إنَّ فلسفة الدين تنتقل بنا من الدفاع عن المعتقدات وتبريرها والتبشير بها كما يفعل اللاهوتيون والمتكلِّمون، إلى البحث في المعتقدات والمقدَّسات وتحليلها وتفسيرها استنادًا إلى العقل، ففيلسوف الدين لا يكف عن البحث والتحليل والتفكير الحر وتعقل المعتقدات والطقوس والشعائر والتجارب الدينيَّة وبيانها والتعمُّق في اكتشاف ما هو جوهري فيها والتعرف على التجارب الدينيَّة المتنوِّعة تبعا لاختلاف الأديان ولسياقاتها الاجتماعيَّة والتاريخيَّة المتعدِّدة. فيلسوف الدين يتبصَّر بعمق التجربة التاريخيَّة للدين ليكتشف أنَّ معظم حروب الأديان تعود إلى التوظيف البشري للدين خارج مقاصده، كما تلتزم فلسفة الدين ببيان أنماط التمثُّلات البشريَّة الزمنيَّة المتغيِّرة للدين وما يلابسها من تشوّهات وإكراهات وتعصُّب وعنف تتَّصل عضويا بتوظيف الدين واستخدامه قناعا لانتهاك قيم الحريَّة والكرامة البشريَّة والعدل والمساواة وتحويله أداة للتسلُّط والتعسُّف والاستغلال في حياة المجتمعات. (1 ) كذلك تتناول فلسفة الدين أسئلة تتعلَّق بطبيعة الدين نفسه وطبيعة اللغة الدينيَّة، بالإضافة إلى مسائل تتَّصل بمعنى العبادة الدينيَّة ودور الإيمان فيها وعلاقة الأخير بالعقل.(2 )
إن ما ترمي إلى تحقيقه فلسفة الدين، يشترط وجود باحث في تاريخ الأديان يتمثَّل عمله في تمهيد الأرضيَّة المساعدة على انبثاق فلسفة للدين، وذلك من خلال المراحل التي يتبعها في دراسة الأديان ابتداءً بمعرفة التاريخ ولا سيما تاريخ ظهور الأديان ونشأتها ثم تقصِّي خصائصها المشتركة وذلك من خلال تأسيس نحو الديانات la grammaire des religions الذي يهدف إلى إستخراج القواعد الكليَّة المشتركة للديانات كالصلوات والشعائر والطقوس والقرابين وهي موجودة في كل الأديان، هذه القواعد ينبغي تحديدها ووصفها وتصنيفها، بحثًا عن ملامح مشتركة للإنسان المتديِّن l’ homo-religious وعلى الباحث في هذا المجال أن ينطلق من دين مخصوص ثمَّ الانفتاح على بقيَّة الأديان، مع العمل على تجنُّب المعياريَّة في مواقفه من الأديان أي التحرُّر من وهم الخصوصيَّة وتفضيل دين على دين، كما عليه التضلُّع في اللغات أي معرفة لغتين فما أكثر. إن تأويل الظواهر الدينيَّة يظل عملا يهتمّ به فيلسوف الدين باعتباره يبحث في فهم جوهر الإنسان المتدين الذي أصبح يعيش خيبة وجوديَّة un désenchantement existentiel والذي أصبح غير قابل للتعقُّل بعدما أحدثته الحداثة الأوروبيَّة من صدمة للضمير الديني منذ القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. (3)
إنَّ اللسانيَّات الحديثة قادرة على الإسهام في بلورة سيميائيات اللغة الدينيَّة، شريطة الأخذ بعين الاعتبار بخصوصيَّة بنيتها ومضامينها. هي لغة ذات بنية أسطوريَّة، ليس بمعنى أنها قائمة على أساطير الأولين بل بمعنى أنها لغة مجازيَّة واستعاريَّة. نواتها الأصليَّة متجذِّرة في التاريخ وقائمة على قصص حقيقيَّة وليست خرافات والغلاف الميثي للقصص الديني يجعل النواة الأولى قابلة للحياة فتخترق الزمان والمكان. إنَّ سعي اللسانيات الحديثة للإمساك بالدلالة والسيطرة عليها مشروط بإدراك طبيعة اللغة الدينيَّة المختلفة عن اللغة العاديَّة هي لغة إنجازيَّة un langage performatif أي أن المتلفِّظ بها ينجز ما يتلفَّظ به وتلفظه يستتبع تحقيقًا لوجوده. فلغة بمثل هذه الخصائص قادرة على توليد المعنى بآستمرار ضمن سياقات مختلفة، هذا الطموح المشروع سيروي شغف الإنسان- المؤمن في بحثه المتواصل على المعنى، بحث لا يني ما دام حيا ولا يحقِّق ذلك إلا الامتلاء الوجودي . إنَّ فلسفة الدين في جانبها المتعلِّق بإدراك طبيعة اللغة الدينيَّة، تتيح لنا التعرُّف على المنابع العميقة للدين التي يرتوي بها الظمأ الأنطولوجي للروح البشريَّة (4).
