مقدمة:
استنادًا إلى مؤشرات مؤسسة مابليكروفت Mapelcroft لقياس درجة الاستقرار السياسي للدولة، والذي نشر عام 2013م عبر مركز الجزيرة للدراسات، اتضح أنه لا توجد دولة عربية واحدة تدخل ضمن الدول المستقرة، إذ إن 76% من العرب يعيشون في دول غير مستقرة بنسبة عالية، وأن هذا التراجع في الاستقرار سيستمر لفترات طويلة بفعل عوامل الانتشار السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وغياب الديمقراطية، والقابلية للتغير السياسي، أو القيام بتغيرات شكلية في نظام الحكم، أو تغيير الحكومات، أو الخضوع لرغبات وإملاءات القوى الخارجية.
ولهذا، تراجعت الدول العربية في مؤشرات الديموقراطية الذي تصدره وحدة “إيكونوميست إنتيليغنس” التابعة لمجلة “إيكونوميست”، فلم تأت أيّ دولة عربية في قائمة الديمقراطيات الكاملة التي اشتملت على 30 دولة عبر العالم، بينما لم توجد في قائمة الديمقراطيات المعيبة، ثاني قوائم التصنيف، سوى تونس التي حلت في المركز 63 عالمياً والأول عربياً، وهي الوحيدة عربياً التي حلّت في المراتب الـ 99 الأولى.[1]
إن المعركة من أجل الديمقراطية قديمة في ربوع العالم العربي، تزيد على 4 عقود في غالبية البلدان العربية، وبعضها أكثر من 6 عقود متصلة، وإن كانت هناك محاولات للانفتاح السياسي، والتحول من الديكتاتورية إلى الديموقراطية وقبول التعددية الحزبية فإن هذا التحول ظاهريا – من أنظمة الحزب الواحد، إلى نظام تتعدد فيه الأحزاب شكلا- ، حيث إن الأحزاب العربية السياسية والتي جاءت بعد محاولات الانفتاح والتحديث السياسي لم تتعدى كونها جمعيات سياسية او تكتلات انتخابية، وما كانت إلا غطاء لنزاعات قبلية أو تطلعات جهوية، فكان الحزب ديمقراطيا ثوريا بالاسم، وقبليا نخبويا ( باحث عن السلطة) في الجوهر.[2]
الإشكالية:
من الصعب الحديث عن الديمقراطية في إطار من التراجع الثقافي والسياسي والاقتصادي، وفي ظل حالة من العوز الذي لا ينقطع، فالديمقراطية تبدو نتيجة لمراحل محققة من التطور الاقتصادي والاجتماعي، وليست مقدمة لهذه المرحلة عند بدايتها، وقبل أن يتحقق ما يكفي للاستناد عليه بثقة وكرامة، فالشراكة في الرأي وصنع القرار يمكن ان تمتلك فرصتها في مجتمعات تتسع مساحتها الاقتصادية والاجتماعية للشراكة أصلا، لأنه عندما تضيق الرقعة فالغالب أن الرأي والقرار سيكون لرجل واحد أو حزب واحد أو عائلة واحدة أو طائفة واحدة.
