما يمكن أن يفهم.
أولا: التربية على التفكير النقدي الحرّ والمركَّب.
ما زال التفكير في مجال التربية والتعليم في المنطقة العربيَّة منشغلا، منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى الآن، في البحث عن سبل الخروج من المنظومة التربويَّة القائمة على التلقين والتحفيظ والتعلم العمودي، والعمل على ضمان تكافؤ فرص جميع الأطفال في التمدرس، ومحاربة الأميَّة والمساواة بين الجنسين، ورفع نسبة الأطفال الذين يكملون دراستهم بعد المرحلة الابتدائيَّة، وغيرها من المشكلات التقنية ذات الصلة بالتربية والتعليم[2]. أمَّا الحديث عن الجودة وتكافؤ الفرص والتساؤل حول رهانات العصر، وإن تم التفكير فيه فإن الأمر يحدث خارج السياسات التعليميَّة للبلدان العربيَّة، بخلاف دول العالم الأخرى التي سعت إلى القطع مع هذه المشكلات منذ زمن بعيد، وأقامت أنظمتها التربويَّة على أساس الفائدة والمنفعة والإنتاجيَّة والمردوديَّة في الميادين العلميَّة والعمليَّة، على الرغم أنها أصبحت هي الأخرى الآن أمام تحدِّيات جديدة، تفرض عليها تجديد أنظمتها التربويَّة والتعليميَّة، غير أن هذه البلدان وخاصَّة الغربيَّة منها، تجعل نموذج المدرسة والتربية والتعليم الممكن في المستقبل موضوع مساءلة مستمرة، وهي الآن لا تغفل المتغيّرات البيوتكنولوجيَّة والايكولوجيَّة والأكسيولوجيَّة والجيوسياسيَّة للألفيَّة الثالثة وما بعدها.
من المؤكَّد أنَّ التفكير في التربية والتعليم اليوم أضحى سؤالا مؤرقا– ليس فقط بالنسبة لنا – بل لكل دول العالم، وأنَّ البحث عن الحلول لم يعد يقتصر على المنظورات التقنية والبراغماتيَّة فقط، بل ويفترض البحث في الأسئلة الجوهريَّة التي تخصُّ النوع البشري، إذ أنَّ المتأمِّل لعصرنا يرى أنه عصر وفرة في المعلومة والمعرفة، فقد ولَّى زمن ندرة المعارف والمعلومات. ولكنَّه أيضا، ومن جهة ثانية، يعد عصر الوفرة في الأوهام والأخطاء والتناقضات والأحداث المتسارعة، إنَّه عصر تكثر فيه المعارف والمعلومات وتغيب فيه الحقائق، عصر بالكاد يتميَّز فيه اليقين من اللايقين وتطبعه السرعة المفرطة والتاريخ المفرط، حيث لا وقت فيه للفحص الدقيق والتأمُّل العميق، زمن يفتقد إلى ما أسماه عبد السلام بنعبد العالي “فضيلة التآني”.
إنَّنا ونحن نفكِّر في “صناعة المتعلِّم”، صار من الضروري التركيز على مدخلٍ أساسي ومهمّ، ألا وهو التفكير النقدي الحرّ والتفكير/ الفكر المركَّب، فالمدرسة التقليديَّة والبراغماتيَّة أثبتتا فشل إستراتيجيتهما التنميطيَّة والتسليعيَّة، وعليهما فسح المجال أمام ما يمكن تسميته بمدرسة الذات الفاعلة والمسؤولة، المدرسة التي يتملَّك فيها المتعلِّم ذاته قبل المعرفة والشهادة/ الدبلوم، وهي المدرسة التي تحرِّر المتعلِّم من قيوده الذاتيَّة، وتساعده على فهم أبعاده الوجوديَّة وشرطه الإنساني، بصورة كاملة وواضحة، ولا تتولَّى المسؤوليَّة عن مصيره، وهذه المؤسسة ليست مدعوة فقط للانشغال بصلاحيَّة المناهج التربويَّة واستراتيجيات التدريس، ولكن تلك التي تنشغل بكيفيَّة جعل الإنسان قادرا على أن يفكِّر انطلاقا من ذاته وبرؤية شاملة، وبإمكانه أن يتموقع بشكل جيِّد داخل العالم والمعارف والحقائق والنظريّات التي يتعلَّمها. فيدرك خلفيّاتها وسياقاتها وتاريخها، ومنطلقاتها وأبعادها الابستمولوجيَّة والقيميَّة والتاريخيَّة والجماليَّة، لأن مهمَّة مثل هذه لا تحقِّقها كثرة البرامج وزمن التعلُّم وتغيير وصفات