لقد أضحى تجديد الفكر الديني اليوم ضرورة حياتيَّة تقتضيها الظروف التاريخيَّة المعاصرة التي يعيشها الإنسان اليوم وذلك لأن الدين بما هو حاجة ماسة لنسبة مهمَّة من الناس، مطالب بتقديم أجوبة وتلبية لمطالب تستجيب لشواغل الإنسان المعاصر ولانتظاراته وتخفِّف من قلقه واغترابه. لم تعد المعرفة القديمة حول الدين والتي تراكمت عبر العصور، قادرة على الإضطلاع بهذه الوظيفة الجديدة، ولا سبيل للخروج من الأنساق الدوغمائيَّة المغلقة إلا الاستئناس بفلسفة الدين التي تطرح اليوم كأفق لتجديد الفكر الديني الحديث حتى ينهض بدوره في تلبية تطلُّعات الكائن البشري الذي يعيش اليوم مأزقا متأتيا من أنَّ كل القدامى والمحدثين، رغم استمراريَّة حضورهم بيننا إلى حد الآن. ورغم أنهم متاحون ولكن لا أحد منهم يمتلك الهيبة اللازمة ليفرض نفسه، كلهم أصيبوا بالعرض نفسه من الانحطاط والتفسُّخ والانحلال. كما لم نكف من ملاحظة استمرار تفسُّخ صورة الأب في الحداثة الغربيَّة. وإذا كانت العصور السابقة تحدّد بالمسافة التي تفصل الفرد عن ما يؤسِّسه وهو الآخر الذي له تجليات متعدِّدة: فهو الله في الأديان التوحيديَّة، وهو العرش في الأنظمة الملوكيَّة وهو المجموعة أو الشعب في النظام الجمهوري، أمَّا ما بعد الحداثة فيتحدَّد بإمحاء المسافة بين الفرد والآخر وأصبح الفرد والمتكلم يعرف بالرجوع إلى ذاته نفسها une définition autoreferentielle (5) . إزاء هذه الاضطرابات التي يعانيها الكائن – الفرد،كيف يمكن للأديان اليوم أن تعيد الصلة بين الفرد والآخر حتى يستطيع كل فرد أن يعطي معنى لوجوده يشعره بالامتلاء ويخرجه من بوتقة ” الأنا ” القاتلة والمدمِّرة ولكن بأيَّة شروط يمكن للأديان أن تضطلع بهذا الدور الخطير وأن تنجح في ذلك؟
إنَّ فلسفة الدين وهي التي تنبني على سؤال أساس ما الدين؟ لا تقترح من أجل الإجابة عن ذلك مقاربة واحدة وذلك بسبب تعدُّد تجليات الدين ومستويات حضوره، بل تقترح عدة مقاربات ينتظمها ثلاثة اتجاهات كبيرة: اتجاه الفكر الجوهراني essentialiste, وهو ينطلق من وجود إله أو عدة آلهة ويبحث عن الأدلَّة المثبتة لوجودها المبيِّنة لصفاتها ولا تقيم تفاضلا بينها. واتِّجاه الفكر الوظائفي fonctionnaliste وينظر إلى الدين من حيث مظاهره ووظائفه ونتائجه العمليَّة بقطع النظر عن القيمة المعرفيَّة لتبريراته.(6) وتلح فلسفة الدين ذات المنحى الوظائفي على البعد الإيتيقي للاعتقاد والممارسة الدينيتين وهي تقيم الدين بحسب ثماره ونتائجه وآثاره المتمثِّلة في توصياته وتعاليمه الأخلاقيَّة وليس باعتبار قيمته المعرفيَّة.أمَّا فلسفة الدين التحليليَّة analytique فتنظر في مقالات الدين وفي الفكر الذي يعدّ الدين أساسيًّا وضروريًّا للإنسان وهي تحلل العقائد والمفاهيم الدينيَّة من خلال الخطاب الذي تصاغ فيه مع الالتزام بشروط التفلسف وإعمال العقل كما يتولَّى هذا المنحى في فلسفة الدين البحث في معقوليَّة الاعتقاد الديني وإمكانه، كما تستعيد القضايا القديمة وتتناولها تناولا حديثا باعتبارها قضايا تشغل الإنسان قديما وحديثا.(7 ) تسعى فلسفة الدين طابعا إنسانيًّا على الفكر الديني، فالدين من حيث هو حقيقة واقعيَّة إنساني وكوني وهذا ما يجعل التفكير في الدين جزءًا من التفكير الفلسفي في المنزلة الإنسانيَّة، غير أنَّ فلسفة الدين تعترف لغير المؤمن بحقّه في أن لا يؤمن ولا تحاكمه على ذلك. لقد أتاح ما سمي في العقود الأخيرة بعودة المقدَّس لفلسفة الدين التحليليَّة أن تزدهر، فانكبت على تحليل الخطاب الدينى وحيًّا كان أو فلسفة أو تيولوجيا. (8)
