عن الدراما الوثائقية: 1972 – أيلول الأسود لميونخ
Summary:
This article aims to remind us of the relative nature of historical events that shape unbalanced beliefs and cause violent reactions. In the example of the Munich 1972 attacks (Black September), that relativity could be moved either by ideology or creativity. While the Palestinian Conflict is significantly manipulated by ideology, Christian Stiefenhofer’s docudrama “1972 – Münchens Schwarzer September“, in which the writer of this article took part, suggests a creative approach to a peaceful future.
في أول اجتماع مع فريق العمل بحضور المنتج المنفذ كاترينا إدينغر والممثلين ذوي الأصول العربية، افتتح المخرج كريستيان ستيفنهوفر الحديث بقوله: “تحاول هذه الدراما الوثائقية إعطاء فرصة لكل طرف لحكاية القصة من وجهة نظره.” فأجابه ممثل فلسطيني: “لو لم يكن الأمر كذلك لما كنت اليوم موجودا بينكم.”
- صورة حصرية من موقع تصوير الفيلم الوثائقي، ميونخ 2022 –
المبادئ، المواقف والمصالح… حقيقة أم ريتوريكا؟
في الخامس من سبتمبر عام 1972 اقتحمت مجموعة من الفلسطينيين المسلحين القرية الأولمبية المخصصة للألعاب الصيفية بمدينة ميونخ. متنكرين في أزياء رياضيين، اتجه الشباب الفلسطينيون نحو جناح الفريق الإسرائيلي، وأثناء مواجهة مباشرة إثر اقتحام الجناح، قتلوا رياضيَيْنِ إسرائيليّيْن واتخذوا الباقين رهائن. خلال ساعات، وبينما يجلس الرياضيون أمام بنادق الفلسطينيين، تطور الوضع إلى مفاوضات دولية مرتبكة، طالب خلالها الخاطفون بالإفراج عن 200 أسير من السجون الإسرائيلية، وطائرة تحملهم خارج أوروبا.
عدم استعداد الشرطة الألمانية للطارئ واستبعادُ تدخل القوات المسلحة عقّد الموقف أوقع السلطات الألمانية في حرج كبير. انطلق الرصاص العشوائي في القاعدة العسكرية أين هبطت طائرة لوفتانزا لتقلّ الفلسطينيين ورهائنهم الإسرائيليين، وبعد 20 ساعة من الرعب والترقب انتهى الاشتباك بمقتل 11 رهينة إسرائيلية، شرطيٍ ألماني، وخمسةٍ من الفلسطينيين. نجا رياضي إسرائيلي وحيد وثلاثة من الخاطفين، تم اعتقالهم في النهاية.
لقد تابع العالمُ ما جرى خلال الألعاب الصيفية بمدينة ميونخ عبر شاشات التلفزيون، وبعد ذلك من خلال الأعمال الإعلامية والأدبية التي أنتجت حول الأحداث، وبالرغم من قرب الزمان فقد تباينت المواقف حول الهجوم. ذلك أن معادلة المبادئ والمواقف والمصالح من أعقد المعادلات الحضارية، ولا يكاد ينتصرُ موقفٌ لمبدأ إلا عارضته مصلحة قوية، وينتج عن ذلك إما تشويش على المبدأ أو ربما مساهمة في فلسفة الأخلاق!
حسب نظرية التواصل عند فلاسفة اليونان وعلى رأسهم سقراط، فإن مصداقية المخاطِب تتعزز بالثقة التي يبنيها مع المخاطَبين (Ethos)1، ولا شك أن الاعتراف بوجود أطروحات مختلفة أثناء معالجتنا وعرضنا لقضايانا يعزز مصداقيتنا عند الآخر، وقبل ذلك، فإنه يفتح أبوابا للتصالح مع الذات والإثراء الفكري والحوار مع الجيل الجديد.
في حرب طرواده مثلا، هل اختطف باريس، أميرُ طرواده، هيلين أميرة إسبارتا؟ هل أنقذها من زواج أُجبرت عليه؟ أم هي من اختطفته بجمالها؟ ولكن ماذا لو أن كل ذلك غير صحيحٍ، وأن الحقيقة هي مجرد ريتوريكا مؤثرة أدت إلى تغيير مبادئ ومواقف ومصالح الأميرين؟ كل ذلك ممكن، بل، كل ذلك مفيد وممتع. ولذلك أراد المخرج الألماني كريستيان خلال فيلمه الأخير عن هجمات أيول الأسود “أن نروي الأحداث من وجهات نظر ثلاث: فلسطينية، إسرائيلية وألمانية.”
لا حكم إلا لله… لا غالب إلا الله… مع فلسطين ظالمة أو مظلومة…
ينزعج النمط الديني الشعبوي من التسييس المحض للقضية الفلسطينية على حساب بُعدها العقائدي المتجذر في نصوص ملاحم وقصص بطولية تؤنسها شواهد تاريخية عريقة. ومن جهة أخرى، يرفض النمط الديني السياسي تجريد القضية الفلسطينية من طبيعتها السياسية، لأنها القضية الأكثر ديناميكية في المشروع الإسلاموي، وربما، الأقرب إلى حلم المشروع السياسي الأكبر، الخلافةِ الإسلامية.