النماذج التعليميَّة والعدد البيداغوجيَّة والوسائل الديداكتيكيَّة، وإن كانت تساعد فقط، بل تحقّقها التربية على أساليب المحاججة الفكريَّة النقديَّة، والقدرة على المساءلة والتحليل والتركيب وخلخلة الثوابت والبداهات واليقينيَّات، وكل أشكال الوثوقيَّة والدوغمائيَّة، بتقعيد التعلُّم الذاتي، والتربية على حبّ الاستطلاع والاكتشاف والفضول والاندهاش، إضافة إلى التربية على الحريَّة الفكريَّة والمدنيَّة والمبادرة والمشاركة الفعالة، وإصدار الأحكام باستقلاليَّة، وتعلُّم المسؤوليَّة تجاه الذات والغير والكون والوعي بالواجب حيالهم، وهي مهمَّة غاية في التعقيد، غير أنها وحدها الكفيلة بإخراج الكائن البشري من منزلقات الكارثة التي يتَّجه نحوها العالم، كما أنها السبيل الأفضل المنقذ لهذا العالم من القوى التدميريَّة/ الأصوليَّة الحاملة للنزعات الاستئصاليَّة باختلاف أنواعها، من تطرُّف ديني وبيوتكنولوجي واقتصادي ونووي…
إنَّ المراهنة على مدرسة التلقين والتخصُّص والمعرفة المجزَّأة و”الغيتوهات” الفكريَّة المنغلقة، هي مراهنة معطوبة لأنَّها أساس الشرّ الذي يسود عالمنا اليوم. لأننا في حاجة ماسَّة إلى تعليم المعرفة المركَّبة كما قال “إدغار موران” لمواجهة تعقيدات الحياة، وذلك من خلال التركيز على إكساب المتعلِّم معرفة المعرفة، الضروريَّة لكل بحث عن الوضوح، والتي تمكِّن من الكشف عن مصادر الأخطاء والأوهام والوعي بشروط المعرفة المناسبة. ثم فهم الإنسان، وهو التعليم الذي يمكن القيام به بالتعاون مع تدريس العلوم الإنسانيَّة.. والهويَّة والوضع الإنساني”[3] لأنَّ المتعلِّم الحرّ والمستقل والمستنير، والقادر على التركيب بين المعارف والفاهم لوضعه، هو الروح التي بإمكانها إحداث وتحقيق التغيير، ومواجهة التحوُّلات المتسارعة واللامتوقّعة لعصره، لذا على المدرسة التي تبني هؤلاء المتعلِّمين، أن تجعل منهم مبدعين ومبتكرين وتحفز ما لديهم من “إمكانات وقدرات وتنميتها وصقلها، [من خلال تعلُّم التعلم] وليس شحن أذهانهم بالمعلومات التي لا تفيد في مواجهة المشكلات المستجدَّة”[4]، وهي بذلك مطالبة بإخراجهم من عزلتهم الوجوديَّة لتفتحهم على آفاق كونيَّة واسعة. وتجعلهم يتحرّرون من التفكير الضيق والسذاجة، ومن البلاهة والتفاهة، والتمركز حول الذات الفرديَّة والجماعيَّة، ومن الأحكام الجاهزة والمسبقة.
من الممكن الاعتراض على هذا الكلام، بالقول إنَّ مدرسة اليوم تلعب هذا الدور، والمناهج والبرامج التربويَّة القائمة مبنيَّة على تعزيز التفكير النقدي وآليَّاته، غير أنه لا يجب أن ننسى أن هذه البرامج نفسها تتضمَّن كوابح تمنع ترسيخ هذا الفكر بحيث تغيب النظرة الشاملة والمتكاملة بين البرامج والمقرّرات في تحديد المعارف المدرسة، وهذا يؤدِّي إلى تناقضات صارخة تجعل المتعلِّم ليس هو نفس المتعلِّم بين مادة وأخرى وذلك بفعل المبالغة في التخصُّص الذي يجعل من المعرفة مفكَّكة ومفصولة عن بعضها، وعن وسياقها المعرفي والتاريخي، والتي لا تمكِّن المتعلِّم من فهم العلاقة والتمفصل الحاصلة مع المعرفة الكليَّة، ولا الجدوى منها ممَّا يجعل اكتساب هذه المعارف لأجل اجتياز الاختبارات والامتحانات، بغرض الحصول على شواهد تحقِّق فرصا للعمل، وهذا الوضع يضيع كل إمكانيَّة لتنمية الحسّ النقدي وامتلاك القدرة على التركيب بين المعارف، ناهيك عن إمكان ربطها بالأبعاد المكوّنة لإنسانيَّة الإنسانيَّة في أبعادها المتنوِّعة والمتعدِّدة.