إنَّ فلسفة الدين وهي تقارب الظاهرة الدينيَّة من زوايا مختلفة وتحاول الغوص في أعماقها عليها أن لا تغفل عما يعتمل من اجتهادات متنوِّعة داخل الفلسفة الحديثة والمعاصرة والتي توهم البعض أنها قد ألغت الدين أو بشرت بانقراضه وكرَّست الإلحاد وتنكَّرت للمقدَّس تارة باسم العقل وطورا باسم العلم وثالثة باسم الإيديولوجيا فإذا بالأنساق الفلسفيَّة الجديدة في جوهرها لها وشائج متينة بالدين، تؤكِّد أنَّ الدين لا يزال مكين الحضور، قوي التأثير في الأرضيَّة الفكريَّة الغربيَّة رغم انهيار المؤسَّسة الدينيَّة التقليديَّة ورغم التغيُّرات العميقة التي أصابت المجتمعات الحديثة وأهم مظاهرها أن الدين لم يعد وحده يحتكر منابع القيم وإسباغ الشرعيَّة على المؤسَّسات التي يحدثها المجتمع. تذهب الفلسفة المعاصرة إلى البحث عمَّا يضمن للمعنى مصداقيَّة ويعطيه مشروعيَّة وذلك في بحثها عن سند أنطولوجي صلب فدريدا( 1930 – 2004) Derrida يرى أن الدين ينبع من مصدرين أساسيين هما تركة الثقة التي هي خلفيَّة كل إيمان وإعتقاد، وطلب النقاء الذي هو خلفيَّة كل مقدس ومعظم. لذا فإن اللغة والقانون يتأسسان ضرورة على الدين الذي هو مستودع الثقة في المعنى وهكذا فالدين يبدأ مع تجربة اللغة نفسها، فكل تعبير موجه إلى الآخر يقتضي حضور الغائب الضامن للدلالة والشاهد على عقد المخاطبة والتفاهم (9). إن نفس التمشي نجده عند ديكارت (1596 – 1650 ) وذلك في سعيه لبناء منهجه المستمد من الرياضيات وهو الذي أسَّس به النظرة التجريبيَّة للطبيعة وقوَّض به الميتافيزيقا المدرسيَّة الوسيطة وحول الفلسفة إلى علم السيطرة على الطبيعة. فقد أدرك ديكارت أنَّ مقاربة التمثُّل التي يقوم عليها منهجه الفلسفي- ثنائيَّة الذات العارفة والظاهرة المستحضرة في الوعي – تتطلب ضمانة إلهيَّة لمعيار اليقين الذي تدعيه باعتبار الشرخ القائم بين الفكر والطبيعة.(10 ) يظل الإله بالنسبة إلى دريدا شرطا لإمكانيَّة كل فعل لغوي وهذه الإواليَّة اللغويَّة هي ما يطلق عليه اللاهوت الإله. ولا يمكن لأي خطاب سواء كان دينيًّا أو إلحاديًّا أن ينفلت من هذه المرجعيَّة الماورائيَّة – الإله الشاهد – التي من دونها لا تواصل ولا تخاطب.لقد عملت فلسفة دريدا على تجديد المبحث اللاهوتي بتوظيف المفاهيم والمصطلحات التفكيكيَّة في قراءة النص وتوليد الدلالة. فطريقة فيلسوف التفكيك في إثارة المسألة التيولوجيَّة تبدو مهمَّة حين تدرج السؤال حول الإله ضمن براديغم اللغة ليصبح سؤالا حول كيفيَّة ” قول الإله ” comment dire Dieu. داخل هذه الرؤية تصبح التيولوجيا غير منفصلة عن مشكليَّة القول نفسها. إنَّ التفكيك يتجلَّى في إقحام ” ما بين ” اعتبار نهاية التيولوجيا وإمكانيَّة الاستمرار في حركيَّة التفكيك نفسها. إنه أيضا يعني النظر في احتماليَّة أن تظل المؤسَّسة التيولوجيَّة رهينة ما لا يسمح التفكيك بالتفكير فيه أو بما لا يفكر فيه. (11) يشتغل التفكيك على زعزعة المؤسَّسة التيولوجيَّة وذلك لتعرية مفاهيمها التي تعد في النظر الفلسفي المعاصر شكلا من أشكال السطو على دين ما وتحديد هويته ثم فرضه بمقتضى ذلك، فكتاب دريدا ” الإيمان والمعرفة ” محاولة لإعادة استملاك الإيمان في طهارته البكر مستهديا في ذلك بالمعرفة الفلسفيَّة.