لم تكن الخلافة مجرد مشروع سياسي في المنظومة الإسلامية السائدة، بل اعتبرت فريضة دينية أقرب إلى أركان الإسلام من غيرها. فمن جهة الفقه، يُعدّ وجوبُ الإمامة العظمى محل اتفاق واسع بين فقهاء الإسلام من شتى المذاهب كما يخبرنا الجويني في “غياث الأمم”2، وغيره من علماء الإسلام. ومن جهة العقيدة، فقد أدرجت المسألة في كتب الكلام والإيمان، كما فعل الغزاليُ في “الاقتصاد”3، وغيره من المتكلمين والمحدّثين. وبين نزاع قَبَليّ وخلاف عقدي، تطور موضوع الخلافة إلى جدل فقهي سرعان ما استساغ جوازَ تعددِ الإمام. مع مرور الوقت صار موضوع الخلافة مصدرَ إلهام للأدب الإسلامي، فمنبع خيال شرقي في الأدب العالمي. أما في العصر الحديث فقد مثلت الخلافة محركا للصحوة وتياراتها، وأخيرا، صارت مرجعا للكوميديا الساخرة من الجماعات الإرهابية والحركات المتطرفة، التي تنادي بإقامة الخلافة الإسلامية قبل كل شيء!
أمام الموقفين المتشاكسيْن المتمثليْن في بداية ونهاية قصة الخلافة، يمكن القول بأن الفقه الذي استوعب تعددَ أنظمة الحكم في الدولة الإسلامية هو الصورة التاريخية الأقرب إلى التحضر. وبالرغم من أن ذلك الرأي الوجيه لم يوقف حروب القبائل وصراع الطوائف الإسلامية على السلطة، إلا أنه تحولٌ استراتيجي وفكري إيجابي، كما أنها خطوة وَفقت إلى حدٍ كبير بين مراعاة المبادئ ومرونة المواقف وموازنة المصالح.
-المخرج كريستيان ستيفنهوفر-
المصالح بين أنسنة المواقف وأدلجة المبادئ
كثيرا ما كرر المخرج كريستيان أثناء التصوير بأن “الخاطفين الفلسطينيين لم يقصدوا إلى القتل أصالة” وأنهم “شباب تلقوا تعليما لا تدريبا عسكريا”. سمعتُ كريستيان يؤكد للممثلين العرب بأن “ملامح وجوههم لا ينبغي أن تظهر شريرة”. كما طلب من بعضهم تخفيف العبوس والجدية من وجوههم، فالهدف من الدراما الوثائقية محاولة حكاية قصة الإنسان لا الحكم عليها.
إن قضايا المجتمعات المسلمة تستحق مقاربات أفضل بكثير من الأيديولوجيات الضيقة، مقاربات تستمد من الدينيّ السلام ومن السياسيّ العدل، ولا ترفع قضيةً فوق الإنسان، لأن الزمن يؤكد لنا في كل مرة بأن أخطر القضايا المصيرية بالأمس هي فروعٌ ووسائل اجتهادية اليوم، فكيف نريد أن يكون غدُ أبنائنا؟ إن ثنائية السياق الديني والسباق السياسي تدافع عن مبادئ متوهمة بمواقف متهورة لأجل مصالح غير متحققة.
طوال أسابيع العمل والتصوير، اطلعتُ على كتابات كل من آناليس غْراس ودايفيد لارج وريف سايمن وآخرين ممن كتبوا عن هجمات أيول الأسود. شاهدتُ فيلم “ميونخ” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وفيلم “21 ساعة في ميونخ” للمخرج ويليم غراهام، ولم أهمل أيضا قراءة بعض التقارير العربية حول الأحداث، وقد زودني ذلك بقدر وافر من المعلومات التي أحتاجها للعمل إلى جانب كريستيان وفريقه. لكن وجودي مع فريق تصوير Münchens Schwarzer September – 1972، جعلني أعيش المبادئ وأفهم المواقف وأعي المصالح بشكل عملي، إذ جمعني العملُ بكتاب وممثلين وفنيين ومنتجين ومصورين وشهود عيان من عشرات الدول والفئات العمرية والخلفيات والثقافات والتوجهات، في مسرح الأحداث الدامية عينه، لكن ليرسخ عندنا جميعا أن ما كان سببا للفناء بالأمس، هو أملُ البناء اليوم. حتى وإن لم نتفق في كل شيء، لعلنا ننعم بلحظة خيال فيها غدٌ أفضل.
قائمة المصادر والمراجع:
- الجويني، عبد الملك بن عبد الله، أبو المعالي، المعروف بإمام الحرمين، غياث الأمم في التياث الظلَم، الإسكندرية، دار الدعوة: 15.
- الغزالي، محمد بن محمد أبو حامد الطوسي، الاقتصاد في الاعتقاد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004: 127.
- Crider, F Scott, Renovatio, the Journal of Zaytuna College, California, 2019: 35.
______________
*الدكتور محمد بدر الدين طشوش – أستاذ بالجامعة الأمريكية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية – براغ.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.