وفي هذا السياق، لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن كل هذه البرامج والنماذج والمعارف المؤسسة للنسق المدرسي، غالبا ما تكون مفصولة عن باقي النسق العام، الاجتماعي والثقافي والسياسي والبيئي والأخلاقي الراهن. إذن، ما الفائدة من تدريس المعارف والحقائق والنظريَّات، بل واعتماد الوسائل والطرق البيداغوجيَّة والديداكتيكيَّة، التي تبثُّ فشلها أو تمَّ تفنيدها، سوى ربط المتعلِّم بزمن غير زمنه، وسياق غير سياقه وبمعارف وحقائق لن تفيده في شيء، وتحجب عنه الرؤية الصحيحة لواقعه؟ وما فائدتها أيضا إذا لم يكن قادرا على تحليلها ونقدها، ووضعها في سياقها العام؟
إنَّ متعلَّم الألفيَّة الثالثة لا يعوزه امتلاك المعرفة ولا الحقائق، فكل هذا يمكنه تنزيله بضغطة زر، ومن خلال الإبحار في عالم الإنترنيت الواسع، لكن ما ينقصه هو التفكير الذاتي والنقدي الفاحص، وهذا لا يمكنه تنزيله من الإنترنيت، لذلك فلا بديل عن بناء المدرسة التي يتوجَّب عليها أن تولي العناية البالغة لهذا الجانب، وإلا فمعارف وحقائق الشبكة المعلوماتيَّة قد تكون أفضل للمتعلِّم وأكثر تقدّما من ما هو مبرمج مدرسيّا أحيانا، وعموما فيمكن لمتعلِّم الألفيَّة الثالثة وما بعدها، الوصول للمعرفة في أقل وقت وبأقل تكلفة غير أنه ليس بإمكانه تحليلها ونقدها والشك فيها، وفهم سياقها الفكري والتاريخي والأيديولوجي بذات السهولة، كما أنه لا يتمكَّن من اكتشاف الأوهام والأخطاء والتناقضات التي تحملها، لذلك لا بد وجوبا وضرورة تعليم التفكير النقدي الحرّ والفكر التركيبي وأنَّ مدرسة المستقبل في هذا الصدد مدعوَّة إلى :
- جعل البرامج والمناهج وسائل فقط لا غايات، يتمّ من خلالها ترسيخ الفكر الحرّ وتبنِّي ذاتيَّة المتعلِّم إلى جانبه لا بدلا عنه، أي إعداد المتعلِّم الفاعل لا الممثِّل في مسرحيَّة أعدَّت سلفا.
- التركيز على استهداف بناء التفكير، لا مراكمة المعارف والحقائق عن طريق التلقين والإلقاء وحشو الذاكرة دون القدرة على استيعابها.
- دفع المتعلِّم إلى فهم وضعه في كل أبعاده الوجوديَّة والمعرفيَّة والأخلاقيَّة والتقنية والايكولوجيَّة وغيرها، ومنحه القدرة على التركيب بين المعارف والحقائق، وتمييز الوهم والخطأ داخلها وكشف تناقضاتها وحدودها.
- إشباع غريزة الفضول والاكتشاف والاستطلاع لديه، وتنمية ملكة النقد والمساءلة والمحاججة، وروح الإبداع والابتكار، والمشاركة الايجابيَّة والفعَّالة في بناء المستقبل.
- إيلاء أهمّيَّة لتعليم الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، نظرا لدورها في تنميَّة الحسّ النقدي والتركيبي.
- رفع درجة الوعي عند المتعلِّم، بالمصير المستقبلي للبشريَّة التي أصبحت مهدَّدة بالفناء بفعل التقنية والسيطرة المهولة على الطبيعة.
ثانيا: التربية على القيم الجماليَّة
هل يمكن بناء متعلِّم مفكِّر ومستنير، حرّ ومسؤول وفاعل، من خلال منظومة تربويَّة بمدارسها/جامعاتها ومناهجها وسياساتها التعليميَّة – التعلميَّة، بمدرِّسيها ومديريها… وهي خالية من روح الحياة وشاعريّتها، من الحبّ والفن المتعة والعاطفة، من اللعب والشعر والمسرح، وسائر الفنون الجميلة؟ الجواب، حتما، سيكون بالنفي، وعليه فالمدخل الثاني لمدرسة العصر/ المستقبل، هو أن تربِّي المتعلِّم على الفنون الجميلة/ الجماليات. وأنَّ المدرسة الحاليَّة القائمة على أساس المنفعة، والتي يقوم فيها التعليم على ” نمط هرمي، في قمّته المواد العلميَّة “المفيدة” (الرياضيات والفيزياء) وفي أدناه الأدب واللغات، أمَّا الفنون كالموسيقى والفنون التشكيليَّة والمسرح …فهي في “أفق غامض””[5] عليها أن تعيد حساباتها كلّها، إذا كانت تراهن على مستقبل معقول وأفضل، ومتعلِّمين يتملَّكون ذواتهم وواقعهم ومصيرهم.
