ومن جديد أقف هذه المرة أمام رواية لصديق عزيز هو الشاعر والكاتب حسن أبو دية، فحين جمعتنا عمَّان بعد غياب طويل على فنجان قهوة في جبل اللويبدة، أفرحني باهدائي عدد من مؤلفاته ومنها روايته “مرآة واحدة لا تكفي” وهي من اصدار الآن ناشرون وموزعون 2019م في عمَّان وتحتوي على 95 صفحة من القطع المتوسط، ولوحة غلاف في وسطها مرايا متكسرة بها وجوه عدة لا تظهر كاملة واضحة بسبب تكسر المرايا من تصميم عدي أبو دية والغلاف الأخير صورة الكاتب ومقطع من الرواية، وتصميم الغلاف جميل ويعكس العنوان للرواية، وكان الإهداء رمزي بقوله فيه: “إلى كل من يهدينا مرآة تكمل لنا الرؤية” وهو اهداء متناغم مع عنوان الرواية “مرآة واحدة لا تكفي” والذي يدل على وجود مرآة واحدة لا تكفي لإيصال ما يريده الكاتب، فيحتاج مرايا ويطلبها في الاهداء من كل من يقرأ الرواية.
فكرة الرواية تقوم على حكاية عشق عابرة بين الطالبة الأجنبية “لندا” التي تدرس الحضارة الشرقية وأستاذ يقوم بتدريس الفلسفة في نفس الجامعة في دولة خليجية، وهو”المفتون بجيفارا وكاستروا والمسكون بعرفات وماجد أبو شرار ومانديلا” والذي قال لعشيقته: “العشاق هم الثوار الحقيقيون”، وحين سافرت الى بلادها بدأت تتبادل معه الرسائل عبر الشبكة العنكبوتية وتروي حكايتة كمناضل فلسطيني من خلال عملها الصحفي ولا تنسى علاقتها معه فقالت بأحد رسائلها: و”ليلة وحيدة عشتها كانت قيمتها أكثر من الألف ليلة”، والرواية تروي حكاية مناضل فلسطيني انضم للثورة وقاتل في صفوفها وخرج مع القوات إلى معسكر في صحراء الجزائر بعد حصار بيروت، فتستشهد زوجته في مذابح صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها عصابات الكتائب تحت حماية قوات الإحتلال في مجزرة بشعة بحق المواطنين العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا بعد خروج القوات الفلسطينية وخيانة الأوربيين للتعهد بحماية المخيمات.
في المعسكر يشعر بالفراغ بعد الابتعاد عن ساحة النضال فقد “كان الفدائيون يستنشقون عبق حقولهم القادم عبر الأسلاك، فيدغدغ أمل العودة بين ضلوعهم ويبقيه مورقا،… لكن الخروج من بيروت أورثهم جزءاً هائلا من القنوط، ما أصعب أن ترى حلمك يبتعد، وربما يتبخر”، فيقرر الانسحاب من المعسكر وإكمال الدراسة استجابة لطلب الشهيدة زوجته حتى ينال الدكتوراة وبعدها يعمل في تلك الدولة الخليجية، ويسافر لدمشق للقاء عاشق مع الفتاة الأجنبية التي لم تنس علاقتها معه وبقيت على تواصل معه رغم غياب ثلاثة أعوام، وفي مخيم اليرموك يكتشف أن الناس تظن أنه استشهد في معركة الشقيف، ولندا تفاجئه أنها غيرت اسمها إلى “كفاح” انتماء لفلسطين فيعرض عليها الزواج، وفي المخيم تبدأ الرواية باستعادة الذكريات من الطفولة الى الرحيل من مخيم الوحدات الذي لا يتذكره الرواي “سامي مصطفى” جيدا ويتذكر فقط لحظات الرحيل، مرورا بذاكرة مخيم اليرموك الذي تحول الى ساحة صراع بعد انشقاق حركة فتح ومن ثم حضور حركة حماس التي أصبح لها وجود قوي، وذاكرة لبنان ورفاق السلاح ومعركة الشقيف واصابته فيها ونجاته، علما أن كل أبطال قلعة الشقيف وعددهم سبعة وعشرون قد استشهدوا بعد معركة ضارية قتل فيها عدد كبير من الصهاينة ولم تعترف دولة الكيان الا بعد ثلاثين عاما بضراوة القتال والخسائر الكبيرة، وعبر التاريخ الموثق استشهدوا جميعا بمعركة أسطورية ولم ينسحب منهم أحد إطلاقا، وفي رواية أخرى ان هناك خمسة فقط كانوا بكمين خارج القلعة تمكنوا من الانسحاب واستشهد منهم ثلاثة في معارك أخرى.
هناك ملاحظات على الرواية لا بد من الاشارة لها، فالمفترض أن سامي التحق بالمدرسة في مخيم اليرموك بعد خروج عائلته من الأردن بعد أحداث حرب أيلول بين النظام والمقاومة وما تلاها بأقل من عام من معارك جرش وعجلون التي انتهت بخروج المقاومة من الأردن، والرواي يشير انه لا يوجد بذاكرته الا القليل لمرحلة مخيم الوحدات فقد كان طفلا بفترتها، ولكنه التحق بالأول ابتدائي بمخيم اليرموك وهذا لا بد أن يكون في الأعوام 1971/ 1972 م حسب تسلل الرواية، وسامي راوي الرواية طرد من بيت الأسرة وهو ما زال طالبا بالمدرسة فالتحق بالمقاومة في لبنان وأصبح مقاتلا مع الفدائيين الذي اعتبرهم عائلته الحقيقية، وهذا يعني أنه كان ما زال طالبا بالمدرسة وتركها، فمتى تمكن من الحصول على شهادة البكالوريا وهو خرج مع المقاومة من لبنان الى الجزائر بعد معركة حصار بيروت 1982م ولم يكن عمره يتجاوز سبعة عشر عاما؟ وأيضا متى تزوج وهو ما زال شابا صغيرا فلو تزوج قبل الخروج من لبنان بعام واحد لما كان عمره يتجاوز ستة عشر عاما.
