إن قصة حياة بوذا – مثلها مثل البوذية كلها – هي قصة عن مواجهة المعاناة بالمعرفة والممارسة. ولد بوذا حوالي 563 قبل الميلاد، وكان ابن ملك ثري في سفوح جبال الهيمالايا في نيبال المعاصرة. كان من المتوقع أن يصبح بوذا الشاب – الذي كان يُطلق عليه آنذاك سيدهارتا غوتاما – خلفاً لأبيه في حكم مملكته. وبما أن والد سيدهارتا أراد بشدة أن يكون هو خلفه على العرش، فقد أبقى الطفل معزولاً في قصر بكل رفاهية يمكن تخيلها: المجوهرات، والخدم، وبحيرات المياه العذبة وأزهار اللوتس، وحتى النساء الحسان اللواتي يرقصن ويغنين في كل أرجاء القصر.
على مدى تسعة وعشرين عاماً، عاش غوتاما في نعيم، محمياً حتى من أصغر محن العالم الخارجي مشخصاً بقوله: “يتم رفع مظلة بيضاء فوقي ليلاً ونهاراً لحمايتي من البرد والحرارة والغبار والأوساخ والندى”. ومن ثم في سن الثلاثين، غادر القصر للقيام برحلات قصيرة. ما رآه قد أذهله: أولاً التقى برجل مريض، وبعد ذلك برجل مُسنّ، ثم برجل يحتضر. لقد أدهشه أن يكتشف أن هؤلاء الأشخاص البائسين يمثلون أجزاء طبيعية – بل لا مفر منها – من الحالة الإنسانية التي من شأنها أن تلمسه ذات يوم أيضاً. قام غوتاما – المرعوب والمفتون – برحلة رابعة خارج جدران القصر – وصادف رجلاً مقدساً تعلم كيف يبحث عن الحياة الروحية وسط اتساع المعاناة الإنسانية. ومع عقد العزم على إيجاد التنوير نفسه، غادر غوتاما زوجته النائمة وابنه ومشى مبتعداً عن القصر إلى الأبد.
لقد حاول غوتاما أن يتعلم من رجال مقدسين آخرين في عصره، وقام على نهجهم بتضوير نفسه جوعاً إلى حد الهزال والدنف الشديدين، وقام بتجنب كل وسائل الراحة البدنية، ولكن كل تلك المقاربات لم تجلب له العزاء من معاناته الوجدانية في محاولة فهم أس معاناة البشر. وبعد ذلك، فكر في لحظة كان عندما كان ولداً صغيراً يجلس بجانب النهر، ملاحظاً أنه عندما يتم قطع العشب، يتم سحق الحشرات وبيضها وتدميرها؛ وعند تأمل واستعادة مشاعره السالفة شعر بالشفقة تجاه الحشرات الصغيرة، وكل من كان ضعيفاً لا حول له ولا قوة في مواجهة القوة العارية. وعند التفكر في عاطفة طفولته، شعر غوتاما بإحساس عميق بالسلام. تناول الطعام، وتأمل تحت شجرة تين، ووصل في النهاية إلى أعلى حالة من الإشراق المعرفي أو ما قد يستقيم دعوته الاستنارة والتي اسمها في اللغة السنسكريتية القديمة “النرفانا”، والتي يمكن ترجمتها أيضاً بالسعادة القصوى، والتي تعني ببساطة “اليقظة”. ثم أصبح بوذا، “الشخص المستيقظ المستنير”.
لقد استيقظ بوذا من خلال إدراكه أن كل المخلوقات – من النمل الضئيل إلى البشر الذين يموتون – متحدة بواسطة المعاناة. ومع إدراكه لهذا، اكتشف بوذا أفضل طريقة للتعامل مع المعاناة. أولاً، لا ينبغي للمرء أن ينغمر في الترف، ولا أن يمتنع عن تناول الطعام ووسائل الراحة تماماً، وبدلاً من ذلك، يجب أن يعيش المرء باعتدال (أطلق بوذا على هذا “الطريق الأوسط”)، وهذا يسمح للتركيز الأقصى على زراعة الرحمة لدى الآخرين والسعي إلى التنوير. وبعد ذلك، وصف بوذا طريقاً لتجاوز المعاناة وقد أسماه بـ “الحقائق الأربع النبيلة”.
وكانت الحقيقة النبيلة الأولى هي الإدراك الذي عزز رحلة بوذا، وجوهره أن هناك معاناة وضنى دائماً في العالم، فبحسب بوذا “الحياة صعبة ووجيزة ومتصلة بالمعاناة”، والحقيقة الثانية هي أن هذه المعاناة ناتجة عن رغباتنا، وبالتالي فإن “التعلق هو أصل كل المعاناة”. والحقيقة الثالثة هي أنه يمكننا تجاوز المعاناة عن طريق إزالة أو إدارة جميع تعلقاتنا ورغائبنا. وهكذا قدم بوذا أطروحته بأنه يجب علينا تغيير نظرتنا وليس ظروفنا فحسب. إننا غير سعداء ليس لأننا لا ننال زيادة في الدخل، أو ليس لدينا حبيب، أو ما يكفي من التابعين، ولكن لأننا جشعون ومتقاعسون ومنافقون في رؤيتنا للحق والباطل، ومن خلال إعادة توجيه عقولنا، يمكننا أن ننمو روحياً لنكون قانعين.