إنَّ الزمن الرديء والخالي من المعنى، والذي أصبح يسود عالمنا، ويكبح سيرورة وجودنا الإنساني بفعل هيمنة اقتصاد السوق والتكنولوجيا المتقدِّمة، وثقافة التسليع والاستهلاك وإيديولوجيا الصورة وزمن اللحظة وما نتج عن ذلك من فراغ روحي وجداني، وتفاهة وبلادة وسذاجة، تتحمَّل المؤسَّسات التربويَّة فيه القسط الأكبر، لكنَّها محكومة في هذا الصدد بهيمنة السلطة السياسيَّة، إذ يكفي فقط النظر إلى حجم التسطيح الفكري السائد، وانتشار العنف والإرهاب، وتراجيديا الواقع اليومي للناس الموسوم بالمأساة، وجفاف العواطف وتدمير الطبيعة وغير ذلك، لتتَّضح الرؤية أمامنا، وهذا يبرِّر لماذا، وبالضبط، يجب تربية المتعلِّمين على الفنون الجميلة؟ ولماذا على السياسات أن تعتمد على هذا المدخل في التنظير الراهن للمنظومات التربويَّة؟ إنَّ الشعر والموسيقى والرواية والحكاية والأسطورة، والرسم والمسرح والرقص والغناء، والكوميديا والدراما… هي السبل الوحيدة القادرة على تحرير المتعلِّم/الإنسان، من الوقوع في براثن هذا الواقع الذي صنعناه، وتحرير طاقاته ومواهبه وقدراته، وتنمية مداركه وخياله الإبداعي، وتدفعه إلى الاندماج في الحياة الاجتماعيَّة والإنسانيَّة. وتطهّره من الانفعالات السلبيَّة، والعذابات النفسيَّة الداخليَّة منها والخارجيَّة.
ومن المؤكَّد أن الفضاء المدرسي/الجامعي، الخالي من الفن وشاعريَّة الحياة والإحساس بالجمال، لا يمكنه أن يكون أبدا فضاء محفِّزا على التعليم والتعلُّم، وعلى التفكير والإبداع، وحضور المتعلِّمين إليه حضور ضرورة وإكراه، لا رغبة واختيار وحبّ شخصي. كما أن عمليَّة الاكتساب المعرفي، والتحصيل الدراسي وبناء الذات، لا تتمّ بالشكل المطلوب والفعَّال. وإنَّما تتحوَّل العمليَّة التربويَّة إلى طقسٍ يومي خال من المعنى، بحيث تعتقد فيه الأطر التربويَّة أنَّها تقوم بأدوارها، والمتعلِّم يوهم نفسه أن يدرس ويتعلَّم، وتجد فيه الأسر “مجالا” تتخلَّص فيه من أبنائها لفترة من الزمن، ويجسِّد في الوقت نفسه في نظر الجهات الرسميَّة آليَّة من آليّات الضبط الاجتماعي، وبورصة لحساب مؤشِّرات ونسب النجاح، والمنظّمات الدوليَّة والأمميَّة حائط مبكى، على تردِّي التعليم وانهيار المنظومة التربويَّة في العالم، بينما يتعيَّن على هذا الفضاء التربوي، أن يكون مجالا خصبا للإبداع والأنشطة الفنيَّة التي تغذِّي مشاعر المتعلِّم ووجدانه، وذائقته الفنيَّة، كما يغذِّي ذهنه بالمعارف، وتنمِّي قواه الجسديَّة عن طريق الأنشطة الرياضيَّة.
ولا شكّ أنَّ نظاما تعليميّا يليق بمتعلِّم الألفيَّة الثالثة، ويكون قادرا على إنقاذنا من ما عبَّرت عنه أم الزين بنشيخة المسكيني بـ” الوهن الميتافيزيقي الذي أصاب كينونة الإنسان”[6] المعاصر نتاج الثورة الرقميَّة، التي أضحت تنقلنا من التمركز البشري إلى التمركز التقني، بتعبير المحلّلة النفسانيَّة الفرنسيَّة “إلزا غودار”[7]، فلن يكون تعليما غير ذي جدوى وأهمّيَّة، ما لم يولِ العناية البالغة للتربيَّة على قيم الفن والجمال، وعشق الحياة في تفاصيلها العامَّة والدقيقة، ما لم تكن المدرسة فيه (النظام التعليمي) مشتلا فنيّا تنبعث منه روح الحيويَّة والحركيَّة، في كل مكوناتها، بمدرّسيها وإدارييها ومناهجها وطرقها وفضاءاتها وتصاميمها ومضامينها وأساليبها، وعلاقاتها الداخليَّة والخارجيَّة، إذ من الواجب عليها أن تجعل الطفل الصغير المشبع بالبراءة، يشدو كالعصفور مغرّدا. والمراهق أن يزهر ويفوح عبقا كزهر الربيع، وعنفوان الشباب أن يثور ويتمرَّد معانقا للحرّيَّة والحياة وأن تعيد للإنسان إنسانيّته التي أصابها التخشُّب، وأثخنتها الأزمات والجراح حتى تستعيد الحياة المدرسيَّة والعامَّة بهجتها ورونقها.