ولما كان المواطنون في المجتمع العربي غير متساويين في الحقوق ولم يكونوا مصدر الشرعية للحكم فيه، فإن الديمقراطية في هذا المجتمع ما هي إلا نهجاً مناقضاً لحكامه، خاصة بعد ما انصهر مفهوم الحرية في مفهوم التحرر الوطني من المحتل قبل الاستقلال. الأمر الذي تكرر بشكل إصلاح وهمي عندما حاول المنتفضون التخلص من تجربة الاستبداد لسنوات بثورات الربيع العربي منذ 2011م، فتهافت على هذه الثورات العديد من الأحزاب والمكونات الفئوية لسلبها مشروعيتها.[3]
صحيح أن هناك بعض الانفتاحات التي لا يمكن إنكارها في بعض المجتمعات العربية، لكنها لا تغير من السمة الرئيسية للأنظمة السياسية العربية الراهنة، أو لمعظمها على الأقل، وهي لم تأتي غالباً من منطلق الإيمان بضرورة تحقيق الديمقراطية وأهمية المشاركة الشعبية بقدر ما تأتي نتيجة شعور بعض النخب المسؤولة بعمق الأزمة وسعيها عن طريق بعض الانفتاح إلى إصلاح النظام التسلطي الواحدي أو إنقاذه أو الحفاظ عليه. ومن هنا لا ينبغي البناء كثيراً على هذه الانفتاحات والرهان عليها، فهي لا تصبح ذات قيمة مقياسية إلا عندما تمس بالفعل مبدأ المشاركة الفعلية في القرار من قبل الرأي العام، وما عدا ذلك من مظاهر السماح بأشكال مختلفة من التعددية تحت إشراف أجهزة الأمن التي تمارس وحدها القرار السياسي في نهاية المطاف أو تشكل الأداة الرئيسية لممارسة السلطة ودعم النخبة التي تحتكرها، فلا يمثل إلا تكتيكاً سياسياً استخدم منذ عقود ولا يزال من قبل الأنظمة ذاتها، ولا يشكل قطيعة حقيقية مع احتكار القرار والتحكم، بل والتلاعب به من قبل المجموعة الصغيرة الحاكمة مهما كانت طبيعة العصبية التي تستند إليها.[4]
على الرغم من النجاحات التي حققتها حركات المعارضة الجديدة في الوطن العربي، فقد أخفقت في بعض الأمور مما حدَّ من مساهمتها في عملية التحول الديمقراطي بالشكل الذي كان
متوقعا منها. ومن أبرز مظاهر هذه الإخفاقات، عجز هذه الحركات عن بناء تكتل قوي للمعارضة (حسن النية) يكون قاطرة لعملية التحول الديمقراطي، والعجز في تحريك الجماهير وضمها لصفوف المعارضين
النشيطين، حيث فشلت هذه الحركات في تقديم نموذج للتحول يقوم على تعبئة قطاعات واسعة من
المجتمع ودفعها للمشاركة في العملية السياسية، من أجل صنع التغيير المطلوب، فضلاً عن أن
معظم هذه الحركات لم يكن لديه مشروع سياسي متكامل لوراثة النظام القائم بالفعل. واكتفى كثير
منها بالشعارات أو المعارضة الإلكترونية.
طرق انتقال الديمقراطية:
بتحليل التجارب الديمقراطية عبر العصور، اتضح أن انتقال الديمقراطية، أو تحول المجتمعات نحوها، جاء في واحدة من الصور التالية:
- الأولى: التطور التلقائي الذي تتداخل فيه عوامل عديدة للتحول الاجتماعي، وهي طريقة مركزة لنمو القاعدة السياسية الراغبة في نموذج الحكم الديمقراطي.
- الثانية: انطلاق الثورة الديمقراطية في وجه الاستبداد، وهذه الصورة ولدت في كنف الثورة الفرنسية التي أشاعت الاعتقاد بأن الديمقراطية لا تولد بغير ثورة.
- الثالثة: الانتقال من خلال انتصار سياسي للحركة الدستورية، وذلك بعد عجز الاستبداد عن إيجاد قاعدة مدنية واجتماعية، الامر الذي أعلن فيه إفلاسه الروحي والمعنوي.
- الرابعة: الانتقال عبر حروب دموية أشاع فيها المنتصر تلقائيا أو بالقوة نموذجه الديمقراطي شكلا.