لقد ظلَّت الفلسفة الغربيَّة سواء في لحظات التأسيس أو حتى عندما أوغلت وذهبت بعيدا في منزعها العقلاني والتجريدي تعاني من هشاشة هيكليَّة تتمثَّل في ملازمة نزعتي الشك والمراجعة لكل مساراتها، ممَّا جعلها تبحث دوما عن سند يعطيها صلابة تحول دونها والإنهيار الكبير أو يمدها بنسغ يطيل أمدها ويسمح لها بالعودة على نفسها لتجديد مفاهيمها وتصوراتها ويفتح أمامها مجالات للتفكير وإعمال العقل، من ذلك العودة إلى المطلق في مختلف تجلياته. لقد ظل الإله حاضرًا، حتى في ظلّ الفلسفات التي قامت على تغييبه وعملت على القطيعة معه وتجاوزه. فالفلسفة في مسارها الطويل وهي تبني كيانها كانت توهم نفسها بقدرتها على أن تستقل بذاتها وأن تطرح الدين من أفقها المعرفي طرح الحيَّة جلدها، إلا أن ذلك كان كسراب بقيعة إذ في كل منعطف تاريخي تجد نفسها أمام سؤال الدين وإشكاليَّة المعتقد.
المراجع :
1 – عبد الجبار الرفاعي، ” فلسفة الدين تمهيد تاريخي موجز “،مجلة قضايا إسلاميَّة معاصرة، السنة 18/ العدد 57- 58، شتاء – ربيع 1435 هج – 2014 م،بغداد، صص 377-378.
2 – انظر، عادل ضاهر، فلسفة الدين، ضمن الموسوعة العربيَّة، رئيس تحرير د.معن زيادة، بيروت، معهد الإنماء العربي،1988،مجلد 2،ص 1000.
3 – فوزي البدوي، مساهمة ميرسيا إلياد في دراسة الأديان، محاضرة ألقيت في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تونس، 28 فيفري 2020.
4 – عبد الجبار الرفاعي، ” فلسفة الدين تمهيد تاريخي موجز ” م.س،ص 378
5 – voir Dany Robert Dufour ‘ ” cette nouvelle condition humaine , les désarrois de ‘individu- sujet ” on Le Monde – Diplomatique, février 2001, pp 16-17.
6 – د. محمد بوهلال، ” تفكير الفلاسفة واللاهوتيين في الدين أو فلسفة الدين “،مجلة التفاهم السنة العاشرة، العدد 38، خريف 1433/ 2012، سلطنة عمان/ مسقط،ص 141.
7 – ن. م صص 141- 142.
8 – ن. م ص 142.
9 – Jacques Derrida, Foi et savoir, Ed Seuil,(Paris,2ooo), p 39.
10 – انظر، عبد الله السيد ولد أباه، ” الدين في الفلسفة الحديثة “، مجلة التفاهم، عمان / مسقط، السنة العاشرة- العدد 38، خريف 1433هج – 2012، ص 108.
11 – François Nault, Derrida et la théologie, Dire Dieu après la déconstruction, ed Cerf,2000, p34.
____________
*رمضان بن رمضان: باحث في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.