إنَّ المتعلِّم لا يمكنه التعلُّم “إلا من خلال المتعة والذوق والعاطفة … (و)يمكننا أن نقول إنَّ المعرفة تتغذَّى على العاطفة، والعاطفة تتغذَّى على المعرفة”[8]، فبأي حقٍّ تغيب التربية الجماليَّة في بيئة متعلِّمي عصرنا ما دامت الفنون الجميلة هي التي تنمِّي الخيال الإنساني، وتنمية الخيال – هنا – لا يجب أن تؤخذ على أنها ” وسيلة للهروب من الظروف غير المحتملة، وإنّما كاستشراف للإمكانات الواقعيَّة للمستقبل، أي كوسيلة لإنهاء الظروف المحتملة”[9] والتي يمكن للمتعلِّم/ الإنسان مصادفتها، أو تفاجئه دونما اعتبار منه، لذلك يتوجَّب على منظومة التربية والتعليم، ألا تسعى، من خلال هذه التربية على الفنون الجميلة، إلى فرض أذواق فنيَّة معيَّنة، أو نماذج موحَّدة ومختارة، تلافيا للتنميط الذي يقتل الروح الإبداعيَّة، ولبناء متعلِّم ذي بعد واحد بتعبير هربرت ماركيوز.
لا بد إذن من فهم، أنَّ كل متعلِّم يحمل، وبالطبيعة، في ذاته روح الإبداع والجمال، والروح الجميلة من حيث ” هي مفهوم أخلاقي يرتكز على تطوير القدرات البشريَّة، وزيادة منسوب المعرفة والثقافة. تستلزم استمرار تطوير الذات لخلق نوع من التلاقي والتلاقح بين الدافع الجمالي الفردي والقيم الأخلاقيَّة العامَّة.”[10] وهي الروح التي يتطلَّب الأمر استهدافها، بكل الأنشطة التعليميَّة التعلميَّة داخل المدارس والجامعات، لأنَّها قادرة على مساعدة الفرد، على أن يكون منتجا ومبدعا في كل الميادين والقطاعات. سواء منها الماديَّة ذات المنفعة الخاصَّة بتطوير الحياة اليوميَّة، أو الميادين الأخرى التي تستهدف الحياة لأجل الحياة وشاعريّتها، وهذا الفرد الذي سيكون بإمكانه، بفضل روح الجمال، أن يقوي الإحساس بالتعاطف الإنساني في ذاته، ويتوجَّه نحو الغير والطبيعة وهو مفعم بالمشاعر النبيلة الجيَّاشة، ومن هنا، فإذا كانت الفنون الجميلة هي ما يمنح الحياة طعمها وشاعريّتها، فإن المدرسة التي لا تحتضن الفن، ولا تستهدف الجمال، ولا تشعر المتعلِّم بروح الحياة وطراوتها، فإنها ستفقد القدرة على إحداث التغيير، وبناء الإنسان الفاعل والحرّ والمتنوِّر، لتتحوَّل إلى فضاء للوثوقيَّة والأصوليَّة والدوغمائيَّة، ونشر التخلُّف وانتشار العنف، وتكوين إنسان منهزم وفاقد لأي أفق ومعنى.
بناء على هذا، فإنَّ مدرسة العصر والمستقبل، يجب أن تقوم على:
- سياسات تربويَّة محكمة وفاعلة، تستحضر أهمّيَّة البعد الفني والجمالي في بناء المتعلِّم.
- اعتماد برامج ومناهج وطرق ووسائل تنشيطيَّة، تستهدف الجانب الوجداني العاطفي للمتعلِّمين.
- إضفاء الجماليَّة على تصاميمها وفضاءاتها ومحيطها الداخلي والخارجي.
- اعتماد أطر مكوّنة تكوينا – ليس فقط معرفيّا وبيداغوجيا وديداكتيكيا – بل تكوينا في مجال التنشيط الفني والثقافي.
- أنسنة العلاقات التربويَّة بين مكوّناتها المختلفة.
ثالثا: التربية على المواطنة الكونيَّة والفهم الايكولوجي.
إذا تملّك المتعلِّم حسّا نقديا، وأضحى قادرا على التمييز والاختيار، وسيِّد قراره ومصيره. وتحرَّر من القيود الذاتيَّة والجماعيَّة، التي تحول دون فهمه للوجود والغاية منه، وإذا تشبع بالقيم الجماليَّة وعانق الحياة وتذوّق طعمها، وتشرب معينها، وأنشدها شعرا ورسمها لونا وعزف “نوتاتها” لحنا، وخطّها نثرا وجسدها مسرحا.. فكيف لا يكون إنسانا متكاملا؟ ولكن هل هذا كاف ما لم يقترن بالوعي بالمواطنة الكونيَّة والفهم الايكولوجي؟
ومن المعلوم أن عصرنا، لم يعد عصر العشيرة والقبيلة، وأكاد أقول، أنه لم يعد عصر الدول الوطنيَّة كذلك، لأنه عصر العولمة الاقتصاديَّة الذي تراجعت فيه سلطة الدولة الوطنيَّة. لم يشهده الواقع الإنساني من تشابك في العلاقات، وتكسير للحدود الجغرافيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة وغيرها، غير أن الدعوة هنا إلى التربية على المواطنة الكونيَّة، ليس معناه الدعوة للعولمة، بل السعي نحو العالميَّة، فـ “العولمة تخضع لآليَّة توحيديَّة، أما العالميَّة فترعى التعدُّد، العولمة سلب للخصوصيَّة وقضاء عليها، في حين الخصوصيَّة تدرك في الثقافة العالميَّة”[11]. وفي هكذا سياق، من الضروري صياغة السياسات التعليميَّة، والمنظومات التربويَّة للدول عامَّة – وليس فقط العربيَّة – انطلاقا من مدخل ثالث، يحقِّق التربية على المواطنة الكونيَّة القائمة على التعدُّد والتنوُّع، والفهم الايكولوجي، إلى جانب مدخلي التربية على التفكير النقدي/ المركب، والتربية على الفنون الجميلة.