الحقيقة الرابعة والأخيرة النبيلة التي كشف عنها بوذا هي أنه يمكننا أن نتعلم كيف نتجاوز المعاناة من خلال ما أطلق عليه “المسار الثماني”. ويتضمن المسار الثماني سلسلة من جوانب التصرف “الصحيح”، والذي ينطوي على وجهة النظر الصحيحة، والنية السليمة، والكلام المناسب، والعمل الصحيح، وأسباب الرزق الصحيحة، والجهد المناسب، واليقظة الصحيحة، والتركيز الصحيح. إن ما يصدم المراقب الغربي هو فكرة أن الحكمة في النهج البوذي هي عادة وسلوك وممارسة، وليست مجرد نمط إدراك وتحليل فكري.
خلال البحث عن هذه الأنماط الصحيحة من السلوك والوعي، علم بوذا أنه يمكن للناس تجاوز الكثير من فرديتهم السلبية من قبيل فخرهم وقلقهم ورغباتهم التي جعلتهم محزونين وقلوقين دائماً، وفي المقابل سوف يكتسبون التعاطف مع جميع الكائنات الحية الأخرى التي عانت كما عانوا هم. من خلال السلوك الصحيح، وما نسميه الآن “موقفاً واعياً”، يمكن للناس عكس المشاعر السلبية وحالات العقل النكوصية، وتحويل الجهل إلى حكمة، والغضب إلى التعاطف، والجشع إلى الكرم.
لقد سافر بوذا على نطاق واسع في جميع أنحاء شمال الهند وجنوب نيبال، يقوم بتدريس التأمل والسلوك الأخلاقي. تحدث قليلاً جداً عن الألوهية أو الآخرة. وبدلاً من ذلك، اعتبر حالة المعيشة اليومية الصالحة بمثابة القضية الأكثر قداسة على الإطلاق.
بعد وفاة بوذا، جمع أتباعه أقواله وحكمه المأثورة في كتاب مقدس كان اسمه “سوترا”، ووضعوا نصوصاً لتوجيه الأتباع في التأمل والأخلاق والمعيشة اليقظة. وقد نمت الأديرة البوذية التي تطورت خلال حياة بوذا وتضاعفت في جميع أنحاء الصين وشرق آسيا. ولبعض الوقت، كانت البوذية غير شائعة بشكل خاص في الهند نفسها، وكان هناك عدد قليل لا غير من المجموعات الهادئة من الرهبان والراهبات الذين يرتدون ملابس صفراء يجوبون الريف ويتأملون بهدوء في الطبيعة. ولكن بعد ذلك، في القرن الثالث قبل الميلاد، شعر ملك هندي يدعى أشوكا بالضيق بسبب الحروب التي خاضها وتحول إلى البوذية. وقام بإرسال الرهبان والراهبات في بعثات تبشيرية لنشر الفلسفة البوذية.
وقد انتشرت التقاليد الروحية البوذية في جميع أنحاء آسيا، وفي نهاية المطاف انتشرت في جميع أنحاء العالم. وانقسم أتباع بوذا إلى مدرستين رئيسيتين: تيرافادا البوذية، التي استعمرت جنوب شرق آسيا، وماهايانا البوذية، والتي استحوذت على الصين وشمال شرق آسيا. في بعض الأحيان، تشكك المجموعتان بالكتاب المقدس للمجموعة الأخرى، لكنهما في العموم تتبعان نفس المبادئ الرئيسية التي اختطها بوذا وأتباعه على مدى ألفي عام. واليوم، هناك اليوم حوالي نصف مليار بوذي يتبعون تعاليم بوذا ويسعون إلى حالة ذهنية أكثر استنارة ورأفة.
ومن المثير للاهتمام أن تعاليم بوذا مهمة بغض النظر عن هويتنا الروحية، فمثل بوذا، فكلنا مولودون في العالم لا ندرك حجم المعاناة التي يحتويها، وإننا غير قادرين على الفهم الكامل بأن المصائب والمرض والموت ستأتي إلينا أيضاً. ومع تقدمنا في العمر، فإن هذا الواقع غالباً ما يبدو جارفاً، وطاغياً، وقد نسعى إلى تجنبه تماماً بعدم التفكر به على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمل. لكن تعاليم بوذا تذكرنا بأهمية مواجهة المعاناة بشكل مباشر. يجب أن نبذل قصارى جهدنا لتحرير أنفسنا من رغباتنا السطحية العابرة، والتعرف على المعاناة باعتبارها مدخل اتصالنا المشترك مع الآخرين، مما يحفزنا على التعاطف، والود، والتعاضد، والشفقة، ومد يد العون المادي والمعنوي لكل من يعاني اليوم، وقد نصبح في محله في قابل الأيام.
____________
*تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.