عند التدقيق في هذه الصور، نعي جيداً أن ما جربته بعض الدول العربية من تجارب في هذا الاتجاه لم تكن إلا شكلا من أشكال الانفتاح السياسي الداخلي – على أحسن تقدير- حيث إن جهود الدولة البيروقراطية (التسلطية) ظل كما هو، وبقيت انتهاكات حقوق الإنسان هي السلوك الأبرز فيها. كما أن أزمة الانتقال نحو الديمقراطية في البلاد العربية اليوم تتجسد -أكثر من أي عامل آخر- في هشاشة القوى الديمقراطية التي يمكن المراهنة عليها للسير بعملية التغيير السياسي والتحويل الاجتماعي، وتتجلى هذه الهشاشة في غياب التنظيمات الديمقراطية الحقيقية وغياب القواعد والتقاليد والممارسات الواضحة والثابتة التي تميزها، واقتصار الدعوة للديمقراطية على مجموعات صغيرة من اليسار السابق – وهي المجموعات التي تستخدمها في أغلب الأحيان من أجل إعادة تثمين نفسها في الساحة السياسية – أكثر مما تنظر إليها كبرنامج سياسي حقيقي للتحويل الاجتماعي، ويخدم تبني الديمقراطية كوسيلة للاستفادة من الانفتاحات الجزئية التي تدفع إليها أزمة النظام أو من الطموح إلى بناء تحالفات دولية جديدة، مما يعني أن هذه القوى لا تزال متلقية تستفيد من الانفتاحات المحدودة التي يضطر إليها النظام أكثر مما تساهم في خلقها، وبالعكس لا تزال الأجيال الجديدة الشابة التي لم تدجن بعد عن طريق الاضطهاد والقمع والإرهاب غير مؤمنة بهذه الانفتاحات ولا حتى بمعنى الديمقراطية، إنها فريسة لمشاعر اليأس، وهي تريد تحويلات جذرية وسريعة.[5]
محددات مستقبل التحول الديمقراطي في الوطن العربي
لضمانات التحول في المجتمعات العربية، يمكن القول أن الأمر يتحدد بجملة من المحددات التي تظهر أن الحديث عن الديمقراطية بشكل عام يصطدم في كثير من الأحيان ببعض الأفهام والانطباعات غير الدقيقة، واعتقد انه يجب التفريق جيداً بين الديمقراطية الغربية التي تشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية في آن واحد، وبين الديمقراطيات التي نتناولها اليوم والتي تتناول الديمقراطية السياسية المتعلقة بنظام تداول السلطة أو المشاركة في السلطة السياسية.
المحددات الداخلية | المحددات الخارجية |
قدرة الحكومة على تحمل نتائج الجو الديمقراطي والتعايش معه .قدرة المعارضة على استيعاب واقع المجتمع من جهة، وواقع المنطقة من جهة أخرى، وتحديد أهم الإشكاليات التي تعيق التقدم.القدرة الإعلامية والاقتصادية المستقلة للمعارضة ومدى نجاحها في تكتيل الشعوب حول برامجها.مدى تفاعل المجتمع مع الأطروحات البديلة ووعيه لمدى أهمية دوره في تطوير الواقع السياسي والاقتصادي في بلده.المقدار الذي تتحلى به قيادات الجيوش وأجهزة الأمن من التضحية والإيثار، حيث يلزمها ذلك لزوم الحياد والتزام القانون والعمل على إنجاح التجربة انطلاقاً من مصلحة البلاد الكبرى.قدرة المعارضة والحكومة على الوصول إلى مفاهيم مشتركة للمواطنة والولاء والوطنية. | نظرة الغرب لطبيعة القوى المشاركة في الحياة الديمقراطية وتخوفاته الكبيرة من وصول الإسلاميين إلى الحكم عبرها . · نتائج الجهود الدولية في حسم الصراع العربي-الصهيوني وانعكاساته على القوى السياسية المشكلة للمجتمع. · انعكاس الحياة الديمقراطية على الدول المجاورة لكل دولة، وأثر ذلك في علاقات الشعوب والدول في كل إقليم. · موقف الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة حيال حجم ونوع التطور الديمقراطي في أي بلد وفقاً لانعكاساته السلبية والايجابية على مصالحها الخاصة. |
وعليه، كان الخيار الديمقراطي العربي خيارا واقعيا من حيث الظروف والتطور التاريخي، كما أنه واقعي من حيث انسجامه مع قيم المجتمع وحضارة الأمة، وهو واقعي من حيث انسجامه مع التحولات الإقليمية والدولية، كما أن إمكانات تحقيقه متعددة وكبيرة، ولتحقيق هذه الواقعية في الخيار الديمقراطي فإن التوجه نحو تسريع عملية التحول الديمقراطي في الوطن العربي إنما تعمل على حفظ طاقات وجهود الحكومات والقوى السياسية، وتعفي الأمة من معارك اعلامية وسياسية داخلية وغيرها، وقد أصبحت الحرية مطلباً عاماً لكل الفئات الاجتماعية العربية، ولذلك فإن الحكومات العربية مدعوة اليوم إلى:
1- توسيع هامش الحريات السياسية، وعدم إقصاء الآخر
2- تبني برامج التحول الديمقراطي بطريقتنا ووفق قيمنا
3- إعادة الوحدة الداخلية بين أبناء الشعب الواحد على قاعدة تجاوز التقسيمات الممزقة للوطن والأمة على حد سواء، وان جميع الفئات والقوى السياسة في النهاية جزء لا يتجزأ من هذا البناء الذي تتربع على قيادته
عوامل غياب الديمقراطية في الوطن العربي:
تعدد العوامل والأسباب البنيوية والمعنوية التي كانت سببا في غياب الديمقراطية على الواقع العربي، ومن هذه العوامل:
- طبيعة الثقافة السياسية السائدة في غالبية البلدان العربية، ونعني بها مجموعة القيم السائدة التي تتعلق بالحياة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي قيم قائمة على الخنوع، وتمجيد الزعيم والقائد، وهذه الثقافة أورثت جهلا سياسيا، فيـصبح العقد الاجتماعي السائد قائما على نوع من التسلط والإكراه، وهما بندان يغيب معهما أي علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم، كما يصبح المصير كله بيد نخبة محدودة العدد.