فواقعنا المتردِّي، والغارق في بحر الدماء، والعنف والإرهاب والتلوّث، وانعدام المسؤوليَّة تجاه الذات الإنسانيَّة والبيئة، راجع إلى أننا ما زلنا نجهل معنى، كيف نحيا حياة سعيدة؟ وكيف نتخلَّص من نزعة التمركز التي تسكننا، أفرادا وجماعات ودول؟ وكيف نعيش باختلافنا وتعدّدنا في إطار وفاق إنساني كوني؟ وكيف نحيا مع بعضنا البعض، على أساس المشترك، وأن نحترم الخصوصيَّات ونعمل على جعلها جوهر وجودنا؟
لعل هذا، في نظرنا، لن يتأتَّى إلا من خلال التربية وعن طريقها، ومن خلال متعلِّم يتعلَّم في المدرسة، أن وجوده لا يتوقَّف على ذاته، ولا ينحصر فيها. وإنّما يتطلَّب حضور الآخرين، أي يستوجب الاعتراف بالغير وباقي الكائنات الحيَّة والطبيعة عموما. كما لن يتحقَّق هذا إلا بواسطة منظومة تربويَّة، قائم على فكرة حقوق الإنسان كـ” حقوق يمتلكها جميع البشر ( في كل زمان ومكان ) لا لشيء إلا إنسانياتهم”[12] وحقوق البيئة وباقي الكائنات التي تقتسم معنا هذا العالم، فالطفل ومنذ حداثة سنه، يتعلَّم عن طريق التربية القائمة، جغرافيا بلده وثقافته/ ثقافاته ولغته/ لغاته ودينه/ دياناته، وملامح أفراده وأساليب عيشهم، وفي المقابل، يتعلَّم ثقافات وديانات ولغات، وأساليب وأنماط عيش الشعوب والمجتمعات الأخرى، على أنها نقيض لم يخصّه، بحيث يصل الأمر أحيانا إلى درجة تأسيس ذلك على نوع من العداء، تجاه الآخر وعالمه، لاعتبارات أيديولوجيات أو سياسيَّة أو دينيَّة أو لغويَّة أو تاريخيَّة ضيقة. في الوقت الذي يتعيَّن فيه على التربية، أن تقود مشعل التنوير وتعزيز الترابط الإنساني على كافة الأصعدة. ولذلك، فالمدرسة – التي نفكِّر فيها – مدعوَّة إلى ترسيخ الوعي لدى المتعلِّمين، بأن المواطنة مواطنات، وليست مواطنة واحدة، وأن تبني لديهم الوعي بأنَّهم مواطنون داخل الأسرة والحي والمدينة، كما هم مواطنون داخل الدولة والقارة والعالم، مواطنون على الصعيد المحلِّي والكوني معا، وأن تربّي فيهم الوعي بالواجبات الاجتماعيَّة والكونيَّة، وبالحقوق الوطنيَّة والإنسانيَّة، وتساعدهم على إدراك الحدود بين الخاصّ والعام في مختلف السياقات. هذه الحدود التي بقدر ما تفصل بيننا، تشكِّل أوثق عرى الترابط الممكن. دون نسيان أهمّيَّة التنمية على السلوك المدني لديهم، تجاه الذات والآخر والمحيط. وتوعيتهم بأنهم يختلفون مع ذواتهم قبل غيرهم. وأن الطبيعة لم تخلق لأجلهم وحدهم، وأن لا سبيل للنجاة من المصير الذي يتهدَّد عالمهم/ كوكبهم إلا بالعيش المشترك، والاحترام المتبادل.
إنّنا في أمسّ الحاجة إلى مدرسة “تصنع” متعلّما، يدرك معنى الحقّ والعدالة، ومعنى الحريَّة والواجب، الخير والجمال، ومعنى الذات والآخر، متعلّما مدركا أنّ مصير كوكبنا، يسير نحو الضياع وعلينا إنقاذه، علينا التصالح معه والتعامل معه برفق، وأن تعلّمه أنّ فيروسا ميكروسكوبيا، كفيروس “كوفيد 19″ (كورونا) مثلا، قادر على أن يخلق فينا الرعب والهلع، بل وأن يقضي على وجودنا الإنساني، بحيث عليها أن تفهمه أنَّ الأرض قادرة على الاستمراريَّة من دون وجود بشر. فإذا تمكَّنت المدرسة من أن تربي فينا هذا الوعي بالمصير الذي ينتظرنا مستقبلا، فهي بذلك ستربِّي فينا أهمّيَّة أن نكون مواطنين كوكبيين، وأهمّيَّة احترام مسكننا الوحيد، الأرض. فنحن الآن مجبرون على ” أن نعيد أنفسنا إلى الكون، الذي نعرف أنه ذاهب نحو التبعثر والموت، والذي يشير إلينا بموقعنا الصغير والهامشي والطرفي، ومعارفنا في هذا المجال تعزِّز هذه الفكرة القائلة بأن مسكننا الأرض”[13] ومن دونها لا نملك خيارا ثانيا، حتى الآن، غير إصلاح علاقتنا بها، والتوقُّف عن التمادي في تخريبها.
