التنويريرواد التنويرسلايدر

سلامـة موسـى وسؤال التقدُّم في الفكر التنويري

«كل إنسان يجب أن يكون طالبًا طول حياته»

«غاية الثقافة، هي الحياة، ومن هنا يجب أن تكون الثقافة «تطبيقيَّة» غايتها مثل غاية الفلسفة وغاية الدين، والمقياس الذي نقيس به الثقافة يجب ألَّا يختلف عن المقياس الذي نقيس به الديانة والفلسفة؛ أي: ما هو مقدار الفهم الذي حققناه منها؟ وما هي العواطف النبيلة التي بعثها في نفوسنا؟ وما هو أسلوب العيش السامي الذي أدَّت إليه؟»

سلامة موسى – كتاب كيف نربي أنفسنا

سيرة ذاتيَّة ومعرفيَّة:

سلامة موسى: مفكِّر مصري، وأحد المؤثِّرين في الفكر العربي والمصري في القرن العشرين، وُلد عام ١٨٨٧م بإحدى قرى الزقازيق، والتحق بالمدرسة الابتدائيَّة القبطيَّة، ثم انتقل بعدها إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة التوفيقيَّة، ثم المدرسة الخديويَّة، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1903م، وتُوفِّي في القاهرة عام 1958م.

أتاحت له فترة الإقامة في فرنسا (1906–1909م) التعرُّف على رموز الفكر والفلسفة في أوروبا، فاطَّلع على أعمال «ماركس» و«فولتير»، وتأثَّر تأثرًا كبيرًا ﺑ «نظريَّة التطوّر» أو «النشوء والارتقاء» وبصاحبها «تشارلز داروين»، ثم انتقل إلى إنجلترا لدراسة القانون، وفيها تعرَّف على المفكِّر الكبير «جورج برنارد شو»، ثم عاد إلى مصر عام 1910م، وأصدر كتاب «نشوء فكرة الله» الذي نقل فيه أفكار الكاتب الإنجليزي «جرانت ألين» ونقْدَه للفكر الديني.

ﻟ «سلامة موسى» أكثر من أربعين كتابًا، من بينها: «ما النهضة؟»، و«أحاديث الشباب»، و«أحلام الفلاسفة»، و«الإنسان قمّة التطوّر»، و«الاشتراكيَّة»، و«المرأة ليست لعبة الرجل»، و«حريَّة الفكر وأبطالها في التاريخ»، و«غاندي والحركة الهنديَّة»، و«مصر أصل الحضارة»، و«نظريَّة التطوّر وأصل الإنسان»، و«هؤلاء علَّموني»، و«دراسات سيكولوجيَّة»، و«الاشتراكيَّة»، و«العقل الباطن»، و«غاندي والحركة الهنديَّة»، و«كيف نربي أنفسنا».

منهجيَّة سلامة موسى:

استعاض سلامة موسى عن مجاز المدرسة الديمقراطيَّة، بمجاز آخر هو العلم، الذي لا نهضة من دونه، ولا سبيل إلى مجاراة الأم الحديثة إلا به، فسَّر كتابه «ما هي النهضة؟» أسباب تخلُّف الأمّة العربيَّة بضعف الاهتمام بالعلم والصناعة، وأظهر أن العقليَّة العلميَّة هي الدرب الصحيح إلى الاستقلال الوطني، ذلك أنها قادرة على طرح الأسئلة اللازمة والعثور على إجابات دقيقة عنها. وحـد خطابه بين النهضة والاستقلال والمستقبل، فالاستقلال القادم محصلة لنهضة اجتماعيَّة شاملة تسبقه، والمستقبل صورة عن الوعي الذي يذهب إليه. وميزة العلم أنه يقيم في المستقبل أكثر ما يقيم في الحاضر، فأسئلته متجدِّدة وإجاباته المتراكمة مزيج من الأسئلة والأجوبة.

أولا: العلم والمستقبل:

ومع أنّ في أفكار سلامة موسى اندفاعاً إلى الغرب يتاخم المبالغة، فالقراءة المتأنيَّة لكتاباته لا تقول بذلك. فقد كان مفتوناً بفكرة العلم من حيث هي، جاء هذا العلم من غرب معاصر أو من حضارة إسلاميَّة قديمة. وبسبب ذلك تحدَّث عن علوم المسلمين القدامى ودورها في يقظة الغرب الحديث، ووصف ظلام العصور الوسطى الأوروبيَّة، التي واجهت الأفكار الحُرَّة بالمعتقدات الدينيَّة الجامدة.

