صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب عبد السلام المسدي الخطاب القرآني وأسرار التلقي. يتألف الكتاب من 376 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
الكتاب محاولة للإجابة عن السؤال: كيف يتلقّى الإنسانُ القرآن وهو يتلوه أو يُرَتّله؛ فلئن كان علم التفسير قائمًا على استنطاق النص القرآني بالشرح والتأويل، فإنّ هذا الكتاب يحاول أن يُعيد استنطاق “كتاب العربية الأكبر” كما يتلقّاه القارئ بالفطرة من دون أن تكون له دراية بعلوم القرآن؛ لذلك جرت معالجة النص على أساس ما يدور في خاطر قارئه عندما يتلقاه؛ علمًا بأن لحظة التلقّي تختلف عند القارئ الواحد من زمن إلى آخر فضلًا عن اختلافها من قارئ إلى آخر، وهذا ما يقود المؤلّف إلى صياغة مفهوم منهجي في دراسة النص المقدَّس سمّاه “الذاكرة القرآنيّة” بناءً على أنّ التمثّلات الأولى لكل قارئ تظلّ تصاحبه حتى ولو تخصّص في علوم القرآن بعد زمنه الأول، من هنا يتناول المؤلّف ما يختزنه الإنسان من دلالات قرآنية انطلاقًا من الحيثيات التي تحفّ بلحظات “التلقّي”.
في الوعي القرآني
عندما نؤكّد أنّ للقرآن تجلّيات تتعدّد وتتنوّع بحسب التجربة الفردية، فإننا نتّجه صوب العلاقة النفسية الأليفة التي تنشئها الأيام بين الكائن الفرد والنص القرآني، وهذا لا ينالُ أبدًا من قدسية الجوهر الأوحد الذي به يكون القرآن قرآنًا، وبه يكون كتابًا سماويًّا بكل ما في هذه العبارة من مغزى كثيف يكاد يضيع على ألسنتنا لكثرة ما نردّدها، ولكثرة ما يردّدها حولنا الذين يستعملونها في سياق الإلماح إلى أن القرآن ليس هو الكتابَ السماوي الوحيد. جرت بنا العادة أن نأخذ القرآن وهو في الصورة التي نتمثلها نهائية، نقرؤه أو نستحضره، نستشهد به أو نرتّله، هو دائمًا النص المقدَّس التام، هو الجاهز الأكمل، هو الجوهر الأمثل وقد استوفى أشراطه المتعالية، هو المتسامي في ذاته وهو الأسمى في وعينا، ليس لتعاليه زمن سابق وزمن لاحق. هكذا تقضي العادة وتَحكم الألفة فتستجيب الأعراف لتُرَسّخ ذاك الإحساس في أعماق نفوسنا ترسيخًا.
لا خلاف إذن على مضمون ما يتوطّن في قلوبنا، ولكن المسألة التي من أجلها نسوق ما نسوق – وهي غاية في الدقة وفي الخفاء – أن عِشرة النصّ القرآني والامتثالَ المتجدّد إلى جلال قداسته يغيّبان عنّا السؤال اليتيم: كيف حصل التوطين في النفس؟ وما المراحل التي مررنا بها قبل أن تكتمل الصورة المتعالية حتى لكأنّ مراحل النشأة والارتقاء التي تدرّجَت معها أحاسيسنا شيء لا شأن لنا به؟ هو ذاك الذي غاب واختفى، هو ليس فقط من المسكوت عنه، وإنما هو المُلغى وقد يكون منكَرَ الوجود، فلا مجال للقول فيه ولا للحديث عنه، وغيرُ بعيد أن يبدوَ استدعاؤه بدعة، ومن أفاض فيه فقد كشف المستورَ، أما السبب في ذلك – على ما نقدّر – فيكمن في أن ذاك الصّنيع سيُجْلي التجربة الفردية مع القرآن، وقد ينتهي الأمر على خروج النص الأوحد إلى نص متعدّد، وهي محاذير نقدّرها على سبيل الافتراض الجدلي لأننا لا نعلم أنّ الموضوع قد أثيرَ فعلًا أو ناقشه المجتهدون، أو تجادل حوله الموكولُ إليهم أمر التفسير والتأويل. ولكنّ إغماض العينين عمّا يحوم في باطن نفوسنا حيال كلّ آية أو سورة أو مشهد هو ضربٌ من إلغاء الحقيقة ومِن توهّم إقصاء آثارها. كيف نبلّغ دلالة القرآن؟ وكيف نتأوّل مقاصده حين نخاطب من يتلقّاه عنّا من صِبية يافعين أو كهول ناضجين إن لم نتحسّس ما يَسْكن ذاكرة كلّ منهم عند كلّ محطة من محطات الشرح والتفسير؟ وكيف نرتقي بالذي يعيش تجربة الإيمان إلى صفاء التمثل القرآني إن لم نيسّر له سبيل استصفاء النص المتعالي بعد أن ننزع عنه ما عَلِق في الذاكرة حوله؟