ولعلَّ انتشار النزعات التدميريَّة في العالم، على اختلافها، دينيَّة أو عرقيَّة أو اقتصاديَّة أو بيو تكنولوجيَّة. هي سبب العنف المستشري فينا، والنزعات الإقصائيَّة والعدائيَّة بيننا، وفساد محيطنا، وتشويه إنسانيّتنا. ولا إصلاح لذلك دون عمليَّة تربية وتعليم جيدة، تساعد على التفكير في الآليَّات الفعَّالة والكفيلة ببناء الغد المشرق، وإنقاذ ما تبقَّى منّا، ومن محيطنا الحيوي، فالأمر يحتِّم علينا التفكير بعقلانيَّة وحكمة، ليس فقط، في حالتنا الراهنة، وبخصوص مستقبل الأجيال القادمة أيضا، فإنّنا مسؤولون عنها، أكثر من مسؤوليّتنا عن ذواتنا، وعلينا أن نفهم أنّنا سبب الويلات التي سيلاقونها، والتي لا ذنب لهم فيها لأن تربيتنا الحاليَّة، هي أساس تصدُّع العلاقات بينا، والوحشيَّة التي تسكن أعماق نفوسنا، والغرابة التي تشعّ من عيوننا، والطيش الذي يحكم سلوكنا، غير أن التربية على حبّ النوع البشري، واحترام المحيط البيئي، بإمكانها تصحيح ذلك. ولكن أيضا، علينا أن نتعلَّم، وبشكل جدّي، كيفية تغيير ذلك قبل فوات الأوان.
إذن، إنَّ التربية على المواطنة الكوكبيَّة والفهم الايكولوجي تستوجب منا:
- تجفيف المناهج والمقرّرات، من كل ما من شأنه أن يربّي في نفوس المتعلِّمين العداء للآخر المخالف محلّيا كان أو عالميا، أو أن يحطّ من ثقافته أو دينه أو عرقه أو لغته أو أساليب عيشه.
- تعزيز الفعل الديمقراطي داخل العلاقات التربويَّة، حتى يستطيع المتعلِّم نقله إلى علاقاته الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، داخل الحياة اليوميَّة.
- التربية على مبدأ احترام حقوق الإنسان، وعلى مفاهيم الحق والعدل والخير والجمال. وعلى احترام الخصوصيّات المحليَّة والمشترك الإنساني، وحقوق الحيوان والبيئة والحفاظ عليهما.
- التربية على أخلاقيّات الحوار وفضيلة التواصل وأدبيَّات النقاش.
- البحث عن الوسائل المساعدة على ترسيخ السلوك المدني والحضاري عند المتعلِّمين.
- التربية على البحث عن الطاقات البديلة والصديقة للبيئة، وتشجيع البحث العلمي الجامعي على ذلك.
على سبيل الخلاصة:
إنَّ الحديث عن التربية على التفكير النقدي والتركيبي، والفن والجمال، ثمّ المواطنة الكونيَّة والفهم الايكولوجي لا يعني تغييب للعلوم النفعيَّة والمعارف الضروريَّة التي بواسطتها تتطوَّر الحياة، وتتيسر سبل الرخاء والرفاه الاجتماعي للإنسان. أي لا يعني أن المدرسة التي يتمّ التفكير فيها، بناء على هذه المداخل الثلاث، أنها ليس معنيَّة، وليس من مهامها وأدوارها، أن تعلِّم علوم العصر، والتي تتمحور أساسا حول الثورة التكنولوجيَّة، والذكاء الاصطناعي، والثورة البيولوجيَّة وغيرها من العلوم التطبيقيَّة. بل وعلى العكس، عليها أن تعمل على زيادة التفكير والتكوين فيها، مع الالتزام بالشروط الأخلاقيَّة الضامنة لجعلها في خدمة الذات الإنسانيَّة والعالم، عن طريق التربية على التفكير في أخلاقيَّات العلم ونتائجه، ونزع الطابع المادِّي والنفعي الصرف عنه. ونحن نعتقد، أنَّ أخذ التربية والتعليم للمداخل المذكورة، بعين الاعتبار، سيكون له تأثير كبير على تجنّب الكارثة التي يتوجَّه نحوها مصيرنا.