دعت فكرة العلم، القائمة على سؤال ينفتح على آخر، سلامة موسى إلى الاحتفاء بالمستقبل الذي هو مستقبل العلم الإنساني، الواعد بمبتكرات وإنجازات غير مسبوقة، وصولاً إلى «السوبرمان»، الذي يتصرّف بحياته ولا تـصـرّف به حياته. اتكاء على الإيمان بوحدة العلم والمستقبل؛ طالب موسى بالتحرُّر من تعاليم القدماء، التي يؤدِّي الانصياع لها إلى تعطيل الذهن البشري، وتمكين عادات المحاكاة والتقليد، وإغفال حاجات الشروط المستجدّة. يقول موسى: «ثم لما اعتمد المتعلّمون الاعتماد الكلي على السلف زالت ثقتهم بأنفسهم فكفّوا عن التفكير والابتكار واتَّجه نظرهم إلى الماضي دون المستقبل». واجه المصلح المصري الماضي بالمستقبل والتقليد بالابتكار والذهن الحامل بالفكر الحرّ الذي يسمح به مجتمع تحرّر من تراثه القامع، ولعلّ ما يدعو إليه، في علاقاته المختلفة، هو الذي يحدِّد العلم مدخلاً إلى مجتمع حديث يتمتّع بالديمقراطيَّة وينحو إلى الاشتراكيَّة، ويتمتَّع فيه المواطنون جميعاً، رجالا ونساء، بحقوق متساوية، فقد آمن موسى إيماناً حاسماً بوحدة العلم والديمقراطيَّة، لأنّ التربية العلميَّة هي الوحيدة التي تفصل بين الأنظمة المستبدَّة والأنظمة الحديثة المناهضة لها.

ثانيًا: أنوار العقل الخاصّ:

دار سلامة موسى حـول السؤال التالي: من أين تأتي الأفكار الجديدة؟ أعطى السؤال جواباً واضحاً: لا تأتي الأفكار الجديدة من الكتب القديمة، فهي تصدر عن موقع محدّد هو: التوجّه إلى الطبيعة ومحاولة استثمارها وفك ألغازها. غير أنّ طرح السؤال، كما التنقيب عن الإجابة عنه، يستلزم أمرين: الاعتراف بالإنسان كياناً حرّاً مستقلاً قادراً على التصرّف بشؤونه، وهو مـا يـعـبـّر عنه بالشكل التالي: «إنَّ النهـضـة لم تعن في الماضي، وهي لا تعني الآن، سـوى البشريَّة: أي أنّ البشر، أو الإنسان، يجب أن يشتغل ويعتمد على نفسه في هذا العالم، ويعمل لحضارته وسعادته في جرأة وفهم» – وكأنه يتذكّر هنا إجابة إيمانويل كانت على سؤال ما الأنوار؟ – أما الأمر الثاني فيتحدّد باستقلال الذهن البشري، وتحرّره من قيود العادة والأغلال المتوارثة: «إذا تأمّلت النهضات الإنسانيَّة ألفيتها حركات بشريَّة غايتها الاستقلال الذهني والاعتماد على التفكير البشري في مواجهة هذا الكون».

 تأتي الأفكار الجديدة، إذن، من التحرّر من عادات التفكير القديمة، ومن سطوة محتكري الفكر القديم الذين يساوون بين القديم والحقيقة المطلقة، وبين المطلقات الأبديَّة ومصالحهم الذاتيَّة.

انطلاقاً من هذا التصوّر المتمرّد، الذي يقضي بالانفصال، طالب موسى بتحرّر الإنسان الفاعل من رجل الدين المتزمّت الذي يقدّس الثبات، وبتحرّر العلم من سيطرة الفكر الديني الذي أخضع المعارف جميعها لصالحه. والتحرّر المقصود هو الاستقلال الذاتي المطلوب من أجل تطوّر العقل والعلم من سيطرة الفكر الديني الذي أخضع المعارف جميعها لصالحه.

والتحرّر المقصود هو الاستقلال الذاتي للعقل الحر، الذي يؤسِّس لسعادة دنيويَّة. يقول موسى: «إنّ الثقافة يجب ألا تقتصر على درس الدين، بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى ما ألفـه الناس أيضاً، وأنّ الإنسان يجب عليه أن ينشد السعادة الدنيويَّة بدرس الثقافة البشريَّة، كما عليه أن ينشد السعادة الآخرويَّة بدرس الثقافة الإلهيَّة . . . ». ولهذا أعطت النهضة، في الأزمنة الحديثة، للعلوم وضعاً جديداً، فبعد أن كانت خاضعة للدين وخادمة لأغراضه، تحوّلت إلى علوم مستقلَّة بذاتها، لها قـواعـد وغايات خاصَّة بها. وليس الفرق بين العصور الوسطى والأزمنة الحديثة إلاّ الفرق بين تكريس المعارف لأغراض دينيَّة وبين استعمالها لأغراض إنسانيَّة.