القرآن والعلم
وهل من موجِب للتذكير بواحدة من أمّهات القضايا التي أثّثت تاريخ “الفلسفة” الإسلامية؟ إنها موضوع “صفات الله” وهي صفات قائمة في ألوهيّته، وكان السؤال: هل يجوز تجريد الصفة من الموصوف فنقولَ: بما أن الله قادر فإن صفة القدرة من لوازمه، وإذا هذا المبدأ اللغوي الاشتقاقي يَفتح بابًا لم يكن أحد في العهد الأوّل من الإسلام يتخيّل أبعاده؛ فقد بدا لبعضهم أن القول ينجرّ عنه ما هو أقرب إلى الشرك إذ يؤدّي القول باستقلال الصفات عن الموصوف إلى لزوم اعتبارها “قديمة” كقِدَم موصوفها، وإذا بالصفات تشارك موصوفها في القدم وهذا عين الشرك، ومن هذا كلّه انبثق علم الكلام حين كان الجدل يدور على فعل “الكلام” من حيث هو صفة تجسّمت في “القرآن” الذي ما هو إلا كلام الله: وتكاملت يومئذ عناصر “الميلودراما” الكبرى، وبلغت أوجها مع الخليفة المأمون وتجسّمت في السؤال الذي يتحدّد بالجواب عنه مصير كيان الأفراد والجماعات: هل القرآن قديم أم حادث؟ كما رأينا تفصيلَه لغير هذا المقصد. وبين الانتباهِ إلى “حقائق علمية” تضمّنها القرآن وإقامةِ حقلٍ كامل ضمن دائرة علوم القرآن يسمّى “التفسير العلمي للقرآن” مسافةٌ معرفية ليست بالهيّنة، ولئن ارتاح القارئ – بوازعه الفكري أو باستلهامه الروحي أو بكليهما متوالجَين – فإن الحرج يظلّ قائمًا كلّما مررنا في القرآن بإشارات ذات مُستنَد علمي خالص، وعجزنا عن تصديقها بما يتواءم مع مكتشفات العلوم الدنيوية الدقيقة في آخر ما ارتقت إليه، فهل نكفّ ساعتئذ عن التأويل؟ أم نُنْحي على المنهج باللائمة؟ أم نرفع أيديَنا معلنين أن القصورَ قصورُنا وليس قصورَ العلم ولا قصورَ المنهج؟ إنّ من كان انخراطه في التصديق واستسلامَه لموجبات الإيمان مرهونًا بـ “الإعجاز العلمي في القرآن” لن يكون أنموذجًا؛ لا في باب التصديق ولا في حوزة الإيمان، وهذا من الحقائق الفكرية المطلقة.
التوقع والانتظار
لنتذكرْ أنّ الأصل في كل دالّ أن يختص بمدلول واحد، وألا يكون للمدلول عليه إلا دالّ وحيد، ولكن الدالّ في اللغة ينطلق في نشأته مقترنًا بمدلول واحد ثمّ يتّسع مجال دلالته فيمسي مستوعبًا لدلالات متكاثرة، ومن أجل هذا تمسّك القدماء بعلوية المعنى على منازل الألفاظ، فكانوا يردّدون قولهم الأثير “لا مُشاحّة في الألفاظ” ليَسُدّوا بذلك كلّ حجاج مراوغ للجوهر المراد. ولنذكّرْ أيضًا بما هو حقيقة متكرّرة في تواريخ كلّ الثقافات الإنسانية، فالناس يجتمعون في المكان وفي الزمان، فتكون بينهم لغة يتخاطبون بفضلها، وتغدو مِلكًا مشاعًا بينهم ليس لأحد منهم أن يدّعيَ أحقيّته بها ولا سلطتَه عليها، فتكون اللغة بينهم كائنًا حيًّا ينمو ويتطوّر تبعًا لما يطرأ على المجتمع من حاجات أو ضرورات، وفي يوم من الأيّام تنشأ الحاجة إلى استنباط القوانين الخفيّة التي تنتظم بفضلها تلك اللغة، فينشأ علمُ تلك اللغة، أو – باختصار – ينبثق العلم بقواعدها ذاك الذي يختصره مصطلح علم “النحو”. لذلك تُعتبر لغات البشر حقائق موضوعية تندرج في تاريخية الوجود البشري، ولغات البشر أدوات ووسائط ليس لواحدة منها في ذاتها قداسة وجودية، ولكن التحضّر البشري هو الذي يسبغ عليها جلالًا إمّا بازدهارٍ يدركه الاجتماع الإنساني وإمّا بطاقة علوية تجود بها الأبعاد الروحانية فتنغرس قناعاتها في نفوس من يتجاوبون مع البواعث الإلهامية؛ تلك التي قال عنها جمع غير بسيط في تاريخنا الحضاري: ما يُدركه الحسّ ولا تأتيه الصفة كما سبق أن استشهدنا به. فاللغة البشرية ينالها الفضل بالاكتساب لا بالمنشإ، ولو لم يكن كذلك لاختفى فضلها على سائر اللغات كما رأيناه أيضًا بشواهده التراثية.