- محدودية النخبة الحاكمة، حيث إن المحدود منغلق على ذاته لا يسمح لأحد أن يدخله إلا بشق الأنفس ووفق مواصفات خاصة تتلاءم مع طبيعة النخبة نفسها. وحين تنغلق النخبة على نفسها، تصبح الوجوه هي نفسها التي تسيطر على المناصب الوزارية والهيئات الحكومية والأحزاب الشكلية، ومع مرور الزمن، تصبح النخبة متقدمة في العمر، وفاقدة لعنصر الشباب ولا تعرف بالتالي ظاهرة تغيير الوجوه. وحتى إذا ما أُضِـيف عنصر أو آخر إلى النخبة، فيكون ذلك من قبيل ذر الرماد في العيون، أو لكفاءة خاصة تخدم النخبة الأم.
- السياسات التعبوية التي تنتجها النخبة المنغلقة على ذاتها، وهي سياسات تسعى إلى حشد الجماهير وراء النظام دون أن تسمح لها أن تسهم في إدارة النظام أو تغييره سلميا.
- تناقض حاد بين التغيّرات الواقعة بين الشباب العربي في معرفة حقوقه ومتطلباته، خاصة مطلب الحياة الكريمة، وبين بنية النظام العربي، الذي يعاني من التكلس والهشاشة، بشكل يجعله عاجزاً عن التفاعل الإيجابي مع هذا الجيل.
- ضياع الشخصية والهوية الوطنية، حيث بحث أصحاب القرار على هويات أصولية ( دينية، عرقية، طائفية، حزبية.. ) الأمر الذي هدد وحدة الوطن، وترك الأمر مفتوحا أما الفتن الداخلية، والتدخلات الأجنبية.
- تسابق كل من فقهاء السلطة وأصحابها، والمعارضين رغم التناقض بينهم إلى تملك النص الديني ليكون ذخيرة للدفاع أو استمالة الشارع.
- القصور في تقديم تصورات أو مشروعات مستقبلية تعطي نفسها مجالا للحوار في تحديد الأولويات، والاعتماد على ثقافة المساعدات أكثر من ثقافة التنمية.
- الواقع السياسي المخجل والمخيف والمثير في تداعياته، ترك إرثاً من التعصب، وأوصل الشعوب إلى حالة من اليأس والإحباط وأورثت الشعوب هم البحث عن لقمة العيش بدلا من التفطير في المستقبل السياسي.
[1] العالم العربي يتخلف، متاح على الرابط https://www.dw.com/ar/
[2] العمر، معن (2014). علم اجتماع الديمقراطية، عمان: درا الشروق للنشر والتوزيع، ص 255.
[3] العمر، معن (2014). مرجع سابق، ص 261.
[4] الجزيرة (2004). معوقات الديمقراطية في الوطن العربي، على الرابط https://www.aljazeera.net/2004/10/03
[5] عبد الله، ثناء (1997). آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 336.
______________
*د. محمود عبد المجيد عساف/ فلسطين.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
أحسنت النشر