على مدرسة المستقبل، المفكّر فيها، إذن، أن تنمي في النشء التفكير العقلاني الناقد، وقيم التحرُّر والمسؤوليَّة والسلوك الديمقراطي، وقيم التعاون وحسّ المشاركة والمبادرة، ومبادئ الاختلاف والتعدُّد واحترام الرأي المخالف، وحقوق الإنسان وصيانة الكرامة الإنسانيَّة. وأن تعلِّمهم قواعد النقاش، وأدبيَّات الحوار، وحبّ الحياة، والمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات والقيم الأخلاقيَّة الفاضلة، التي تسمو بالذوق وسلامة الحكم، وأن تشجّعهم على النظرة الكليَّة والشموليَّة في التعامل مع القضايا المطروحة، والتصرُّف وفق التفكير اليقظ والمستنير، كما أنّ من مهامها بثّ روح التطلُّع إلى بناء نظام عالمي جديد، قوامه السلم والأمن، وتحقيق العدالة الاجتماعيَّة والبيئيَّة، وتقليص الفوارق بين الشعوب والمجتمعات، معرفيّا واقتصاديّا وبيئيّا، بالإضافة إلى تحرير حقّ هذه الشعوب في التصرُّف في مواردها البشريَّة والطبيعيَّة الخاصَّة، وفي حدود الحاجة والمعقول والعمل على تنميتها كذلك، مراعاة لحقوق الأجيال اللاحقة وحقّها في مستقبل واعد تتمتَّع فيه بالرخاء والرفاهيَّة والأمن بمختلف أنواعه.
لم يبق إلا أن ننشد ما جاء في مسرحيَّة “هيبوليتوس” للشاعر اليوناني ” يوريبيدس”[14] :
ليت القدر يحقِّق لي هذا الرجاء:
حظا سعيدا وثراء
ونفسا غير مثقلة بالأحزان
ويا ليت أفكاري تكون
بعيدة عن التزمُّت، بعيدة عن الزيف،
ويا ليت مزاجي يكون طيِّعا،
يتكيَّف دائما مع كل غد،
فأقضي حياة سعيدة.
[1] – إدغار موران” تربيَّة المستقبل، المعارف السبع الضروريَّة لتربيَّة المستقبل”، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، ط1/ 2002. منشورات اليونيسكو وتوبقال، الدار البيضاء/ المغرب، ص 75.
[2] – أنظر في هذا الصدد التقرير الإقليمي عن الدول العربيَّة، ضمن التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2000/2015 لسنة 2015، الصدر عن منظمة الأمم المتَّحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
[3] – إدغار موران ” في الجماليات “، ترجمة يوسف تيبس، ضمن كتاب مجلة الدوحة 102/ مجلة الدوحة، العدد145 نوفمبر 2019، وزارة الثقافة والرياضة، دولة قطر، ص 112 بتصرف.
[4] – أحمد أوزي “جودة التربيَّة وتربيَّة الجودة”، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء/ المغرب، ص/ص 137/138.
[5] – علي ضباع، مقالة بعنوان “مداخل لبناء نموذج بيداغوجي متكامل”، مجلة دفاتر التربية والتكوين، العدد 12، أكتوبر 2017، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الرباط/ المغرب، ص 26.
[6] – أم الزين بنشيخة المسكيني، مقالة بعنوان ” منزلة الشعراء في الجماليات الغربيَّة، من كانط إلى باديو”، مجلة الفيصل، العددان 503/504، سبتمبر- أكتوبر 2018، مركز الفيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة، السعوديَّة، ص 49.
[7] – إلزا غودار “أنا أسيلفي إذن أنا موجود، تحولات الأنا في العصر الافتراضي”، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، ط1/2019، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء/ المغرب، ص .62
[8] – إدغار موران “في الجماليات”، مرجع سابق، ص .100
[9] – اريك فروم “الانسان بين الجوهر والمظهر”، ترجمة سعد زهران، مراجعة وتقديم لطفي فطيم، مجلة عالم المعرفة، العدد 140، أغسطس 1989، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص162.
[10] – جستين كولاتا مقالة بعنوان “النمط الثوري للروح الجميلة المنمقة ذاتيا”، ترجمة أمير العزب، مجلة الثقافة العالميَّة، العدد 199، السنة 36 مايو-يونيو، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص103.
[11] – عبد السلام بنعبد العالي “البوب – فلسفة”، دار توبقال للنشر، ط1، 2015، الدار البيضاء المغرب، ص90.
[12] – تشارلز آر بيتز “فكرة حقوق الإنسان” ترجمة شوقي جلال، مجلة عالم المعرفة، العدد421، فبراير 2015، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، ص 59.
[13] – إدغار موران، حوار أجراه معه ” لورانس بانسكي”، وترجمه عفيف عثمان، ومراجعة كريم عبد الرحمان، مجلة الاستغراب العدد 8، السنة الثالثة 2017، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيَّة، بيروت، لبنان، ص 37.
[14] – يوريبيدس ” هيبوليتوس “، ترجمة وتقديم: د. عبد المعطي شعراوي، ومراجعة د. أحمد عثمان، تقديم ودراسة نقديَّة، د. محمد شيحة. مجلة من المسرح العالمي، العدد 398، يناير 2019، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت. ص 100- 101.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.