والنقطة الأخرى انه قرر في معسكر الجزائر ترك المعسكر والالتحاق بالجامعة تلبية لرغبة الشهيدة زوجته باعتباره حاصلا على البكالوريا، علما ان الطالب يحتاج أن يكون عمره ثمانية عشر عاما وبدون انقطاع عن الدراسة حين يحصل عليها وهذا ما أشك به من خلال تسلسل أحداث الرواية وخاصة الاشارة أنه حصل على البكالوريا من مخيم اليرموك، فيلتحق بالجامعة في دولة خليجية حتى يكمل الدكتوراة ويعمل مدرسا بالجامعة، وهذا يثير سؤال مهم وهو هل ترك المقاومة للالتحاق بالجامعة وبالتالي توقف راتبه الشهري، أم حصل على موافقة من قيادته لاكمال الدراسة والمحافظة على راتبه الشهري وهو أمر مشكوك به، ولم يشر الراوي للحصول على بعثة دراسية مع العلم أن البعثات الدراسية كانت في دول أخرى وليس في الخليج، فسامي الفدائي الشاب الصغير فقير ولا يمتلك المال لإكمال الدراسة وهو مطرود من كنف الاسرة التي عاش بينها ولا يوجد له أحد كي يتلقى منه المال لتكاليف الدراسة التي تحتاج الى تسعة أعوام من بداية البكالوريس حتى الحصول على الدكتوراة بتواصل وبدون توقف وهذا يحتاج الكثير من المال لتكلفة الدراسة في الجامعة اضافة لتكاليف المعيشة.
الرواية أرادت أن تصور مسيرة فرد من أفراد الشعب الفلسطيني كأنموذج من النماذج الفلسطينية، لكنها حفلت بالخيال في كثير من المواقع، والرواية اعتمدت على ذاكرة الاسترجاع أكثر من سرد الحدث وهذا اوقعها بالعديد من الأخطاء ومنها حكاية مقتل كل اسرة سامي بقذيفة سقطت على بيتهم خلال الأحداث في الأردن وبقي هو لأنه كان لدى الأسرة التي ربته بالصدفة، وموضوع سقوط القذيفة وفناء أسرة بالكامل غريب على من عاش تلك المرحلة ويعرفها جيدا، فالمدفعية استخدمت خلال أحداث أيلول فقط وليس فيما سبقها وسقط عدد كبير من الضحايا ولكن لم تكن هناك أسر قتلت بالكامل.
الرواية التي اعتمدت على الأسلوب الاسترجاعي للذاكرة ضمت شخصيتين رئيسة هما سامي اليافاوي أو سامي مصطفى وليندا التي غيرت اسمها إلى كفاح وهما من سردا الرواية بالكامل تقريبا، حتى ظهرت زينب وشاركت برواية مفاصل مهمة من الرواية وهي أهم شخصية ثانوية بالرواية وما عدا ذلك فهي شخصيات ثانوية عابرة، ونلاحظ أن المكان الأساس في الرواية كان مخيم اليرموك بينما المكان الثاني كان لبنان وإن كان بذكر أقل بقليل، اما مخيم الوحدات والخليج والجزائر فكانت أمكنة ثانوية جدا وردت بأحداث محدودة تماما، وأعتقد أن الجزائر ومعسكرها الذي ضم القوات الخارجة من بيروت كان يحتاج اهتمام فالخروج الى المعسكرات البعيدة ترك أثرا كبيرا على نفسيات المقاتلين.
حصر الكاتب روايته بزمان محدد يمتد من خروج المقاومة من الأردن حتى عودة سامي اليافاوي إلى مخيم اليرموك، ويلاحظ أن الرواية اعتمدت على السرد تقريبا وابتعدت تقريبا عن الحوار، وأن ضمت بين الصفحات إشارات إلى مواقف سياسية كان الكاتب حذرا فيها، وقد وفق الكاتب بالعرض للبداية وصولا إلى لحظة التأزم بوصوله إلى مخيم اليرموك، ولكن نلاحظ ان الراوي سامي كان يخشى ان يعرفوه بالمخيم ويتعرض لمشكلات بناء على انتمائه الفصائلي السابق وهذا يتناقض مع قراره الذي اتخذه في نهاية الرواية فكانت النهاية غير متوافقة مع تخوفاته، ولكن حوت الرواية بعض من الأبعاد الاجتماعية والقليل من الأبعاد الفكرية، وباعتمادها على السرد الاسترجاعي من الذاكرة خرجت عن المألوف بالرواية المعتادة والمألوفة، لكنها ركزت على الجوانب النفسية للراوي كأنموذج من نماذج المسيرة الفلسطينية وإن لم يدخل للعمق بهذه التأثيرات والجوانب، لكن من جانب آخر كان الكاتب وربما بحكم ثقافته وكونه شاعرا بالأساس كان دقيقا باستخدام الكلمات والأسلوب السهل الممتنع البعيد عن التعقيدات اللغوية والصور الصعبة وحافظ على وحدة الفكرة.
الرواية ممتعة للقراءة وأعادت لي الذاكرة لأحداث عشتها عبر العقود التي عشتها من عمري حتى الآن، وآمل أن لا تكون مرآتي التي قرأت بها الرواية مزعجة بما ابديت من ملاحظات، لكن مع كل الملاحظات قضيت وقتا ممتعا وجميلا بين دفتي الكتاب.
______
* بقلم: زياد جيوسي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.