ثالثًا: التجربة الإنسانيَّة:

ميّز موسى بين العقائد التي تظل ثابتة بسبب طابعها المقدّس، والأفكار الإنسانيَّة التي تتميّز بالتطوّر والتبدُّل والارتقاء الذي لا سقف له. غير أنّ صحة الأفكار عنده لا تعتمد على المنطق العقلاني المجرّد، ولا على الاستنباط الذهني الصرف، لأنَّ صحّتها مرهونة أبدأ بالتجربة، فلا علم من دون تجريب، ذلك أنّ التجربة معيار الحقيقة. فهي ضروريَّة «باعتبارها أساس المعارف»، حالها حال الطبيعة التي تنتج معرفة ملموسة قابلة للاستعمال، على خلاف معارف الكتب التي لا تأتي بجديد. وواقع الأمر أنّ موسى ساوى بين التجربة والبحث الحرّ الذي لا يبدأ من التفكير المجرّد ويحصّل له لاحقاً حقائق تتَّفق معه، بل يبدأ من المعاينة والملاحظة والمشاهد، فما لا تبرهن التجربة عنه لا يمكن الاعتماد عليه.

رابعًا: الثقافة والنهوض الاجتماعي:

كما ميّز موسى بين الثقافة والحضارة، فـ «الثقافة هي ما نتكوّن به، والحضارة هي ما نعمل به» والفرق بين العلاقتين هو الفرق بين النظر والعمل، والتفكير والمراقبة، أو بين العلم والصناعة. تسبق الثقافة الحضارة مثلما يسبق النظر العمل، الأمر الذي يجعل من الحضارة الحيّز العملي الذي تختبر فيه المعايير الثقافيَّة. وللثقافة وجوه متنوّعة، منها الأدبيَّة والفنيَّة والفلسفيَّة، ومنها أيضاً الثقافة العلميَّة التي هي شرط الحضارة الصناعيَّة: «لا يمكن لأمّة أن تعيش في حضارة صناعيَّة ما لم تحذق الثقافة العلميَّة التي أدَّت إليها. وهي إذا أهملت هذه الثقافة العلميَّة فإنَّها سرعان ما تعود إلى الحضارة الزراعيَّة التي تنتكس إليها كل أمَّة حين تتقهقر ثقافتها، وكل تحرّك اجتماعي يحتاج إلى تحرّك ثقافي».

الختام:

آمن المثقفون التنويريون – ومنهم سلامة موسى – بفكرة التقدّم، ومزجوا بين الأحلام الوطنيَّة وأحلامهم الذاتيَّة، مصرحّين بدور المثقف اللازم في إعادة بناء مجتمعه، وبإيمان رومانسي بـ «قوَّة الثقافة»، معتبرين أنّ صلاح الأفكار يقضي بتطبقها. ولدت مشاريعهم في زمن سبق «دولة الاستقلال الوطني»، والتي اختصرت الثقافة إلى محو الأميَّة، وقوّضت شروط العمل الثقافي، محوّلة المثقّف النقدي إلى إنسان غير مرغوب به.

تثير أفكار سلامة موسى أسئلة ليست بعيدة عن تلك التي أثارها شبلي شميل وطه حسين وغيرهم: كيف يمكن تحقيق الشروط الماديَّة ـ التقنيَّة التي تسمح بنهوض المجتمع؟ ومن أين يأتي النظام السياسي الذي يؤمن بالعلم ويقود المجتمع إلى ثقافة علميَّة؟ وما هي القوى الاجتماعيَّة – السياسيَّة القادرة على إنجاز «الحراك الثقافي»، الذي هو مـقـدّمـة ضروريَّة للانتقال من الفكر الإطلاقي إلى الفكر الحديث؟ أعطى موسى خطاباً صحيحاً على مستوى التوصيف، ولم يكن بإمكانه أن يقوم بغير ذلك، لأنَّ تحويل الأفكار إلى قوَّة اجتماعيَّة فاعلة شأن يتجاوز الأفراد. إنّه نص حالم يشبه النصوص الروائيَّة التي تحلم كما تشاء، ولا تستطيع أن تنقل الحلم من حيِّز الكتابة إلى حيِّز الواقع.

المراجع المستخدمة:

  1. كتب سلامة موسى، مؤسسة هنداوي للنشر: https://www.hindawi.org/
  2. فيصل دراج، سلامة موسى والطريق إلى النهضة.
  3. أحمد ماضي، ما النهضة بنظر سلامة موسى؟ مداخلة في مؤتمر النهضة العربيَّة وتجديد الرسالة الحضاريَّة. عمان الأردن.
  4. سلامة موسى: ما هي النهضة؟

___________
*الأستاذ عبدالله الجبور: باحث في الاجتماع السياسي، والمدير التنفيذي لمركز المواطنة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة